ـما ان حق الحكومة والحاكمية يعود الى اللّه تعالى على اساس اصل ((التوحيدالافعالي )) المسلم به كذلك حق القضا ايضا يعود الى من له الاذن من اللّه تعالى .
((التوحيد الافعالي )) يقول : ان كل الافعال تعود الى اللّه تعالى , و ((توحيد الخالقية ))يقول : ان كل شي في هذا العالم خلق منه و ((توحيد الحاكمية )) الذي هو فرع توحيدالخالقية يقول : ان الحكومة للّه تعالى خالصة , وهذا هو السبب في كون القضا في محيط حكومته من اختصاصه تبارك وتعالى ومن ياذن له بذلك .
من جانب آخر يقول توحيد الطاعة : ان الامر المطاع والمقبول انما هو امر اللّه تعالى ومن يعود امره الى امر اللّه تعالى , فعلى هذا الاساس لابد ان يكون الحكم القضائي المقبول ايضا باذن منه تعالى .
لـو نـظرنا الى المجتمع البشري من هذه الزاوية فسوف نجد ان مبدا القضا واضح جدا, فلا نقع في حـيـرة فـي تـشـخيصه مطلقا, لان انظارنا متوجهة الى نقطة واحدة وهي التي صدر منها الوجود, وانـبـعثت منها الخلائق , والامر النافذ في كل شي هوامره , اذن فلابد ان نسعى كي تكون محاكمنا القضائية خاضعة لامره ومصطبغة بصبغة الهية كي نحصل بذلك على مشروعيتها.
نعود بعد هذا التمهيد الى القرآن الكريم لنكتشف مسالة انحصار القضاوالتحكيم باللّه تعالى :.
(ان الحكم الا للّه يقص الحق وهو خير الفاصلين ).
وقد جا صدر هذه الاية الشريفة (ان الحكم الا للّه ) في سورة يوسف الاية 40كذلك .
ويمكن ان يكون ما جا في سورة يوسف له مفهوم اوسع بحيث يشمل الحكومة والقضا, ولكن ما جا في الايـة المذكورة فيه اشارة اقوى الى القضا وحل الاختلافات بقرينة ذيل الاية الكريمة , وقد اشار الى هذا المعنى مجموعة من المفسرين .
امثال الطبرسي في مجمع البيان والفخر الرازي في التفسير الكبير((186)) .
(ومن لم يحكم بما انزل اللّه فاولئك هم الكافرون فاولئك هم الظالمون فاولئك هم الفاسقون ).
فـهـم كـفـار لانـهم خرجوا عن جادة التوحيد (توحيد الحاكمية ), وظالمون لانهم ظلموا انفسهم والاخـريـن وحـرمـوا مـن مـصـالح الاحكام القطعية وغرقوا في دوامة مفاسد الاحكام الجاهلية , وفـاسقون لانهم خرجوا عن دائرة الطاعة , والفسق كماتعلم هو الخروج عن طاعة المولى , وهذه الايـات الـشـريـفـة لـها مفهوم واسع كذلك بحيث يشمل الفتوى في الاحكام الالهية , ومسالة القضا والـتـحكيم , ومسالة الحكومة ايضا, فيجب ان تكون في كل من الابعاد الثلاثة موافقة ومطابقة لحكم اللّه تعالى (لاحظ جيدا).
(الـم تـر الـى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا).
(افحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من اللّه حكما لقوم يوقنون )((187)) .
(افغير حكم اللّه ابتغى حكما وهو الذى انزل اليكم الكتاب مفصلا)((188)) .
(وما اختلفتم فيه من شيئ فحكمه الى اللّه )((189)) .
يستفاد من مجموع هذه الايات وآيات اخرى بصورة واضحة ان نظرية القرآن في هذا الموضوع ان الحاكم والقاضي هو اللّه تعالى , وكذلك من جعله اللّه تعالى قاضياوحاكما من قبله , وما سوى ذلك فهو حكم الشيطان والطاغوت والجاهلية .
وعـلـى هذا لابد في سلسلة مراتب القضاة في الحكومة الاسلامية ان تنتهي الى امر واذن اللّه تعالى وتـكـتـسـب الـمشروعية منه , فالرسول الكريم (ص ) قد حصل على هذا المنصب من اللّه تعالى , والائمـة الـمـعـصومون (ع ) ايضا قد انتخبوا لهذا المقام من قبل اللّه تعالى وبواسطة النبي (ص ), والقضاة الاسلاميون يكتسبون مشروعيتهم من الائمة (ع ).
وقد بين القرآن الكريم هذا المعنى بوضوح في الاية 20 من سورة المؤمن بقوله :.
(واللّه يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا تقضون بشيئ ).
اذا فقضا اللّه تعالى واوليائه هو المقبول والصحيح , لا التحكيم الجاهلي وغيرالالهي .
وهذا المعنى ايضا ورد بصراحة اكثر في الروايات الاسلامية في ابواب القضامنها:.
((اتـفـوا الـحـكـومة فان الحكومة انما هي للامام العالم بالقضا العادل في المسلمين , لنبي او وصي نبي ))((190)) .
((يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي , او وصي نبي او شقي ))((191)) .
((والحكم لا يصح الا باذن من اللّه وبرهانه ))((192)) .
وهـكـذا نـجـد ان الادلـة الـعقلية الناضرة الى التوحيد الافعالي وتوحيد الحاكمية والمالكية تثبت اشـتراط القضا بالاذن الالهي , وكذلك الايات القرآنية والاحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال , ومـا يـقال ان المجتهد الجامع للشرائط (الولي الفقيه )له ثلاثة مناصب : منصب الافتا, ومنصب القضا, ومنصب الولاية , فهوناظر الى هذاالمعنى .
والان نـبحث صفات القاضي في الاسلام , وكذلك آداب القضا, والفرق بين القضا في الاسلام والقضا في الثقافة الغربية ومسائل اخرى في هذا الباب .