سلسلة الدراسات في القضاء الاسلامي
النفي والتغريب في مصـادر التشـريع الاسـلامي
ومشروعيته ، وحقوق المغرَّب.
[7]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
إنّ الشريعة الإسلامية بصفتها خـاتمة الشرائع السماوية قد استوعبت حيـاة الانسان بمجالاتها كافة : اجتماعية وسياسية واقتصادية و ... فأنارت له سُبل الهداية التي تتناسب وطبيعة البشرية ، مجيبةً عمّا يعترضه من مشاكل وأزمات باسلوب علمي هادئ رصين يهتم بتكامله في الحياة وسيره الى الله تعالى .
ومن هنا فقد انبرى علماء الاسلام ـ وفي جميع مقاطعه الزمنية ـ لتأليف مصنفات في مجالات شتى ليعرضوا للعالم حقيقة تلك الشريعة المباركة بوجهها الناصع المشرق ، وليثبّتوا بأ نّها الصوت الالهي السرمدي المنزّه الذي يُخرج الانسان من الظلمات الى النور .
ومن الموضوعات المهمة : ( القضاء ) والتشريع الجنائي ، وهو العنوان المترامي الاطراف الذي ازدهر البحث فيه ابان عصر انتصار الثورة الاسلامية المباركة ، وشدّة الحاجة اليه لاقامة حدود الله في جمهورية شيّدت دستورها على شريعته المقدسة ; فانبثقت جهود علمية ـ وبتشجيع من قائد الثورة المباركة الامام الخميني (قدس سره) ـ مكثّفة صبّت اهتمامها على هذا الموضوع الحيوي ، وحققت انجازات ملفتة للنظر ، منها :
تصدي الحوزات العلمية لتدريسه ، وتحقيق كتب السلف الصالح ، وبحث ما لم يبحثوه في موضوع القضاء ـ بسبب ما تعرّضوا له من ضغوط سياسية أبعدتهم عن هذا المنصب وأقصتهم عن الابتلاء العملي به ـ وتبويبه حسب ما تقتضيه حاجات
[8]
المجتمع الانساني المعاصر .
ومن الكتب المهمّة التي اُ لّفت في هذا المضمار قبل سنوات قليلة كتـاب « موارد السجن في النصوص والفتاوى» لسماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ نجم الدين الطبسي حفظه الله ورعاه ، استعرض فيه بحوثاً فقهية ترتبط بشؤون السجناء وتبيّن موارد السجن في التشريع الاسلامي ، وقد اتحفنا بكتاب آخر وفي نفس الموضوع يحمل عنوان « النفي والتغريب في مصادر التشريع الإسلامي » استعرض فيه موارد التغريب ومشروعيته ، وبيان حقوق المغرّب ، واُموراً متنوعة اخرى لها وشائج مختلفة مع الموضوع الرئيس ، مستفيداً من المصادر الشيعية والسنية .
إنّ هذا الكتاب ليمثّل جانباً وضّاءً آخر من جوانب الشريعة الإسلامية ، وهو قدم صدق على طريق الحقيقة .
إنّ مجمع الفكر الاسلامي في الوقت الذي يبارك للمؤلف جهوده العلمية المثمرة يعرض بين يديك ـ ايها القارئ الكريم ـ هذا النتاج الفكري الثمين بصفته تجسيداً عملياً لاهداف المجمع الكبيرة في نشر المعارف الالهية ، وتبيين الشريعة المحمدية باسلوب عصري رصين و ...
وختاماً نسأل الله تبارك وتعالى أن يمنّ على مؤلفنا العزيز بدوام السداد ، وأن يتقبّل منّا هذا ( السعي ) قربةً اليه ، ويوفقنا لنيل رضاه وهو ولي التوفيق .
[ 15 / شعبان / 1416 هـ المصادف لذكرى
ولادة الامـام المهـديعجّل الله تعالى فرجه .
مجمع الفكر الاسلامي
[11]
الى صـاحب الراية والشافع يوم القيامة، الى خاتم النبيين وحجة الله على الأولين والآخرين، الى خلفائه الراشدين (الائمة الاثني عشر)، أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم الإمام المنتظر عليهم سلام الله. اهـدي اليهم جهـدي المتواضع ...
... فتفضلوا عليَّ بالقبول.
[ المؤلف
[12]
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران المظفرة وقيام الجمهورية الاسلامية فيها ، نشأت في المكتبة الاسلامية حاجة ملحة الى نوع من الابحاث المتخصصة ذات الثمرة العملية التطبيقية في المجالات التشريعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، وذلك لتسهيل مهمة الحكومة الاسلامية في اداء تكليفها في هذه المجالات بما يخدم حركة الدولة الاسلامية نحو الافضل على كل الاصعدة.
وكنت استشعر هذه الحاجة بوضوح من موقعي كواحد من طلبة العلوم الدينية وأتأمل في ما يمكنني ان اقدمه على صعيد هذه الحاجة ، حتى وفقني الله ـ تبارك وتعالى ـ الى البحث في مجال احكام السجن ، في محاولة لتوسعة وسد نقائص الخطوة التي خطاها قبلي علماء افاضل في هذا المجال الذي هو ثغرة من الثغرات التي لابد من ردمها في ضوء تلك الحاجة.
وبعد صدور كتابي (موارد السجن في النصوص والفتاوى) قوبل هذا الكتاب بترحيب كبير وحفاوة فائقة في الاوساط العلمية والعامة لم اكن اتوقعها ، ووردتني رسائل كثيرة من داخل جمهورية ايران الاسلامية وخارجها تتضمن في ثناياها الكثير من الثناء والتقدير ، وشوفهت أيضاً بهذا الثناء والتقدير في لقاءات واجتماعات عامة ، كما اثني على الكتاب في محافل كبيرة كصلاة الجمعة في طهران.
الامر الذي شد عزمي على مواصلة بذل الجهد لاتمام الحلقة الثانية من هذا
[13]
المشروع التي كنت قد وعدت القراء الكرام بإنجازها وهي (النفي والتغريب في مصادر التشريع الاسلامي) الذي يتضمنها هذا الكتاب الذي بين يدي القارىء العزيز.
فالحمد لله منتهى رضاه على توفيقه إياي الى انجاز هذه المهمة بعد بذل الجهد قرابة سنوات اربع.
وتحسن الاشارة هنا الى ان الاسلوب الذي اتبعته في هذا الكتاب (النفي والتغريب) هو نفس اسلوبي في (موارد السجن) مع فارق هو : كثرة الفروع والمسائل في كل فصل من هذا الكتاب ، إضافة الى تعمق اكثر في الجانب الاستدلالي.
وهذا الكتاب يحتوي على قسمين ، القسم الاول : وفيه ستة فصول من ابحاث تمهيدية والقسم الثاني على اربعة ابواب :
1 ـ التغريب في الدم : وفيه خمسة فصول.
2 ـ التغريب في الفحشاء : وفيه ثمانية فصول.
3 ـ التغريب فيما يرتبط بالدولة الاسلامية : وفيه خمسة فصول.
4 ـ التغريب فيما يرتبط بأمن المجتمع الاسلامي وسلامته : وفيه اربعة فصول.
وقد اوردنا في كل فصل ـ كما في فصل (القيادة) مثلاً ـ ما ورد من الروايات عن طريق أئمة اهل البيت (عليهم السلام) ، وبحثنا في السند والدلالة بقدر ما تفرضه الحاجة ، ثم نقلنا ما ورد من طرق غيرهم مع البحث في السند والدلالة بقدر الحاجة أيضاً.
ثم نقلنا فتاوى الفريقين، واوردنا بعدها التفريعات والمسائل المتعلقة بالعنوان مع ادلتها التفصيلية، كمدة النفي، محل النفي، نفقة المنفي، رجوع المنفي، الرخصة والاجازة.
وإنّ املي لكبير في ان تكون هذه الخدمة المتواضعة نافعة بين يدي سادتي العلماء الذين وقعت عليهم مسؤولية القضاء وفصل الخصومات وحل مشكلات
[14]
الناس.
وان يكون هذا الكتاب دعوة مفتوحة لكل المتعصبين من اهل المذاهب الاخرى الذين حرموا انفسهم من زلال معين فقه أئمة اهل البيت (عليهم السلام) الذي لا ينضب ، فما زالوا حيارى في تيه جهل العصبية لا يشربون إلّا من غور أو من وحل ضحل ضئيل ، ليدخلوا حرم فقه اهل بيت العصمة الطاهرة (عليهم السلام) فيرتووا من كوثرهم ، علّهم يسلكون ما سلك بعضهم من اصحاب الضمائر الحية ممن ترك طريقة اسلافه في العناد والمكابرة ، واتبع طريقة شيخ الطائفة الحقة ، الشيخ الطوسي (قدس سره) في الخلاف والمبسوط ، والسيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار ، والمحقق الحلّي في المعتبر ، والعلّامة في التذكرة من كتابه في الفقه المقارن.
واود ان اقول بين يدي القارىء الكريم : إنّ هذه الدراسة وإن اخذت منّي الكثير من الوقت واستدعت المزيد من التحقيق والتتبع ، إلّا انني لا ادعي انها جاءت جامعة مانعة ، بل هي خطوة اولى على طريق لم تسلك من قبل ، واملي ان يغفر لي العلماء والمحققون والمتتبعون ما يكتشفونه من عثراتي التي ارجو ان لا تكون كثيرة.
كما اود ان اذكر بأنّ هذا الكتاب ليس كتاب فتوى ، فلابد من الرجوع الى فقهائنا ـ اعزهم الله ـ في كل مسألة وفرع.
ولقد ذكرت موارد غير مفتى بها عندنا رغم ورود النصوص فيها ، فضلاً عن موارد اختصت المذاهب الاخرى في الفتيا بها ، مثل نفي المخنث ومن وقع عليه التشبيب ... وفروع اخرى لم يقل فيها احد منّا.
ولقد عرضت هذا الانجاز المتواضع على بعض المحققين في الحوزة العلمية وارباب الفكر والقلم ، فأتحفونا بملاحظات قيّمة ، وارى من اللازم ان اتقدم بالشكر والتقدير لهم ، كأصحاب السماحة حجج الاسلام والمسلمين : الشيخ كاردان ، والشيخ علي الكوراني ، والشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي ، والسيد
[15]
جعفر مرتضى العاملي ، والشيخ محمد علي الانصاري ، والشيخ محمد الخاقاني ، والسيد محمد جواد الجلالي ، وشقيقيّ الشيخ محمد جواد والشيخ محمد جعفر الطبسي ، وصديقنا العزيز الاستاذ حامد عبد الخالق. فلهم جزيل الشكر والله من وراء القصد.
[ نجم الدين الطبسي
قم المقدسة ـ 8 / ع2 / 1415 هـ ق [16]
القسم الأوّ ل
شمول التعزير للتغريب.
[17]
النفي و التغريب في اللغة 1 ـ قال الطريحي : « النفي هو الطرد والدفع ; يقال : نفيتُ الحصى من وجه الارض ، فانتفى ; ثم قيل لكلِّ كلام تدفعه ولا تثبتُهُ : نفيتُهُ ; ومنه : نُفيَ إلى بلدة أخرى ، أي دفع اليها. »(1).
وقال أيضاً : « غرِّبَ الشخص ( بالضَّم ) غرابةً : بَعُد عن وطنه ، فهو غريب ... تغرّب واغترب : أي : ذهب اِلى بلاد الغربة . »(2).
2 ـ وعن ابن فارس : « نفي : النون والفاء ، والحرف المعتل أصيل ; يدلُّ على تعرية (تغربة) شيء من شيء وإبعاده منه ... »(3).
3 ـ وعن ابن الأثير : « النفي : الإبعاد عن البلد ، يقال : نفيتُهُ ، أنفيتُهُ نفياً ، إذا أخرجته من البلد وطردته. »(4).
[
(1) مجمع البحرين 1 : 418 (مادة نفي) ـ انظر : صحاح اللغة 6 : 2513.
(2) مجمع البحرين 1 : 131 (مادّة غرب).
(3) معجم مقاييس اللغة 5 : 456.
(4) النهاية 5 : 101. [18]
وقال أيضا : « التغريب : النفي عن البلدِ الذي وقَعت فيه الجناية ، يقال : أغربتُهُ وغرَّبتُهُ إذا نحَّيتَهُ وابعدْتَهُ ، والغرب : البُعد. »(1).
4 ـ وعن ابن منظور : « الغَرب : الذِّهاب والتَّنحِّي عن الناس ، وقد غَرَب عنّا يغرُبُ غَرْباً ، وغرَّبَ واغرب وغَرّبهُ ، وأغْرَبهُ : نحّاه ، وفي الحديث أمر (صلى الله عليه وآله)بتغريب الزاني : وهو نفيه عن بلده. »(2).
وقال أيضا : « نفى الشيء : تنحّى ، نفي الرجل عن الأرض ، ونفيتُهُ عنها : طردتُهُ فانتفى ... وهو التغريب الذي جاء في الحديث ، ونَفي المخنَّث : أن لا يُقرَّ في مُدُن المسلمين. »(3).
5 ـ وقال الطبرسي : « أصلُ النفي : الإهلاك بالاعدام ، ومنه النفاية لرديء المتاع ، ومنه النفي وهو ما تطاير من الماء عن الدلو. والنفي : الطرد ، قال أوس بن حجر :
يُنفون من طُرق الكرام كما ***** ينفى المطارق ما يلي القرد »(4).
6 ـ وقال الفيض : « التغريب : الإرسال إلى الغُربة ... »(5).
[
(1) النهاية 4 : 349.
(2) لسان العرب 1: 638.
(3) لسان العرب 15 : 337 ـ انظر القاموس المحيط 4 : 399 ـ لغت نامه دهخدا 14: 337.
(4) مجمع البيان 3 : 187.
(5) الوافي 22 : 828. [19]
الفصل الثاني
مشـروعية النفي
النفي مشروع بالأدلَّةِ الأربعة :
أمّا الكتاب ، فيدُلُّ عليه قوله تعالى : ( ... أوينفوا من الارض ... )(1). وفُسِّر بالتغريب على ما يأتي في بحثِ المحارب إن شاء الله.
وأمّا السُنَّة : فالروايات الواردة الدالّة على مشروعية النفي إجمالاً مستفيضة ، بل لعلّها متواترة إجمالاً من طريق الفريقين وسيتّضح هذا من خلال مطالعةِ الكتاب.
وعلى سبيل المثالِ لا الحصر; روى الفريقان : أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) غرَّب ، وعليّاً (عليه السلام)غرَّب(2) ، وسائر الخلفاء غرّبوا.
وقد اُفْرِدَ في بعض الجوامع الحديثية بابٌ باسم النفي ،كما في الوسائل(3) ، والترمذي حيث قال : « باب ما جاء في النفي : وقد صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
[
(1) المائدة : 33.
(2) التهذيب 10 : 36 ح 127 ـ وعنه الوسائل 18 : 540 ب4 ح6.
(3) الوسائل 18 : 393 ب 24. [20]
النفي ، رواه أبو هريرة ، وزيد بن خالد ، وعبادة بن الصامت ، وغيرهم ، عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، والعمل على هذا عند أهلِ العلم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)منهم : ابو بكر، وعمر ، وعلي (عليه السلام) واُبيّ بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وابو ذر ، وغيرهم. وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين ، وهو قول سفيان الثـوري ومـالك بن أنـس ، وعبـد اللـه بن المبـارك ، والشـافعي وأحمـد ، وإسحاق ... »(1).
وأمّا الإجماع : فقد اُدّعي ـ الإجماع ـ أو عدم الخلاف ، أو : الاتفاق على النفي ـ اِجمالاً ،في بعض الموارد ـ كنفي الزاني غير المحصن ، أو المحارب.
ويمكن أن يقال : لا حاجة إلى الإجماع لأنَّ حُجِّيتَهُ إنما هو لكشفهِ عن رأي المعصوم ; فإذا كان المنكشف عندنا قطعياً فلا حاجة الى الكاشف عنه.
وأمّا العقل : فهو يحكم بالحفاظ على أمن البلاد وأهلها ; ودفع شرِّ الظالمين والمفسدين عنها بكُلِّ طريق ممكن.
والنفي ، وإن كان منافياً لحرّية بعض الناس وتسلّطهم على انفسهم ، غير أنَّ بقاء هذا البعض حُرّاً يوجب تهديد أمن المجتمع وسلامته وحريته ، فتُقَدّم هنا المصلحة العامة على مصلحة الفرد ; أو أنّ العقل ـ على الأقل ـ لا يمنع من تغريبه ، وإن لم يحكم بتغريبه بالخصوص(2).
[
(1) الجامع الصحيح 4 : 44 ب 11 ح 1438 ـ الحدود ـ السنن الكبرى 8 : 222 ـ عمدة القارىء 23 : 13 ـ كنز العمال 5 : 411 ـ بلوغ المرام 2 : 259.
(2) هذا كلّه على القول بحجيّة مدركات العقل، أمّا على قول بعضِ الأخباريين بعدم حجيّة العقل بقول مطلق، حتّى الفطري الخالي من شوائب الأوهام، فتكفينا الأدلةُ السابقة. انظر : فرائد الاصول للشيخ الانصاري : 10. [21]
الفصل الثالث
شـمول التعزير للنفي التعزير في اللغة : هو من الألفاظ ذات المعاني المتضادّة ، فهو بمعنى التوقير والتأديب كما عن الجوهري ، وابن منظور ، وابن الأثير ، والشيرازي في معيار اللغة.
وأمّا في إصطلاح الفقهاء ، فالمشهور عندهم : أنَّ التعزير : هو العقوبة غير المقدّرة ، والتي يرجع تقديرها إلى الحاكم الشرعي ; وقيّدها بعضهم بقوله : « في الغالب » لورود تعزيرات خاصة في الشَّرع ، مُحدّدة ، مقدّرة.
هذا وقد صرّح الفقهاء بشمول دائرته الحبس ، كالشيخ الطوسي في موردين من مبسوطه ، والعلّامة الحلي في موارد من التحرير ، وفي القواعد والتذكرة ، والمجلسي الأول في الروضة ، والشيخ محمّد حسن النجفي في موردين من موسوعتهِ القيّمة ـ جواهر الكلام ـ والسيد محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة ، والسيد الگلپايگاني في مجمع المسائل ، وبعض المعاصرين من فقهاء الامامية ، وأكثر فقهاء المذاهب الاخرى على ذلك.
كما صرّح آخرون من فقهاء الامامية ، بشموله للنفي أيضاً كما عن جواهر الكلام. ويبدو أنّ الإمام الخميني رضوان الله عليه وبعض تلامذتهِ يذهبان الى ذلك أيضاً.
[22]
وقيل بشمول التعزير ، للتشهير(1) والإطافة(2) كما في جواهر الكلام.
واحتمل بعضهم : شموله شَملَ العينين أيضاً. نعم صرَّح فقهاؤنا : بعدم شموله للجرح أو أخذ المال(3) ـ على خلاف رأي العامة ـ وإن قال بعضهم بجواز الجرح والقتل من باب إحدى مراتب النهي عن المنكر(4).
وعليه فلو أنَّ فقيهاً أضاف النفي والتغريب إلى سائر التعزيرات ، لما كان متفرِّداً في هذا الحقل ، ولا شاذَّ القول ، ولا بعيداً عن الإثبات والاستدلال.
أضف اِلى أنَّ الأصلَ الأولي لتعيين مفاد الألفاظ ومفاهيمها هو العرف ، اِلّا إذا كان عندنا نصٌّ معتبر من الشرع يُعيِّن معنى اللفظ. كما أنَّ إعتبار قَول ِ اللغوي أيضاً بهذا المعنى. ولم يكن معنى التعزير عند العرف ، هو خصوص الجلد ، بل معناه : التعظيم ، والنصر ، والإذلال.
نعم لو اختلف العرف أو اللغة في سعةِ دائرته وشموليته فترجع المسألة الى كونها من موارد الشبهة المفهومية للتعزير فيؤخذ بالقدر المتَيقَّن.
أ ـ التعزير في اللغة :
1 ـ عن الجوهري : « التعزير : التعظيم ، والتوقير ، والتعزير أيضاً : التأديب. ومنه سُمّي الضرب دون الحدِّ تعزيراً. »(5).
2 ـ وعن ابن منظور : « أصل التعزير : التأديب ولهذا يُسمّى الضرب دون
[
(1) و (2) انظر معناهما في فروع « النفي في القيادة » : 126.
(3) وهو في التعزير المالي، وسيأتي البحث عنه في هذا الفصل.
(4) انظر : الارشاد للعلامة 2 : 352 ـ الروضة البهية 2 : 416 ـ مسالك الافهام 3 : 105 (الطبعة الحديثة).
(5) صحاح اللغة 2 : 744. [23]
الحدِّ تعزيراً. إنّما هو أدب. »(1).
3 ـ وعن ابن الأثير : « أصل التعزير : المنع والردُّ ... ولهذا قيل للتأديب الّذي هو دون الحدِّ : التعزير ... »(2).
4 ـ وعن الشيرازي : « التعزير : التعظيم والتوقير والتأديب ، ومنه سُمّي الضرب دون الحدِّ تعزيراً. »(3).
هذا ما ورد في اللغة ، وأمّا عند الفقهاء :
ب ـ رأي الامامية :
1 ـ قال المحقق الحلي : « كلُّ ماله عقوبة مُقدّرة يُسمّى حدّاً ; وما ليس كذلك سُمّي تعزيراً. »(4).
2 ـ وقال الشهيد الثاني : « التعزير لغةً التأديب ، وشرعاً : عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأَصل الشرع غالباً. »(5).
3 ـ وقال الطباطبائي : «وإذا لم تُقدَّر العقوبة سُمّي تعزيراً، وهو لغةً التأديب»(6).
4 ـ وقال الشيخ محمد تقي الشيرازي : « التعزير تأديب تعبّداً للّه سبحانه به لردع المعزَّر ، وغيره من المكلّفين ، وهو مستحق للإخلال بكلِّ واجب واتيان كلِّ قبيح لم يرد الشرع بتوظيف الحدِّ عليه. »(7)
5 ـ وقال السبزواري : « المشهور بين الفقهاء : أنَّ كلّما فيه عقوبة مقدّرة ،
[
(1) لسان العرب 4 : 561.
(2) النهاية 3 : 228.
(3) معيار اللغة 1 : 463 انظر : مفردات الراغب : 345.
(4) شرائع الاسلام 4 : 147.
(5) مسالك الافهام 2 : 423 ـ انظر السرائر 3 : 534 والمهذب البارع 5 : 74 .
(6) رياض المسائل 2 : 459.
(7) الحاشية : 124. [24]
تسمّى حدّاً ، وما ليس كذلك يسمّى تعزيراً ، ولابدَّ وأن يكون ذلك بحسب ِ الغالب ، واِلّا فقد وردت في الشرع تعزيرات خاصة ، في موارد مخصوصة محدودة بكميات معينة. »(1)
هذا وقد صرَّح كثيرٌ من فقهائـنا بشمول دائرة التعزير للحبس والنفي ، والتشهير ، والإطافة ، والسمل ، وحلق الرأس ، وغيرها ، وفيما يلي كلماتهم :
ج ـ القائلون بشمول التعزير للحبس والنفي و ... :
1 ـ قال الشيخ الطوسي : « إذا فعل إنسان ما يستحق به التعزير ; مثل : أن قبَّلَ امرأةً حراماً أو أتاها فيما دون الفرج ، أو أتى غلاماً بين فخذيه ـ عندهم ـ لأنَّ ذلك لواط. أو ضَربَ اِنساناً ، أو شتمه بغير حَقٍّ ، فللإمام تأديبه ، فإن رأى أن يوبِّخَهُ على ذلك ، ويبكِّته ، أو يحبسه ، فعل ... »(2)
2 ـ وقال أيضاً : « ومن وجب عليه دينٌ حالّ ، وعُرف له مال يستره ، ولم يكن له مال سواه ، فإنَّ السلطان يجبره على قضاء الدين ، فإن فَعَل واِلّا حبسه تعزيراً. »(3).