لا شـك فـي ان التجسس على احوال الناس الخاصة والتفتيش عن اسرارهم عمل مذموم وقبيح , فان اللّه سـتـار الـعـيـوب , ويـنبغي على عباده ان يكونوا كذلك ايضا, الا بالنسبة للذين يهتكون الستر ويـتـركـون الـحـيا جانبا ويتظاهرون بارتكاب الذنوب , فانه لا حرمة لهم , لانهم هم الذين هتكوا حرمهم .
والقرآن الكريم يحذر بصراحة عن التجسس , كما ورد في سورة الحجرات , حيث يقول تعالى :.
(يـا ايـهـا الـذيـن آمـنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا)((436)) .
فهنا اشارة الى ثلاثة ذنوب كبيرة ((سؤ الظن )), ((التجسس )) و ((الغيبة )) وكل واحدمن هذه الـثلاثة في الواقع مقدمة للاخر, فان اساة الظن بالاشخاص مقدمة للتجسس عليهم , والتجسس سبب فـي الاطـلاع عـلـى الـعيوب والاخطا, فتكون الغيبة , الغيبة التي تعتبر من اكبر الذنوب , واساس العداوات والاختلاف وفقدان الثقة .
و ((كرامة الانسان )) في الحقيقة , اهم شي في كيانه من وجهة نظر الاسلام , حتى انها اهم من حاله وحياته ايضا, وقد ورد في حديث عن النبي الاكرم (ص ):.
((ان الدرهم يصيبه الرجل من الربا اعظم في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل , واربى الربا عرض الرجل المسلم ))((437)) .
والـواقع هو ان راسمال الانسان في المجتمع هو كرامته , وكل المسائل الاخرى تابعة لها, ولا شك في ان سؤ الظن والتجسس والغيبة تعرض راسماله الغالي الى الخطر, او تفنيه .
ولـكـن ومـع ذلـك , فـان هناك بعض الموارد اذا واجهناها بحسن الظن , ولم يتجسس عليها وتفضح اسـرارهـا, فـانـهـا ستشكل خطرا على المجتمع الاسلامي , سوا كان هذاالخطر مؤامرة من قبل الـمـنافقين في الداخل , او مخططات مشئومة من قبل الاعدامن الخارج تنفذ على ايدي عملائهم في الداخل .
فـمـثل هذه الموارد لابد من مواجهتها بريبة واستفهام , والتجسس لحفظ الاهداف الاهم , وهذه هي فلسفة تشكيل الاجهزة الامنية والامن المضاد, وهي فلسفة معقولة ومنطقية وموافقة للعقل والشرع , وان كان طلا ب الدنيا والحكومات المستبدة والاستكبارية تسي استغلال ذلك , ولكن هذا لا يمنع من بقا اصل هذا الامر منطقياومعقولا, فلا يقال ما هي الضرورة لمثل هذه الاعمال ؟ فاي قانون مقدس لم يستغل استغلالا سلبيا من قبل ضعاف النفوس ؟
وخـلاصـة الكلام , هي ان عدم التجسس على اوضاع الاخرين وحياتهم الخاصة ((اصل )) لابد ان يـحفظ, ولكن التجسس في موارد معينة ((استثنا)) ولابد ان يحفظ هوالاخر في حدود وشرائط خاصة باعتباره وظيفة شرعية واجتماعية .
وفـي الـواقـع ان هذا الاستثنا يخضع لقانون الاهم والمهم ويخضع للعناوين الثانوية , فحفظ كرامة الافـراد مـهم جدا, ولكن حفظ وجود المجتمع الاسلامي ونظام الحكم والامن والاستقرار اهم من ذلك واوجب , ولذا ففي مثل هذه الموارد يقدم الثاني على الاول .
ومـمـا تقدم يتضح ان التجسس وتفتيش اسرار الاخرين يحتاج الى مجوز ودليل كاف , واما التصرف الشخصي فغير مجاز.
هذا ما يرتبط بالتجسس في داخل المجتمع الاسلامي .
وامـا فـي خـارج المجتمع الاسلامي , فالمسالة اوضح , فان على المسلمين دائماان يتعرفوا على ما يجري في ظاهر وباطن المجتمعات الاجنبية والذي قد يرتبطبمصير المجتمع الاسلامي , فعليهم ان يـحـبـطوا المؤامرات في مهدها ويخنقوها وهي في مرحلة النطفة , وبغير ذلك فانهم سيطلعون عليها بعد فوات الاوان , ويكون القضا عليها صعبا حينئذ, او يكلف ثمنا باهضا جدا وهـنـاك نوع آخر من التجسس في الحكومة الاسلامية (وكل حكومات العالم ) وهوالتجسس على احـوال مـوظفي وكوادر الحكومة الاسلامية ومسؤوليها, ليحصل الاطمئنان بانهم يؤدون وظائفهم بـشـكـل صـحـيح , وانهم لا يجحفون ولا يتعدون على حقوق المسلمين , وانهم لا يسيئون استغلال مناصبهم .
وعـلـى اي حال , فالمستفاد من آيات القرآن هو ان مسالة التجسس كانت موجودة في تلك الاعصار, وان الـنبي (ص ) كان له اجهزة للامن المضاد لمواجهة عمليات التجسس لصالح اعدا الاسلام , وبهذا الطريق كان يحبط موامراتهم وتحركاتهم .
وقـد حـذر اللّه عـزؤجـل فـي سـورة التوبة ـ الاية 47, المسلمين وامرهم بمراقبة تحركات جواسيس المنافقين , وقال :.
(لو خرجوا فيكم مازادوكم الا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم واللّه عليم بالظالمين )((438)) .
وقد يكون لفظ ((سماع )) بمعنى ((الجاسوس )), او من يتميز بقوة السمع والاستقبال , والاحتمال الاول انسب لمورد الاية .
هـذا فـي حين انه قبل عدة آيات يامر النبي (ص ) ببذل الجهد للتعرف على المنافقين , ويقول : (عفى اللّه عنك لم اذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )((439)) .