المبحث الثاني طبيعة البناء: حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء
النصّ الأوّل : «ألا ترون أنّ الله
سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا
العالم بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ،
فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً»!
النصّ الثاني : «ولو كان الأساس
المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدة خضراء ،
وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في
الصدور ، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب
من الناس .
ولكنّ الله
يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم
بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في
نفوسهم ، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذُلُلا
لعفوه» .
في هذين
النصّين الرائعين يرسم أمير المؤمنين سرَّ طبيعة بناء الكعبة المتواضع
المتكوّن من أحجار جامدة ، ينظرُ إليها الناظر فيراها لا تمتلك شعوراً
ولا إحساساً . . فلا بصر ولا سمع ، ولا ضرّ ولا
نفع . . ومع كلّ ذلك يسعى الحجيج للطواف حولها بكلِّ خشوع واستكانة
وخضوع . بل نراهم (يتقاتلون) على استلام الحجر الأسود والسلام عليه
ومعاهدته!! وهو لا يملك بريق الزمرّد ، وتلألأ
الياقوت . .
وفي ذلك سرٌّ
كبير يكشفه لنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة . .
لأنّ البناء لو كان من «زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور
وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس في
القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من الناس» .
ما معنى ذلك؟ وكيف يحصل كلُّ ذلك؟
لقد أراد الله
عزّوجلّ أنْ يكون القصد لبيته الحرام نابعاً من معاناة ووعي وإيمان ،
خالصاً من الدوافع المادّية العاجلة . . ولو كان البيت من تلك
الأحجار النفيسة (الزمرّد والياقوت) :
أوّلا : «لخفّف ذلك مصارعة12
الشكّ في الصدور» ، لأنّ نفاسة تلك الأحجار هي التي تدفعهم إلى التصديق
والاعتقاد بأنَّ البيت بيته ، كما تدفعهم إلى الطواف
حولها .
ثانياً : «ولوضع مجاهدة إبليس في
القلوب» ، لأنَّ قصد البيت وزيارته تكون من منطلق الانبهار
بجواهره ، والتأثّر بدرره ونفاسة أحجاره ، والتمتّع برؤية زينته
ومنظره ، وليس من منطلق مجاهدة إبليس الداعي إلى التخلّف عن حجّه وإيثار
الدعة والسلامة على قصده .
ثالثاً : «ولنفى معتلج الرَّيب من
الناس» ، أي لزال تلاطم واضطراب الريب والشكّ من صدور
الناس .
إشكاليّة ابن أبي العوجاء
:
لو لم يكن
البيت من أحجار عادّية لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني
للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية : «من الأوّلين من لدن آدم(عليه
السلام) إلى الآخرين من هذا العالم» ، حيث تنجلي قصّة العبودية لله
عزّوجلّ ، والطاعة لأوامره فيما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم
قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا
يمارسها إلاّ الذين اختلّت عقولهم . . فما قيمة الطواف حول بيت من
حجارة صمّاء ، والسعي بين جبلين صلدين ، والرجم لأحجار كبيرة
بأحجار صغيرة ، واستلام حجر أسود كالفحم ، وما إلى ذلك من المناسك
والممارسات؟
وهذا النمط من
التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة(عليهم السلام) من أمثال ابن أبي
العوجاء ، فخاطب الإمام الصادق(عليه السلام) قائلا :
«إلى كم تدوسون
هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع
بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ، من فكر في
هذا أو قدّر ، علم أنَّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي
نظر» .
ثمّ خاطب
الإمام قائلا :
«فقل فإنّك رأس
هذا الأمر وسنامه وأبوك أسّه ونظامه؟»
فأجابه
الإمام(عليه السلام) قائلا :
إنَّ من أضلّه
الله وأعمى قلبه استوخم الحقّ ، فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه ،
يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره» .
«وهذا بيت
استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه
وزيارته ، وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة المصلّين ، فهو شعبة من
رضوانه وطريق يؤدِّي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ،
ومجتمع العظمة والجلال . .»13 .
فقد أكّد
الإمام في المقطع الأوّل من جوابه على مدى ضلال تلك النظرة ، وعمى قلب
صاحبها ، ممّا تجعله يستوخم الحقّ ، ولا يدرك مدى دلالات وإيحاءات
تلك المناسك المشحونة بالدلالات والإيحاءات .
وأعطى في
المقطع الثاني بعضاً منها ، كان أوّلها استعباد الله خلقه بهذا البيت
«ليختبر طاعتهم في إتيانه» .
وهكذا نلتقي
بمقصد الابتلاء والاختبار الذي أكّدته خطبة القاصعة : «ألا ترون أنَّ
الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من
هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع . . .» .