<p/>تأمّلات في دعاء الأفتتاح - تأملات فی دعاء الأفتتاح نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تأملات فی دعاء الأفتتاح - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

العلامة السيد محمد تقي المدرسي

تأمّلات في دعاء الأفتتاح

هدّية صحيفة «العمل الإسلامي»

لقرّائها المؤمنين الكرام في شهر رمضان المبارك عام 1405هـ.

الكتاب: تأمّلات في دعاء الافتتاح.

المؤلف: العلاّمة السيد محمد تقي المدرسي.

الناشر: صحيفة «العمل الإسلامي».

عدد النّسخ: 6000 نسخة.

الطبعة: الأولى.

تاريخ النشر: رمضان المبارك/1405هـ.

المطبعة: الهاشمي.

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

* الدُّعاء، صنفٌ من المناجاة بين العبد وربّه، يتضمَّن ـ فيما يتضمن ـ ايحاءات ذاتية للداعي نفسه، بما يتلفّظه لسانه، قد تنتشله من وهدة اليأس، وقد تستنهض همّته للثورة والجهاد، وقد تُذكَّرُه بما كاد ينساه من واجبات حيال دينه وعقيدته ورسالته.

هذا، فضلاً عن أن الدُّعاء «سلاح المؤمن» ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ، سلاحه الذي يرفعه بوجه الظالمين اذا أعيتهُ السبل.. كما فعل الإمام زين العابدين عليه السلام..، وسلاحه الذي يمتشقه في حربه الضروس مع نفسه الأمّارة بالسوء «انّ النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي».. وسلاحه في مسيرته الحثيثة نحو السمِّو والتكامل والأرتقاء، سلاحُه في كدحه الحتمي نحو الحق تبارك وتعالى.

قال الرسول الأعظم «صّلى الله عليه وآله وسلم»: «ألا ادلكم على سلاح يُنجيكم من عدوَّكم ويدر رزقكم؟ قالوا: نعم. قال: تدعون بالّليْل والّنهار، فأن سلاح المؤمن الدُّعاء».

ودعاء «الافتتاح»، الجليل المضامين، الذي «يفتتح» به المؤمنون أمسيّات شهر رمضان، المفعمة بالأيمان والنور والّطاعات، لا يخرج عن هذه القاعدة المباركة، ناهيك عن مدَّه لـ «جسور» العلاقة الواعية، بين المربوب والرّب سبحانه، العلاقة التي تستدر الفيوضات والبركات الألهية لتنثال على المؤمن وتغسل أدران نفسه كما يغسل المطر المنهمر الشَّجر.

وأيضاً، يتضمن دعاء الأفتتاح المبارك، جوانب عرفانية مشرقة، يعتبر المجتمع الأيماني بأمسّ الحاجة اليها، من قبيل معرفة الله وتوحيده، معالجة مسألة الغيب والشهود، الأيمان بالآخرة.. الى آخره.

ومن منطلق محاولة تفسير وتوضيح وشرح وتحليل هذا الدعاء العظيم، تُهدي صحيفة «العمل الإسلامي» قراءها المؤمنين هذا الكتاب، طالبةً بذلك وجه الله تعالى.

وممّا يجدر ذكره، ان موضوع الكتاب، مُسَتلُّ ومُقتبَس، من مجموعة محاضرات لسماحة السيد محمد تقي المدرّسي، كان قد ألقاها على المُصلين خلال شهر رمضان الكريم عام 1403 هجري، وصيغت ونُشرت في كتاب «الدّعاء، معراج الروح ومنهاج الحياة» في محرم الحرام من عامنا هذا (1405).

نرجو أنْ يتقبل الله طاعات المؤمنين، ويتقبل عملنا هذا بأحسن القبول.. وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكّلنا واليه نُنيب.

هيئة تحرير (العمل الإسلامي)

شعبان المعّظم 1405هـ.

1 ـ الحمد والدعاء

«اللهم اني أفتتِح الثناء بَحمدِك، وانت مُسددٌ للصواب بمنِك، وأيقنتُ أنك أنتَ أرحمُ الراحمين في مَوضع العفوِ والرحمة، وأشد المعاقبين في موضوع النكال والنقمة، واعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة، اللهم أذنت لي في دُعائك ومسألتِك، فأسمع يا سميعُ مدحتي، وأجب يا رحيمُ دَعوتي، وأقل يا غفورُ عَثرتي، فكم يا إلهي مِن كُربَةٍ قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرةٍ قد أقلتهاـ ورَحمةٍ قد نَشرتها، وحلقةِ بلاء قد فَككتها..»

«اللهم اِني افتتحُ الثناء بِحَمدِك، وانتَ مُسددٌ للصوابِ بِمَنَّك»

ينبغي للداعي ان يبدأ حديثه ودعاءه بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والثناء على الله قد يكون بالشكر لله وحده، وقد يكون بتسبيحه سبحانه وتعالى وتقديسه، (اللهم اني افتتح الثناء بحمدك)، سوف يكون اول ثنائي لك حمدي لك، وقد تعني هذه الجملة ان الثناء انما هو بما وهب الله لنا واعطانا من فضل يجب ان نحمده عليه، فثنائي عليك انما يكون بحمدك، فلولا انك رزقتني القدرة على الثناء ووفقتني للدعاء كيف كنت استطيع ان احمدك أو اثني عليك..

«وانت مسدد للصواب بمنك..»

ان حسن الافتتاح لا يدل على حسن الختام، فربما يكون الإنسان في مفتتح حياته، ومفتتح حديثه حسناً صالحاً، صائباً لكنه ينحرف بعدئذ تحت تأثيرات مختلفة، لذلك فنحن نطلب من رب القدرة لتستمر استقامتنا على الصواب: (وانت مسدد للصواب بمنك)، انت الذي تسددني للصواب.

حينما يرمي الإنسان سهماً ويصيب الهدف، يكون قد سدّد الرمية، لانها اصابت هدفها، ونحن حينما ندعو ربنا نطلب منه ان يسدد دعوتنا للصواب ويستجيبها، وهو المسدد للصواب، إلا اننا يجب ان لا نغفل عن ان نعم الله تعالى علينا ومنها تسديده لنا للصواب ليس امراً نستحقه نتيجة اعمالنا وجهدنا، وانما هي بمن الله سبحانه وتعالى لذلك فاننا نقول في دعائنا وبكل خشوع: (وانت مسدد للصواب بمنك..).

«وأيقنتُ انت ارحم «1»الراحمين في موضع العفو والرحمة واشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة..»

ينبغي ان يكون الداعي بين اليأس والرجاء أو بتعبير افضل بين الخوف والامل (يدعونه رغباً ورهباً)، خوفاً واملا، لذلك ترى في بداية دعاء الافتتاح يضع الإمام الدعاة بين الرغبة والرهبة (وايقنتُ انك انت ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة)، اذا كنت أهلاً للعفو والرحمة، فان الرحمة تنزل عليك بحيث لا تستطيع استيعابها، مثلاً: حينما تهطل الامطار من السماء كمظهر من مظاهر رحمة الله، فانها تكون من الكثرة بحيث تفيض الاودية بالماء، ولا تستطيع ان تستوعب الكمية الهائلة من الامطار التي تنزل من السماء، أو اذا فتح الله على الإنسان ابواب الرزق، فانه يغمر الإنسان بحيث لا يعرف ماذا يصنع به، هذا اذا كان الإنسان مستحقاً للرحمة.

اما اذا كان الإنسان مستحقاً للعذاب فان العذاب يأتيه بشدة وبصورة لا يتصورها، اذن، فان الإنسان بين امرين:

اما رحمة واسعة نسألها من الله، واما عذاب شديد نستجير بالله منه، (وايقنت انك انت)، وليس غيرك يا رب (ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة)، فاذا كنتَ مذنباً ودعوتَ الله سبحانه وتعالى، مددت اليه يد الضراعة والمسكنة ليغفر لك ذنبك، فان الله لا يعفو عن الذنب فقط، وانما يزيدك من رحمته، وهذا من اسماء الله سبحانه وتعالى.

فالإنسان المذنب يطلب من الله ان يتجاوز عن سيئاته ويغفر له ذنوبه من قبيل: ترك الصلاة، ايذاء الناس وتضييع حقوقهم، اتهامهم واغتيابهم، تضليل الآخرين.. الخ، فان الله يغفر له ان شاء الله، ويزيده من نعمه بان يعطيه الايمان، والتقوى، والرحمة من عنده، (واشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)، واذا اراد ربنا ان يجازي احداً وان ينتقم منه، فان عذابه يكون شديداً، وما نراه في هذه الدنيا من انواع العذاب التي حلت بالاقوام الكافرة مثل:

قوم لوط أو بلاد عاد أو ثمود أو اصحاب الايكة، وما نعرفه من غرق فرعون وآل فرعون في اليم، كل هذا شيء بسيط جداً من عذاب الله سبحانه وتعالى، اما عذابه الشديد ونكاله ونقمته فهي في الآخرة.

«واعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة»

كل ابناء آدم يذنبون إلا المعصومين منهم، ولكن على الإنسان ان لا يتحدى ربه، فبعض الذنوب يرتكبها الإنسان في حالة التحدي لله عزوجل.

ان كبرياء الله وعظمته لن تسمحا لاحد بان يتحداه، وعلى العبد ان يحذر من تحدي جبار السموات والارض بكثرة الذنوب والاصرار عليها، مما قد يصل الى درجة يخاطبه الله تعالى فيها:

(عبدي افعل ما شئت فاني لن اغفر لك ابداً)1

فعن ابي عبد الله الصادق (ع) قال:

(من همَّ بالسيئة فلا يعملها فانه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب فيقول: وعزنّي وجلالي لا أغفر لك أبداً)2

وقد جاء في دعاء (أبي حمزة الثمالي) ما يشير الى هذا المفهوم، اذ يقول الدعاء:

«الهي لم اعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، واعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المُرخى عليّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك مَن يستنقذني، ومن ايدي الخصماء غداً مَن يخلصني..»

وعلى الإنسان ان يسارع الى التوبة من الذنب، ولا يترك الذنوب تتراكم في حياته فانها تكون اصعب للمغفرة ثم ان تراكم الذنوب على قلب الإنسان تميت قلبه وتجعله ابعد عن الهداية، فيجب ان يبادر الإنسان الى محوها بالتوبة.

«اللهم اذنت لي في دعائك ومسألتك فاسمع يا سميع مدحتي واجب يا رحيم دعوتي، واقل يا غفور عثرتي»

ان من اشد العذاب الذي ينتقم الله به من الكفار والمشركين في نار جهنم هو ان الله سبحانه وتعالى لا يأذن لهم بسؤاله عن شيء، فاهل النار لا يحق لهم التحدث مع الله، إلا ان الله لم يغلق باب التحدث معه وسؤاله التوبة والمغفرة في وجه المذنبين في الدنيا، فانت العبد الضعيف المحتاج المسكين الذي لا تملك لنفسك شيئاً، تتحدى ربك وتذنب الذنب ثم تستغفره وتطلب منه العفو والتوبة، هو يغفر لك، انه فتح امامك، باب المغفرة وآذن لك بالتوبة في الدنيا اما في يوم الحساب فان الله يغلق هذا الباب، فعلينا ان نستغل الفرصة، ونبادر الى التوبة طلب الغفران، (اللهم آذنت لي في دعائك)، الهي: انت الذي بدأت بالفضل واعطيتني الاذن بالدعاء والمسألة (فاسمع يا سميع مدحتي)، اذن فانا أبدأ دعائي بمدح الله وحمده سبحانه وتعالى (واجب يا رحيم دعوتي، واقل يا غفور عثرتي)، اننا نطلب من الله ان يغفر لنا كل العثرات، والزلل والذنوب والهفوات، وان يقبلها أي: يعتبرها وكأنها لم تكن، فالاقالة تعني انك حينما تشتري بضاعة، ثم تكتشف انها لا تفيدك، فترجع الى البائع وتطلب منه ان يستردها ويعيد لك نقودك وكأن لم يكن بيع ولا شراء، هذه هي الاقالة، ونحن نطلب من الله ان يعتبر ذنوبنا وكأنها لم تكن، ويمحيها من صفحات اعمالنا: (واقل يا غفور عثرتي).

«فكم يا الهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد اقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها..»

يا الهي، اذا غفرت لنا ذنوبنا، واقلت عثراتنا فليست هي المرة الأولى، فما اكثر الذنوب التي غفرتها، والكربات التي فرجتها، والعثرات التي اقلتها..

ان الداعي يجب ان يتذكر كربه التي فرجها الله، وهمومه التي كشفها الله، وعثراته التي اقالها الله سبحانه وتعالى، فان هذا التذكر ادعى لان يفتح الله ابواب الاجابة امامه.

ولكن لا ينحصر فضل الله على الإنسان بكشف الهموم، واقالة العثرات، وتفريج الكربات، بل اكثر من ذلك: (ورحمة قد نشرتها وحلقة بلاء قد فككتها)، قد يشعر الإنسان احياناً وكأن البلاء قد حاصره من كل مكان وقد أعيته مذاهب الحياة، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فاذا به يرى البلاء من كل مكان: اصدقاؤه يخونونه، اقاربه يتركونه، مجتمعه يرفضه، والحكومة تلاحقه، ومن جهة أخرى: جسمه ضعيف والمرض يهجم عليه، وكأن البلاء يهاجمه من كل مكان وليس له أي امل ولا يستطيع ان يمد يده الى أي انسان، هنالك يتجه قلبه الى الله سبحانه وتعالى فيفك الله عنه حلقة البلادء ويجعله ينطلق في الحياة، وتعود كل المياه الى مجاريها، وتغمره رحمة الله ولطفه. إلا ان مشكلة الإنسان انه ينسى كل ذلك، فأنا وانت لا شك قد ابتلينا في فترات من حياتنا بانواع البلاء والمشاكل، ولم يفك حلقة البلاء عنا إلا الله تعالى، ولكننا نسينا تلك اللحظات الصعبة، والدعاء يذكرنا بكل ذلك ويزرع في قلوبنا الامل بالله والرجاء برحمته.

2 ـ توحيد الله

«.. الحْمَدُ لله الَّذي لَمْ يَتَّخذْ صاحِبةً ولا وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شريكٌ في المُلكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذلِ وكبره تكبيراً، الحمدُ لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له في امره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، الحمد لله الفاشي في الخلق امرُه وحمدُه، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده..»

عن ابي عبد (عليه السلام) انه قال: «ان الله تبارك وتعالى خلق إسماً بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسّد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الاقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على اربعة أجزاء معاً ليس منها واحد قبل الآخر، فاظهر منها ثلاثة اسماء لفاقة الخلق اليها، وحجب واحداً منها، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة التي اظهرت، فالظاهر هو (الله وتبارك وسبحان) لكل اسم من هذه اربعة اركان، فذلك اثني عشر ركناً، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين إسماً فعلاً منسوباً اليها.

فهو الرحمن الرحيم، القدوس، الخالق، الباريء، المصور، الحي، القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام المؤمن، المهيمن، المنشيء، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث.

فهذه الاسماء، وما كان من الاسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين فهي نسبة لهذه الاسماء الثلاثة، وهذه الاسماء الثلاثة اركان وحجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة، وذلك قوله عزوجل:

«قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيَّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى»[4]

الله، تبارك، سبحانه، هذه اصول (اسماء الله) الحسنى، واسم (الله) تشتق منه اسماء أخرى كالعليم، القدير، الخبير، البصير، السميع، الحكيم، وما أشبه، هذه الاسماء التي تدل على صفات الله الذاتية ـ حسب تعبير علماء الكلام ـ واسم (تبارك) تشتق منه ايضاً مجموعة اسماء هي (اسماء الفعل) فتبارك يعني: اعطى البركة، وكل ما يعطيه الله سبحانه وتعالى لخلقه فهو بركة، واسماء الفعل هي: الخالق، الرازق، الفاعل لما يشاء، المصور، الباريء، وما اشبه، هذه الاسماء التي تدل على افعال الله سبحانه وتعالى، والاسم الثالث هو (سبحان)، وهو اسم يدل على تنزيه ربنا عن التشبيه بالخلق، وعن اتخاذ المثل له، وتجزئته سبحانه وتعالى، مثل اسم الصمد، احد، لم يكن له كفواً احد، هذه هي اسماء الله سبحانه وتعالى ويشتق منها ثلاثمائة وستون إسماً على الأقل، من كل اسم تشتق مجموعة اسماء، تتفرع منها أسماء أخرى.

وفي هذه الفقرة من الدعاء، نتلو بعضاً من اسماء التسبيح والتنزيه التي يرمز اليها اسم (السبحان)، يقول بعض العلماء ان اعظم اسماء الله هو اسم (السبحان، وان اعظم الاذكار هو (سبحان الله) لذلك فان افضل الاذكار في الركوع والسجود هو (سبحان الله)، كما ان التسبيحات الاربع التي تُقرأ في الركعات الثلاثة والرابعة من الفرائض، تبتدأ بـ (سبحان الله)، حتى في التكبيرات التي تتلى عقب الفرائض والمشهورة باسم (تكبيرات الزهراء) قال بعض العلماء ان الافضل الابتداء بـ(سبحان الله) ثم (الحمد لله) ثم (الله اكبر) بعكس ما هو المتعارف عند عامة الناس.

والسؤال هو: لماذا إسم (السبحان) هو من أعظم أسماء الله؟

الجواب: لان الإنسان يعرف بفطرته ان له خالقاً:

* فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم*

(30/الروم)

وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه وتعالى:

* واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..*

(172/الأعراف)

إذن، ان فطرة العبودية لله، وفطرة الاعتراف بالخالق مرتكزة في كل النفوس إلا ان مشكلة الإنسان الحقيقية هي انه يريد ان يفهم الله وان يحيط معرفة بالله، يريد ان يلمس وان يحس ربه، لذلك فهو يشبه ربه بخلقه. وهنا مكمن الانحراف في العبادة، اذ ان الإنسان يتجه مرة لكي يصنع صنماً ويعبده ويقول هذا ربي، ومرة أخرى يتخذ نوعاً من النباتات والاشجار والحيوانات ليعبدها من دون الله، والبعض الآخر يعبد الشمس أو القمر، أو النجوم، فالجميع معترفون بان لهم خالقاً، ولكن من هو هذا الخالق؟ هنا مكمن الاشتباه، واساس ضلالة الإنسان وانحرافه، اذ ان يشبه خالقه بخلقه. اما لو عرف الإنسان هذه الحقيقة: ان ربه تعالى عن الاحاطة بالعلم، وانه منزه وسبوح وقدوس عن التشبيه بالخلق، لو عرف بان الله اكبر من ان يُوصف، الاقتراب الى الله سبحانه وتعالى ولكن هناك مشكلة أخرى تعترض البشر حتى المؤمنين بالله منهم، فحينما يريدون ان يقتربوا الى الله تأتي المخلوقات وتحجبهم عن الخالق، فيتوجه الإنسان الى المخلوق عوض التوجه الى الخالق، و(سبحان الله) هو الذكر الذي يقربك الى الله سبحانه وتعالى، لانه يبعدك عن التشبيه، ولذلك جاء في القرآن الكريم:

* سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم*

(1/الصف)

فالسموات والارض بما تدل على محدوديتها وحاجتها وضعفها وعجزها وانها قد ابتدأت في لحظة، وسوف تنتهي في لحظة وفي ساعة معينة، ان هذه السموات والارض تسبح الله، أي تنزهه وتقدسه عن صفات السموات والارض، ومن إبرزها (المخلوقية) بينما صفة الله تعالى هي (الخالقية) ومن صفات السموات والارض: العجز والحاجة، بينما صفات الله تعالى هي: الغنى والقدرة.

وربما نستطيع ان نعتبر البرهان الذي توصل عبره النبي ابراهيم الى اثبات وجود الله واتجه الى عبادته، هو من قبيل هذا الامر، حيث انه لما رأى الكوكب، والقمر، والشمس، وقال عن كل واحد منها: هذا ربي، ولكنه لما رأى افولها، وانها لا يمكن ان تكون آلهة، توصل الى هذه النتيجة:

*إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفاً وما أنا من المشركين*

(79/الأنعام)

فتوجه الى خالق الكوكب، والقمر، والشمس..

هذا البرهان هو في هذا الاتجاه، اذ ان الإنسان يشبه ربه اولاً بالمخلوقات، إلا انه بعد الدقة والتعمق يعرف ان الخالق لا يمكن ان يكون مثل المخلوق، لان المخلوق بصفاته المعروفة غير قادر على الاستقلالية، فالمحدود يحتاج الى من يحده، والعاجز يحتاج الى من يعطيه القدرة، والضعيف يحتاج الى القوي، فاذن يجب ان يكون الخالق قوياً، عزيزاً، وقادراً.

لذلك كلما سبّحنا الله وقدسناه ونزهناه سبحانه وتعالى، كلما اقتربنا اليه، والآن لنتأمل فقرات الدعاء:

«الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً»

لماذا لم يقل لم يتخذ ولداً ولا صاحبة، لان الإنسان ـ في البدء ـ يتخذ لنفسه صاحبة وزوجة، ثم بعد ذلك يولد له الاولاد. والله الخالق منزه عن ذلك، (ولم يكن له شريك في الملك) الملكوت لله سبحانه وتعالى ليس له شريك فيه، (ولم يكن له ولي من الذل) الصالحون من عباد الله هم اولياء الله: أشهد أن علياً ولي الله، ولكن ليس لله ولي من الذل، أي انه لا يحتاج الى احد، غني عن العالمين، بل العالمون جميعاً يحتاجون اليه، والإنسان اذا اراد ان يعمل عملاً، فلا بد ان يعينه فيه مجموعة من الاعوان والانصار، اما الله فهو لا يحتاج الى احد، امره اذا اراد شيئاً ان يقول له: كن فيكون. لا يحتاج الى من يعينه في خلق السموات والارض، أو يساعده في تدبير شؤون السموات والارض (ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً)، فالله اكبر مما يصفه الإنسان ومما تتوهمه العقول.. ان محاولة توهم الله تعالى تجر الإنسان الى عبادة المخلوق.. وهذا هو الذي ادى بالسامري واتباعه ان يتوهموا ربهم في عجل خلقوه بايديهم:

*فأخرج لهم عجلاً جسداً له خُوار، فقالوا هذا الهكم واله موسى فنسي*

(88/طه)

(وكبره تكبيراً..) أي لا يجب ان يكون هناك أي توهم لله، فالله فوق الأوهام، والخيال، كلما توهمته في ذهنك فهو مخلوق وليس بخالق. الخالق فوق توهم الإنسان، والمطلوب في معرفتك بالله هو ان تخرجه من حدود التعطيل والتشبيه، فلا هو من خلقه ولا هو عدم، هو شيء لا كالاشياء، اما كيف؟ لا كيف له.. أين؟ لا أين له؟ متى؟ لا متى له. ما هي علامته؟ لا علامة له. ان كل هذه الحروف غير صادقة في الله هذه كلها صفات المخلوق.

«الحمد لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له في امره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته..»

بعد ان ذكر الدعاء بعضاً من أسماء الله السبحانية التي تقدسه وتنزهه عن كل نقص وعجز، يشير في هذه الفقرة الى اسماء الفعل التي يرمز اليها اسم (تبارك): (الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها) هل يستطيع الإنسان ان يستغني عن أي نعمة من نعم الله؟ أو هل يستطيع أن يحصل على هذه النعم من غيره؟ واي نعمة من النعم التي اعطاها الله لنا لا يستحق بها حمداً جديداً؟ كل النعم نحتاجها، وكل النعم من عنده، وكلها بحاجة الى الحمد، لذلك فاننا نحمدها جميعاً وفي جملة صغيرة ونقول: (الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها) ولكن ماذا يعني بجميع محامده كلها؟

الجواب: اننا قد نحمد الله بتعابير مختلفة، فنقول: الحمد لله، حمدك يارب، نحمدك يا الله، لك الحمد يا حامد ويا حميد، إلا اننا هنا نحمد الله بجميع محامده على جميع نعمه.

(الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه) حينما ملك الله فليس هناك ملك آخر يستطيع ان يضاد ربنا، هذا ما نعترف به بألسنتنا. ويأتي الدعاء لكي يعمل على ادخال هذه الحقيقة الى القلب، حتى تتحول جزءاً من جنان البشر ومن تركيبته الداخلية، ان الإنسان كثيراً ما يقول: (الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه) ولكنه حين العمل يخضع للطاغوت، وللانظمة المستكبرة، يخضع لغير الله سبحانه وتعالى، ان ما تقر به السنة البشر يجب ان يتحول الى ايمان قلبي ينعكس بدوره على مواقف واعمال الإنسان في حياته اليومية. (ولا منازع له في امره) اذا امر الله امراً، انتهى كل شيء، فلا معقب لحكمه، ولا احد يستطيع ان يقول لماذا؟ أو ان يقف بوجه امر الله، فلو اراد الله ان يرفع إنساناً، لا يستطيع العالم كله ان يضعه، ولو شاء الله ان يضع إنساناً ويهينه، فان كل قوى العالم لا تستطيع مجتمعة ان تكرمه، ان امر الله ومشيئته لا منازع لهما ولا يقدر احد ان يتحداهما (الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته) فعندما خلق السموات والارض لم يتخذ شريكاً، وعظمة الله ليست مما تصل اليها عظمة احد. (الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده) كان اليهود يقولون بان الله سبحانه وتعالى مغلول اليدين، لا يقدر على شيء، وقد كانت لهذه الفكرة امتدادات، منها الكفر بعقيدة (البداء). والايمان (بالبداء) يعني الايمان بان الله سبحانه وتعالى قادر ان يتخذ قراراً جديداً في كل لحظة وفي كل شأن من الشؤون، فليس هناك ما يحتم على الله شيئاً ابداً، فالله فوق الحتميات، اذا اراد الله الآن وفي هذه اللحظة ان يعدم الكون كله، لفعل ذلك في اقل من طرفة عين، فهو الفاشي في الخلق امره.

أفلا يستطيع الذي خلق الكون اول مرة واعطاه الوجود، ان يعدمه ويسلب منه نعمة الوجود في لحظة واحدة؟ ان من اهم عقائدنا ومن اكثرها تقدمية وحضارية وحرية هي عقيدة (البداء) ففي اعتقادنا يستطيع الله ان يغير وان يبدل القدر، ينزل عليك البلاء ثم تدعوا الله سبحانه وتعالى، فيرفع القدر، هذا هو (البداء) وليس كل ما خط في اللوح المحفوظ هو الذي يحدث حتماً ودون أي تغيير.. ان التغيير ممكن، لذلك نقرأ في ادعية شهر رمضان المبارك (اللهم ان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء) فاذا كان اسمي في اللوح المحفوظ مكتوباً من الاشقياء فانني ادعو الله، واعمل الصالحات، والتمس الى الرب الكريم، فيستجيب الله لي، ويغير ذلك القرار: (الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده) امر الله منتشر في الخلق وهو قادر على ان يغير ويبدل في كافة الامور والشؤون حسب مشيئته الحكيمة، وكذلك الامر بالنسبة الى حمد الله، وهذا يعني ان امره حميدٌ ايضاً.

(الظاهر بالكرم مجده) ان مجد الله وعظمته يظهران بالكرم، فالله لا يستخدم عظمته ومجده وقدرته في ظلم المخلوقات، وقمع الضعفاء والعاجزين كما يفعل بعض المخلوقين حينما يحصل على القوة والعظمة الظاهرية، اما الله فانه ذو مجدٍ وكرمٍ في آن واحد، (الباسط بالجود يده) اما جود الله ويده فانهما مبسوطان على كل الخلائق، ولولا جود الله ونعمه التي يبسطها بيده على الخلق، لانعدم الوجود ولتحول كل شيء الى رماد.

3 ـ خزائن الله.. لا تنفذ

«.. الحمد لله الفاشي في الخلقِ امرهُ وحمدُه، الظاهر بالكرم مجدُه، الباسط بالجودِ يده، الذي لا تنقصُ خزائنه، ولا تزيدُهُ كثرةُ العطاء إِلا جُوداً وكرَماً، انه هو العزيزُ الوهاب، اللهم اني اسألكَ قليلاً من كثير، مع حاجة بي اليه عظيمة، وغناكَ عنه قديمٌ، وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير، اللهم ان عفوكَ عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي، وصَفحَك عن ظُلمي، وسترَكَ على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جُرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، اطمعني في ان اسألك ما لا استوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، واريتني من قُدرتك، وعرّفتني من اجابتك، فصرت ادعوك امناً، واسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدِلاً عليك فيما قصدْتُ فيه اليك، فان ابطأ عني عتبتُ بجهلي عليك، ولعل الذي ابطأ عني، هو خير لي لعِلمِك بعاقبة الامور»

«الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده، الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً، انه هو العزيز الوهاب»

كيف تنقص خزائنه بكثرة العطاء، بل ولا تزيده إلا جوداً وكرماً؟

الجواب: ان عطاء الله سبحانه وتعالى انما هو من خزائن لا تنفذ، ان خزائن الله عظيمة وكبيرة ولا نفاذ لها، لان خزائن الله، ورحمته، ونعمه انما هي من كلمةواحدة: (كن) فيكون، ان الله تبارك وتعالى يخلق بكلمة (كن) واحدة، ملايين الكرات وملايين المجرات، فكيف تنفذ خزيتنه من كانت قدرته بهذه السعة؟

إلا ان الامر هو ابعد من هذا الواقع بكثير، اذ ان كثرة العطاء من قبل الله، ليس فقط لا تنقص خزائنه، بل وتزيده جوداً وكرماً.

فالله يهب للإنسان العقل، والإنسان يعرف بعقله ربه فيدعوه، فيزيده الله من فضله ويعطيه الايمان، فاذا زُوِّد بالعقل والايمان، يعرف ان رحمة الله واسعة، وفضله عميم فيدعوه، فيزيده اليقين، ثم يدعو فيدخله الجنة، ثم يدعو فيرفعه الله الى درجة الرضوان، فنعم الله متسلسلة، وكلما اعطى نعمة استتبعها بنعمة أخرى،وهكذا نرى ان كثرة العطاء تزيد الله كرماً وجوداً وعطاءاً، لذلك فلو اعطانا الله نعمة واحدة، فلا يجوز لنا ان نيأس، بل علينا ان ننتظر نعماً أخرى تتلاحق بعدها.

إذ ان عطاء الله الكثير لا يعني ان ربنا سيصبح بخيلاً سبحانه وتعالى عن ذلك، فعطاؤه لا محدود، وجوده لا يقف عند حد.

ان الله يخاطب رسوله محمداً (ص) الذي جعله من اشرف الخلائق اجمعين وفضله على الانبياء والمرسلين واعطاه ما لم يعط احداً من النعم والشرف والذكر الحسن، حتى قرن اسمه باسمه، يخاطبه قائلاً:

*ومن الليل فتهجّد به نافلة لك، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً*

(79/الاسراء)

ويقول له أيضاً:

*وقل ربِّ زدني علماً*

(114/طه)

وهذا يعني: حتى رسول الله الذي اعطاه الله هذه النعم الكثيرة، مع ذلك لا يقول له ربه: كفى، بل يحثه على الدعاء والسؤال حتى يزيده الله من فضله وعطائه، فالله اذن: (لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً..)

أتدري من هو البخيل العاجز الفقير؟

أنه.. نحن، اذا وقف الواحد منا بجانب البحر، ولكنه لم يأخذ شيئاً من الماء، فهل يكون البحر بخيلاً؟ اذا وقف العطشان على شاطئ النهر، ولكنه لم يمد يده ليغترف غرفة ويروي بها ظمأه، فمن هو البخيل: النهر الجاري، ام هذا الإنسان؟

والإنسان الذي لا يطلب الفضل والنعمة من الله، هو البخيل.

اما رب الرحمة فهو واسع العطاء، ولا حدود لجوده وكرمه، فالله يقول: ادعوني استجب لكم.. ولكن الإنسان يبخل بهذا الدعاء، فيُحرم نفسه من عطاء ربه.

وهكذا كلما كان تطلع الإنسان ابعد، وهمته ارفع، كلما استوعب رحمة الله سبحانه وتعالى اكثر، ولذلك فان على الإنسان ان يستغل اوقات الدعاء: ليالي الجمعة، شهر رمضان المبارك، وفي الاسحار، ليمد يده لرحمة الله ولبحر جوده، وان لا يطلب من الله اشياءاً تافهة وبسيطة، بل عليه ان يطلب كلما عظم من الامور، ليس لنفسه فحسب، وانما لاخوانه المؤمنين ايضاً، ومن هنا يقول الفقهاء انه يستحب في صلاة الليل ان يدعو الإنسان لاربعين مؤمناً: (من قدم اربعين مؤمناً، واستغفر لهم ثم دعى لنفسه يستجيب الله دعاءه فيهم وفي نفسه..)«5»، فالله تعالى كريم، ويبقى على الإنسان ان يكون كريماً ـ أيضاً ـ حينما يدعو ربه، ويطلب منه: (ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً انه هو العزيز الوهاب) انه القوي القادر المهيمن وهو (الوهاب) الذي لا تنقطع هباته اللامتناهية عن عباده.

بعد سرد هذه المجموعة من النعوت الفاضلة والاسماء الحسنى لله، نواصل الدعاء ونقول:

«اللهم اني أسألك قليلاً من كثير مع حاجة بي اليه عظيمة، وغناك عنه قديم، وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير..»

ان ما يطلبه الإنسان من الله مهما كان عظيماً وهاماً في تصوره، إلا انه قليل جداً اذا قيس بملكوت الله وجبروته وقدرته اللامحدودة، ويستطيع الواحد منا ان يعرف هذه الحقيقة من خلال المعادلة التالية: انني واحد من اربعة آلاف مليون بشر يعيشون على وجه الكرة الارضية، وقد عاش قبلهم وسيعيش بعدهم الوف الملايين، ثم ان هذه الارض اذا قيست الى المجرة التي نحن فيها، فانها تشبه الذرة التائهة في صحراء واسعة، والمجرة التي نحن فيها بالنسبة الى سائر المجرات التي نعرفها هي الأخرى كالذرة التائهة في الفضاء اللامتناهي. واما الكون الذي نعرفه، فهو بالنسبة الى رحمة الله يعتبر اصغر من الذرة التائهة، اذن فكل ما نطلبه من الله العلي القدير من المغفرة، والرحمة والعافية، والرزق والفلاح، فهو شيء قليل جداً من بحر جوده اللامتناهي، ولكن بالرغم من تفاهة طلباتنا وصغر حجمها بالنسبة الى رحمة الله الواسعة، فان حاجتنا اليها شديدة: (مع حاجة بي اليه عظيمة) ان حاجتنا نحن الى رحمة الله عظيمة لانه لا نحصل على احد سواه نسأله من رحمته، كما لا يمكننا ان نتحمل عذاب الله وهجرانه وغضبه ان لم يغفر لنا: (وغناك عنه قديم) فكل ما يحتاج اليه الإنسان، فان الله غني عنه.. فيارب انت غني عني وعن عذابي، فلماذا تعذبني؟

انك لا تنقصك المغفرة فلماذا لا تغفر لي؟ وهذه هي لغة الالحاح في الدعاء، وعلى الإنسان العاجز الضعيف ان يطلب دائماً من ربه بالحاح واصرار، لانه هو المحتاج الى عطاء ربه، (وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير) ان ما نطلبه من الله كثير عندنا، إلا انه عند الله سهل ويسير، فحينما خلق الله سبحانه وتعالى السموات والارض بكلمة واحدة وقال لها: كن، هل اصابه تعب أو لغوب؟ كلا.. ان ربنا سبحانه وتعالى اعز واعلى من ان يعتريه تعب أو لغوب، وكذلك الامر بالنسبة الى الاستجابة لدعواتنا، فانها اسهل وايسر من كل شيء على الله سبحانه وتعالى.

«اللهم ان عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، اطمعني في ان اسألك ما لا استوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك، واريتني من قدرتك، وعرفتني من اجابتك..»

ان اهم حاجة للإنسان هو ان يرفع الحواجز بينه وبين الله، وان الحاجز الرئيسي بين الإنسان وبين ربه هو حاجز الذنوب، فالله لا يحتجب خلقه إلا ان تحجبهم الذنوب دونه، اذن فان السؤال الاول هو ان يعفو الله من ذنوبنا، ويتجاوز عن خطيئاتنا، ويصفح عن ظلمنا، ويستر على قبيح اعمالنا، ويحلم عن جرائمنا الكثيرة، والله تعالى يستجيب لنا في كل ذلك ويغمرنا برحمته الواسعة، ولطفه العميم، وهذه الرحمة هي التي تجعلنا نسأل الله اكثر.. فاكثر.. ونمد اليه ايدينا، اننا اذنبنا ذنوباً كثيرة، ولكن الله لم يؤاخذنا بها، ولم يعذبنا بالرغم من استمرارنا على الذنوب، بل العكس هو الصحيح اذ لا تزال رحمته تشملنا من كل جهة ويزيدنا من نعمه، ويلوح لنا بالمغفرة، ويدعونا للتوبة والعودة اليه مهما اذنبنا واخطأنا.

ان هذه الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى تشجعنا على ان نذهب الى بابه ونسأله مع ان وجوهنا مسودة بالذنوب، لكن وجهه الكريم هو الذي يجعلنا نسأله سبحانه وتعالى.

ان الله خلق العباد ليرحمهم لا ليعذبهم: (سبحان من لا يعتدي على اهل مملكته، سبحان من لا يؤاخذ اهل الارض بالوان العذاب)، (اللهم ان عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي وصفحك عن ظلمي وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي اطمعني..) كل هذه النعم المتتالية تجعلني اطمع: (في ان اسألك ما لا استوجبه منك)، كل تلك التي جعلتني انا الفقير الذي لا أستوجب رحمتك، ان اطرق بابك واسألك من رحمتك الواسعة، (الذي رزقتني من رحمتك واريتني من قدرتك ، وعرفتني من اجابتك) فكم من المرات، ييأس الإنسان من الحياة، ويعجز عن حل مشاكله، إلا انه باللجوء الى الله، والطلب منه، تتفتح عليه ابواب رحمة الله، ويريه من قدرته ليزداد ايماناً، ويعرّفه من اجابته لكي لا ييأس بعد ذلك من شيء، ويعتمد على الله في حل مشاكله.

«فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك، فان أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور»

حينما يرتكب الإنسان خطأ تجاه صديقه، أو من هو اكبر منه في أي مجال من مجالات الحياة، ويحاول ان يعتذر عن ذلك الخطأ، تنتابه حالة من القلق: هل سيقبل الطرف الآخر عذره، ان انه سيرده على اعقابه؟ إلا اننا بازاء الله سبحانه وتعالى، وبالرغم من كل ذنوبنا، واخطائنا، ومعاصينا، لا نعيش هذا القلق، بل ندعوه وقلوبنا مطمئنة، ونسأله المغفرة ونحن نشعر بالامن: (فصرت ادعوك آمناً وأسألك مستأنساً) ولكن بالاضافة الى حالة الاطمئنان والامن القلبي، فانني (مستأنس) أيضاً، لانني اعرف انني مُقبل على مناهل رحمة الله وينابيع عفوه ومغفرته، وسوف ارتوي منها بكل راحة واُنس (لا خائفاً ولا وجلاً)، فما دمت ادعو الرب الرحيم الذي يحب عباده فلا داعي للخوف والوجل، إلا ان الإنسان المذنب المقصر يذهب ابعد من هذا: (مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك) فهو يتدلل على ربه، ولكن كيف؟

(فان أبطأ عني عتبت بجهلي عليك) فقد يتأخر الله في الاستجابة لدعوات الإنسان المذنب العاصي لسبب من الاسباب، فينبري بجهله وغروره معاتباً ربه: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي) فنحن لا نعرف كامل مصالحنا ولا نعرف الحكمة وراء عدم استجابة الله سبحانه وتعالى لبعض دعواتنا، فقد يطلب احدنا من ربه ان يرزقه مالاً كثيراً، أو يعطيه سلطة وحكومة، من دون ان يعرف ان المال الكثير، والسلطة تفسده وتجعله ينسى نفسه ويطغى على الآخرين وبذلك يستحق عذاب الله الشديد، اذن فقد يكون التأخر في الاستجابة لبعض دعواتنا لأجل مصلحتنا التي لا نستطيع ان نعرفها.

4ـ علاقة الإنسان.. بالله

« فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم. الحمدُ لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين. الحمدُ للهِ على حلمه بعدَ علمه، والحمدُ للهِ على عفوه بعد قدرته، والحمدُ لله على طول اناته في غضبه، وهو قادرٌ على ما يريد»

« فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك..»

ان العلاقة بين الإنسان وربه، علاقة غريبة، فبينما الإنسان هو المحتاج والفقير، والمفروض ان يكون هو الذي يسعى نحو ربه ويفتش عن الوسائل التي تقربه اليه زلفى، نجد ان العكس هو الصحيح في اكثر الاحيان، اذ ان الله تعالى هو الذي يدعو الإنسان ويتحبب اليه، بينما الإنسان يرفض الاستجابة، ويبتعد عن الله استجابة لضغوط الاهواء، والشهوات، ومتع الحياة، وهذه الفقرة من دعاء (الافتتاح) تسلط الضوء على هذه المفارقة الغريبة في علاقة الإنسان بربه:

« فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب»

بالرغم من حاجة الإنسان اليه وعبوديته له، وبالرغم من لؤمه الذي يتجلى في ارتكاب الذنوب والاصرار على المعاصي، إلا ان الله يصبر عليه وعلى ذنوبه واخطائه، فلا يوجد اصبر من الله على عباده المذنبين، والدليل على ذلك هو: (انك تدعوني فاولي عنك)، فكم يحدث ان الله تعالى يدعونا للصلاة مثلاً عبر المؤذن الذي ينادي في اوقات الفرائض: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، إلا اننا لا نستجيب، ونبقى مشغولين بالاعمال التافهة؟

فالله يدعونا ونحن نوليّ عنه.

(وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فالله يحبك ويريدك ان تحبه، يريد ان تكون بينك وبينه علاقة حب متبادلة، ورب العزة بيده كل شيء، وهو يتفضل عليك بالنعم المتواترة حتى تحبه، ويريدك ان تخضع له وتعبده، وتطيع تعاليمه حتى يحبك، إلا انك ترفض ذلك عمليا: (وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فكلما يهدي الله الينا هدايا طيبة حتى نحبه، نحن نعكس الامر ونرسل له بذنوبنا، وفي دعاء ابي حمزة الثمالي:

«ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح»

(وتتودد الي فلا أقبل مننك)، يرسل الله للإنسان رسالة الحب والود، إلا ان الإنسان لا يقبل بذلك ويردها دون ان يفتح الرسالة، والقرآن هو رسالة الله للإنسان، فكم نحن نقرأ القرآن؟

واذا قرأنا القرآن في شهر رمضان المبارك كعادة موروثة، فهل نتدبر في آياته، ام ان كل اهتمامنا ينصب على كمية الآيات والسور التي نقرأها في كل يوم؟

«كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم..»

(فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك، انك جواد كريم..)

هذا الإنسان العاجز الضعيف الذي لا يستطيع ان يواصل الحياة لحظة واحدة من دون نعم الله، وألطافه، ومن دون حب الله ووده، يرفض تحبب الله وتودده، وكأن له اليد العليا على خالق الكون، وله الفضل والطول عليه: (كأن لي التطول عليك) إلا ان هذا النوع من العلاقة السلبية التي يقيمها الإنسان بينه وبين ربه لا يمنع الله من مواصلة الرحمة والنعمة للإنسان: (فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي والاحسان الي، والتفضل علي بجودك وكرمك).

وفي دعاء ابي حمزة الثمالي ايضاً نقرأ مثل هذه الفقرات:

«الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وان كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني، وان كنت بخيلاً حين يستقرضني.. الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي لا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي.. فربي احمد شيء عندي واحق بحمدي»

وهكذا تحكم بني آدم هذه المفارقة: كلما غمره الله بلطفه ورحمته كلما رد الإنسان بالذنب والجفاء، والإنسان انما يرتكب الذنب تحت ضغط الشهوات، ووقوع الإنسان في الخطأ هو امر طبيعي، والله تعالى يغفر له ذلك.

اما الجفاء فهو أسوأ من الذنب بكثير، وهو يعني ان لا يسأل الإنسان ربه، ولا يدعوه في شيء، ولا يستغفره من ذنوبه، واذا جافى الإنسان ربه وقاطعه، فالى من يلجأ؟ وهل هناك غير الله نلتمس منه حوائجنا، ونلجأ اليه في الرخاء والشدة؟

نحن نحيا بلطف الله ورحمته، ونعيش على ارضه وتحت سمائه، وبيده كل حركاتنا وسكناتنا، فكيف اذن نقاطعه ونجافيه؟

«روي أن الحسين (ع) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ، ولا أصبر على المعصية، فعظني بموعظة، فقال (ع): أفعل خمسة أشياء واذنب ما شئت. فأول ذلك: لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني أخرج من ولاية الله واذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله واذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلتك مالك في النار فلا تدخل في النار واذنب ما شئت»(«6»)

«فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك انك جواد كريم»

وهكذا يتضرع الإنسان الى ربه طالباً رحمته، ومعترفاً بجهله، وحاجته الملحة الى فضل الله واحسانه، وبهذا التضرع ينتهي القسم الاول من دعاء الافتتاح، وكما قلنا سابقاً ان الادعية المأثورة تبدأ عادة بحمد الله وتنزيهه وتسبيحه، ثم بعد ذلك يأتي دور التضرع لله وطلب الحاجة منه، لذلك فان القسم الاول من دعاء الافتتاح إبتدأ بالحمد والثناء والتسبيح ثم انتقل الى الطلب والتضرع، وهكذا ايضاً يبتدأ القسم الثاني برحلة جديدة في الحمد والتسبيح والتنزيه، ثم ينتقل بعدئذ الى الطلب، وفي هذا القسم يبدأ الطلب بالصلاة على النبي محمد (ص) ثم الصلاة على الائمة المعصومين (ع) وفي نهاية الدعاء نجد مجموعة من الطلبات الاستراتيجية الهامة التي تتعلق بمصير الإنسان في الحياة، وبواقعه السياسي وبقضايا المواجهة مع اعداء الامة الإسلامية.

«الحمد لله مالكِ الملك، مجري الفلك، مسخرِ الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين»

ربما يكون هنالك فرق بين معرفة الله، وبين مجرد الايمان بالله، فحالة (المعرفة) هي حالة متقدمة عن الايمان، اذ ان (المعرفة) هي الرؤية القلبية المباشرة، وحالة المعرفة والعرفان هي حالة الاتصال الغيبي بين قلب الإنسان وبين رب الإنسان، فكيف تحصل حالة العرفان هذه؟ ان من وسائل الوصول الى حالة العرفان هو الايمان التفصيلي، أو تفصيلات الايمان، فنحن بصورة مجملة مؤمنون بان هذا الكون الواسع قد خلقه الله سبحانه وتعالى وانه هو الذي يدبر اموره، هذا هو الايمان، اما اذا اراد الإنسان ان يصل الى (معرفة الله) والى اتصال قلبه بالله والى درجة اليقين، فان عليه ان يفصِّل هذا الايمان المجمل، وان يتوجه الى كل جزء من مخلوقات الله في الكون ويتدبر في خلقه وصنعه، فيتدبر في خلق الله لهذا الكون، وهذه الشجرة، وهذا البستان، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه النجمة، وهذه الكرة، وهكذا.. حتى ينبعث في قلب الإنسان نور اليقين، وتغمره حالة المعرفة، ويصل الى ما وصل اليه الإمام علي (ع) الذي يقول حسب ما روي عنه:

«ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده»

فكل شيء يراه الإنسان يتجلى فيه اسم من اسماء الله سبحانه وتعالى فحينما يرى الشجرة لا يفكر في ثمرتها وقيمتها فقط، بل يفكر ايضاً في اتقان الصنع وابداع الخلق وجمال الصورة ونظام الحياة، ومن خلال اتقان الصنع يصل الإنسان الى اسم الله البديع المدبر، ومن خلال قوة ومتانة الصنع يقول: سبحان الله القوي القدير، ومن خلال تفاعل الشجرة مع الكون، يقول سبحان الله مدبر الامور، المقدر الحكيم. فاذن كل شيء يهدي الأنسان العارف الى اسم من اسماء الله، واذا عرف الإنسان ربه عبر اسمائه الحسنى سبحانه، فانه يزداد تألقاً في سماء الايمان كلما عرف اسماً جديداً من اسماء الله عزوجل، ويرتقي درجة جديدة من درجات اليقين.

من هنا نجد ان القسم الثاني من (دعاء الافتتاح) يبدأ بحمد الله وثنائه مشيراً الى تفاصيل الابداع والاتقان في الخلق، في محاولة لدفع الإنسان المؤمن الى المزيد من التدبر والتفكر في صنع الله ليكسب المزيد من اليقين والمعرفة: (الحمد لله مالك الملك) فالملك كله لله: (مجري الفلك) ان كل شيء في هذا الكون يجري ويدور، فالارض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، والشمس بذاتها تدور وتتحرك والكرات كلها في حالة دوران مستمر فمن الذي يجريها ويحركها؟ هو الله سباحنه وتعالى! هذا هو احد المعاني لجريان الفلك، اما المعنى الآخر فهو: السفينة، فالله تعالى هو الذي يجريها وسط البحار المتلاطمة بواسطة القوانين الطبيعية التي وضعها رب العالمين: (مسخر الرياح) اننا نعرف بان حركة الرياح انما هي بسبب تحولات تحدث في الشمس، فالرياح تحدث في الارض اذا حدث انفجار ما في عمق الشمس، ولكن الامر هو ابعد وادق من ذلك، فالرياح تتحرك بانتظام دقيق، وهي التي تدير الكثير من شؤون الكون، والرياح مثل رسل الله سبحانه وتعالى، تلقح الاشجار وتكشف السحب وتغير الهواء وتجري السفن في اعالي البحار ومئات العمليات الأخرى التي تقوم بها الرياح، فمن الذي ينظمها ويهديها ويحركها غير الله سبحانه وتعالى؟ وبعض الرياح تكون رياح عذاب حينما تهب على القرية المذنبة وتبيدها عن آخرها، بينما القرية القريبة منها تكون بعيدة عن تأثيرات الرياح، ان الرياح لا تعقل شيئاً، فمن الذي يوجهها، ويحركها حسب مصلحة معينة غير الله تعالى؟

(فالق الاصباح) وهو الذي فلق الصبح وجعله ينفجر من ضمير الظلام الدامس لتتنفس الحياة، وتدور عجلة البشرية في نشاط دائب، (ديان الدين رب العالمين) والله هو الذي يعطي جزاء الناس ويحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة، لانه رب العالمين.

«الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول انانه في غضبه وهو قادر على ما يريد..»

في هذه الفقرة من الدعاء نجد مظاهر أخرى من المفارقة السابقة التي ذكرناها في علاقة الإنسان بربه، فالله تعالى يحلم عن الإنسان المذنب العاصي بالرغم من علمه بكل ذلك، فانت قد تغتاب شخصاً لا يسمعك، ولكن الله يراك ويسمعك، وما من ذنب يرتكبه الإنسان إلا ويراقبه الله ويراه، جاء في حديث شريف ان ابراهيم النبي عليه الصلاة والسلام اراه الله ملكوت السموات والارض وكشف عن بصره الغطاء، فرأى كل ما يدور من احداث: رأى رجلاً يزني بامرأة في مكان ما، وآخر يسرق من بيت ما، وثالث يعتدي على صاحبه ويقتله، وهكذا مجموعة كبيرة من الذنوب والمعاصي، وكان النبي يرى كل ذلك ويملأه العجب، وهو نبي معصوم ويخشى الله سبحانه وتعالى، ويعرف الله حق معرفته.

عن رسول الله (ص) قال:

«إن ابراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي* وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* قوى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلاً وأمرأة على فاحشة، فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما فهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى الله اليه:

يا إبراهيم إكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فاني انا الغفور الرحيم، الجبار الحليم، لا تضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم، ولست اسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي فانما انت عبد نذير، لا شريك في المملكة، ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: اما تابوا اليّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم، وسترت عيوبهم، واما كففت عنهم عذابي لعلمي بانه سيخرج من اصلابهم ذريات مؤمنون، فارفق بالآباء الكافرين، وأتأنى بالامهات الكافرات، وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من اصلابهم، فاذا تزايلوا حق بهم عذابي، وحاق بهم بلائي، وان لم يكن هذا ولا هذا فان الذي اعددته لهم من عذابي اعظم مما تريدهم به، فان عذابي لعبادي علي حسب جلالي وكبريائي..

يا ابراهيم فخلّ بيني وبين عبادي فاني ارحم بهم منك، وخلّ بيني وبين عبادي فاني أنا الجبار الحليم، العلام الحكيم، ادبرهم بعلمي، وأنفذ فيهم قضائي وقدري»«7»

وهكذا نجد ان الله تعالى يحلم عن عباده بعد علمه بكل معاصيهم، وهو قادر على ان ياخذهم إلا انه يعفو عنهم (الحمد لله على عفوه بعد قدرته)، وكذلك يصبر الله طويلاً على عبده ولا ينزل عليه غضبه، فقد يمهل الله انساناً عشرات السنين وهو سادر في الذنوب والمعاصي لعله يهتدي في النهاية ويعود إلى رشده (والحمد لله على طول أناته في غضبه) كل ذلك (وهو قادر على ما يريد) ولان الله يعفو، ويحلم ويصبر على المذنبين بالرغم من قدرته وجبروته، كان العفو، والحلم، والصبر من اسمائه الحسنى.

5 ـ الدعاء ومعالجة الغيب والشهود

« الحمدُ لله خالقِ الخلق، باسط الرزق، فالقِ الاصباح، ذي الجلال والاكرام، والفضل والانعام، الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُبَ فشهِد النجوى.. تبارَك وتعالى، الحمدُ لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده، قهر بعزَّته الاعزاء، وتواضع لعظمته العظماء، فبلغَ بقدرته ما يشاء..»

[الحمدُ لله خالقِ الخلق، باسط الرزق، فالقِ الاصباح، ذي الجلال والاكرام، والفضل والانعام، الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُبَ فشهِد النجوى.. تبارَك وتعالى]

ان التأمل في هذه الفقرة من الدعاء يصل بنا إلى عدة افكار من ابرزها ما يلي:


/ 5