فـقـد سـئل الـنـبـى (ص ) عـن ((الـسـائحـيـن )) في قوله تعالى : (التائبون العابدون الحامدون الـسائحون الراكعون الساجدون ) ((407)) , فقال : هم الصائمون ((408)) فلا غموض في معنى الـسياحة , و لكن اى مصاديق السياحة مقصودة هنا؟ و لعل هنا استعارة جات لامر معنوي , مما يدعو الـى الـسؤال عنه و مراجعة اهل الذكر قال الطبرسي : السائح من : ساح في الارض يسيح سيحا, اذا اسـتـمـر فـي الذهاب , و منه السيح للماالجاري , و من ذلك يسمى الصائم سائحا, لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى قال : و روي عن النبي انه قال : ((سياحة امتي الصيام )) ((409)) . و سـئل عـن الاسـتـطـاعـة فـي قـولـه تـعـالـى : (و للّه عـلـى الـنـاس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) ((410)) قال (ص ): ((الزاد و الراحلة )) ((411)) فان مفهوم الاستطاعة عام يشمل اى نحو من الاستطاعة و باى وسيلة مقدورة و كانت بالامكان , غير ان هذا غير المراد بالاستطاعة الى الحج الواجب , فبين (ع ) انه القدرة على الزاد و الراحلة , ان كان ذلك بوسعه من غير تكلف و هذا كناية عن الاستطاعة المالية , كما فهمه الفقهارضوان اللّه عليهم . و هـكـذا لـما سالته عائشه عن الكسوة الواجبة في كفارة الايمان , في قوله تعالى : (فكفارته اطعام عـشـرة مـسـاكـيـن مـن اوسـط مـا تـطـعـمـون اهليكم , او كسوتهم ) ((412)) اجاب (ص ): ((عباة لكل مسكين )) ((413)) . و سـالـه رجـل من هذيل عن قوله تعالى : (ومن كفر فان اللّه غني عن العالمين ) ((414)) قال : يا رسـول اللّه , مـن تـركه فقد كفر؟ فقال (ص ): ((من تركه لايخاف عقوبته و لا يرجو مثوبته )) ((415)) كناية عمن تركه جحودا لا يـؤمـن بعاقبته , فهذا كافر بالمعاد و بيوم الجزاو الحساب , الامر الذي يعود الى انكار ضروري للدين و انكار الشريعة راسا, اما الذي تركه لا عن نكران فهوفاسق عاص و ليس بكافر جاحد. و هـكـذا روي عـن الامـام موسى الكاظم (ع ) حينما ساله اخوه على بن جعفر: من لم يحج منا فقد كفر؟ ((416)) . و سئل عن قوله تعالى : (كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) ((417)) , مامعنى ((عضين ))؟ فقال (ص ): ((آمنوا ببعض و كفروا ببعض )) ((418)) . فـالايـة الـكريمة انكار على الذين فرقوا بين اجزا القرآن الامر يثير السؤال عن المراد من هذه التجزئة المستنكرة ؟ و من ثم كان الجواب : انها التفرقة في الايمان بالبعض و الكفر بالبعض . و سـئل عـن قوله تعالى : (فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره للاسلام ) ((419)) , كيف يشرح صدره ؟قال (ص ): ((نور يقذف به فينشرح له و ينفسح ((الانـابـة الـى دارالـخـلـود, و الـتـجـافـي عـن دار الـغـرور, و الاسـتعداد للموت قبل لقا الموت )) ((420)) . و سـالـه عـبـادة بـن الـصـامت ((421)) عن قوله تعالى : (لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الا خرة ) ((422)) ,ماذا تكون تلك البشارة ؟ قال (ص ): ((هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل , او ترى له )) ((423)) . و روى الكليني في الكافي و الصدوق في الفقيه باسنادهما عن النبى (ص ) قال : ((البشرى في الحياة الـدنيا هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشر بها في دنياه )) و زاد في الفقيه : ((و اما قوله : (في الاخرة ), فانها بشارة المؤمن عند الموت , يبشر بها عند موته : ان اللّه عز و جل قد غفر لك و لمن يـحملك الى قبرك )) و قال على بن ابراهيم القمي : و (في الاخرة ) عند الموت , و هو قوله تعالى : (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) ((424)) . و سـئل عـن قـولـه تـعـالـى : (الـذيـن يحشرون على وجوههم الى جهنم اولئك شر مكانا واضل سـبـيـلا) ((425)) كـيف يحشر اهل النار على وجوههم ؟ فقال (ص ): ((ان الذي امشاهم على اقدامهم قادر ان يمشيهم على وجوههم )) ((426)) . و بـهـذا الـمعنى آية اخرى اوضحت الحشر على الوجوه بالسحب على و جوههم , قال تعالى : (يوم يـسـحبون في النار على وجوههم , ذوقوا مس سقر) ((427)) , و قوله : (و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و صما و بكما). و اخرج الحاكم باسناده الى الاصبغ بن نباتة ـ و قال : انه احسن الروايات في هذاالباب ـ عن الامام امـير المؤمنين (ع ), قال : لما نزلت الاية (فصل لربك و انحر) ((428)) قال رسول اللّه (ص ):يا جـبـرئيل , ما هذه النحيرة التي امرني بها ربي ؟ قال : انها ليست بنحيرة , و لكنه يامرك اذا تحرمت لـلصلاة ان ترفع يديك اذا كبرت و اذا ركعت و اذا رفعت راسك من الركوع , فانها صلاتنا و صلاة الملائكة الذين في السماوات السبع ((429)) و في رواية اخرى زيادة قوله : ان لكل شي زينة , و زيـنـة الـصـلاة رفع الايدي قال (ص ):رفع الايدي من الاستكانة التي قال اللّه ـ عز و جل : (فما استكانوا لربهم و مايتضرعون ) ((430)) . و سـالـتـه ام هـانـئ (بنت ابي طالب ) عن المنكر الذي كان قوم لوط ياتونه في ناديهم , حيث قوله تـعـالـى :(وتـاتـون فـي نـاديكم المنكر) ((431)) ؟ فقال (ص ): ((كانوا يخذفون اهل الطريق ويسخرون )) ((432)) . و لعل هذا كان بعض اعمالهم المنكرة , ففي المجمع : كانت مجالسهم تشتمل على انواع من المناكير و القبائح , مثل الشتم و السخف و الصفع و القمار, و ضرب المخارق و خذف الاحجار على المارين و ضرب المعازف و المزامير, و كشف العورات و اللواط, و قيل : كانوايتضارطون من غير حشمة و لا حيا ((433)) . و ربـمـا سـالوه عن عموم حكم و شموله لبعض ما اشتبه عليهم امره , فقد ساله جريربن عبد اللّه الجبلي ((434)) عن نظرة الفجاة , و قد قال تعالى : (قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ) ((435)) , فهل يشمل عموم الامر بالغض لما اذا كانت النظرة فجاة , و هي غير ارادية ؟. قال جرير: فامرني (ص ) ان اصرف بصري ((436)) , اي لا يداوم في النظرة , و يصرف ببصره من فوره . و عـن ابي جعفر الباقر(ع ) قال : جا رجل الى النبى (ص ) و ساله عن امر اليتامى , حيث قوله تعالى : (و آتـواالـيـتامى اموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تاكلوا اموالهم الى اموالكم انه كان حوبا كـبـيـرا) الى قوله : (و لا تاكلوها اسرافا و بدارا ان يكبروا, و من كان غنيافليستعفف , ومن كان فقيرا فلياكل بالمعروف ) ((437)) فقال : يا رسول اللّه , ان اخي هلك و ترك ايتاما و لهم ماشية , فما يـحـل لـي مـنها؟ فقال رسول اللّه (ص ): ان كنت تليط حوضها, و ترد ناديتها, و تقوم على رعيتها, فاشرب من البانها, غير مجتهد و لاضار بالولد, و اللّه يعلم المفسد من المصلح ((438)) اشارة الى قوله تعالى : (ويسالونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير و ان تخالطوهم فاخوانكم و اللّه يعلم المفسد من المصلح ) ((439)) . و احيانا كانت الاسئلة لغوية , على ما اسبقنا ان القرآن اخذ من لغات القبائل كلها, و ربما كانت اللفظة المتداولة في قبيلة , غير معروفة عند الاخرين . مـن ذلك ما ساله قطبة بن مالك الذبياني ((440)) عن معنى ((البسوق )) من قوله تعالى : (و النخل بـاسـقـات لـهـاطلع نضيد) ((441)) قال : ما بسوقها؟ فقال (ص ): طولها ((442)) قال الراغب : بـاسقات , اي طويلات و الباسق هوالذاهب طولا من جهة الارتفاع , و منه بسق فلان على اصحابه : علاهم . و سـالـه عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن الصور في قوله تعالى : (و نفخ في الصور), ((443)) قال (ص ): هو قرن ينفخ فيه ((444)) . و عـن الامـام جـعـفـر بـن مـحـمد الصادق (ع ) قال : قال رسول اللّه (ص ) في قوله تعالى :(فتقعد ملومامحسورا) ((445)) ـ, الاحسار: الاقتار ((446)) . الـحسر: كشف الملبس عما عليه و الحاسر: من لا درع له و لا مغفر و ناقة حسير: انحسر عنها اللحم و القوة والحاسر: المعيا, لانكشاف قواه . اذن فـالـمـحـسور: من افتقد اسباب المعيشة التي اهمها المال , و ليس من الحسرة كماتوهم , فصح تفسير المحسور بالمقتر, لان القتر فقد النفقة او تقليلها, و المقتر: الفقير. و ربـما كانت الاية شديدة الوطاة , قد تجعل المسلمين في قلق , لولا مراجعته (ص )ليفسرها لهم بما يرفع عنهم الم الياس و قلق الاضطراب . مـن ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن الامام ابي جعفر الباقر(ع ) قال : لما نزلت الاية : (من يعمل سؤ ((447)) فقال لهم رسول اللّه : اما , قال بعض اصحاب رسول اللّه (ص ): ما اشدها من آية تـبـتـلون في اموالكم وانفسكم و ذراريكم ؟ قالوا: بلى , قال : هذا مما يكتب اللّه لكم به الحسنات و يمحو به السيئات ((448)) . و سـئل فـيما النجاة غدا؟ فقال (ص ): ((النجاة ان لا تخادعوا اللّه فيخدعكم , فانه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الايمان , و نفسه يخدع لو يشعر)). فقيل : كيف يخادع اللّه ؟ قال : ((يعمل بما امره اللّه ثم يريد به غيره , فاتقوا اللّه فاجتنبوا الريا فانه شرك باللّه )) ((449)) , و ذلك قوله تعالى : (ان المنافقين يخادعون اللّه و هو خادعهم و اذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ) ((450)) . و لـمـا نـزلـت الاية : (و ان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم ) ((451)) قالوا: يا رسـول اللّه , مـن هؤلا الذين اذا تولينا استبدلوا بنا؟ هـذا و قـومه و في رواية الطبري : فضرب على منكب سلمان و قال : من هذا و قومه و الذي نفسي بـيـده لو ان الدين تعلق بالثريالنالته رجال من اهل فارس و في رواية البيهقي : لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ((452)) . و ربما سالوه (ص ) عن غير الاحكام مما جا ذكره في القرآن اجمالا, ليبعثهم حب الاستطلاع على الـسـؤال عـنـه من ذلك سؤال فروة بن مسيك المرادي ((453)) عن ((سبا)): رجل او امراة ام ارض ؟ فقال (ص ): هو رجل ولدعشرة من الولد, ستة من ولده باليمن , و اربعة بالشام فاما اليمانيون فـمذحج و كندة و الازد والاشعريون و انمارو حمير, خير كلها, و اما الشاميون فلخم و جذام و عاملة و غسان ((454)) . قـال الطبرسي : سبا, هو ابو عرب اليمن كلها, و قد تسمى به القبيلة ((455)) , و هو الظاهر من عـود ضـمـير العقلا اليهم في قوله تعالى : (لقد كان لسبا في مسكنهم آية , جنتان عن يمين و شمال , كلوا من رزق ربكم , و اشكروا له بلدة طيبة و رب غفور) ((456)) . و سـالـه ابـو هـريرة عن قوله تعالى : (و جعلنا من الما كل شي حي ) ((457)) , قال : انبئنى عن ((كـل شي ))؟ قال (ص ): ((كل شي خلق من الما)) ((458)) , بمعنى ان الما اصل الحياة , حيوانا كان ام نباتا و ورد في الحديث : اول ما خلق اللّه الما ((459)) . و احـيـانا كان (ص ) يتصدى لتفسير آية او آيات لغرض العظة او الاعتبار, كالذي رواه ابو سعيد الـخـدري ((460)) عـن رسـول اللّه (ص ) فـي قـولـه تـعـالى : (تلفح وجوههم النار و هم فيها كـالـحـون ) ((461)) قـال (ص ):تشويها النار فتتقلص شفاهها العليا حتى تبلغ وسط الرؤوس , و تسترخي شفاهها السفلى حتى تبلغ الاسرة اخرجه الحاكم , و قال : صحيح الاسناد ((462)) . و عن ابي هريرة , قال : قرا النبى (ص ): (يومئذ تحدث اخبارها)ثم قال : اتدرون ما اخبارها؟ قالوا: اللّه ورسـوله اعلم في يوم كذا وكذا ((463)) . و عـن ابـي الدردا ((464)) قال : سمعت رسول اللّه (ص ) قرا: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا, فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات باذن اللّه , ذلك هو الفضل الكبير, جنات عدن يدخلونها) ((465)) ثم قال : ((السابق و المقتصد يدخلان الجنة غيرحساب , و الظالم لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة )) ((466)) . و هكذا روى عمران بن حصين ((467)) قال : كان النبى (ص ) يحدثنا عامة ليله عن بني اسرائيل , لا يقوم الا لعظيم صلاة ((468)) . و لعله ذات ليلة او ليالي معدودة كانت معهودة . هـذا غـيض من فيض و رشف من رشح , فاضت به ينبوع الحكمة و مهبط الوحي الكريم , و لا زالت بركاته متواصلة عبر الخلود. المرحلة الثانية التفسير في دور الصحابة . هم درجات عند اللّه . المفسرون من الصحابة . اعلم الصحابة بمعاني القرآن . قيمة تفسير الصحابي . ميزات تفاسير الصحابة . التفسير فى دور الصحابة .
قال تعالى : (نرفع درجات من نشا و فوق كل ذى علم عليم ) ((469)) . لا شـك ان الـصـحابة , ممن (رضي اللّه عنهم و رضوا عنه ) ((470)) كانوا هم مراجع الامة بعد الرسول (ص )اذ كانوا حاملي لوائه و مصادر شريعته الى الملا, ليس يعدل عنهم الى الابد. نـعـم كـانـوا عـلـى درجـات مـن العلم و الفضيلة حسبما اوتوا من فهم و ذكا و سائرالمواهب و الاسـتـعـداد(انزل من السما ما فسالت اودية بقدرها) ((471)) ,(يؤتي الحكمة من يشا و من يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) ((472)) . قال مسروق بن الاجدع الهمداني ((473)) : جالست اصحاب محمد(ص ) فوجدتهم كالاخاذ ـ يعني الـغـديـر مـن الماـ فالاخاذ يروي الرجل , و الاخاذ يروي الرجلين , و الاخاذ يروي العشرة , و الاخاذ يروي المائة , و الاخاذ لونزل به اهل الارض لاصدرهم ((474)) . و فـي لـفـظ ابن الاثير: تكفي الاخاذة الراكب , و تكفي الاخاذة الراكبين , و تكفي الاخاذة الفئام من الناس قال : و الاخاذ ككتاب : مصنع للما يجتمع فيه و الفئام : الجماعة الكثيرة ((475)) . و يـعـني بالاخير (لاصدرهم ) الامام امير المؤمنين , عليه صلوات المصلين , حيث كان ـ سلام اللّه عـليه ـ ينحدر عنه السيل و لا يرقى اليه الطير ((476)) قال مسروق : ((انتهى العلم الى ثلاثة : عـالم بالمدينة على بن ابي طالب , و عالم بالعراق عبد اللّه ابن مسعود, و عالم بالشام ابي الدردا, فاذا التقوا سال عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة و هو لم يسالهم )) ((477)) . قال الاستاذ محمد حسين الذهبي : الحق ان الصحابة كانوا يتفاوتون في القدرة على فهم القرآن و بيان مـعانيه المرادة منه , و ذلك راجع الى اختلافهم في ادوات الفهم فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم , فـمـنـهـم الواسع الاطلاع الملم بغريبها (كعبد اللّه بن عباس ), و منهم دون ذلك , و منهم من لازم الـنـبى (ص )فعرف من اسباب النزول ما لم يعرفه غيره (كعلى بن ابي طالب (ع )) اضف الى ذلك ان الـصـحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية و مواهبهم العقلية سوا, بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافا عظيما ((478)) . هذا عدى بن حاتم ((479)) , العربي الصميم , حسب من قوله تعالى : (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الا بيض من الخيط الا سود من الفجر) ((480)) انه تمايز احد خيطين : ابيض و آخر اسود,احدهما عن الاخر في ضؤ الفجر, فاخذ عقالين ابيض و اسود و جعلهما تحت وساده , فجعل يـنظر اليهما فلايتبين له احدهما عن الاخر, فلما اصبح غدا الى رسول اللّه (ص ) يخبره بما صنع , فضحك رسول اللّه من صنيعه ذلك , حتى بدت نواجذه , و في رواية , قال له : ان وسادك اذن لعريض ـ كـنـاية عن عدم تنبهه لحقيقة الامر ـ ثم قال له : انما ذاك بياض النهار من سواد الليل ((481)) , انه البياض المعترض على الافق تحت سواد الليل المنصرم وفي الدر المنثور: لا يمنعكم من سحوركم اذان بـلال و لا الفجر المستطيل ـ و هو الساطع المصعد ـ و لكن الفجرالمستظهر في الافق , هو الـمـعـترض الاحمر, يلوح الى الحمرة و في حديث : لايمنعكم اذان بلال من سحوركم فانه ينادي بليل , فكلوا و اشربوا حتى تسمعوا اذان ابن ام مكتوم , فانه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ((482)) . قـال الامـام ابـو جـعـفر الباقر (ع ): ((الفجر هو الخيط الابيض المعترض , و ليس هو الابيض صعدا)) ((483)) . و زعـمت عائشة من قوله تعالى : (يوتون ما آتوا) ارادة ارتكاب المثم , الامر الذي يتنافى مع سياق الايـة الواردة بشان الاشادة بموضع المؤمنين حقا, قال تعالى : (ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون ـ الـى قـولـه ـ و الـذيـن يـؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة انهم الى ربهم راجعون اولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون ) ((484)) . فـسـالت عن ذلك رسول اللّه (ص ), و قالت : هو الذي يسرق و يزني و يشرب الخمر, و هو يخاف اللّه ؟ ((485)) كناية عن اتيانه الطاعات , وجلا ان لايكون مؤديا لها تامة حسبما اراده اللّه . و لعلها كانت تتصور من الكلمة انها مقصورة (ياتون ما اتوا) بمعنى : (يعملون ما عملوا), و قد اسلفنا الكلام عن تزييفه ((486)) و ان الصحيح هو قراة المد (يؤتون ما آتوا) بمعنى : يؤدون ما ادوا, اي من افعال البر و الخيرات , من غير اعجاب و لا ريا, و الى ذلك ينظر تفسيره (ص ). و روى زرارة عـن الامـام ابي جعفر الباقر(ع ) قال : اتى عمار بن ياسر رسول اللّه (ص ) فقال : يا رسـول اللّه ,اجنبت الليلة و لم يكن معي ما قال : كيف صنعت ؟ قال : طرحت ثيابي ثم قمت الى الصعيد فعلمه رسول اللّه التيمم , سوا اكان بدل وضؤ ام بدل غسل ((488)) . و قـرا عـمـر بن الخطاب من سورة ((عبس )) حتى وصل الى قوله تعالى : (فلينظر الا نسان الى طعامه , اناصببنا الما صبا, ثم شققنا الا رض شقا, فانبتنا فيها حبا, و عنبا و قضبا, و زيتونا ونخلا, و حدائق غلبا, و فاكهة و ابا, متاعا لكم و لانعامكم ) ((489)) , فقال : هذه الفاكهة قدعرفناها, فما الاب ؟ ثم رجع الى نفسه فقال : ان هذا لهو التكلف يا عمر و في رواية : ثم رفض ـ او نقض ـ عصا كانت في يده , و قال : هذا لعمر اللّه هو التكلف , فما عليك ان لا تـدري ماالاب , اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به , و ما لم تعرفوه فكلوه الى ربه ولعله سئل عن تفسير الاية فحار في الجواب . و قـد ورد ان ابـابـكـر ـ ايضا ـ سئل قبل ذلك عن تفسير الاية , فقال : اى سما تظلني , واى ارض تقلني , اذا قلت في كتاب اللّه ما لم اعلم ((490)) . قال الذهبي : و لو اننا رجعنا الى عهد الصحابة لوجدنا انهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم مـعاني القرآن ,بل تتفاوت مراتبهم , و اشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم و هذا يرجع الى تـفـاوتهم في القوة العقلية ,و تفاوتهم في معرفة ما احاط بالقرآن من ظروف و ملابسات و اكثر من هذا انهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات , فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة , و لا ضير في هذا,فان اللغة لا يحيط بها الا معصوم , و لم يدع احد ان كل فرد من امة يعرف جميع الفاظ لغتها. قال : و مما يشهد لهذا الذي ذهبنا اليه , ما اخرجه ابو عبيدة في الفضائل عن انس : ان عمر بن الخطاب قـرا على المنبر (و فاكهة و ابا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها, فما الاب ؟ ثم رجع الى نفسه فقال : ان هذا لهو التكلف يا عمر و ما روي من ان عمر كان على المنبر فقرا: (او ياخذهم على تخوف ) ((491)) ثم سال عن معنى التخوف ,فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص , ثم انشد:. تخوف الرحل منها تامكا قردا ـــــ كما تخوف عود النبعة السفن ((492)) . قـال الـطبرسي : التخوف : التنقص , و هو ان ياخذ الاول فالاول حتى لايبقى منهم احد, و تلك حالة يخاف معهاالهلاك و الفنا و هو الغنا تدريجا, ثم انشد البيت بتبديل الرحل الى السير ((493)) . قـال الـفـرا: جـا الـتـفـسـيـر بانه التنقص و العرب تقول : تحوفته ـ بالحا المهملة ـ : تنقصه من حافاته ((494)) . و مـعـنـى الاية ـ على ذلك ـ : انه تعالى يهلكهم على تدرج شيئا فشيئا, بما يجعلهم على خوف الفنا, حـيـث يـرون انـهم في تنقيص , و الاخذ من جوانبهم تدريجا, و هذا نظير ما ورد في آية اخرى : (افـلا يرون انا ناتي الا رض ننقصها من اطرافها) ((495)) و قوله : (و لنبلونكم بشي من الخوف و الجوع ونقص من الا موال و الا نفس و الثمرات ) ((496)) . و ايـضـا اخـرج ابوعبيدة من طريق مجاهد عن عبد اللّه بن عباس , قال : كنت لا ادري ما ((فاطر الـسـماوات )) حتى اتاني اعرابيان يتخاصمان في بئر فقال احدهما: انا فطرتها, و الاخر يقول : انا ابتداتها ((497)) . قـال الذهبي : فاذا كان عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى ((الاب )) و معنى ((التخوف )), و يسال عنهما غيره , و ابن عباس ـ و هو ترجمان القرآن ـ لا يظهر له معنى ((فاطر)) الا بعد سماعه من غـيره , فكيف شان غيرهما؟ مـثـلا ـ ان يـعلموا من قوله تعالى : ((و فاكهة وابا)) انه تعداد للنعم التي انعم اللّه بها عليهم , و لا يلزمون انفسهم بتفهم معنى الاية تفصيلا, ما دام المراد واضحاجليا ((498)) .
اشـتهر بالتفسير من الصحابة اربعة , لاخامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن , وهم : على بن ابي طالب (ع ) و كان راسا و اعلم الاربعة , و عبد اللّه ابن مسعود, و ابى بن كعب , و عبداللّه بن عباس , كان اصغرهم و اوسع باعا في نشر التفسير. اما غير هؤلا الاربعة فلم يعهد عنهم في التفسير سوى النزر اليسير. قال جلال الدين السيوطي : اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفا الاربعة , و ابن مسعود, و ابن عباس , و ابى بن كعب , و زيد بن ثابت , و ابو موسى الاشعري , و عبداللّه بن الزبير اما الخلفا فاكثر مـن روي عـنـه مـنـهم على بن ابي طالب , و الرواية عن الثلاثة (ابي بكر و عمر وعثمان ) نزرة جدا ((499)) . قـال الاسـتـاذ الـذهـبـي : و هـناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلا, كانس بن مالك , و ابـي هـريـرة و عبداللّه بن عمر, و جابر بن عبد اللّه , و عبد اللّه بن عمرو بن العاص , و عائشة غـيـر ان ما نقل عنهم في التفسير قليل جدا, كما ان العشرة الذين اشتهروا بالتفسير, تفاوتوا قلة و كـثرة , و المخصوصون بكثرة الرواية في التفسير منهم اربعة : على بن ابي طالب , و ابن مسعود, و ابـى بـن كعب , و ابن عباس اما باقي العشرة , و هم : زيد, و ابو موسى وابن الزبير, فقد قلت عنهم الرواية , و لم يبلغوا ما بلغه الاربعة . قال : لهذا نرى الامساك عن الكلام في شان الستة , و نتكلم عن (على بن ابي طالب ) و (ابن مسعود) و (ابـى بـن كـعـب ) و (ابـن عـباس ) نظرا لكثرة الرواية عنهم في التفسير, كثرة غذت مدارس الامصار على اختلافها وكثرتها ((500)) .
قال الامام بدر الدين الزركشي : و صدر المفسرين من الصحابة هو على بن ابي طالب , ثم ابن عباس و هـوتـجـرد لهذا الشان , و المحفوظ عنه اكثر من المحفوظ عن علي (ع ), الا ان ابن عباس كان قد اخذ عن علي (ع ) ((501)) . قـال الاستاذ الذهبي : كان علي (ع ) بحرا من العلم , و كان قوى الحجة سليم الاستنباط, اوتي الحظ الاوفـر من الفصاحة و الخطابة و الشعر, و كان ذا عقل ناضج و بصيرة نافذة الى بواطن الامور و كثيرا ما كان يرجع اليه الصحابة في فهم ما خفي , و استجلا ما اشكل و قد دعا له رسول اللّه (ص ) حـيـن ولاه قـضـا الـيـمن , بقوله : (( اللهم ثبت لسانه و اهد قلبه )) فكان موفقا مسددا, فيصلا في المعضلات ((502)) , حتى ضرب به المثل , فقيل : ((قضية و لاابا حسن لها)). قال : و لا عجب , فقد تربى في بيت النبوة , و تغذى بلبان معارفها, و عمته مشكاة انوارها و قيل لعطا: اكـان في اصحاب محمد اعلم من علي ؟ قال : لا, واللّه لا اعلمه و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , قال : اذا ثبت لناالشي عن علي , لم نعدل عنه الى غيره ((503)) . قـال ابـن عـباس : جل ما تعلمت من التفسير, من على بن ابي طالب و قال : علي علم علما علمه رسول اللّه , ورسـول اللّه عـلـمه اللّه , فعلم النبي من علم اللّه , و علم علي من علم النبي , و علمي من علم علي (ع ) و ما علمي وعلم اصحاب محمد(ص ) في علم علي الا كقطرة في سبعة ابحر و في حديث آخـر: فـاذا عـلـمـي بـالقرآن في علم علي (ع ) كالقرارة في المثعنجر, قال : القرارة : الغدير, و المثعنجر: البحر ((504)) . و قـال : لـقـد اعـطي عـلى بن ابي طالب (ع ) تسعة اعشار العلم , و ايم اللّه لقد شاركهم في العشر العاشر, الامر الذي احوج الكل اليه و استغنى عن الكل , كما قال الخليل . و قـال سـعـيد بن جبير: كان ابن عباس يقول : اذا جانا الثبت عن علي (ع ) لم نعدل به و في لفظ ابن الاثير: اذا ثبت لنا الشي عن علي لم نعدل عنه الى غيره . و قد عرفت ان ما اخذه ابن عباس من التفسير فانما اخذه عن علي (ع ). و قـال سـعـيـد بن المسيب : ما كان احد من الناس يقول سلوني غير على بن ابي طالب قال : كان عمر يـتـعوذ من معضلة ليس لها ابو حسن و قد روى البلاذري في الانساب قولة عمر: ((لا ابقاني اللّه لمعضلة ليس لهاابوحسن )). و قـال ابـو الطفيل : كان علي (ع ) يقول : سلوني , سلوني , سلوني عن كتاب اللّه تعالى , فو اللّه ما من آية الا و انااعلم انزلت بليل او نهار. و قال عبد اللّه بن مسعود: ان القرآن انزل على سبعة احرف , ما منها حرف الا و له ظهر و بطن , و ان على بن ابي طالب عنده منه الظاهر و الباطن ((505)) . و روى ابو عمرو الزاهد (261 ـ 345) باسناده الى علقمة , قال : قال لنا عبد اللّه بن مسعود ذات يـوم فـي حـلـقـته :لو علمت احدا هو اعلم مني بكتاب اللّه عز و جل , لضربت اليه آباط الابل قال عـلقمة : فقال رجل من الحلقة :القيت عليا(ع )؟ فقال : نعم , قد لقيته , و اخذت عنه , و استفدت منه , و قـرات عـلـيـه , و كـان خـيـر الناس و اعلمهم بعد رسول اللّه (ص ) و لقد رايته كان بحرا يسيل سيلا ((506)) . قـال ابـن ابـي الحديد ـ بصدد كونه (ع ) مرجع العلوم الاسلامية كلها ـ : و من العلوم علم تفسير الـقرآن و عنه اخذ,و منه فرع و اذا راجعت الى كتب التفسير علمت صحة ذلك , لان اكثره عنه و عن عبد اللّه بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه اليه , و انه تلميذه و خـريـجـه و قـيـل لـه : ايـن عـلـمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر الى البحر المحيط ((507)) . و اخـرج الحاكم باسناده عن رسول اللّه (ص ) قال : ((علي مع القرآن و القرآن مع علي , لن يفترقا حـتـى يـرداعـلـي الـحـوض )) و قال : ((انا مدينة العلم و علي بابها, فمن اراد المدينة فلياتها من بابها)) ((508)) . و الان فلنستمع الى ما يصف (ع ) نفسه و موضعه من رسول اللّه (ص ) قال : ((سلوني عن كتاب اللّه , فانه ليست آية الا و قد عرفت بليل نزلت ام بنهار, في سهل او جبل )), ((و اللّه ما نزلت آية الا و قد علمت فيم انزلت و اين نزلت و ان ربي و هب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا)). قـيـل لـه : ((مـا بـالـك اكـثر اصحاب النبى (ص ) حديثا؟ فقال : لاني كنت اذا سالته انباني , و اذا سكت ابتداني )) ((509)) . قال (ع ): ((كنت اول داخل على النبى (ص ) و آخر خارج من عنده , و كنت اذا سالت اعطيت , و اذا سكت ابتديت و كنت ادخل على رسول اللّه في كل يوم دخلة , و في كل ليلة دخلة و ربما كان ذلك في بـيـتـي , ياتيني رسول اللّه اكثر من ذلك في منزلي فاذا دخلت عليه في بعض منازله اخلى بي و اقام نـسـاه , فلم يبق عنده غيري و اذا اتاني لم يقم فاطمة و لا احدا من ولدي و اذا سالته اجابني , و اذا سـكـت عنه و نفدت مسائلي ابتداني فما نزلت على رسول اللّه آية من القرآن الا اقرانيها و املاها عـلـى و كـتبتها بخطي , فدعا اللّه ان يفهمني ويعطيني , فما نزلت آية من كتاب اللّه الا حفظتها و علمني تاويلها)) ((510)) . و فـي الـكـافـي : ((فـما نزلت على رسول اللّه آية من القرآن الا اقرانيها و املاها على , فكتبتها بخطي , و علمني تاويلها و تفسيرها, و ناسخها و منسوخها, و محكمها و متشابهها, و خاصها و عامها و دعا اللّه ان يعطيني فهمهاو حفظها فما نسيت آية من كتاب اللّه و لا علما املاه على و كتبته , منذ دعا اللّه لي بما دعا و ما ترك شيئا علمه اللّه من حلال و لا حرام , و لا امر و لا نهي كان او يكون , و لا كتاب منزل على احد قبله من طاعة او معصية ,الاعل منيه و حفظته , فلم انس حرفا واحدا ثم وضـع يده على صدري و دعا اللّه لي ان يملا قلبي علما و فهما وحكما و نورا فقلت : يا نبى اللّه ـ بابي انت و امي ـ منذ دعوت اللّه لي بما دعوت , لم انس شيئا و لم يفتني شي لم اكتبه , افتتخوف على النسيان فيما بعد؟ فقال : لا, لست اتخوف عليك النسيان و الجهل ((511)) . و قـد قـال رسـول اللّه (ص ) لعلي (ع ): ((ان اللّه امرني ان ادنيك و لا اقصيك , و ان اعلمك و لا اجفوك فحقيق علي ان اعلمك , و حقيق عليك ان تعي )) ((512)) . و فـي الـخطبة القاصعة ـ من نهج البلاغة ـ : ((و قد علمتم موضعي من رسول اللّه (ص ) بالقرابة الـقـريـبـة , و الـمنزلة الخصيصة وضعني في حجره و انا ولد, يضمني الى صدره , و يكنفني الى فـراشه , و يمسني جسده , و يشمني عرفه , ((513)) و كان يمضغ الشي ثم يلقمنيه و ما وجد لي كذبة في قول , و لا خطلة ((514)) في فعل . و لـقد قرن اللّه به (ص ), من لدن ان كان فطيما اعظم ملك من ملائكته , يسلك به طريق المكارم , و محاسن اخلاق العالم , ليله و نهاره . و لقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه , يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما, و يامرني بالاقتدا به . و لقد كان يجاور في كل سنة بحرا, فاراه و لا يراه غيري و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه (ص ) و خديجة و انا ثالثهما ارى نور الوحي و الرسالة , و اشم ريح النبوة . و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص ) فقلت : يا رسول اللّه , ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان ايس من عبادته انك تسمع ما اسمع , و ترى ما ارى , الا انك لست بنبى و لكنك لوزير و انك لعلى خير)) ((515)) . و امـا عـبـد اللّه بن مسعود, فهو من السابقين في الايمان , و اول من جهر بالقرآن بمكة , و اسمعه قـريـشـا بعدرسول اللّه (ص ) و اوذي في اللّه من اجل ذلك و كان قد اخذه رسول اللّه اليه , فكان يـخـدمـه في اكثر شؤونه , وهو صاحب طهوره و سواكه و نعله , و يلبسه اياه اذا قام , و يخلعه و يحمله في ذراعه اذا جلس , و يمشي امامه اذاسار, و يستره اذا اغتسل , و يوقظه اذا نام , و يلج داره بلاحجاب , حتى لقد ظن انه من اهل بيت رسول اللّه (ص ). هاجر الهجرتين , و صلى الى القبلتين , و شهد المشاهد كلها مع رسول اللّه . كـان مـن احفظ الناس لكتاب اللّه , و كان رسول اللّه يحب ان يسمع القرآن منه , و كان (ص ) يقول : ((من سره ان يقرا القرآن غضا طريا كما انزل فليقراه على قراة ابن ام عبد)). و كـان حـريصا على طلب العلم و لا سيما معاني آيات القرآن الكريم , قال : كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات ,لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن و العمل بهن , و من ثم كان يقول : و الذي لا اله غيره , ما نـزلت آية من كتاب اللّه الا و انا اعلم فيم نزلت و اين نزلت , كما كان شديد الحرص ايضا على بث العلم و نشره بين العباد. قـال مسروق بن الاجدع : كان عبد اللّه يقرا علينا السورة ثم يحدثنا فيها و يفسرها, عامة النهار, و قد اذعن له عامة صحابة الرسول (ص ) بالفضيلة و العلم بالكتاب و السنة ((516)) . و مـن ثـم كانت له مكانة سامية في التفسير, و بذلك طار صيته , و عنه في التفسيرالشي الكثير, و الطرق اليه متقنة . قـال الخليلي في الارشاد: و لاسماعيل السدي تفسير يورده باسانيد الى ابن مسعود و ابن عباس و روى عن السدي الائمة , مثل الثورى و شعبة , و اضاف : ان امثل التفاسير تفسير السدي . قـال جلال الدين السيوطي ـ تعقيبا على كلام صاحب الارشاد ـ : و تفسير السدي الذي اشار اليه , يـورد مـنـه ابـن جرير (الطبري ) كثيرا من طريق السدي عن ابي مالك , و عن ابي صالح عن ابن عـباس , و عن مرة عن ابن مسعود, و ناس من الصحابة هكذا قال : و الحاكم يخرج منه في مستدركه اشـيا و يصححه , لكن من طريق مرة عن ابن مسعود, وناس فقط دون الطريق الاول ((517)) , اي طريق ابي صالح عن ابن عباس . و كـان بـعـد رسـول اللّه (ص ) قـد اخذ العلم من على (ع ) و ليس من غيره بتاتا و قد تقدم حديث علقمة , قال : قال ابن مسعود ذات يوم , و كنا في حلقته : لو علمت ان احدا هو اعلم مني بكتاب اللّه عز و جـل لـضربت اليه آباطالابل قال علقمة : فقال رجل من الحلقة : القيت عليا؟ فقال : نعم , قد لقيته , و اخـذت عنه , و استفدت منه , و قرات عليه و كان خير الناس و اعلمهم بعد رسول اللّه (ص ) و لقد رايته كان بحرا يسيل سيلا ((518)) . و عـده الـخـوارزمـي و شـمس الدين الجزري في ((اسنى المطالب )) من رواة حديث الغدير من الصحابة ((519)) . و اخـرج جـلال الـديـن السيوطي عنه نزول آية التبليغ (سورة المائدة / 67) بشان على (ع ) يوم الـغدير, قال : و اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود, قال : كنا نقرا على عهد رسول اللّه (ص ): ((يا ايهاالرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ـ ان عليا مولى المؤمنين ـ و ان لم تفعل فما بلغت رسالته , و اللّه يعصمك من الناس )) ((520)) . نـعم كان ابن مسعود ممن شد وثاقه بولا آل بيت الرسول , لم يشذ عن طريقتهم المثلى منذ اول يومه فالى آخرايام حياته . روى الصدوق ابو جعفر ابن بابويه باسناده الى زيد بن وهب الجهني ابي سليمان الكوفي ((521)) : ان اثـنـي عـشـر رجـلا من صحابة رسول اللّه (ص ) انكروا على ابي بكر تقدمه على على (ع ) و عدمنهم : عبد اللّه بن مسعود. و كـان هـو الـذي اشـاد بـذكـر اهـل الـبيت , و بث حديث ((الخلفا اثنا عشر)) في الكوفة و ما والاها ((522)) . قال المرتضى علم الهدى ـ بشانه ـ : لا خلاف بين الامة في طهارة ابن مسعود و فضله و ايمانه , و مدح النبى (ص ) له و ثنائه عليه , و انه مات على الحالة المحمودة ((523)) . و سياتي من تقي الدين ابي الصلاح الحلبي , عده و ابيا من المخصوصين بولاية آل البيت ((524)) . و روى رضـي الدين ابو القاسم على بن موسى بن طاووس (664) عن كتاب ابي عبداللّه محمد بن عـلـي السراج في تاويل قوله تعالى : (و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ((525)) بالاسناد الى عبد اللّه بن مسعود, انه قال :. قـال النبى (ص ): ((يا ابن مسعود, انه قد انزلت علي آية (و اتقوا فتنة ) و انا مستودعكها, فكن لما اقول لك واعيا و عني له مؤديا, من ظلم عليا مجلسي هذا كمن جحد نبوتي و نبوة من كان قبلي فقال لـه الـراوي : يـا ابـا عـبـدالـرحمان , اسمعت هذا من رسول اللّه (ص )؟ قال : نعم قال : فكيف وليت للظالمين ؟ قال : لا جرم حلت عقوبة عملي ((526)) , و ذلك اني لم استاذن امامي كما استاذن جندب و عمار و سلمان , و انا استغفر اللّه و اتوب اليه )) ((527)) . و مـمـا يـجـدر الـتنبه له ان عامة الكوفيين من مفسرين و فقها و محدثين , كان طابعهم الولا لاهل البيت (ع ) و قدخص اصحاب ابن مسعود بالميل لعلي (ع ) الامر الذي كانت البيئة الكوفية تستدعيه بـالـذات , على اثر وفرة العلما من صحابة الرسول (ص ) هناك و لا غرو فانهم اعرف بموضع اهل الـبـيـت و لا سيما سيدهم و كبيرهم على بن ابي طالب , من رسول اللّه , و كثرة وصاياه بشانهم , و التمسك باذيالهم و السير على هديهم , فلا يضلواابدا. و من ثم فقد امتازت الكوفة في امور جعلتها في قمة العظمة و الاكبار, على مدى الدهور:. اولا: كـانـت مـهـجر علما الصحابة الاخيار و اعلام الامة الكبار, و بلغ اوجها عند مهاجرة الامام اميرالمؤمنين (ع ). اخرج ابن سعد عن ابراهيم , قال : هبط الكوفة ثلاثمئة من اصحاب الشجرة ,و سبعون من اهل بدر و بـذلـك قـال ابن عمرو: ما من يوم الا ينزل في فراتكم هذا مثاقيل من بركة الجنة كناية عن مهاجرة اصحاب الرسول اليها فوجا فوجا ((528)) . و ثـانـيـا: اصـبحت معهد العلم في الاسلام في دور نضارته و ازدهار معارفه , فمن الكوفة صدرت الـعـلـوم و الـمـعـارف الاسلامية , بشتى انحائها الى البلاد, و سارت به الركبان الى الامصار في عـهدطويل اخرج ابن سعد ـ ايضا ـ عن عبيد اللّه بن موسى , قال : اخبرنا عبد الجبار بن عباس عن ابـيـه , قـال : جالست عطا, فجعلت اساله فقال لي : ممن انت ؟ فقلت : من اهل الكوفة فقال عطا: ما ياتينا العلم الا من عندكم ((529)) . و ثـالثا: كانت ارضا خصبة لتربية ولا آل الرسول (ص ) في نفوس مؤمنة صادقة في ايمانها, مؤدية اجـر رسـالة نبيها, حافظة لكرامة رسول اللّه في ذريته الانجاب , عارفة بانهم سفن النجاة , و احد الـثقلين , و العروة الوثقى التي لا انفصام لها, و من ثم روى ابن سعد: ((ان اسعد الناس بالمهدى اهل الكوفة )) ((530)) . امـا اصـحاب ابن مسعود (الصحابي الجليل الموالي لال بيت الرسول ) فكانوا اصدق عند الناس على عـلـي (ع ) عـلـى مـا اخرجه ابن سعد باسناده عن ابي بكر ابن عياش عن مغيرة ((531)) , كانوا لايـغـالون و لا ينتقصون و من ثم روي عن على (ع ) ما يدل على رضائه عن موقفهم هذا المشرف , قال : ((اصحاب عبد اللّه سرج هذه القرية )) ((532)) . ملحوظة . انـمـا يـعـرف صـلاح الرجل و استقامته في الدين , بتقواه عن محارم اللّه و استسلامه لاوامره و نـواهـيه , و في اطاعة الرسول و اتباع سنته و العمل بوصاياه , من غير ان يكون له الخيرة من امره بعد ما قضى اللّه و رسوله , اذ مقتضى الايمان الصادق ان يسلم امره الى اللّه و رسوله تسليما.