مع الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة

نجم الدین طبسی

جلد 2 -صفحه : 31/ 24
نمايش فراداده
لكننا نجد أنّ ابن عمر هذا كان ممن تسلّم هذه الصفراء والبيضاء من معاوية رشوة أيّام تمهيده ليزيد بولاية العهد من بعده! حيث أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم فقبلها!(1) ونجد ابن عمر قد بادر الى بيعة يزيد! مع أنّ الإمام(عليه السلام) كان قد طلب إليه في

(1) يقول ابن كثير: «وبعث اليه معاوية بمائة ألف لمّا أراد أن يبايع ليزيد..» (البداية والنهاية: 8:

83)، ويقول ابن الأثير: «عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل الى عبدالله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها..» (الكامل في التأريخ: 2:

509).

[299]

هذه المحاورة ـ على الأقلّ! ـ ألاّ يعجل بالبيعة ليزيد حتّى يعلم ما تؤول إليه الأمور! هذا مع اعتراف ابن عمر بأنّ يزيد رجل ظالم ولاخلاق له عند الله! ثمّ نجد ابن عمر وقد انتفضت الأمّة في المدينة على يزيد وخلعته لفسقه وفجوره يصرُّ على التمسّك ببيعة يزيد مدّعياً أنها كانت بيعة للّه ولرسوله!! وينهى أهله عن التنكّر لهذه البيعة معلناً براءته ممّن تنكّر لها منهم! يقول التأريخ: لمّا خلع أهل المدينة بيعة يزيد «جمع ابن عمر بنيه وأهله ثمَّ تشهد، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله!

وإنّي سمعت رسول الله يقول: إنّ الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، يقال هذا غدر فلان، فإنّ من أعظم الغدر ـ إلاّ أن يكون الشرك بالله ـ أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله ثمّ ينكث بيعته! فلا يخلعنّ أحدٌ منكم يزيد! ولايسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر فيكون الفيصل بيني وبينه ـ رواه مسلم، وقال الترمذي: صحيح.»(1) فهل يُعقل أن تكون البيعة لرجل ظالم فاسق لاخلاق له عند الله تعالى بيعة لله ولرسوله!؟ أو ليسَ مما أجمعت الأمّة عليه أنّ العدالة من شروط الإمامة!؟(2) ومن هو الغادر الذي يُنصب له لواء يوم القيامة! الذي بايع الفاسق مع علمه بفسقه منذ البدء ـ كما فعل ابن عمر! ـ أم أهل المدينة الذين انتفضوا على يزيد بعد أن تيقّنوا من فسقه وخلعوا بيعته!؟ ثمّ لماذا لايرى ابن عمر كُلاًّ من طلحة والزبير ومن معهما غادرين تُنصب لهم ألوية غدر يوم القيامة! حيث نكثوا بيعتهم لرمز العدالة أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)!؟ أم

(1) سنن الترمذي: 4:144. (2) راجع: الجامع لاحكام القرآن: 1:187 / الشرط الحادي عشر من شروط الإمامة.

[300]

يتوقّف ابن عمر في هذا الأمر فيبتدع مغالطة أخرى من مغالطاته الكبيرة الكثيرة!؟ لقد كان عبدالله بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأمويّ، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمةالنشاز في أنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولا يُعبأ بما صوّره به بعض المؤرخين من أنه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبّر لا يجد لابن عمر هذا أيّ حضور في أيّ موقف معارض جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كلّ ساحة صدق في المعارضة! وإذا تأمّل المحقق مليّاً وجد عبدالله بن عمر ينتمى انتماءً تاماً ـ عن إصرار وعناد ـ الى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة، منذ البدء ثمّ لم يزل يخدم فيها حتى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها الى الحزب الأموي بقيادة معاوية ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر وإن تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسين(عليه السلام) خاصة. وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لابنه يزيد في وصيته إليه بلا رتوش نفاقية حيث يقول له: «.. فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!»(1).

الأوزاعي.. والنهي عن المسير إلى العراق !

روى ابن رستم الطبري في كتابه (دلائل الإمامة) قائلاً: «حدّثنا يزيد بن مسروق قال: حدّثنا عبدالله بن مكحول، عن الأوزاعي قال: بلغني خروج الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهما السلام) الى العراق، فقصدتُ مكّة فصادفته بها، فلمّا رآني رحّب بي وقال: مرحباً بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير،

(1) أمالي الصدوق:215 / المجلس الثلاثون، حديث رقم 1.

[301]

وأبى اللّه عزّ وجلّ إلاّ ذلك، إنّ من هاهنا الى يوم الاثنين منيّتي (مبعثي)!. فسهدتُ في عدّ الأيّام، فكان كما قال!»(1). تُرى من هو هذا الأوزاعيّ الذي أهمّه أمر الإمام الحسين(عليه السلام) حتى قصد مكّة لينهاه عن المسير الى العراق؟ وما هو دافعه في ذلك؟ وما معنى قول الإمام(عليه السلام): «إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»؟ أمّا من هو هذا الأوزاعي؟ فانّ هناك جماعة من الرجال عُرفوا بهذا اللقب(2)لكنّ الاحتمال الأقوى هو أنّ المراد بهذا الأوزاعيّ: أبوأيّوب، مغيث بن سمّي

(1) دلائل الإمامة: 184 : رقم 102 / 3. (2) فمن هؤلاء: عبدالرحمن بن عمرو بن يُحمَد: أبو عمرو الشامي، وهذا الأوزاعي وُلِد عام 88 هـ ق يعني بعد سبع وعشرين سنة من استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، وتوفي عام 157 هـ ، وقد سكن الأوزاع بدمشق، والمعروف عنه أنه قال: «ما أخذنا العطاء حتى شهدنا على عليّ(عليه السلام) بالنفاق وتبرّأنا منه، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق» (راجع: سير أعلام النبلاء: 7:

109) ، وعليه فهذا الاوزاعيّ لم يُدرك الإمام الحسين(عليه السلام). وقد ظنّ المامقاني أنّ لقب الأوزاعي منحصر في عبدالرحمن هذا، حيث قال: «إنّ هذا اللقب منحصر في عبدالرحمن المعروف بالأوزاعي ولم نَر غيره قطّ» (تنقيح المقال: 3:

46)، والأمر ليس كذلك، إذ منهم أيضاً: مغيث بن سُمّي الأوزاعي، أبو أيّوب (راجع: الأنساب للسمعاني: 1:

227)،

وقد أوردنا ذكره في المتن لأننا نرجّح أنه هو المراد بالأوزاعي في هذه الرواية. ومنهم أيضاً: نهيك بن يريم الأوزاعي، وهو من الطبقة الرابعة، ويروي عن الأوزاعي المعروف ـ عبدالرحمن بن عمرو ـ (راجع: تهذيب الكمال:18:

294)، وعليه فلا يمكن ان يكون هذا معاصراً للإمام الحسين(عليه السلام). ومنهم أيضاً: أبوبكر عمرو بن سعيد الأوزاعي، ولم نعثر له على ترجمة. وقال السمعاني في (الأنساب: 1:

227): «هذه النسبة الى الأوزاع وهي قرى متفرقة فيما أظنّ بالشام فجمعت وقيل لها الأوزاع، وقيل إنها قرية على باب دمشق يقال لها الأوزاع وهو الصحيح.». (وانظر: معجم البلدان: 1:

280).

[302]

الأوزاعي: الذي يُقال إنه أدرك زهاء ألف من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)،(1) وقد روى عن ابن الزبير وابن عمر، وابن مسعود، وكعب الأحبار، وأبي هريرة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقد وثّقه ابن حبّان، وأبوداود، ويعقوب بن سفيان.(2) ولكن لم يرد له ذكر في كتبنا الرجالية على ما حقّقنا. أمّا ما هو دافعه في التحرّك حتى قصد مكّة لينهى الامام(عليه السلام) عن المسير الى العراق، فذلك ممّا لا نستطيع أن نحدّده من متن الرواية ـ ومن عدم معرفتنا بتأريخ هذا الرجل وسيرته ـ إلاّ أنّ ترحيب الامام(عليه السلام) به قد يكشف عن أنّ هذا الأوزاعي كان مشفقاً على الإمام(عليه السلام) من القتل في مسيره الى العراق، وإن كان ظاهر النصّ صريحاً في أنه كان ناهياً لا ناصحاً! وأما ما هو المراد من قوله(عليه السلام):

«إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»، فلا يخفى على المتأمّل أنّ فيه غموضاً وتشابهاً! فهل أراد الإمام(عليه السلام) أن يقول للأوزاعي إنّ لك أن تعدَّ مِن هذه الساعة الى يوم الاثنين الذي أُقتلُ فيه!؟ ولذا يقول الأوزاعي: فسهدتُ (اي سهرتُ) في عدّ الأيام فكان كما قال! وعلى هذا يكون الإمام(عليه السلام) قد قُتل في يوم الإثنين! وهذا مالا يتّفق مع المأثور أنّ يوم عاشوراء كان يوم الجمعة أو يوم السبت.(3)

(1) الأنساب / للسمعاني: 1:227. (2) تهذيب الكمال: 18:294. (3) ومن هذا المأثور: ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ 1ـ قول الإمام الحسين(عليه السلام) لمؤمني الجنّ: «ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشورا ـ في غير هذه الرواية يوم الجمعة ـ الذي في آخره أُقتلُ...» (اللهوف: 29 /المطبعة الحيدرية ـ النجف ). 2ـ قول ابي جعفر(عليه السلام): «يخرج القائم(عليه السلام) يوم السبت يوم عاشوراء الذي قُتل فيه الحسين(عليه السلام).». (كمال الدين: 2:653 باب 57 حديث

19).

[303]

أم أنّ الإمام(عليه السلام) اراد أن يقول للأوزاعي: إننّي باق في مكّة الى يوم الإثنين، وبعده (أي يوم الثلاثاء) يكون مبعثي الى العراق، أي سفري إليه!؟ ونرى أنّ هذا هو الأقوى احتمالاً، لأنّ الإمام(عليه السلام) قد خرج من مكّة بالفعل يوم الثلاثاء بدليل قول الإمام(عليه السلام) نفسه في رسالته الأخيرة التي بعثها الى أهل الكوفة مع قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) حيث يقول فيها: «.. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية..».(1) وعلى أساس هذا التقويم يكون يوم عاشوراء الجمعة إذا كان ذو الحجة تسعة وعشرين يوماً، أو السبت إذا كان ثلاثين يوماً، وهذا ما يتّفق مع المأثور بصدد يوم عاشوراء.

عمر بن عبدالرحمن المخزومي.. والنصيحة الصائبة !

روى الطبري عن عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أنه قال: «لمّا تهيأ الحسين(عليه السلام) للمسير الى العراق أتيته، فدخلت عليه، فحمدت الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعدُ، فإنّي أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها نصيحة، فإن كُنتَ ترى أنّك تستنصحني وإلاّ كففتُ عمّا أريد أن أقول! فقال الحسين(عليه السلام): قلْ، فوالله ما أظنّك بسيّ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل! فقال: إنه قد بلغني أنّك تريد المسير الى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد

(1) تأريخ الطبري: 3:301 والارشاد: 220

[304]

لهذا الدرهم والدينار! ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممن يقاتلك معه!! فقال الحسين(عليه السلام): جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد والله علمتُ أنك مشيتَ بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يُقضَ من أمر يكنْ، أخذتُ برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح!».(1)

تأمّل وملاحظات:

1) ـ هذه المحاورة كاشفة عن منزلة حسنة جداً لعمر بن عبدالرحمن المخزومي عند الإمام(عليه السلام) حيث أثنى عليه ثناء رائعاً في قوله(عليه السلام): «قُلْ، فو الله ما أظنّك بسيء الرأي، ولا هو للقبيح من الأمروالفعل!»، وفي تعبير آخر: «ما أنت ممّن يُستغشّ ولايُتّهم، فقلْ»،(2) وفي تعبير آخر: «قُلْ، فوالله ما أستغشّك، وما أظنّك بشيء من الهوى!»،(3) وقال له في ختام هذه المحاورة «فأنت عندي أحمدُ مشير وأنصح ناصح!»، وفي تعبير آخر: «ولم تنطق عن هوى!»،(4) وجميع ذلك كاشف عن متانة هذا المخزومي وصدقه وحبّه للإمام الحسين(عليه السلام). ولم يرد لعمر بن عبدالرحمن المخزومي هذا ذكر في كتبنا الرجالية، لكنّه معدود من رجال الصحاح الستّة، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وحدّث عن عمّار بن ياسر، وأمّ سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، ومروان... وقد استصغر يوم الجمل فرُدَّ، وعن ابن سعد: أنه ولد في خلافة عمر، ومات سنة الفقهاء، وقيل سنة خمس

(1) تاريخ الطبرى: 294:3 والفتوح: 5:71. (2) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين(عليه السلام) / تحقيق المحمودي): 202 رقم 254. (3) الكامل في التأريخ: 2:545. (4) الفصول المهمة / لابن الصبّاغ: 185.

[305]

وتسعين،(1) وكان يُقال له راهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً، وهو من سادات قريش.(2)

2) ـ إنّ المشورة التي قدّمها عمر بن عبدالرحمن المخزومي تشبه تماماً في مبناها مشورة لابن عبّاس (رض)(3) وأخرى لعمرو بن لوذان في هذا الصدد،(4)ويتلخّص مبني هذا المشورات الثلاث في أنّ الصحيح أن يتحرّك أهل الكوفة عملياً قبل توجّه الإمام(عليه السلام) إليهم، فيثوروا على السلطة في الكوفة، وينفوا عمّال يزيد وأتباعه، ويسيطروا على الأوضاع فيها، وعندها يتوجّه الامام(عليه السلام) إليهم،

وهذا هو الرأي الصواب عندهم! ولكن على أساس منطق الفتح القريب والنصر الظاهري وتسلّم الحكم، ومن هنا نجد الإمام(عليه السلام) لايُخطّي هذه المشورات، بل نراه يثني على أصحابها، ومع هذا يخالفها ولايعمل بها، لأنه كان يتحرّك على أساس منطق آخر هو منطق (الفتح بالشهادة)! الفتح المبين العميق الشامل الدائم الذي يحفظ الإسلام المحمديّ الخالص نقيّاً من كلّ الشوائب الى قيام الساعة.

3) ـ ربّما يُقال: إنّ ما ورد في متن هذا الخبر من قول المخزومي: «لمّا تهيّأ الحسين(عليه السلام) للمسير الى العراق..» لايدلّ بالضرورة على أنّ هذا اللقاء قد تمَّ في مكّة، لأنّ هناك روايات لبعض اللقاءات مع الإمام(عليه السلام) حملت مثل هذه الإشارات مع أنَّ المؤكّد أنها تمّت في المدينة، كلقائه(عليه السلام) مع أم سلمة (رض)، فهل ثمّ دليل آخر على أنّ لقاءه(عليه السلام) مع المخزوميّ تمّ في مكّة؟

(1) راجع: سير أعلام النبلاء: 4: 418. (2) راجع: تهذيب التهذيب: 2: 30. (3) تأريخ الطبري: 3: 295. (4) الارشاد: 248.

[306]

فنقول: لم ينتشر خبر عزم الإمام(عليه السلام) على السفر الى العراق إلاّ في أواخر أيّام مكثه في مكّة المكرمة، وحينما كان الإمام(عليه السلام) في المدينة المنوّرة لم يكن قد أطّلع أحدٌ على نيّته في التوجّه الى العراق سوى خاصة الخاصة كمثل محمّد بن الحنفية (رض) وأمّ سلمة (رض)، وأمّا غير هؤلاء الخواصّ فإنّ الإمام(عليه السلام) غالباً ما كان يشير إليهم أنه متوجّه الى مكّة في أيامه تلك ثمّ يستخير الله في أمره، وعليه فإنّ أمثال عمر المخزوميّ هذا لم يكونوا على علم بنيّة الامام(عليه السلام) في التوجّه الى العراق منذ البدء. هذا فضلاً عن أنّ لهذا الخبر تتمة ـ في رواية الطبري ـ على لسان المخزومي أنه «قال: فانصرفت من عنده، فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص(1) ـ والي مكّة ـ فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم. فقال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحته وربّ المروة الشهباء! أما وربّ البنيّة إنّ الرأي لما رأيته، قَبِلَه أو تركه..»،(2) وفي هذا دلالة كافية على أنّ هذا اللقاء كان قد حصل في مكّة المكرّمة.

لقاء جابر بن عبدالله الأنصارى (رض) مع الإمام(عليه السلام)

روى ابن كثير خبراً مرسلاً أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري (رض)(3) كان قد

(1) لم يذكره الرجاليون، والقول بأنّه كان والي مكّة آنذاك قول نادر وضعيف، إذ إنّ المشهور الأقوى أنّ والي مكّة آنذاك هو عمرو بن سعيد الأشدق. (2) تأريخ الطبري: 3:294 ومروج الذهب: 3:70. (3) جابر بن عبدالله الأنصاري (رض): من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والحسن والحسين والسجّاد(عليهم السلام). وقد شهد بدراً وثماني عشرة غزوة من غزوات النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهو من شرطة الخميس، وكان مع عليّ(عليه السلام) في الجمل وصفين، وهو من النقباء الإثني عشر، انتخبهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)بأمر جبرئيل(عليه السلام)، وعدّه الامام الصادق(عليه السلام) من الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا بعد نبيّهم وتجب ولايتهم، ومن الذين وفوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فيما أخذ عليهم من مودّة ذي القربى. وهو الذي ألقى نفسه على أيدي الحسنين(عليهما السلام) وأرجلهما يقبّلها، ويبيّن فضائلهما. وهو الراوي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أسماء الأئمة

الاثني عشر صلوات الله عليهم وفضائلهم ومناقبهم، وأنّ من أطاعهم فقد أطاع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومن عصاهم فقد عصى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنّ بهم يُمسك الله السماء ان تقع على الارض، وهو الذي ضمن الامام الباقر(عليه السلام) له الشفاعة يوم القيامة (راجع: مستدركات علم الرجال:2:

101). وهو أوّل زائر لقبر الحسين(عليه السلام)، وصاحب الزيارة المعروفة التي من نصها: «اشهد أنك ابن النبيين وابن سيّد الوصيين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكسا، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، ومالك لاتكون هكذا وقد غذتك كفّ سيّد المرسلين، ورُبيت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيّاً، وطبت ميّتاً،

غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك، ولا شاكّة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا...» (راجع: بشارة المصطفى:

74) وقد أثنى عليه علماؤنا، ووثّقوه في أعلى مراتب الوثاقة، فعلى سبيل المثال:

1) ـ قال المجلسى (ره): «ثقة، وجلالته أجلُّ من أن يحتاج الى بيان» (رجال المجلسي:

173).

2) ـ وقال المامقاني (ره): «فالرجل من أجلاّء الثقات بلامرية... وقال الوحيد: لايخفى أنه من الجلالة بمكان لايحتاج الى التوثيق» (تنقيح المقال: 1:

199).

3) ـ وقال الخوئي (ره): «إنّه من الأربعة الذين انتهى إليهم علم الأئمة!» (معجم رجال الحديث: 4:

15).

[307]

التقى الإمام(عليه السلام) وكلّمه ليردّه عن القيام والخروج على يزيد: «قال جابر بن عبدالله: كلّمتُ حسيناً، فقلت: إتّق الله، ولاتضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ماحمدتم ما صنعتم. فعصاني!».

[308]

ولايخفى على ذي أدنى معرفة بجابر بن عبدالله الانصارى (رض) أنّ أصل اللقاء هذا إذا كان محتملاً، فلا سبيل إلى احتمال محتواه! لأنه بعيد كلّ البعد أن تصدر مثل هذه الجسارة على الامام(عليه السلام) ومثل سوء الأدب هذا عن هذا الصحابي الجليل القدر العارف بحق أهل البيت(عليهم السلام)! والظنّ قويّ جداً في أن يكون محتوى هذا الخبر من مفتعلات مرتزقة الإعلام الأموي من أجل الإساءة الى النهضة الحسينية وتخطئتها! وممّا يؤيد كون هذا الخبر من الموضوعات أنّ ابن كثير أورده مرسلاً دون أن يذكر له طريقاً. نعم، روى عماد الدين أبو جعفر محمد بن عليّ الطوسي(1)

المعروف بابن حمزة في كتابه «الثاقب في المناقب» لقاءً لجابر الأنصاري (رض) مع الامام(عليه السلام)يفوح منه عطر حسن الأدب في مخاطبة الامام(عليه السلام)، والمعرفة بحقّ أهل البيت(عليهم السلام)، والصدق في موالاتهم ومحبّتهم والتشيّع لهم: «عن جابر بن عبدالله (رض) قال: لمّا عزم الحسين بن عليّ(عليهما السلام) على الخروج الى العراق، أتيته فقلت له: أنت ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأحد سبطيه، لا أرى إلاّ أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن(عليه السلام)، فإنه كان موفّقاً راشداً. فقال لي(عليه السلام): يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله)، وإنّي أيضاً أفعل

(1) هو الشيخ الفقيه العالم الواعظ: أبوجعفر محمد بن عليّ بن حمزة الطوسي المشهدي، من أعلام القرن السادس، له تصانيف منها: الوسيلة، الواسطة، الرايع في الشرايع، المعجزات وأسمه الآخر الثاقب في المناقب، مسائل في الفقه. (أنظر: معجم المؤلّفين:11:4 وأمل الآمل: 2:285 وتنقيح المقال: 3:155 ومعجم رجال الحديث:16:

326).

[309]

بأمر الله تعالى ورسوله، أتريد أن أستشهد لك رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعليّاً وأخي الحسن(عليهما السلام)بذلك الآن! ثمّ نظرتُ، فاذا السماء قد انفتح بابها، واذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليّ والحسن(عليهما السلام)وحمزة وجعفر وزيد،(1) نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض،فوثبت فزعاً

(1) الواضح من المتن أنّ زيداً هذا من سادات الشهداء أولي المنزلة الرفيعة جدّاً، بقرينة أنه في الرواية كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليّ والحسن وحمزة وجعفر(عليهم السلام)! ولانعلم شهيداً ذا منزلة رفيعة جدّاً بإسم «زيد» حتى ذلك الحين سوى إثنين، هما: الأول:

زيد بن حارثة الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنت أخونا ومولانا»، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد اشتراه بمال خديجة، فلمّا أظهر رسول الله(صلى الله عليه وآله) الدعوة أسلم زيدٌ، فاستوهبه الرسول(صلى الله عليه وآله)

من خديجة ليعتقه فوهبته له وأعتقه، وبعد أن رفض زيدٌ الإلتحاق بأبيه، تبرّأ أبوه منه، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا معاشر قريش، زيدٌ ابني وأنا أبوه، فاشتهر في أوساط قريش بزيد بن محمّد، على عادة قريش في تسمية الأدعياء الى نزول الآية التي أمرت بأن يُدعى الأدعياء الى آبائهم. وهو الذي خرج مع النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى الطائف، وقد استخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته، وقال(صلى الله عليه وآله) في حقّه: خير أمراء السرايا زيد بن حارثة. وقد رأى النبيّ ليلة المعراج جارية تنغمس في أنهار الجنّة، فقال لها: لمن أنتِ يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة. فبشّره(صلى الله عليه وآله) بها في الصباح، وهو الذي أمّره النبيّ(صلى الله عليه وآله)

على جيش المسلمين في غزوة مؤته، وقد استشهد فيها، فخرج من فمه نورٌ ساطع أضوأ من الشمس الطالعة حتى صار الليل المظلم كالنهار! (راجع: البحار: 20:372 و115 / 19:22 و

174)، وإبنه أسامة بن زيد الذي أمّره رسول الله(صلى الله عليه وآله) على الجيش الاسلامى الذي بعثه الى الشام، فتكلّم المنافقون في إمارته وقالوا: أمّر غلاماً جلّة المهاجرين والأنصار. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة وكان أبوه خليقاً لها (راجع: الكامل في التأريخ: 2:

215)، والمشهور الثابت أن أبابكر وعمر ممّن تخلّفوا عن جيش أسامة، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «جهّزوا جيش أُسامة، لعن الله المتخلّف عن جيش اسامة!» (نهج الحق وكشف الصدق:

263).

والثاني:

هو زيد بن صوحان العبدي، أخو صعصعة، كان من الأبدال، وقُتل يوم الجمل، وقيل إنّ عائشة قد استرجعت يوم قُتل! وعن الإمام الصادق(عليه السلام): لمّا صُرع زيدٌ يوم الجمل جاءه أمير المؤمنين حتى جلس عند راسه فقال: رحمك الله يا زيد! قد كنت خفيف المؤونة عظيم المعونة!. وذكر النبيّ زيد بن صوحان فقال: زيد ومازيد! يسبق منه عضو إلى الجنّة (راجع: سفينة البحار: 3:

565)، وعن النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله) أنه قال: من سرّه أن ينظر الى رجل يسبقه بعض أعضائه الى الجنّة فلينظر الى زيد بن صوحان (تاريخ بغداد: 8:

440)، وكان قد قُطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله (البحار: 18:

112).

[310]

مذعوراً! فقال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا جابر، ألم اقل لك في أمر الحسن قبل الحسين، لاتكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتّك مسلّماً ولاتكون معترضاً، أتريد أن ترى مقعد معاوية، ومقعد الحسين ابني، ومقعد يزيد قاتله لعنه اللّه؟ قلت: بلى يا رسول الله! فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحر فانفلق، ثم ضرب فانشقّت هكذا حتى انشقّت سبع أرضين، وانفلقت سبعة أبحر، فرأيتُ من تحت ذلك كلّه النار فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن المغيرة وأبوجهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً. ثم قال(صلى الله عليه وآله): إرفع رأسك!