( فرع ) إذا كان المقتص منه مجنونا و المقتص عاقلا فقال له : أخرج يمينك فأخرجها المجنون فقطعها فقد استوفى حقه ، لان المقتص من أهل الاستيفاء ، و ان كان المقتص منه ليس من أهل البذل و الاعتبار بالمقتص ، فان قال المقتص أخرج يمينك فأخرج المجنون يساره فقطعها المقتص - فان كان المقتص عالما أنها اليسار - وجب عليه القصاص في اليمين ، و إن كان المتقص عالم بأنها اليسار لم يجب عليه القصاص في اليسار للشبهة و لكن عليه دية اليسار ، لان بذل المجنون لا يصح ، و له القصاص في اليمين فلا يقطعها حتى تندمل يساره ، و ان كان المقتص منه عاقلا و المقتص مجنونا ، فقال له المجنون أخرج يمينك لا قطعها فأخرجها العاقل باختياره فقطعها المجنون لم يصر مستوفيا ، لانه ليس من أهل الاستيفاء و لا ضمان عليه لانه قطعها ببذل صاحبها و وجب للمجنون على العاقل دية يمينه لان يمينه قد زالت .
و إن أخرج اليه العاقل يساره فقطعها المجنون هدرت اليسار و كان حق المجنون باقيا في القصاص في اليمين .
و أما إذا أكرهه المجنون فقطع يمينه فهل يصير مستوفيا لحقه ؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الصبي الصحيح ، لانه لا يصير مستوفيا ، فان قلنا انه يصير مستوفيا فلا كلام .
و ان قلنا لا يصير مستوفيا كان للمجنون دية يده على الجاني و وجب للجاني دية يده فان قلنا ان عمد المجنون عمد وجبت الدية في ماله ، و ان قلنا أن عمده خطأ وجبت على عاقلته ، و ان كان المتقص و المقتص منه مجنونين و كان القصاص في اليمين فقطع المقتص يمين المقتص منه فهل يصير مستوفيا لحقه ؟ على الوجهين ، سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه ، لان بذله لا يصح ، فان قلنا يصير مستوفيا فلا كلام .
و إن قلنا لا يصير مستوفيا وجب للمقتص دية يده في ماله الجاني ، و يجب للجاني دية يده فان قلنا ان عمد المجنون عمد وجبت في ماله ، و ان قلنا ان عمده خطأ وجبت على عاقلته .
و ان قطع المقتص يسار الجاني وجب ضمانها بالدية ، سواء قطعها
ببذل صاحبها أو بغير بذله لانه لا يصح بذلك : و في محل وجوبها القولان في جنايته هل هى عمد أو خطأ ؟ و يبقى للمقتص القصاص في اليمين و لا يقتص من الجاني حتى تندمل يساره قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فصل ) و إذا وجب القصاص في يمينه فقال ، أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فقطعها ، فإن قال تعمدت إخراج اليسار و علمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان ، لانه قطعها ببذله و رضاه .
و إن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفي ، فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لانه موضع شبهة ، و هل يجب عليه الدية ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا تجب عليه لانه قطعها ببذل صاحبها .
( و الثاني ) يجب و هو المذهب ، لانه بذل على أن يكون عوضا عن اليمين ، فإذا لم يصح العوض و تلف المعوض وجب له بدله ، كما لو اشترى سعلة بعوض فاسد و تلفت عنده ، فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه ، و فيما يضمن وجهان ( أحدهما ) و هو قول أبى حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لانه تعمد قطع يد محرمة .
( و الثاني ) و هو المذهب أنه لا يجب القود ، لانه قطعها ببذل الجاني و رضاه و تلزمه الدية لانه قطع يدا لا يستحقها مع العلم به ، فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح ، لان الدماء لا تستباح بالعوض ، و هل يسقط القصاص في اليمين ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يسقط لان عدو له إلى اليسار رضا بترك القصاص في اليمين .
( و الثاني ) أنه لا يسقط لانه أخذ اليسار على أن يكون بدلا عن اليمين و لم يسلم البدل فبقى حقه في المبدل .
فإذا قلنا لا يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار ، و للمقتص عليه القصاص في اليمين .
و ان قلنا انه يسقط القصاص فله دية اليمين و عليه دية اليسار و ان كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره
فقطعها وجب عليه القصاص ان كان عالما أو الدية إن كان جاهلا ، لان بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه ( الشرح ) إذا قطع رجل يد رجل فاقتص المجني عليه من الجاني فاندملت يد المجني عليه و مات الجاني هدر دمه .
و به قال الحسن و ابن سيرين و مالك و أحمد و إسحاق و ابن المنذر و أبو يوسف و محمد .
و قال عطاء و طاووس و الزهري و أبو حنيفة يكون على المجني عليه دية كاملة دليلنا ما روى عن عمر و على رضى الله عنهما أنهما قالا : من مات من حد أو قصاص فلا دية له ( 1 ) و لا مخالف لهما في الصحابة رضى الله عنهم .
و يثبت أنه إجماع ، و لانه جرح مباح مجتهد فيه فلم تكن سرايته مضمونة كالقطع في السرقة ، فقول المباح احتراز من القطع بغير حق و قولنا " مجتهد فيه " احتراز من المولى عليه إذا كانت به أكله أو سعلة فاجتهد الامام في قطعها فقطهعا فمات منه و ان قلنا يد رجل فقطع المجني عليه يد الجاني ثم سرى القطع إلى نفس المجني عليه كانت السراية إلى نفس الجاني قصاصا ، لان السراية في النفس لما كانت كالجناية في إيجاب القصاص كانت الجناية في استيفاء القصاص ، فإن كانت بحالها إلا أن الجاني مات من القطع أولا ثم مات المجني عليه بعده من القطع ففيه وجهان ( أحدهما ) أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصا لان نفسه خرجت مخرج القصاص فكانت قصاصا ، كما لو مات المجني عليه ثم مات الجاني ( و الثاني ) أن السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصا ، و هو الاصح لان السراية سبقت وجوب القصاص فلم يقع قصاصا ، و إنما تكون السراية هدرا ، فعلى هذا يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية ، لانه قد أخذ يدا بنصف الدية .
و ان كانت الدية موضحة أخذ منه تسعة أعشار الدية و نصف عشرها لانه أخذ منه ما يساوي نصف عشر الدية .
( الهامش ) ( 1 ) رواه سعيد بن منصور
( مسألة ) قوله من وجب عليه قتل بكفر أو ردة الخ ، فجملة ذلك أنه إذا وجب عليه قتل بقصاص أو كفر أو زنا أو التجأ إلى الحرم قتل و لم يمنع الحرم منه .
و قال أبو حنيفة .
لا يستوفى منه القصاص و لا الرجم في الحرم ، و لكن لا يباع و لا يشترى و لا يكلم حتى يخرج من الحرم و يستوفى منه القصاص و الحد دليلنا قوله تعالى " و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " و لم يفرق ، و قوله تعالى " فاقتلوهم حيث ثقفتموهم " و هذا عام لانه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية و العقرب فيه احتراز من قتل الصيد ( فرع ) إذا قتل رجل رجلا عمدا فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولي المقتول أو قتله رجل ولي المقتول وجبت دية المقتول في مال القاتل ، و به قال أحمد .
و قال أبو حنيفة يسقط حقه ، دليلنا قوله صلى الله عليه و سلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا و ان أحبوا أخذوا الدية " و قوله " بين خيرتين " أى شيئين إذا تعذر أحدهما تعين له الآخر ، كما قلنا في كفارة اليمين .
و ان وجب له القصاص في طرف فزال الطرف قبل استيفاء القصاص كان له أرش الطرف في مال الجاني لما ذكرناه في النفس و الله أعلم قال المصنف رحمه الله تعالى : ( باب العفو عن القصاص ) و من وجب عليه القصاص و هو جائز التصرف فله أن يقتص و له أن يعفو على المال ، لما روى أبو شريح الكعبي " أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلم هذا القتيل من هذيل ، و أنا و الله عاقله ، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين ، ان أحبوا قتلوا و ان أحبوا أخذوا الدية " فإن عفا مطلقا بنينا على ما يجب بقتل العمد .
و فيه قولان ( أحدهما ) أن موجب قتل العمد القصاص وحده ، لا تجب الدية الا بالاخبتيار .
و الدليل عليه قوله عز و جل " كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر و العبد بالعبد " و لان ما ضمن بالبدل في حق الآدمى ضمن ببدل معين كالمال
و القول الثاني أن موجبه أحد الامرين من القصاص أو الدية .
و الدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما ، فكان الواجب أحدهما كالهدى و الطعام في جزاء الصيد ، فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقا سقط القصاص و لم تجب الدية ، لانه لا يجب له القصاص و قد أسقطه بالعفو ، و إن قلنا إنه يجب أحد الامرين فعفا عن القصاص وجبت الدية ، لان الواجب أحدهما ، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر ، و إن أختار الدية سقط القصاص و ثبت المال و لم يكن له أن يرجع إلى القصاص و إن قال اخترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) له يرجع لان القصاص أعلى ، فجاز أن ينتقل عنه إلى الادنى ( و الثاني ) ليس له أن يرجع إلى الدية لانه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص ، فإن جنى عبد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لان عدوله إلى الشراء اختيار للمال .
و هل يصح الشراء ؟ ينظر فيه ، فإن كانا لا يعرفان عدد الابل و أسنانها لم يصح الشراء لانه بيع مجهول ، فإن كانا يعرفان العدد و الاسنان ففيه قولان ( أحدهما ) لا يصح الشراء ، لان الجهل بالصفة كالجهل بالعدد و ألسن ، كما قلنا في السلم .
( و الثاني ) أنه يصح لانه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به ، فجاز البيع به كالعوض في القرض ( فصل ) فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على مال .
لانه تصرف لاحظ للصغير فيه ، فلا يملكه الولى كهبة ماله ، و ان أراد أن يعفو على مال - فإن كان له مال أو له من ينفق عليه - لم يجز العفو لانه يفوت عليه القصاص من حاجة ، و إن لم يكن له مال و لا يمن ينفق عليه ففيه وجهان .
( أحدهما ) يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته ( و الثاني ) لا يجوز و هو المنصوص لانه يستحق النفقة في بيت المال ، و لا حاجة به إلى العفو عن القصاص ، و ان كان المقتول لا وارث له المسلمين كان الامر إلى السلطان ،
فإن رأى القصاص اقتص ، و ان رأى العفو على مال عفا ، لان الحق للمسلمين فوجب على الامام أن يفعل ما يراه من المصلحة ، فإن أراد أن يعفو على مال لم يجز لانه تصرف لاحظ فيه للمسلمين فلم يملكه ( الشرح ) حديث أبى شريح الكعبي مضى تخريجه مع ترجمة راويه آنفا .
أما الاحكام فإنه إذا قتل غيره عمدا و هما متكافئان فما الذي يجب على القاتل ؟ فيه قولان ( أحدهما ) أن الواجب عليه هو القود وحده ، و انما الدية تجب بالعفو بدلا عنه ، و هو قول أبى حنيفة ، و هو اختيار القاضي أبى الطيب لقوله تعالى " كتب عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء اليه بإحسان " فموضع الدليل أنه قال " كتب عليكم القصاص " و لم يذكر الدية فعلم أنها لم تجب بالقتل ، و أيضا فإنه قال " فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود فعلم أن الدية تجب بالعفو لا بالقتل ، و لان ما ضمن بالبدل في حق الآدمى ضمن ببدل معين كالمال و قولنا ضمن ببدل احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية ، و قولنا في حق الآدمى احتراز من جزاء الصيد و القول الثاني : أن الواجب عليه أحد شيئين : القود أو الدية ، فإن استفاد الولى علمنا أن الواجب كان هو القود ، و ان عفا عن القود على الدية علمنا أن الواجب كان هو الدية ، و هو اختيار الشيخ أبى حامد لقوله صلى الله عليه و سلم " فمن قتل بعده قيلا فأهله بين خيرتين ، ان أحبوا قتلوا و ان أحبوا أخذوا الدية فخيرهم بين القود والدية ، فعلم أنهما سواء في الوجوب .
إذا تقرر هذه فقال الولى عفوت عن القود على الدية سقط القود و وجبت الدية على القولين و ان قال عفوت عن القود والدية سقطا جميعا على القولين ، و ان قال عفوت عن القود و أطلق ، فإن قلنا ان الواجب بقتل العمد أحد شيئين وجبت الدية لانها واجبة لم يعف عنها .
و ان قلنا الواجب القود وحده ، ففيه طريقان ، من أصحابنا من قال فيه قولان .
فمنهم من يحكيهما وجهين ( أحدهما ) لا تجب الدية
لانها لا تجب على هذا إلا باختياره لها و لم يخترها فلم تجب ( و الثاني ) تجب الدية لئلا تهدر الدماء ، و الاول أصح ، و منهم من قال لا تجب الدية قولا واحد ، و هو قول أبى إسحاق المروزي و المصنف لما ذكرناه للاول ، فإن قال عفوت عن القود إلى الدية ، أو قال عفوت عن القود و لم يقل إلى الدية .
و قلنا تجب الدية ثم أراد أن يطالبه بالقود لم يكن له ، لانه قد سقط ، و إن قال عفوت عن الدية .
فإن قلنا إن الواجب هو القصاص وحده لم يصح عفوه ، و كان له أن يقتص ، فإن عفى عن القود بعد ذلك أو على الدية أو عفا مطقا و قلنا تجب الدية بالاطلاق استحق الدية ، لان عفوه الاول عنها كان قبل وجوبها .
فإن قلنا إن الواجب أحد الشيئين - سقطت الدية و تعين حقه في القصاص - فإن اقتص منه فلا كلام ، و إن مات القاتل قبل أن يقتص منه ، قال الشافعي رضى الله عنه له أن يأخذ الدية لانه لما سقط القود بغير اختياره كان له الرجوع إلى بدله ، و إن كان القاتل حيا و أراد الولى أن يعفو عن القود إلى الدية .
قال الشافعي : ليس له ذلك ، لانه كان له أن يختار الدية فلما لم يخترها و تركها لم يكن له العود إليها .
و قال أبو إسحاق : له أن يعفو عن القود و يختار الدية لانه انتفال من البدل الا غلظ إلى الاخف .
و إن اخترت القصاص فهل له أن يرجع و يعفو عنه إلى الدية ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) له أن يرجع إلى الدية لانه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص .
إذا ثبت هذا فللولى أن يعفو عن القود إلى الدية ، سواء رضى القاتل به أو لم يرض ، و به قال ابن المسيب و عطاء و الحسن و أحمد و إسحاق .
و قال مالك و أبو حنيفة : لا يستحق الولى الدية الا برضا القاتل .
دليلنا قوله تعالى " كتب عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء بإحسان ذلك تخفيف من ربكم و رحمة " قيل في التفسير : معناه فمن عفى له ، يريد به القاتل من أخيه المقتول شيء أى على شيء فاتباع بالمعروف ، يريد به على مال فاتباع ، لانه كان في شريعة موسى الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط ، و في شريعة عيسى الدية فقط ، فجعل الله