مجموع فی شرح المهذب

محیی الدین بن شرف النووی

جلد 18 -صفحه : 71/ 51
نمايش فراداده

(343)

( فرع ) إذا اختلف الاب و الام في أمر السفر فقالت الام : يسافر مشغولا بمصالحه و حاجياته فلن يلتفت إلى رعاية الولد فأنا أحق به ، و قال الاب : أسافر للنقلة و الاستيطان فأنا أحق كان القول قول الاب لانه أعلم بقصده و الله تعالى أعلم بالصواب و هو حسبي و نعم الوكيل قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب الجنايات ( الشرح ) الجنايات جمع جناية .

و في القاموس : جنى الذنب عليه يجنيه جناية جره طلبه اليه ، و الثمرة اجتنها كتجناها و هو جان و الجمع جناة وجنتاه و أجناء " نادر " اه .

و في اللسان قال أبو حية النميري : و ان دما لو تعلمين جنيته على الحى جاني مثله سالم فأما قولهم في المثل " أبناؤها أجناؤها " فزعم أبو عبيد أن أبناء جمع بان و أجناء جمع جان كشاهد و أشهاد و صاحب و أصحاب .

قال ابن سيده في المخصص و أراهم لم يكسروا بانيا على أبناء و لا جانيا على أجناء الا في هذا المثل ، المعنى أن الذي جنى و هدم الدار هده هو الذي بناها .

قال الجوهرى و أنا أظن أن المثل جنانها بناتها ، لان فاعل لا تجمع على أفعال ، ثم أستطرد خطأ فقال : ان اشهادا و أصحابا جمع شهد و صحب و هو خطأ فإن فعل لا تجمع على أفعال الا إذا كانت عينها واوا ياء كقول و شيخ تجمع على أقوال و أشياخ الا جمعا شاذا ، و قد رأيتهم في كتب الفقة و الحديث و التفسير و اللغة يجمعون بحث على أبحاث فإذا جاز فهو شاذ و صوابه بحوث .

و هذا المثل يضرب لمن عمل شيئا بغير روية فأخطأ فيه ثم استدركه فنقبض ما عمله .

و أصله أن بعض ملوك اليمن غزا و استخلف ابنته فبنت بمشورة قوم بنيانا كرهة أبوها ، فلما قدم أمر المشيرين ببنائه أن يهدموه ، و المعنى أن الذين جنوا عليه هذه الدار بالهدم هم الذين بنوها ، و المدينة التي هدمت اسمها براقش ، و من ثم قيل " على نفسها جنت براقش " و في الحديث " لا يجنى جان الا على نفسه "

(344)

و الجناية الذنب و الجرم ، و ما يفعله الانسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا و الاخرة ، و المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه و أبا عده ، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الاخر لقوله تعالى ( و لا تزر وازرة وزر أخرى ) و جنى فلان على نفسه إذا جر جريرة يجئ جناية على قومه ، و تجنى فلان على فلان ذنبا إذا تقوله عليه و هو بري ، و تجنى عليه و جانى ادعى جناية .

قال شمر : حنيت لك و عليك و منه قوله : جانيك من يجنى عليك و قد تعدى الصحاح - فتجرب - الجرب و جنيت الثمرة أجنيها جنى ، و اجتنيتها بمعنى .

قال ابن سيده : جنى الثمرة و نحوها و تجناها كل ذلك تناولها من شجرتها .

قال الشاعر إذا دعيت بما في البيت قالت تجن من الجذال و ما جنيت قال أبو حنيفة ، هذا شاعر نزل بقوم فقرؤه صمغا و لم يأتوه به و لكن دلوه على موضعه و قالوا اذهب فاجنه ، فقال هذا البيت يذم به أم مثواه و استعاره أبو ذويب للشرف فقال و كلاهما قد عاش عيشة ماجد و جنى العلاء لو أن شيئا ينفع و في الحديث إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دخل بيت المال فقال يا حمراء و يا بيضاء احمرى و ابيضى و غرى غيري هذا جناي و خياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه و أراد على أن يتمثل بهذا البيت الذي قاله في الجاهلية عمرو بن عدي اللحمي ابن أخت جذيمة .

أى أنه لم يتلطخ بشيء من فىء المسلمين بل وضعه مواضعه .

و الجنى الثمر المجتنى ما دام طريا ، و في التنزيل العزيز ( تساقط عليك رطبا جنيا ) و قال القائل " إنك لا تجنى من الشوك العنب " و في حديث أبى بكر رضى الله عنه أنه رأى أبا ذر رضى الله عنه فدعاه فجنى عليه فساره .

جنى عليه أكب عليه و الاصل فيه من جنأ يجنا إذا مال عليه و عطف ، ثم خفف .

هذا بعض ما ألمت به من مادة " جناية " لغة و استعمالا ، و شواهد و أمثالا ، و آثارا و قرآنا تضفى على البحث كمالا ، و الله الموفق حالا و مآلا

(345)

قال المصنف رحمه لله تعالى ( باب تحريم القتل ) و من يجب عليه القصاص و من لا يجب عليه القتل بغير حق حرام و هو من الكبائر العظام ، و الدليل عليه قوله عز و جل ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه وأعد له عذابا عظيما ) و روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " و روى ابن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لو أن أهل السموات و الارض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز و جل الا أن لا يشاء ذلك " ( الشرح ) قوله تعالى ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها ) الاية .

في صحيح البخارى عن أبن جبير قال ، اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) هي آخر ما نزل و ما نسخها شيء ، و كذا رواه مسلم و النسائي من طرق عن شبعة به و رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاية فقال ما نسخها شيء و قال ابن جرير بإسناده عن يحيى الجابرى عن سالم بن أبى الجعد قال " كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عبد الله ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الخ آخر الاية ، قال أ فرأيت إن تاب و عمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس " ثكلته أمه ، وأنى له التوبة و الهدى ؟ و الذي نفسى بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله .

تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله ، و بيده الاخرى رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلنى ؟ " و ايم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاية فما نسخها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه و سلم و ما نزل بعدها من برهان .

و قد رواه

(346)

أحمد في مسنده .

أما حديث " لزوال الدينا أهون على الله من قتل رجل مسلم " فإنى لم أعثر عليه من حديث أبى هريرة ، و لا اتهم المصنف بالخطأ في عزوه اليه فلست أهلا لذاك ، و إنما وجدت الحديث في سنن النسائي من حديث بريدة رضى الله عنه .

و عنده أيضا من حديث ابن عمر و لفظه " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " و كذلك الترمذي و عند ابن ماجه من حديث البراء .

أما حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد و أبى هريرة بلفظ " لو أن أهل السماء و الارض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله في النار " في الديات .

أما الاحكام فإن القتل بغير حق حرام ، و الاصل فيه الكتاب و السنة و الاجماع أما الكتاب فقوله تعالى " و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " و قوله تعالى " و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا " فأخبر أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ، و لم يرد بقوله " الا خطأ " أن قتله خطأ يجوز ، و إنما أراد لكن إذا قتله خطأ فعليه الدية و الكفارة .

و قوله " و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " الآية ، أما السنة فعلى ما مضى من الاحاديث ، و ما سيأتي بما يجاوز الحصر .

و أما الاجماع فإنه لا خلاف بين الامة في تحريم القتل بغير حق .

إذا ثبت هذا فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق فسق و استوجب النار ، الا أن يتوب .

و حكى عن ابن عباس قوله " لا تقبل توبة القاتل " .

و دليلنا قوله تعالى ( و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق - إلى قوله تعالى - الا من تاب ) الآية و لقوله صلى الله عليه و سلم " التوبة تحت ما قبلها " و لان التوبة إذا صحت من الكفر فلان تصح من القتل أولى .

قال المصنف رحمه الله تعالى ( فصل ) و يجب القصاص بجناية العبد ، و هو أن يقصد الاصابة بما يقتل غالبا فيقتله ، و الدليل عليه قوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

(347)

و العين بالعين و الانف بالانف و الاذن بالاذن و ألسن بألسن و الجروح قصاص ) و قوله تعالى ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد ) الاية .

و قوله تعالى ( و لكم في القصاص حياة يا أولي الالباب ) و روى عثمان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث : الزاني المحصن و المرتد عن دينه و قاتل النفس ، و لانه لو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء و هلاك الناس و لا يجب بجناية الخطأ ، و هو أن يقصد غيره ، فيصبيه فيقتله ، لقوله عليه السلام " رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه " و لان القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ و لا يجب في عمد الخطأ ، و هو أن يقصد الاصابة بما لا يقتل غالبا فيموت منه ، لانه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل ، كما لا يجب حد الزنا في وطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا .

( الشرح ) قوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) الخ الايات .

أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال ان الله أنزل و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و أولئك هم الظالمون و أولئك هم الفاسقون .

أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، و كانت أحدهما قد قهرت الاخرى في الجاهلية حتى ارتضوا و اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، و كل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه و سلم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة تطلب مائة وسق ، فقالت الذليلة و هو لكان في حيين دينهما واحد و نسبهما واحد و بلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض ؟ انما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا و فرقا منكم .

فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما ( و هما قريظه و النضير ) ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت و الله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا الا ضيما منا و قهرا لهم ; فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه أن أعطاكم ما تريدون

(348)

حكمتموه و إن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه .

فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين ليخيروا لهم رأى النبي صلى الله عليه و سلم ، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله و ما أرادوا ، فأنزل الله تعالى ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون - إلى قوله تعالى - و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) و روى الامام أحمد بإسناده عن الزهرى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين ) نصب النفس و رفع العين ، و كذا رواه أبو داود و التزمذى و الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله ابن المبارك .

و قال الترمذي حسن غريب .

و قال البخارى تفرد ابن المبارك بهذا الحديث .

و قد استدل كثير ممن ذهب من الاصوليين و الفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكى مقررا و لم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور ، و كما حكاه الشيخ أبو إسحاق الاسفرائينى عن نص الشافعي و أكثر الاصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات .

و قال الحسن البصري : هي عليهم و على الناس عامة .

رواه ابن أبى حاتم ، و قد حكى الامام النووي في كتاب الصوم من المجموع في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره و صحح منها عدم الحجية .

و نقلها الشيخ أبو إسحاق الاسفرائيني أ قولا عن الشافعي و أكثر الاصحاب .

و رجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا .

و قد حكى الامام أبو قصر بن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الاية على ما دلت عليه .

أما حديث عثمان رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان ابن حرب و الترمذى في الفتن عن أحمد بن الضبى و النسائي في المحاربة عن إبراهيم ابن يعقوب و عن مؤمل بن إهاب و عن أبى الازهر أحمد بن الازهر و ابن ماجه في الحدود عن أحمد بن عبدة ، و لفظه " أن عثمان أشرف يوم الدار فقال أنشدكم الله أ تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، زنا بعد إحصان ، أو ارتداد بعد اسلام ، أو قتل نفسا بغير حق

(349)

فقتل به ، فو الله ما زنيت في جاهلية و لا في إسلام ، و لا ارتدت منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا قتلت النفس التي حرم الله .

فيم تقتلوني ؟ " قال الترمذي و رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه و روى يحيى بن سعيد القطان و غير واحد عن يحيى بن سعيد هذا الحديث فأوقفوه و لم يرفعوه ، و قد روى هذا الحديث من وجه عن عثمان عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا و رواه الشيخان و أصحاب السنن و أحمد عن ابن مسعود بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله الا الله وأنى رسول الله الا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، و النفس بالنفس ، و التارك لدينه المفارق للجماعة " و روى أحمد و النسائي عن عائشة مرفوعا " لا يحل دم امرئ مسلم الا من ثلاثة إلا من زنى بعد ما أحصن ، أو كفر بعد ما أسلم ، أو قتل نفسا فقتل بها " و رواه مسلم عنهما بمعناه .

و في لفظ رواه النسائي عنها " لا يحل قتل مسلم الا في إحدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم ، و رجل يقتل مسلما متعمدا ، و رجل يخرج من الاسلام فيحارب الله عز و جل فيقتل أو يصلب أو ينفى من الارض " و أخرجه بهذا اللفظ أبو داود و الحاكم و صححه .

أما الاحكام فإنه إذا قتل من يكأفئه عامدا - و هو أن يقصد قتله بما يقتل غالبا فيموت منه - وجب عليه القصاص لقوله تعالى ( و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية .

و هذه الآية حجه لنا بلا خلاف ، لان من أصحابنا يقول شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير .

و من قال منهم ليس بشرع لنا ، فإن الشرع قد ورد به ثبوت حكم هذه الاية في حقنا ، لان النبي صلى الله عليه و سلم قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الانصار " كتاب الله القصاص " و ليس للسن ذكر في القصاص إلا في هذه الاية .

و قوله تعالى ( كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر ، و العبد بالعبد ) الاية .

و قوله تعالى ( و لكم في القصاص حياة ) و معنى ذلك أن الانسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل لم يقتل ، فكان في ذلك