نفحات القرآن

ناصر مکارم شیرازی

جلد 10 -صفحه : 135/ 131
نمايش فراداده

المنظمات التجسسية في الروايات الاسلامية

لـهـذه المسالة في الروايات الاسلامية وكتب التاريخ صدى واسع جدا, فمن مطالعتها يمكن الوقوف على هذه الحقيقة وهي ان الحكومة الاسلامية ينبغي ان لاتغفل عن هذه المسالة المهمة , وان عليها ان تمارس نشاطا موسعا في اتجاهين : ان تطلع على تحركات العدو العسكرية والسياسية والاقتصادية الـتـي لـهـا تـاثـيـر على مستقبل ومصير المسلمين , وان تواجه الفعاليات الجاسوسية , للعدو الذي يحاول النفوذ واختراق المسلمين للتعرف على اسرارهم وسرقتها.

وسنتعرض هنا الى بيان نموذج من هذه الروايات والنقول التاريخية :.

1 ـ ورد فـي حـديـث عن الامام علي بن موسى الرضا(ع ): ((كان رسول اللّه (ص )اذا بعث جيشا فاتهم اميرا بعث معهم من ثقاته من يتجسس خبره ))((442)) .

فقد يكون ذلك الامير معتمدا من بعض الجهات , ولكن خطورة مسؤوليته توجب وجود ناظر ومفتش عليه , تحسبا من انحرافه ـ لا سمح اللّه ـ وارتكابه ما لا يمكن جبرانه من قبل المسلمين .

وهذا الحديث موافق لما ورد في متن الوسائل وقرب الاسناد الطبعة الجديدة((443)) , ولكن ورد فـي بـعـض الـكـتـب كلمة ((فامهم )) بدلا من ((فاتهم )), اي عين لهم اميرا, ولكن تعيين المفتش والجاسوس انسب بلفظ ((فاتهم )), وانتخاب مثل هذاالامير يكون لتميزه ببعض الميزات المفقودة في غيره (التفتوا جيدا).

2 ـ ورد فـي حديث آخر حول سرية ((عبد اللّه بن جحش )) (والسرية , الحرب التي لم يحضر الـرسـول بنفسه فيها), ان النبي الاكرم (ص ) بعث عبداللّه بن جحش بن رئاب الاسدي ومعه ثمانية رهـط مـن المهاجرين ليس فيهم من الانصار احد, وكتب له كتابا وامره ان لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما امره به فلما سارعبداللّه يومين فتح الكتاب فنظر فيه فاذا فيه : اذا نظرت في كتابي هذا فامضى حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم من اخبارهم (والقصة طويلة وقد جا في ذيلها انه اشتبك معهم واسر منهم جماعة وغنم غنائم((444)) .

3 ـ بعد غزوة بدر((445)) , لما انصرف ابو سفيان ومن معه نادى : ان موعدكم بدر للعام القابل فقال رسول اللّه (ص ) لرجل من اصحابه قل : نعم , هو بيننا وبينكم موعد.

ثـم بعث رسول اللّه (ص ) علي بن ابي طالب (ع ) فقال : اخرج في آثار القوم , فانظرماذا يصنعون وما يـريـدون , فـان كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فانهم يريدون مكة وان ركبوا الخيل وساقوا الابل فانهم يريدون المدينة , والذي نفسي بيده لئن ارادوها لاسيرن اليهم فيها ثم لاناجزنهم قال علي : فخرجت في آثارهم انظر ماذا يصنعون , فجنبوا الخيل وامتطوا الابل وتوجهوا الى مكة .

وكـان هـذا الـنـشاط التجسسي للنبي على يد امير المؤمنين (ع ), عمل مهم جداومؤثر في تحديد مصير المسلمين , وكان ينقذهم من ان يفاجئوا.

4 ـ ونقرا((446)) في قصة حرب احد ان النبي (ص ) ارسل رجلين يتجسسان على احوال جيش قـريـش قـبل ان يردوا احد ليتعرفوا على عدد قوات العدو وعدتهم , كماانه ارسل ((الحباب بن الـمنذر)) سرا ليستطلع اوضاع قريش بعد ان نزلوا احدا, وطلب منه ان ياتيه بالخبر سرا اذا كان عددهم كبير وان اذا كان قليلا فلا مانع من ان يخبره علنا.

ولما كان عدد المشركين كبيرا, جا الحباب واخبر رسول اللّه (ص ) بعددهم سرا.

5 ـ وكتب نهج البلاغة , تبين لنا بوضوح ان الجهاز الامني للامام علي (ع ) كان مطلعا على الامور في كل بقاع الدولة الاسلامية .

ومـن جملة ذلك ((عهده لمالك الاشتر)) في تعيين المفتشين السريين للنظر في كيفية قيام العمال ـ الـولاة بـوظـائفـهم , يقول (ع ): ((وابعث العيون من اهل الصدق والوفا عليهم فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على الاستعمال الامانة والرفق بالرعية )).

وبطبيعة الحال , فان هذا النشاط واحد من نشاطات العيون التجسسية , وهو ان يتجسسوا على كيفية قيام ماموري وموظفي لدولة الاسلامية بوظائفهم .

6 ـ وفـي كتاب آخر له (ع ) الى واليه على مكة ((القثم بن عباس )) وهو اخو عبد اللّه بن عباس , يـقول فيه : ((اما بعد, فان عيني بالمغرب ((447)) كتب الي يعلمني انه وجه الى الموسم اناس من اهل الشام العمي القلوب الصم الاسماع الكمه الابصار الذين يلبسون الحق بالباطل ويطيعون المخلوق فـي مـعصية الخالق فاقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب ))((448)) ويبدو ان معاوية كان قد اعد مخططا لخداع ((القثم بن عباس )) ودعوته لخيانة علي (ع ), وايجاد الفوضى في موسم الحج , فـاخـبـر عـيـون الامـام (ع ) الـمخترقين جهاز حكم معاوية , الامام علي (ع ) بهذا الخبر بسرعة فاسرع الامام (ع ) في احباط تلك المؤامرة .

والـكلام هنا في المامورين السريين الذين يخترقون قلب اجهزة العدو وينفذون فيها لنقل المعلومات السرية .

7 ـ ونقرا كتاب امير المؤمنين (ع ) الى ((عثمان بن حنيف )), حيث يقول (ع ): ((امابعد يا بن حنيف فـقـد بـلغني ان رجلا من فتية اهل البصرة دعاك الى مادبة فاسرعت اليها تستطاب لك الالوان وتنقل اليك الجفان ))((449)) .

فمن هذا الكتاب يتضح لنا بان عيون الامام (ع ) السرية لم تكن تنقل له المسائل السياسية والعسكرية فـقـط, بل وكذلك المسائل الاخلاقية التي لم تكن مناسبة لمقام الولاة وموظفي الحكومة الاسلامية وغـير المنسجمة مع اصول التعاليم الاسلامية وخاصة فيما يرتبط بالزهد, وان جزئيات حركاتهم غير خافية على عيون الامام التجسسية الفطنة .

وشـبـيه هذا المعنى نراه في كتابه (ع ) الى ((المنذر بن جارود)) واليه على ((اصطخر)) حيث ورد في هذا الكتاب :.

((امـا بعد فان صلاح ابيك غرني منك , وظننت انك تتبع هديه , وتسلك سبيله فاذا انت فيما رقي الي عـنـك لا تـدع لهواك انقيادا ولا تبقى لاخرتك عنادا تعمردنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ))((450)) .

والـمـسـتفاد من الروايات ان خيانة ابن الجارود هي انه اختلس اربعمائه الف درهم من بيت المال له ولاقربائه , فعزله الامام (ع ) من ولايته وحبسه مدة من الزمن((451)) .

ونرى هنا ان عيون الامام (ع ) قد نقلوا خيانة هذا الوالي الخفية بعد ان كشفوها,وان الامام (ع ) ابدى موقفا شديدا تجاهه .

8 ـ جـا فـي تـاريـخ حـيـاة الامـام الـحـسـن المجتبى (ع ) لما بلغ معاوية بن ابي سفيان وفاة امير الـمـؤمنين (ع ) وبيعة الناس ابنه الحسن (ع ) دس رجلا من حمير الى الكوفة , ورجلا من بني القين الـى الـبـصـرة لـيـكـتـبا اليه بالاخبار, ويفسدا على الحسن الامور, فعرف ذلك الحسن (ع ) فامر بـاسـتـخـراج الـحـمـيـري من عند لجام بالكوفة ,فاخرج وامر بضرب عنقه , وكتب الى البصرة بـاستخراج القيني من بني سليم فاخرج وضربت عنقه ))((452)) وكتب الحسن (ع ) الى معاوية : امـا بـعد فانك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وارصدت العيون كانك تحب اللقا وما اشك في ذلك فتوقعه ان شا اللّه .

9 ـ بـعـد حرب صفين اعلن جماعة من ((بني ناجية )) يتزعمهم ((الحريث بن راشد))مخالفتهم لـلامـام ونـقضهم البيعة , فارسل الامام علي (ع ) الى الحريث وطلب منه المثول عنده ليبين له السنن وامـورا مـن الـحـق , فـلم يحضر الحريث وفر برجاله , وفي الطريق قتلوا رجلا مسلما من اتباع الامـام (ع ), وتـركـوا يـهـوديـا واعتبروه من اهل الذمة , فكتب الامام (ع ) كتابا الى عماله في تلك المناطق , مضمونه ان قوما مذنبين هربوا, ونظن انهم قصدوا البصرة , وكان مما جا في ذلك الكتاب : ((واجعل عليهم العيون في كل ناحية من ارضك ثم اكتب الي بما ينتهي اليك عنهم ))((453)) .

مـن مجموع الروايات اعلاه , والروايات والتواريخ الاخرى التي يطول المقام بذكرها, يتضح جيدا ان اجـهـزة الـتـجـسـس والـتـفـتـيـش كـانت تعمل دائبة في عصر النبي الاكرم (ص ) والائمة الـمـعـصـومين (ع ) سوا في مجال كشف مؤامرات الاعدا, اوفي ابطال خطط الاجهزة الجاسوسية للمخالفين , او في التحقيق في سلوك موظفي الدولة الاسلامية , وكذلك كشف مؤامرات المنافقين في داخل الدولة الاسلامية .

وبطبيعة الحال , فان اساليب ((التجسس )) و ((ضد التجسس )) في زماننا تغيرت كثيراكغيرها من المسائل عما كانت عليه في ذلك الوقت واتسعت وتعقدت كثيراواستفيد فيها من التكنولوجيا الحديثة المتطورة بشكل واسع .

ولا شك , فان الحكومة الاسلامية لا يمكنها الاكتفا بالاساليب القديمة والبدائية للوصول الى اهدافها الامـنـيـة وفـي الامن المضاد, بل لابد ان تتجهز بكل الوسائل المتطورة , لكي تكشف كل مؤامرات الاعـدا ومـخـططاتهم الرامية الى تضعيف الدولة الاسلامية وقهرها, كما ان عليها ان تراقب بدقة تـصـرفات المسؤوليين في الدولة الاسلامية , ونشاطات الاحزاب والمجاميع السياسية المتواجدة , لاقرار الامن والحدمن المفاسد والتخريب .

فـعـلـى الـحـكـومـة الاسلامية ان تستعين بالتكنولوجيا الحديثة وكل اساليب التجسس ولا تكتفي بالاساليب القديمة .

وعلى الرغم من ان هذا يكلف الدولة اموالا طائلة , الا انه قد يكون صرف اموال قليلة في هذا المجال سببا للحد من ضياع اموال طائلة في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية , او تكون سببا في الوقاية من خسائر كثيرة لا يمكن تعويضها.

فمثلا لو ان اجهزة التجسس في الدول الاسلامية , كشفت عملية تفجير تستهدف زعزعة امنها, فانها سـتـمـنـع من حدوث خسائر فادحة في القوى البشرية والاقتصادية ,والاهم من ذلك انها ستكشف مؤامرة الاعدا العسكرية الخطيرة وتمنع من مضاعفات مثل هذا العمل .