<a name=aaa71> </a> تساؤلات .. - نبی محمد قدوة الصدیقین نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی محمد قدوة الصدیقین - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



... وعاد الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) الى مكة ؛ ولكن دون حماية من عمه الرؤوف أبي طالب ، بل تحت حماية أعدى أعدائه أبي لهب الذي انتهت زعامة بني هاشم إليه آنذاك . ابو لهب الذي كان يبتدع الأساليب الشيطانية لايذاء الرسول الأكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) ، وكان حريصا كل الحرص على تشويه سمعة الرسول وتوجيه التهم اليه في اوساط القبائل والعشائر القادمة الى مكة واسواقها ومشاعرها ، ولقد كان يمشي وراء الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) كظله .. كلما مشى الى وفد من الوفود داعياً إياهم الى الاسلام والتصديق به ، فكان ابو لهب يأتي الوفد منهم قائلا : ان هذا ابن أخي وانا عمه وهو كذا وكذا ، وينسب اليه التهم الرخيصة. ووصل به الأمر ان فوض الأمر لمشركي قريش لان يدبروا مؤامرتهم الجديدة التي تستهدف حياة الرسول (صلى اللـه عليه وآله) ونفسه ، على ان يضيع دمه الشريف بين القبائل العربية من قريش وحلفائها .

لحظة الوداع المقدسة :

هنا ؛ كانت لحظة الوداع ، بعد ان عهد الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) الى الامام علي ( عليه السلام ) ان يبيت في فراشه ومضى الى سبيله باتجاه المدينة ، باتجاه إقامة الدولة الاسلامية ، وفتح صفحة جديدة من صفحات التحدي والجهاد .

وحينما وصل ( صلى اللـه عليه وآله ) الى تلك القمة ووقعت نظرته الشريفة على بيت اللـه الحرام وما حوته أركانه الشريفة من سني الجهاد المضني لثلاثة عشر عاماً ، دمعت عيناه وأثقلت الهموم برمتها على قلبه الطاهر . فما كان من الوحي إلاّ ان نزل عليه بـ «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ » (القصص / 85)

اي ان ثم عودة الى مدينتك مكللا بالنصر بالعزة . وإذ ذاك اطمأنت نفس رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) فترك مكة ميمما وجهه شطر المدينة المنورة . فكانت مراحل تأسيس الدولة الاسلامية العظيمة بما تعني من سن القوانين وتنفيذها ، وما تعني من جهاد قل ان شهد التأريخ له مثيلاً . فمن تربية المؤمنين وتهذيب انفسهم وسلوكياتهم حتى خوض الغزوة تلو الغزوة الى الوقوف بوجه المنافقين الذين كان خطرهم على وجه الحتم أشد وأعتى من خطر اعداء ماوراء الحدود .

وعلى أية حال ، فان الباحث والمهتم بشؤون سيرة المصطفى (صلى اللـه عليه وآله ) لايقف عند حدث حتى تأخذ بلبه أحداث اخرى ، ولا يتابع نقطة معينة في هذه السيرة المباركة حتى تستهويه نقاط غيرها ، قد تكون بدورها اشد الحاحا لإضفاء مزيد من الأضواء عليها .

تساؤلات ..

والآن يمكننا القول بان ثم تساؤلات كبيرة تفرض نفسها علينا في هذا الاطار ، ولعل الإجابة عليها تدلنا على السر الأول الذي مكّن الرسول الأكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) لأن يكون الرجل الصالح الأول على مر التأريخ ؟ وان يكون قائدا للأمة الوسط ، وبانيا لحضارة القبائل العربية المتناحرة ؛ الغارقة في ظلمات الجهل والشرك والخوف والسيف والاغتيال والثأر .. وكيف تحولت هذه القبائل الجاهلة الى أمة اسلامية - بقيادة هذا الرسول الفذ - ذات حضارة عريقة لانــزال نحن المسلمين ، بل وغير المسلمين من الأمم الأخرى ننعم بظلها بما تمثل من عمق فكري وعلمي وادبي و.. و .. ، وماذا كانت لدى الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) من وسائل في عملية بنائه الصرح الاسلامي ؟ ونحن الآن بعد ما يزيد على الف واربعمائة عام ماذا يتوجب علينا ان نقوم به حتى نعيد تلك الأمجاد ، ونعود الى تلك الحضارة التليدة والتي كان الحاكم يخاطب الغمام : إمطري .. شرقي غربي فخراجك يأتيني ؟

ان هذا سؤالاً أو اسئلة لابد من العثور على اجوبة لها لنتمكن بذلك من ان ننقذ انفسنا من هذا الواقع المتخلف ونذهب بها الى واقع آخر .

ركائز العمل القيادي :

هناك ثلاثة ركائز اساسية استطاع الرسول القائد ( صلى اللـه عليه وآله ) عبرها ان يغير وجه التأريخ ، وكلما اردنا ان نعيد الأمجاد الماضية لابد من الالتجاء اليها باعتبار ان معرفتها واستفادة العبر منها تمثل الدواء الناجع لما نصبوا إليه .

اسقاط حجبالشرك :

الركيزة الأولى : إن النبي الأعظم ( صلى اللـه عليه وآله ) استطاع

بحكمته البالغة ان ينشر القرآن وتعاليمه القيمة وأن يسقط حجب الشرك عن البشرية .

فالانسان بذاته ووجدانه موجود الهي ورباني مفطور على الايمان والتسليم بوحدانية اللـه تبارك وتعالى . وهذه الفطرة تدعو الانسان الى تحمل المسؤولية في الحياة ، وتدعوه الى النشاط والحيوية ، إلاّ أن حجب الشرك تتكالب عليه لتمنعه من الاشراق والتوحيد الذي هو رأس امارات الحياة والوجود لديه . فالانسان في واقع الأمر يعيش صراعاً داخلياً مريراً ؛ متعدد الصور والأشكال ؛ متفاوت الدرجات ، سواء اعترف بوجود هذا الصراع او اصر على إنكاره . فالمرء بطبيعته عابد لله تعالى متشرف بالخضوع اليه ؛ وبفعل تآمر النفس ووساوس الشيطان وعصرات الزمن يتحول عبداً لعبد آخر او صنم او غير ذلك من الآلهة المزيفة ! فالبعض من القوم كان يعبد التمر ، والآخرون كانوا اذا مروا على صخرة تتمثل فيها صورة انسان أو حيوان او ما يشبههما باتفاق الصدفة فانهم يتوقفون عندها ويعتقدونها إلها من دون اللـه سبحانه . إن هذه الحال تعد الذروة في الفراغ الفكري والعقيدي ، وليس ذلك إلا نتيجة من نتائج الخضوع لحجب الشرك .

فالنبي المصطفى ( صلى اللـه عليه وآله ) واجه واقعاً مريراً كهذا الواقع ، وبفضل وتوجيه الآيات القرآنية الكريمة ، وبالعمل على انتزاع داعي الشرك هذا تحول الانسان في الجزيرة العربية الذي لم يكن غير كتلة من الركود والقيود والاسر ؛ تحول الى شعلة من النشاط والحيوية والفاعلية .

إذن ؛ فالداعي الدافع الذي يتجسد في رغبة بني البشر في التملص من المسؤولية الملقاة على عاتقه بالفطرة ، المسؤولية التي يعبر عنها القرآن المجيد بـ " الأمانة " التي عرضت على السماوات والأرضين والجبال فأبين ان يحملنها ، الأمانة التي هي اثقل من النماذج - آنفة الذكر - على قلب الانسان الذي يحاول التهرب من حملها ، فتراه يتوسل بالشركاء والآلهة المزعومة من دون اللـه تعالى . فهو قيد نفسه ومصيره بالاعتقاد الأجوف بأن الخشب أو التمر أو الحجارة أو رئيس القبيلة سيقربه من اللـه زلفى وينقذه من نار جهنم ، وهو في ذلك ما يخدع إلاّ نفسه .

إن التاريخ يشير الى ان الازمة البشرية في هذا الإطار لم تكن أزمة عقلية او ذهنية . فالفكر والتفكير بابسط انواعه وتركيباته يؤكد للانسان ان الصنم - الحجارة - لا يضر ولا ينفع . بل إن ازمة بني الانسان التاريخية لاتعدو كونها أزمة نفسية . وهذه الازمة هي التي أودت بالناس لأن تعبد الاصنام ولاتزال تتوسل بالأوهام والتمنيات على اشكالها العديدة .

لقــد جاء القرآن ؛ وجاءت سيرة الرسول ( صلى اللـه عليه وآله )

لتحذر الانسان من ان هذه الأصنام ليست لاتنفع ولا تضر فحسب ، وانما تهوي به الى النار حيث المصير ذي الاهوال الخالدة إلا ان يشاء اللـه . كما صرح اللـه تعالى في القرآن بان الاموال والأولاد والحسب والنسب الى زيد أو عمرو ليست ميزانا يعتمد لتحديد المصير الموعود .

وما أروع صراحة الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) مع الناس اذ كان يوجههم نحو تحمل مسؤولياتهم الموكولة بهم . لقد أعلن لهم بكل بساطة ووضوح ان الايمان لا ولن يدرك بالتمني ولكنه وقر في القلب يصدقه عمل الأركان ، والايمان من دون اقترانه بالعمل الصالح ليس إلا كذبة تافهة . والقرآن الكريم لم يحثنا على الايمان إلا ويحثنا على العمل الصالح . ولقد ضرب لنا الأمثلة المتنوعة على ذلك ، وذكر قصص أسلافنا من الناس ليوضح في طياتها محاسن اقتران الايمان بالعمل الصالح ، وليوضح ايضا الصورة المضادة لذلك .

كلكم مسؤول :

وعلى العموم ، فان القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) اسقطا حجب الشرك عن اعين الناس ؛ فإذا بهم يواجهـون مسؤولياتهم بشكل مباشر . وحينما قال لهم نبيهم ( صلى

اللـه عليه وآله ) : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " [31] .

تجلت الانسانية في ضمائرهم وحركاتهم ، وتحول اولئك الجامدون الساكنون ، اولئك الناس الذين يحترفون تضييع أعمارهم في اللـهو والصيد والخرافات ، تحولوا الى أمة حيّة فاعلة ، واصبحوا رقماً يحسب له سكان الأرض جميعاً حسابه . وقد وصف امامنا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) بعض أصحاب الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) قائلا : " كانوا واللـه رهبان الليل وفرسان النهار " . ان هؤلاء صنعهم الرسول المصطفى بفضل إزاحة حجب الشرك التي في مقدمتها دحض التمنيات والأماني .

ولم يوجه القرآن الكريم النصح للمسلمين فحسب ، وانما توجه بالخطاب الى أهل الكتاب الذين كانوا يستحلون الخضوع للأوهام القائلة بان مجرد الانتماء الى دينهم كاف لهم عن السقوط في جهنم ، وتؤكد الآية المباركة بـ « إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللـه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » ( المائدة / 69 )

تؤكــد ان شرط الخـلاص هو الايمــان والعمل الصالح . فبمجرد

ادعاء أحد ما انتماءه الى الاسلام أو اليهودية أو النصرانية أو الصابئة غير جدير - البتة - لأن يكون المقياس في تحديد مصير الانسان في الدار الآخرة ، بل لعل العكس هو الصحيح ؛ باعتبار ان آحادية الإيمان قد تؤدي بالانسان الى المهلكة التي حذره اللـه منها مراراً .

المنفذ الأول الى الجنة :

أما الركيزة الثانية في ارتقاء الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) قمة القيادة - وهو القمة أبداً - فهي : إقناع الناس بان العمل الصالح هو المنقذ الوحيد . فحينما كان المسلمون ينظرون الى القرآن ويتلون آياته الكريمة كانت بصائرهم متفتحة وقلوبهم متدبرة ما تحويه ، وحينما كانوا يصلون الى قول اللـه تعالى : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ » ( الزلزلة / 7-8 ) .

كانت تتفجر كل كوامن طاقاتهم ، كانت هذه الآية ومثيلاتها باعثا على تحويلهم الى كتل من النشاط والحيوية .

ولقد جاء أحدهم رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) يوماً من البادية قائلاً : يا رسول اللـه ! انا رجل أعيش في البادية البعيدة ولا يمكنني الوصول اليكم كل حين ، وأحب ان توجز لي الدنيا كلها بكلمة واحدة حتى أعقلها .. وأعمل بها . فتلا عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِاَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ... » وعندما وصل الرسول (صلى اللـه عليه وآله ) الى هذه الآية قام الرجل قائلاً : حسبي يا رسول اللـه . مثل هذه الآية الشريفة كان يبعث الذين اتبعوا الرسول على استغلال كل لحظة من لحظات حياتهم للعمل والحيوية ، فكانت حركاتهم نضالاًمقدساً ، ولم تكن بأي شكل من الاشكال تعني السكوت والجمود واللـهو .

ووقف احد الغرباء بين يدي النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) الذي كان جالساً بين أصحابه - حيث ان من عادته ( صلى اللـه عليه وآله) أن يجلس جلسة العبد ، وما كان ما يميزه عن المحيطين به ، حيث لم يكن بمستطاع من لا يعرفه ان يميزه بمظهره عن أصحابه فإذا بالرسول يتفوه بكلمات معدودة انفض الجمع على أثرها مسرعين ؛ كل باتجاه . فقال القادم : ما بكم ؟ وماذا قال لكم هذا الرجل - النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) - ؟ ولماذا تحركتم بهذا الاسلوب واتجهتم باتجاهات مختلفة ؟ فقال قائل منهم : هذا رسول اللـه الينا ، ونحن نصدق به ونؤمن ، وقد حدثنا بحديث . فقال : فلماذا والى اين انطلقتم ؟ فقال : انطلقنا لنطبق الحديث . قــال : وكيف ؟ قال : نعمل بالحديث الأول الذي سمعناه ثـم نعود

الى الرسول لنستمع الى الحديث الثاني .

ان المسلمين في الصدر الأول للاسلام كانوا يطبقون الى حد كبير الآيات القرآنية ، والذي دعاهم الى ذلك احساسهم العميق وشعورهم الصادق وايمانهم الحق بأهمية العمل الصالح ، وكانوا على اعتقاد راسخ بان هناك يوماً آخراً لايحكم فيه سوى ميزان العمل . ولقد قرأوا حِكَم القرآن الكريم القائلة بان « وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ » ( المؤمنون / 103 ) هو الذي تحيط به خطيئته . أي ان من كان في كتابه عملاً صالحاً وسيئاً ، ورجحت كفة العمل السيء - والعياذ باللـه - فانه كان كمن لم يكن له عمل صالح حيث تلم به خطوب الخطايا من كل حدب وصوب .

ان هذه البصيرة وهذا الوعي كانا يدفعان بالمؤمن آنذاك الى الاستزادة من اعماله الصالحة ، وهو كان على يقين من أمره بان كلمة مقدسة واحدة ينطقها من شأنها ان ترفع من منزلته يوم القيامة وتنقذه في أحرج المواقف .

وما أوسع رحمة اللـه سبحانه وتعالى ، حيث جعل للمؤمنين سبلاً لاتحصى لممارسة عمل الخير والصلاح . ولقد فتح اللـه لنا اسباب الايمان والعمل الخير في انفسنا ، وكان ذلك ان يقرر الشيطان اللعين القعود لنا عند الصراط المستقيم .

وتحضرني رؤيا أحد المؤمنين الذي توفي أبوه ورآه في المنام ، اذ

سأله عما كان من مصيره في عالم البرزخ والحساب الأول . فأجابه الأب : بعد وفاتي جاؤوا بالميزان ووضعت أعمالي الصالحة في كفة والأعمال الأخرى في الكفة المقابلة فرجحت كفة أعمالي السيئة على الأعمال الصالحة ، وهناك كلما استعطفتهم بارجاعي الى الحياة الدنيا لم يكن ندائي ذا وقع عليهم ؛ وحتى كدت ان اخسر الميزان ، اذا بملك من الملائكة استوقف من أمر بسوقي الى جهنم قائلاً : هناك عمل من أعمال هذا الرجل ما وضعناها في ميزانه . ثم كشف عما كان في قبضته ، حيث كانت حفنة من تراب ووضعها في الميزان في كفة الحسنات فاذا بها ترجح على كفة سيئاتي وصرت من أهل الجنة . فسألت هذا الملك الكريم عن قصة حفنة التراب التي كنت نسيتها . فقال : في يوم من الايام كنت تشيع مؤمنا عند قبره ثم أهلت هذه الحفنة من التراب بعد دفنه ، ويأبى اللـه أن يذهب عملك الصالح هذا سداً .

وعلى الطرف النقيض من ذلك هناك الاعمال السيئة ومما يمكن ان تلحق بالانسان الغافل عن مصيره . ولا ننسى المثل العربي المعروف " القشة التي قصمت ظهر البعير " فقد تكون هناك قشة واحدة من شأنها ان تغير من حركة الميزان باتجاه تعاستنا الابدية . ومن هنا لايجوز لنا باي حال من الأحوال ان نستهين بالعمل الصالح فنتركه ، او نستهين بالعمل السيء ونرتكبه رجاء مغفرة اللـه سبحانه .

نعم ، ان اللـه عز وجل ارحم الراحمين ، لكن لايعني ذلك انه يغفر للانسان دون ان يكون في كتابه أعمال صالحة .« إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ » (هود / 114 )

فالعمل الصالح يحول السيئات الى حسنات ، وليس السيئات تتحول بذاتها حسنات ...

لقد اصبحت القبائل الجاهلة امة ذات حضارة شماء بفعل ما كان يبعث فيها الرسول الأكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) مثل هذه العقيدة الصالحة . فكان ( صلى اللـه عليه وآله ) يتقدم المؤمنين من أصحابه في ساحات الحروب بنفس الدرجة التي كان يحثهم على التقدم في القتال ومواجهة الأعداء ، كان يتقدمهم في ممارسة العمل الصالح وتهذيب الذات وخدمة الناس بنفس الدرجة التي كان يحثهم على ذلك .

والآيات القرآنية الكريمة اكدت في غير موقع بان ذات رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) تواقة الى ان تكون الانموذج الأعلى في ممارسة ماهو خير وصلاح .

ومن هذه الآيات : « وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ( آل عمران / 121 ) .

أي انك ايها الرسول قد سبقت المؤمنين في الاستعداد الميداني لقتال أعداء اللـه ، والقيام بمهام التخطيط والاستعداد له قبل الجيش الاسلامي ، وهذا بطبيعته يمثل القمة في الايثار والجرأة والشجاعة ، حيث يعمد القائد الى تنفيذ مثل هذه المهمة . ولقد صور لنا أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) شخصية الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) و شجاعته في القتال بقوله : " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله وسلم ) فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه " [32] .

الرجل الأول في التأريخ :

كان النبي الأعظم ( صلى اللـه عليه وآله ) - وهو الانسان الأول في التاريخ - يسارع الى عمل الخيرات مبادرا الى ممارسة كل ما من شأنه ان ينعكس بالايجاب على نفسية اصحابه وتربيتهم . وحينما قرر بناء أول مسجد للمسلمين في المدينة المنورة أمر المسلمين بان يأتوا ويضعوا حجر البناء ، وكان كل مسلم يحمل حجراً واحداً وكان هو - القائد - يحمل حجرين معا ، وكلما اراد المسلمون ان يخففوا عن نفسه كان جوابه النفي ؛ مؤكداً ان القائد لابد له من الفعل المضاعف . فياترى ماذا كان بوسع الرعية الصالحة ان تتخذ من مواقف ازاء هــذا الايثار والتضحية النبوية غيـر

الاقتــداء والالتــزام ؟!

الاستقامة ثم الاستقامة :

أما الركيزة الثالثة التي اعتمدها الرسول المصطفى محمد ( صلى اللـه عليه وآله ) في بعث المسلمين على ان يكونوا أمة صالحة فهي: تمسكه بمبدأ الصبر والاستقامة وحثهم على الالتزام به . وقد جعل النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) من نفسه مثلا أعلى في هذا المضمار ؛ حتى قال : " ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت .. " [33]

وقد صرح بهذا التصريح العظيم وهو الذي « وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى » ( النجم / 3 -4 ) .

ولمزيد من التبصر بهذا الحديث النبوي الشريف لابد لنا من قراءة تأريخ الرسل والانبياء ( عليهم السلام ) وما تعرضوا له من أذى وتعذيب وتنكيل لايليق بأي حال من الأحوال بشخصياتهم ومقاماتهم الرفيعة . لكي نتعرف على عظمة الرسول وموقعه عند ربه عز وجل ، أوليس الأجر على قدر المشقة ؟! وفوق ما كان يتعرض له ( صلى اللـه عليه وآله ) من أذى جسدي ونفسي كان يؤمر بالصبر والاستقامة من قبل اللـه تعالى حتى قال يوماً : " شيبتني سورة هود " فقيل له : لماذا يا رسول اللـه ؟ قال : لآية فيها ، فاستقم كما أمرت ومن تاب معك " .

وتحدثنا السيرة النبوية الشريفة ان الرسول ( صلى اللـه عليه وآله) حينما استشهد العشرات من اصحابه البررة ومن بينهم حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) ، وفر قسم كبير اثناء وبعد انتصار المشركين في معركة احد ، واصابته ومن تبقى معه وفي مقدمتهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالبليغ من الجراح ؛ بعد كل ذلك عاد ( صلى اللـه عليه وآله ) الى المدينة - والمسافة من أحد قريبة - وحينما أخذ ينزع لامة حربه هبط عليه الأمين جبرائيل ( عليه السلام ) قائلا : يا رسول اللـه أتنزع لامة حربك والملائكة ما نزعوا لاماتهم ؟! ان اللـه سبحانه وتعالى يأمرك بأن تلحق بالمشركين ؛ انت والمجروحون معك . وقد انصاع الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) لهذا الأمر الالهي فذهب الى الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرآه وقد اثخنه ما يزيد على سبعين جرحا بليغا وكانت الدماء تنزف منهما على السواء ، فقال ( صلى اللـه عليه وآله ) : صبرا يا أبا تراب ! فقال ( عليه السلام ) يا رسول اللـه ان هذا موضع الشكر . فقاما ومعهما النخبة الخالصة من أصحاب الرسول ، وقاد بهم المعركة التي سميت بمعركة ( السويق ) حيث ألحق بالمشركين هزيمة نفسية نكراء ، لم يتذوقوا بعدها طعم الانتصار أبداً .

بهذه الآيات من الصبر والاستقامة والصمود تمكن النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) من خلق الأمة التي كانت حتى وقت قريب من ذلك العهد ميداناً للتناحر والبغضاء والهزيمة والخنوع .

دورة التأريخ :

... والآن عاد علينا التأريخ الجاهلي بدورته أو أعدناه نحن على أنفسنا ، ذاك وهذا التأريخ المخزي حيث تداعت وتتداعى علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على القصعة ، كنا قبل الاسلام وصرنا الآن مجرد مواد خام وإمكانات واسواقاً وساحات لاستعراض السيطرة الأجنبية نتوجه حيث يريد لنا أعداؤنا . حل بنا كل ذلك بعد ان تركنا نهج الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) وما رسمه لنا من برنامج حياة حرة . واذ احرر هذه السطور فانه يسقط طفلان من الجوع كل دقيقة في العراق جراء الحصار المفروض على الشعب دون حكومته الظالمة ، وفي البوسنة هناك مئات الآلاف من القتلى وعشرات الآلاف من النساء ذهبن ضحيات الاعتداء والاغتصاب ، وفي جمهورية الشيشان يتعرض الناس الى ابشع انواع التصفية العرقية . بل وحتى في أفغانستان حيث يتناحر الأخوة المسلمون الذين كانوا حتى الأمس القريب يقاتلون الاحتلال السوفياتي في خندق واحد ، هذا فضل عما يتعرض له اللبنانيون المسلمون المحرومون لأطنان القذائف اليهودية ضمن محاولات ابادة الشعب الفلسطيني على طريقة الابادة القومية التي تعرض لها الهنود الحمر في اميركا حيث اصبحوا جزءا من مخلفات التأريخ الميت . هذه صورة مبسطة من واقعنا المعاش في ظل السيطرة الأجنبية علينا بعد أن تركنا التمسك بالنهج الإلهي الذي أبلغه الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) وأوصله الينا بكل أمانة وايثار .

العودة الى الجذور :

أٌقول : إننا اليوم بأمس الحاجة الى العودة الى النهج النبوي الذي عمل على تنبيه الناس ، بانه لا مفر دون اسقاط حجب الشرك عن أعينهم ، وإزاحة هذه الغشاوة الشيطانية المتمثلة في ارتكاب السيئات .

ان المفترض بنا ان ندرك بأن كل لحظة من لحظات عمرنا محسوبة علينا في كتاب اللـه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها . فالمسلم النزيه ليس لديه ثمة وقت يضيعه في مجالس اللـهـو والبطالة مثلاً ، وهو مطلوب منه على درجة عاليـة من الأهميـة . أن المسلمين على عهد رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآلـه ) كانوا كما هي خلية النحل ؛ فمن الايمان باللـه الواحد الأحد الى ممارسة العمل الصالح الذي يبدأ بقتال المشركين ويمر بتربية النفس وتهذيبها لينتهي بتحصيل العلم وفتح آفاق الحياة ، ليضمنـوا بكل ذلك الحياة الابدية والنعيم الدائم ورضوان اللـه الأكبر .

مبعث الهدى

لقد انبعث النور الالهي من جبل النور ( غار حراء ) في مثل يوم السابع والعشرين من شهر رجب الاصب ، وبدأت صفحة مشرقة وجديدة من تاريخ البشــرية .. وانّى كان عمر البشرية على وجه هذا الكوكب الارضي .. هل بلغ الاف السنين ؟! ام عشرات الالوف من السنين ؟! ام ملايين من الاعوام ؟ ، ومهما كانت الاجابة ، تبقى الحقيقة التي اجمع عليها المؤرخون وهي ، ان هناك فصلان شهدتهما حياة البشرية ؛ الفصل الاول وهو الذي سبق انبعاث الرسالة المحمدية الشريفة ، والفصل الاخر هو الذي عقب هذا الحدث العظيم .

ففي الفصل الاول لاحظت البشرية بعض التقدم والازدهار والتحول الحضاري في بعض الواحات الخضراء ، ولكن في الاغلب الاعم رافق ذلك عهود مظلمة غطت حياه البشرية من شرقها الى غربهـا . فلو القيت ببصرك آنذاك على النصف الشرقي للكرة الارضية ، والذي كان يهيمن عليه الحكم الامبراطوري الساساني الفارسي ، والذي امتد من بلاد الرافدين الى اعماق السهل الصيني تقريبا ، وكذلك الحكم الروماني البزنطي والذي امتد من بلاد الشام الى عمق القارة الاوربية ، لرأيت ما رأيت من صور العذاب والمحنة التي شهدتها البشرية .

اما لو القيت بنظرك على شبه الجزيرة العربية بمساحتها الشاسعة والمترامية الاطراف ، فلن تجد الا ظلاما دامسا وظلما وتخلفا واسعا وفوضى على كافة الاصعدة والمجالات الحياتية .. بل لم يذق العربي آنذاك طعم القانون والحرية والهناء الا ببزوغ نور الاسلام الذي سطع على وجه الجزيرة العربية .

حضارة ام فرعونية ؟!

لقد حاول ولا زال يحاول بعض الكتاب الغربيين واصحاب الفكر الالحادي المادي ان ينفخوا في رماد الحضارات البالية كالحضارة الفرعونية - ان صح اطلاق كلمة الحضارة عليها - متشبثين ببعض نقاط التقدم البسيطة التي رافقت حياة تلك الحقبة التاريخية ، متناسين فداحة الظلم وقساوة التعسف الذي قوّم اعمدة تلك الصروح الفاسدة على اساس اذلال بني البشر والنيل من كرامته المقدسة .

انهم يشيرون الى عملية تحنيط الاموات وبناء معبد الشمس ( ابي الهول ) والاهرامات الثلاثة والقصور المنيعة التي حوت مقابر الفراعنة .. على انها آثار حضــارية تستدعي التجليل والاعتزاز من قبل بني البشر ، وقد تناسوا ان هذه الاهرامات ما بنيت إلاّ على اكوام من العظام والجماجم البشرية . لقد كان الفراعنة وازلامهم يقتادون المزارعين قسراً ليبنوا مقابرهم التي اخذت بعد حين تناطح في علوها السماء ، ولكن على حساب دفن عشرات الآلاف من البشر المعذبين تحت صخورها !

اي حضارة تلك التي يموت فيها الآلاف .. الآلاف من البشر حتى تحيي مجرد ذكرى الفراعنة في قبورهم ؟ ثم اي تطور علمي حازه الفراعنة آنذاك عندما ابتكروا لأول مرة عملية تحنيط الاموات ؟! .. لقد كانوا يأتون بالمحرومين والمزارعين ويسترقوهم ثم يجوعوهم لكي ينقلوا تلك الصخور التي لم يجتمع الا المئات .. المئات لمجرد تحريك صخرة واحدة من مكانها ، وعندما يسقط هذا الانسان العبد ميتا ينزلون على جثته لكي يمتصوا دمه ويجمعون لحمه لكي يستفادوا منهما في عملية التحنيط ؟!

كسروية وقيصرية :

اما الدولــة الساسانية المجوسيــة الكسرويــة فهي الاخرى كانت

تحكمها الطبقات الغنية وقوى العسكر والجيش ، بل كانت المرأة هي السلعة المشاعة بين الجميع لكي يتلذذوا منها أنّى شاءوا ..!

اما الدولة الرومانية المسيحية القيصرية التي ورثت رسالة عيسى (عليه السلام ) فقد طالتها يد الفساد كما طالت يد التحريف على كلمات الانجيل المقدس ، وما بقيت من ركائزها الا الهيكل الشكلي لقداسة مزورة وكاذبة للحكم المسيحي والذي لا يهمه سوى الهيمنة والسلطة تحت ذريعة حكومة اللـه والمسيح !

يروي لنا التاريخ ان الرومان عندما دخلوا في معارك عديدة مع المسلمين ، اجتمعت قيادتهم العسكرية في احد الليالي وفي خيمة القائد ، وتحدثوا عن قوة المسلمين ومدى استبسالهم رغم صعوبة الطرق ووعورة الجبال والوديان التي لم يألفوها وهم تربوا وترعرعوا بالامــس في اراضي قاحلة وجرداء ، وكان حارس الخيمة يستمع الى حديثهم عند باب الخيمة ، فمد رأسه الى داخل الخيمة عندما سمع الاصوات ارتفعت ودار الجدال بقوة حول الامر ، وقال : أتأذنون لي ان اتفوه بكلمة حول سبب تقدم المسلمين في مقابل تقهقرنا ؟ .. ولكنهم اخذوا ينهروه وقالوا له : اسكت ، كيف تتدخل في شؤون القيادة . فسكت الرجل ، ثم عاد النقاش ثانية حول الامر ، فأدخل رأسه ثانية الى الخيمة وطلب منهم الحديث ، فرفضوا ذلك ونهروه ثانية .. ثم عاود في التدخل في الأمر ثالثة ورابعة ، ثم الح عليهم ، ففسحوا له لكي يتكلم ، فقال : ان الجواب على استفساركم هو لدي . قالوا : وكيف ؟! قال : الدليل على ذلك هو حالي وحال امثالي ، فقالوا : وضح ما تقصد ؟ فقال : انا كنت بالأمس في تلك القرية النائية ، وكنت اسكن مع زوجتي واطفالي واكدح في مزرعتي وبيتي وكنت املك عدداً من الابقار والشياة ، الى ان جاء جيشكم فصادر جميع اموالي وارضي وقتلوا احد اطفالي ثم اتوا بي عنوة الى هنا لكي اعمل حارساً . فأقول واتساءل : كيف استميت واستبسل من اجلكم وانا شاهدت ما شاهدت من ظلم ومفاسد ، وكيف يمكن لجنودكم ان يحملوا راية الظلم والجور ويواجهوا ويقاتلوا من يحمل لواء العدل الى العالم ؟!

وقبل ذلك شهدت بلاد الرومان فتوحات الاسكندر المقدوني الذي جاء من الغرب لكي يكتسح الشرق بجيشه ، وفعل ما فعل ضد الفقراء والمظلومين لكي يبني امجاداً زائفة له ولمن يأتي من بعده .

ظلام ونور :

لقد جاء الاسلام الى الامم والشعوب لكي يعيدها الى حضيرة المبادىء والقيم السماوية الطاهرة ، ويخرجها من اغــلالها واصرها التي كانت عليها « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » ( الجمعة / 2 ) .

لقد اجتاحت الفوضى والحروب الضروس الطاحنة بين القبائل العربية وراج سوق الشعوذة والخرافات .. لقد حكمت وتحكمت العصبية القبلية المقيتة بروح وكيان كل من سكن بادية الجزيرة العربية والتي لم تر في تاريخها اي مدنية او حضارة تذكر ، بل لم يقترب إليها فاتحوا البلاد الاخرى لتخلفها المفرط وفقر باديتها القاحلة التي لا تنبت فيها سوى الزرع القليل لملوحة الارض وفقدان الماء الكافي .

لقد صنعت هذه الصحراء الغبراء رجل الجزيرة العربية انساناً شديداً ، وفضاً غليظاً ، تتآكله الامية والجهل والخرافة والفوضى .. وشاءت القدرة الربانية ان يأتي رجل من بطن الجزيرة العربية وينزل على ابنائها نور العدل والعطف والمحبة والتعاون والتآلف .. فصنع هذا الرسول العظيم ( صلى اللـه عليه وآله ) من هذه الامة المتخلفة بالامس امة تطوي الفيافي كطي السجل في الصحف بهمتها العالية وروحها الوثابة ، وتنشر الخير والفضيلة في كل مكان كما اعترف اكثر المؤرخين والمفكرين الغربيين بذلك .

لقد تحكمت على الديانة اليهودية بعد ان مستها يد التحريف وروح العصبية العنصرية ، فاقتصرت على قوم بني اسرائيل عبر سلالة ضيقة لايحق الانضمام اليها الاخرون ، لان الامم والشعوب الاخرى ليست " من شعب اللـه المختار "! اما الديانة المسيحية فأصبحت هي الاخرى ألعوبة بيد الحكام ووعاظ السلاطين بعد ان شمروا ساعد التلاعب والتجاسر على كلمات اللـه المقدسة وحرفوها حسب ما تشتهي اهوائهم .

ان تسليط الضوء على بعض المفاسد والجرائم التي يرتكبها الانسان اليوم تحت يافطة الدين في بعض الدول والشعوب الاخرى كالهند والصين وافريقيا - مثلاً - يتلمس جيدا عظمة شخصية الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) وبركة البعثة النبوية الشريفة على الامم التي تفيئت تحت ظل مبادىء الاسلام وتعاليمه السمحة .

فقد سمعت قبل فترة خبرا مذهلا ولا اكاد لحد الان اصدقه ! مفاده ؛ هو انه ، وخلال السنة الماضية تم اعدام ثلاثة ملايين بنت لمجرد انها بنت ! في الهند ، مع العلم ان الزواج في الهند يتم عبر تقديم المهر والصداق من قبل الزوجة الى الزوج ؟!

كما ان هناك عــادة لازالت رائجة في هذا البلد ، وهي قتل الزوجة فيما اذا مات زوجها ، كما تقر بعض قوانين الديانات الهندية ! وتتم عمليـة الاعـدام اما عبر دفن الزوجــة مع الزوج الميت او عبـر حرقهـا ، ويقول صحفي ذهب لمقابلة والد وأم الزوجة التي توفى زوجهــا : سألهم عن انطباعهم ، فقالوا : نحن راضين لان اللـه يريد

هكذا ؟! اما في الصين وافريقيا فهناك امور عجيبة ومذهلة اخرى !

مقاومة زيف الطغاة :

لقد نعمت البشرية ببركة انبلاج نور الاسلام وانتشار مناهج الرسالة الاسلامية بين كثير من بلدان العالم آنذاك ما لم تنعم باقي الامم والشعوب الاخرى ، وهذا لا يعني بالتأكيد ان كافة الحكومات والدول التي رفعت راية الاسلام وادعت تسربلها بلباس الاسلام ان تكون اسلامية في واقعها وجوهرها . فهناك جملة من الدول والحكومات كحكومة بني امية وبني العباس و .. حكمت باسم الاسلام وذلك لمعرفتها بأن الشعوب التي تخضع لسطوتها لا ترض ولن ترضى غير الاسلام دينا . فلذا لم تجرأ على محاربة اسم ورسم وطقوس الاسلام ، بل انبرت لتحريف بعض مفاهيم الاسلام وتشييع بعض التفاسير للقرآن الكريم حسب ما تشتهي مصالحها الدنيوية ، كما تفعل جملة من الدول الاسلامية في الوقت الحاضر . وهنا يأتي دور ائمة الهدى وسيرتهم المباركة في مقدمة مواجهة صور التحريف المغرضة هذه لتفهيم الامة بحقيقة مبادئها ، ولذا كانوا ( عليهم الســلام ) بمثــابة ( القرآن الناطق ) كما يقول مولانا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) بل ان ظهور وبعثة هكذا رسالة ربانية عظيمة على يد سيدنا الرسول الاعظم ( صلى اللـه عليه وآله ) وبهذه المفاهيم والتعاليم المنقذة والنبيلة ، تستدعي بطبيعة الحال كما هو ديدن الطغاة عبر التاريخ ، المواجهة من قبل الظلمة والفاسدين والسعي الحثيث على ان لا تقف تعاليم هذا الدين المبارك بوجه مطامعهم واهواءهم الشيطانية .

ولكن بفضل نور الولاية الطاهرة ودور الائمة الاثنى عشر المعصومين من آل بيت محمد ( صلى اللـه عليه وآله ) تم احباط كافة صور التزوير والتحريف المتعمد الذي انبرى اعداء الاسلام والمستكبرين للنيل من مبادىء الاسلام وتوجيهها وفق مصالحهم الدنيوية ، فكانت سيرتهم ومواقفهم العملية ( عليهم السلام ) خير دليل ولا زال ببركة احاديثهم المأثورة عنهم لكل من يتلمس الحقيقة الناصعة . وبهذا تم حفظ مبادىء الاسلام وجوهر الدين في وقت قد ورثت البشرية المبادىء المحرفة لتعاليم موسى ( عليه السلام ) و عيسى ( عليه السلام ) في التوراة والانجيل !

واليوم لو القينا نظرة الى خارطة العالم الاسلامي لوجدنا ان صحوة وبعثة محمدية جديدة اخذت تتسع لتشمل كافة قطاعات ومرافق حياة المسلمين تدريجياً وخطوة خطوة ، بل اخذ المسلمون يستعيدون مواقعهم الطبيعة بين الجماهير ويرسمون خريطة العودة الى بناء صرح حضارتهم الاسلامية ، التي شيدها الرعيل الاول من المسلمين ، كما شيدت حكومة الرسول الاكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) في المدينة المنورة وكذلك حكومة الامام علي بــن ابي طالب ( عليه السلام ) والتي امتدت طيلة اربع سنوات ، وحتى حكومة الامام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) والتي لم تدم سوى ستة اشهر ، او حكومة الشهيد مسلم بن عقيل في الكوفة والتي استمرت عدة سويعات !

من وحي البعثة :

ان البعثة المباركة تعطينا دروس عديدة لو تأملنا في جوهرها ومضامينها ، فمن هذه الدروس :

1- لابد من قراءة ودراسة البعثة النبوية الشريفة وحياة الرسول الاكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) وسيرته ومشروعه الدعوي للأمة دراسة عميقة . فلا تقتصر دراستنا على مجرد شذرات من ولادة الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) ويوم بعثته ويوم وفاته ، بل لابد ان تتسع دائرة دراستنا كافة الابعاد السلوكية والاخلاقية والفكرية في كافة مراحل دعوته المباركة ، بل تستمر دراستنا ايضا لاستلخاص اهم الدروس من سيرة الائمة المعصومين ( عليهم السلام ) باعتبارهم المكملين لدور التوجيه والقيادة الربانية للأمــة .

فنحن قلما نجد خطباءنا وكتابنا وصحفينا يسلطون الضوء الكاشف والكافي على سيرة الرسول الاكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) والائمة المعصومين ( عليهم السلام ) ويستخلصون الدروس المفيدة لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للأمة .

2- لقد بعث الرسول الاكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) وصدع بدعوته المباركة لا لكي يغير ويصلح بعض الظواهر والاشكال والقشور ، فلم تكن حركة الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) حركة اصلاحية ترميمية ، بل كان دوره ( صلى اللـه عليه وآله ) دور البناء والمعمار الذي يبني البناء من الاساس ثم يرتقي لبناء الطوابق الاخرى .. انه ( عليه السلام ) لم يهادن ولم يداهن الاعداء على حساب الدين وتعاليمه ، فلذا لم يرض بأنصاف الحلول كما يفعل البعض فقد عرض بعض المشركين عليه ( صلى اللـه عليه وآله ) لكي يجمعوا في عبادتهم بين عبادة الاصنام والصلاة ، فرفض (صلى اللـه عليه وآله ) ان يرقع في الدين وقيمه .

لقد اعاد الرسول الاكرم ( صلى اللـه عليه وآله ) الانسان من جديد وصاغه من جديد ، لقد غير ( صلى اللـه عليه وآله ) ثقافته من الثقافة الجاهلية المقيتة الى ثقافة ربانية رحبة ، فصنع رجالاً كأبي ذر الغفاري الذي كان هو وقبيلتـه من قطاع الطرق وحوله الى اصدق انسان حتى قال ( صلى اللـه عليه وآله ) في حقه : " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " [34] وكسلمان الفارســـي حتى قال فيــه : " سلمان منا اهل البيت " وكذلك عمار بن ياسر والمقداد الذي اضحى كزبر الحديد ..

انه ( صلى اللـه عليه وآله ) استهدف حركة جذرية شاملة في الامة وفي مختلف الابعاد ، فلذا لم يترك الامة في غياهب الأمور ومجاهيل القضايا ، بل اعطى رؤى مناهج التحرك العملي على كافة الاصعدة والمجالات الحياتية ، هذا ناهيك عن دعوة الامة لمعرفة ائمــة زمانهــم وقادتهم الميدانيين بعــد وفاتـه وهم ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ).

3- لقد صاغ ( صلى اللـه عليه وآله ) الانسان المسلم على اساس وقاعدة الايمان باللـه عبر تقوية وربط العلاقة بين العبد والمولى ، بين الضعيف ومنتهى القدرة والعزة اللامتناهية .

نحن لو ذهبنا الى ( ما ينهاتن ) في نيويورك الامريكية واردنا ان ننظر الى عمارة ( امبابرستت ) والتي تتألف من (120) طابق ، او عمارات وبنايات كبرى تناطح السحاب في ( شيكاغو ) او (طوكيو) ، لرأينا انها بنيت على اساس من الصخور او ( الرصاص) او أي قاعدة أخرى بشرط ان تكون قوية جدا بأمكانها ان تحمل قوة وثقل (130 او 140 ) طابق على مدى سنين عديدة ، فكذلك الانسان اذا تمكن ان يربط قلبه المتحول والمليء والمتأثر بدواعي الهوى والشك بمقام العزة الالهية ، فلا يمكن زعزعة كيان هذا الانسان المؤمن او تحريفه ، وهذا الأمر انتهجه الرسول الاكرم (صلى اللـه عليه وآله ) في سيرته لبناء اصحابه وحوارييه ( رض) .

روي عن أبي عبد اللـه ( عليه السلام ) قال : " استقبل رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) حارثة بن مالك بن النعمان الانصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول اللـه مؤمن حقاً ، فقال له رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول اللـه عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأني أنظر الى عرش ربي [و] قد وضع للحساب وكأني أنظر الى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار فقال له رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) : عبد نوّر اللـه قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يا رسول اللـه ادع اللـه لي أن يرزقني الشهادة ، أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللـهم ارزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ إياماً حتى بعث رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) سرية فبعثه فيها ، فقاتل فقتل تسعة - أو ثمانية - ثم قتل " . [35]

لقد دعا الحارثة افضل دعاء فكان صحابياً جليلاً وذكياً ، وقد عرف كيف يستشعر خوف اللـه وحبه في قلبه وكيف ينتخب ويختار الطريق القويم والسليم المؤدي اليه جل وعلا وان يرغب في ان تكون حياته كلها في جنب اللـه فلا يهمه ان تستمر ايام حياته ام تقل ، وانما المهم عنده ( رض ) هو ان تزداد معرفته في اللـه يوماً بعد آخر ، ولذا اختار طريق الشهادة ، ولانه كما يرى الطريق السهل والمضمون الى الجنة من ان يبقى في الدنيا مع ابتلاءاتها وفتنها العديدة .

وبالفعل استجاب اللـه لطلبه فخرج بعد عدة ايام مع سرية لحرب المشركين فاستشهد هناك ( رض ) .

رسل اللـه رمز التحدي

قبل ان ندخل في رحاب القرآن الكريم ، ونستوحي من آفاق معرفته الفياضة ، لابد ان نذكر القارئ الكريم بملاحظتين مهمتين :

الارتفاع الى مستوى التدبر :

1- ان على الانسان المسلم ان لايرى نفسه غير قادر على الارتفاع الى مستوى التدبر في كتاب اللـه ، والاستفادة من آياته الكريمة ، فهناك البعض وبسبب احساسهم بالنقــص ، والضعف ، والحقارة يظنون انهم لم يصلوا بعد الى مستوى القرآن الكريم ، فاذا بهم لا ينفتحون على آياته الكريمة ، ولا يحاولون استيعاب آفاق المعرفة الالهية ، بل ولا يسمحون لانفسهم بالتدبر في القرآن !

ومثل هذا الموقف هو موقف عجيب ، فلولا ان القرآن من الممكن ان يلهم الانسان ، ولولا ان اللـه - تعالى - يعلم انه من الممكن ان يرتفع الانسان الى مستوى فهم القرآن الكريم ، لما بعث الرسول بهذا الكتاب ، ولما جعله هدى للناس ، ولما أرسل رسوله للناس كافة ، بل لخصص بالقرآن طائفة من الناس دون غيرها .

وعلى هذا فان الخالق - تعالى شأنه - يسر القرآن للذكر :

« وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ » ( القمر / 17) .

فكل انسان بلغ مبلغ الوعي والادراك هو مهيأ نفسيا وذهنيا لمعرفة آيات القرآن ، والتدبر فيها ، واستيعاب معانيها ، وفي الحقيقة فان ايحاء الانسان الى نفسه انه لايستطيع فهم القرآن الكريم انما هو من وساوس الشيطان ، فالشيطان الرجيم يأتي الى الانسان المسلم ، ويوسوس في صدره قائلا : اين انت من القرآن ؟ ان القرآن هو كتاب اللـه العظيم ولا يستطيع ان يفهم هذا الكتاب إلا أهله ! فاغلق منافذ قلبك عن القرآن اذن ، لانك عاجز عن فهمه !!

وهكذا يجب على الانسان المسلم ان لايستصغر نفسه ، ولا يستحقرها ، فاللـه - سبحانه وتعالى - أودع فيه هذا العقل العظيم القادر على استيعاب الحقائق ، فلماذا نحرم انفسنا من نعمة منحها اللـه ايانا ؟ ان مثل هذا العمل لايخدم إلا مصالح الشيطان ، لانه يريد ان يغوينا من خلال الحيلولة دون دخول النور القرآني الى قلوبنا . فاذا ما أظلم القلب ، سيطر الشيطان ، واستحوذت علينا وساوسه وتبريراته وبالتالي همزاته ولمزاته ، لينحي الانسان عن الصراط المستقيم .

انعكاسات القرآن في القلوب :

2- الحقيقة الثانية التي أريد ان اثبتها كتذكرة هنا هي ؛ ان القرآن الكريم يتجلى في قلوب الناس ، ولكن هذه القلوب قد تكون شفافة نقية صافية تتلألأ كقلب النبي (صلى اللـه عليه وآله) ، وهذا النور هو نور القرآن المتشعشع في مشكاة قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) .

ومع ذلك فان قلب الانسان المسلم الذي انعكس عليه شيء من نور القرآن قد يكون متأثرا ببعض الافكار التي دخلت هذا القلب ، فتركت فيه آثارا من الشرك ، وهذا هو السبب في انحراف الديانات السابقة كالديانة المسيحية ، فالمسيحيون قالوا ان الناس ليس بامكانهم الايمان بالانجيل وصفائه ووضوحه ، وبالنور الالهي الموجود فيه ، فلنأخذ من ثقافات الآخرين كالثقافة اليونانية الوثنية ، ولنمزج هذه الثقافــة بالانجيــل ، فكانت النتيجة ان اخذوا بفكرة الاقاليم الثلاثة ؛ اللـه ، والابن ، وروح القدس .

وهذه السلوكيات الخاطئة هي نفس ما يقوم بها الآن البعض من المثقفين الذين ذهبوا الى البلدان الغربية فأخذوا يفسرون القرآن الكريم حسب ما تعلموه وتلقوه من افكار غربية وضعية .

رافد عذب ونبع صاف :

ان علينــا ان نستمد ثقافتنا مـن القرآن الكريم بشكل مباشر ، وان

لا ننفصل عن هذا الكتاب العظيم ، فحجتنا يوم القيامة ستكون قويّة عندما نأخذ علمنا وثقافتنا من هذا الرافد العذب ، والنبع الصافي ، فالقرآن الكريم يظل هو الاساس والمعيار حتى بالنسبة الى احاديث الأئمة ( عليهم السلام ) ، ولذلك يأتي التأكيد من قبل الامام الصادق ( عليه السلام ) على المسلمين بأن يعرضوا الروايات والاحاديث على القرآن الكريم ، فما وافق الكتاب فليأخذوا به ، وما خالفه فليضربوه عرض الحائط .

شبهات الكفار تجاه الرسل :

وفي سورة الفرقان التي تحمل اسما من اسماء القرآن الكريم ، وهو " الفرقان " الذي يعني ان القرآن يفرق بين الحق والباطل ، هناك بعض الآيات التي يطرح فيها اللـه - سبحانه - تساؤلات بل شبهات الكفار تجاه الرسل ، وهي كالتالي :

« وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاَسْوَاقِ لَوْلآ اُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَآ اُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً » (الفرقان / 7 - 15) .

شبهات تافهة :

ان اللـه - تعالى - يستعرض لنا في الآيات السابقة الشبهات التافهة التي أثارها المشركون والكفار تجاه الرسالات الالهية متمثلة في الانبياء والرسل ؛ فكيف يمكن ان يمشي الرسول في الاسواق ويأكل الطعام ، فهو اذن انسان عاجز ضعيف لا يتفوق علينا ، فهو يجوع ، ونحن نجوع أيضا ، وعندما يحل وقت الطعام يجلس على المائدة كما نجلس نحن ، ومن الناحية الاقتصادية فانه هو الآخر يحتاج الى الاموال كما نحتاج نحن اليها ، وهو محتاج الى ان يعمـل ، ويمارس التجارة في الاسواق لكي يؤمن رزقه . فلماذا يعمل ، ولماذا لا تنزل عليه من السماء الاموال ، والذهب ، والفضة لكي يستغني بها عن مزاولة الاعمال ؟

ولذلك فان الكفار كانوا يطالبون ان ينزل مع الرسول ملك فيكون معه نذيراً ، وبعبارة اخرى فانهم كانوا يريدون ان يؤمنوا بالرســالات من خــلال القـوة والخضوع ، في حين ان سنــة اللـه - تعالى - اقتضت ان يؤمن البشر بالرسالات الالهية من خلال الاقتناع بها ، ومن خلال الوصول الى مستوى من النضج يؤهلهم لان يصبحوا مؤمنين حقيقيين .

لقد كان باستطاعة الخالق - عز وجل - ان يخلق أناسا يعبدونه كما تعبده الملائكة ، ولكنه اكرم الانسان بالارادة ، لكي يعبده هذا الانسان بارادته وحريته واختياره .

وهناك - بالاضافة الى ذلك - الظالمون الذين كانوا يقولون كلاما اخطر من ذلك يرويه - تعالى - في قوله : « وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً » ( الفرقان / 8) .

فهؤلاء الظالمون اتهموا الانبياء بالجنون ، وهي أسوأ تهمة يتهم بها الانسان ، والقــرآن الكريم ، ان هؤلاء الظلمة ماهم إلاّ مجموعة من الضالين : « انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً » ( الفرقان / 9) .

فهم يقولون كلاما في كل يوم فيقولون ان الرسول مجنون ، ولم يفكروا في ان الانسان المجنون لايمكن ان يكون حكيما ، ولا يستطيع ان يدير دولة ، او يقود جيشا وأمة ، ويؤسس حضارة ، وأي مجنون ذلك الذي يستطيع القيام بكل هذه الأعمال ؟!

ولكن القرآن الكريــم يكلهم الى انفسهم ، وبتعبير آخر يرد تهمة

الجنون الى انفسهم لانهم لا يعون ما يقولونه ، وما ينشرونه من ضلالات وأباطيل .

الدنيا ليست نهاية المطاف :

ثم يستأنف - عز وجل - قائلا : « تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ » ( الفرقان / 10) .

فالقرآن يرشد الانسان الى ان هذه الدنيا ليست نهاية المطاف بل هي قنطرة للآخرة ، ولذلك فان اللـه - تعالى - لم يعط للانبياء شيئاً كثيراً منها لأنها هينة عنده ، فلو كانت هذه الدنيا تعدل عند اللـه جناح بعوضة لما جعل للانسان الكافر فيها من حاجة .

امــا نحن فان الدنيــا تعتبر عندنا من القضايا المهمة في حين انها كلهـا خداع نخدع من خلاله انفسنا ، لان الدنيا لابــد ان تنتهي بالموت ، والانسان لايعرف متى سيرحل عنها ، وكلما جمع الانسان من هذه الدنيا اكثر ، فان حسرته عليها حين يفارقها ستكون اشد ، وفي الآخرة سيكون حسابه ووقوفه لهذا الحساب اطول .

ان اللـه - تعالى - ليس من صفاته ان يكرس القيم الزائفة ، بل يريد ان يخرج الناس من ظلمات الدنيا الى نور الآخرة ، من قيم المادة الزائفة الى القيم المعنوية الحقيقية ، وان اولئك الظالمين انما اهتموا بهذه الدنيا لانها مبلغ علمهم ، ولانهم يعتقدون انها نهاية المطاف كما يقول - تعالى - : « بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً » (الفرقان / 11) .

فلا تغمض عينيك ايها الانسان لتقول ليست هناك آخرة ، بل افتحهما لكي تراها ، فالذي يغمض عينيه يتحمل ذنبان ؛ ذنب ضلالتـه ، وذنب الجريمة التي يرتكبها ، فالانسان الذي يغمض عينيه وهو يمشي ثم يقع في البئر فانه يذم من قبل الناس مرتين ؛ مرة لانه ابتلي وسقط في البئر فكسرت رجلاه - مثلا - ، ومرة لان الناس سيلومونه على اغماضه لعينيه ، وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان عندما يكذب بالساعة فانه سيعاني من مشكلتين ؛ المشكلة الاولى تتمثل في الذنوب التي ارتكبها بسبب تكذيبه بالساعة ، والمشكلة الثانية تتجلى في اصل تكذيبه بالساعة .

ومثل هذا الانسان سيكون مصيره ان يلقى في نار مستعرة مسجرة لغضب ربها : « وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً » (الفرقان / 11 - 12) .

وانا لا ادري بالضبط كم تبلغ هذه المسافة التي يصفها القرآن الكريم بانها بعيدة ، إلا ان الكافرين يسمعون لهذه النار التغيض والزفير ، فاذا بالنيران تضرب بعضها بعضا ، فكيف بهذا الانسان الذي لايستطيع ان يتحمل ضوء الشمس في الشتاء ، كيف يستطيع ان يتحمل ذلك السعير ، وتلك النيران التي يقال ان الشمس نفسها سترمى فيها يوم القيامة فتضج من حرها !!

متى سيحل الأجل ؟.

اننـا لانعرف متى سيحل اجل الواحد منا ، وهل سنبقى على قيد الحياة الى ساعة بل ثانية أخرى ، فالى متى نبقى في الغرور ، والى متى نبقى غير مؤدين بالشكل الصحيح لصلاتنا ، وصيامنا ؟ وحتى متى نستمر في سلوكياتنا الخاطئة ، حتى يأتينا النداء للرحيل ، فلا نستيطيع ان نعيش ولو للحظات اخرى مهما الححنا على ذلك لنتوب ونرجع الى اللـه - تعالى - ؟ كما يبين ذلك القرآن الكريم في قوله : « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ » (الانعام / 28) .

ثم يستأنف - عز من قائل - قائلا : « وَإِذَآ اُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً » (الفرقان / 13- 14) .

وتصف الروايات هذا المكان الضيق بانه كالحيز الذي يحدثه الوتد في الارض او الجدار ، فمن الصعوبة بمكان ان يدخل الوتد في الجدار ، وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان في يوم القيامة فانه يدخل في النار بعد ان يضرب على رأسه كما يضرب المسمار عندما يدق في الجدار . فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام ) يقول : " والذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " [36] .

والكافرون الظلمة يحشرون في نار جهنم ( مقرنين ) أي على شكل مجموعة ملتصقة ببعضها البعض ثم يرمون في النار وهم على هذه الحالة . ثم يبين لنا القرآن الكريم ان هؤلاء الظلمة سوف يلعنون انفسهم ، فالانسان عندما يقع في مصيبة كبيرة فانه يلعن نفسه خصوصا إذا كان هو المتسبب في هذا المصير الذي آل إليه .

ويسخر - تعالى - من هؤلاء قائلا لهم : « لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً » (الفرقان / 14) .

ترى لماذا لم يستغلوا الفرص التي سنحت لهم في الدنيا ؛ لقد قرأتم القرآن ، وسمعتم النصائح ، ولكن كل واحد منكم قال ان هذا الكلام لا يعنيني ، في حين انهم كلهم معنيون دون استثناء .

ويقول - عز وجل - مقارنا بين هذا المصير الذي انتهى إليه اولئك المكذبون بالرسالات قائلا :

« قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً » (الفرقان / 15 - 16 ) .

ان هذه المجموعة الكريمة من الآيات جاءت في مقام التأكيد على حقيقة ان الرسل هم على حق رغم ما تعرضوا له من تلك التهم الرخيصة الى درجة انهم فقدوا الدنيا وما فيها من بهارج ، ولكنهم - مع ذلك - كانوا على حق ، وأعداؤهم على باطل ، ذلك لأن هؤلاء الرسل والذين آمنوا بهم كسبوا الحياة الاساسية المتمثلة في الآخرة ، في حين ان اعداءهم لم يكسبوا سوى الدنيا الزائلة على حساب فقدانهم للحياة الأخروية وما أعد فيها من نعيم .

الهدف الحقيقي من طلب العلم :

ان هذه الحقيقة تعني اننا يجب ان نحصن انفسنا امام الاعلام المزيف ، والدعايات المضللة ، والافكار السلبية ، والتبريرات الواهية ، فيجب على الواحد منا - مثلاً - ان لا يدرس العلم لكي يقول للناس انني عالم ، فما فائدة العلم الذي يملأ الانسان غروراً ، ويجعله يأمل ان يشغل المناصب المهمة ، بل علينا ان نتلقى العلم لكي ينفعنا في الآخرة ، ولنخلص نياتنا ولنسع من أجل ان تكون طاهرة زاكية .

ان هدف الانسان من تعلم العلم هو ان ينفعه ، وبالتالي ان يكون سببا لانتفاع الآخرين منه لا أن يخزنه في قلبه ، فاذا طلب منه ان يقوم بالتبليغ في منطقة ما فعليه ان لا يمانع ، وللأسف فان بعض المتعلمين عندما يطلب منهم ان يتوجهوا الى منطقة ما للتبليغ فانهم يمتنعون عن ذلك مختلقين العشرات من التبريرات ، ومن حقنا ان نسأل هؤلاء : لماذا درستم العلم اساساً ؟ هل لكي تختلقوا مثل هذه التبريرات ؟

ان مثل هذا الانسان عليه ان يراجع نيته عندما بدأ بدراسة العلم ؛ فهل كانت نيته خالصة ام كانت تخالطها بعض الشوائب الدنيوية ، فاذا ما اكتشف ان نيته لم تكن خالصة فعليه ان يسعى منذ الآن من أجل ان يكون مخلصا ، فالانسان لايمكن ان يخرج من هذه الدنيا من دون ان يتعرض للامتحان ، وهذا الامتحان يتجلى بالنسبة الى طالب العلم في ان يكون جنديا مخلصا في سبيل اللـه - تعالى - ودعوته عن وعي وايمان .

لماذا نستصغر انفسنا ؟

ان الواحد منا لم يؤمن بالدين على اساس كلام الآخرين ، بل نحن نمتلك الوعي والعقل ، فلماذا - اذن - نحتقر انفسنا ، ونستصغرها ، ولماذا لا نكون جنودا مضحين في سبيل اللـه - عز وجل - ، ومن اجل القيم والمبادئ التي نؤمن ونلتزم بها ؟

ان التهم التي وجهت الى النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) وسائر الرسل ( عليهم السلام ) انما هي دروس لنا ، فمن يدعي انه داعية الى اللـه - تعالى - فعليه ان يصمد امام التهم ، والتيارات الضالة التـــي تحاول ان تمتص حالتنا الثورية الايمانية ، وان نواجههـا بقـوة واقتدار ، لا لكي ننتصر ، فالنصر أمر ليس بايدينا بل هو بيد اللـه - جل وعلا - ، ولكن لان اللـه اعد الجنة لمن استقام ، والنار لمن ضل وانهار .

طريق الرسالة شائك :

ان الذي يستيطع ان يتسلق الجبل لابد ان يصل الى قمته فيرى نتيجة عمله وهي الجنة هناك ، اما الذي يسقط في الطريق ، ويهوي الى الوادي ، فانه - في الحقيقة - قد هوى في نار جهنم ، ولذلك فان علينا ان نستقيم لوجه اللـه - تعالى - لا من أجل المغانم الدنيوية ، والاطماع الآنية ، فنحن لا نعد احدا في هذا المجال انه سيحصل على بيوت مجهزة ، وسيارات فاخرة إذا ما انضم الـــى حركتنا الجهادية ، كلا ، فطريقنا هو طريق الجهاد ، والدم ، والتضحيات ، والسجون ، والاعتقال ، والتعرض الى التعذيب ، والمحن .

ترى لماذا يتراجع البعض بمجرد ان تتراجع القضايا المادية في الحركات التي ينتمون اليها ؟ وهل يدل موقفهم هذا على خور عزائمهم ، وضعف ايمانهم ، وعدم خلوص نياتهم منذ البدء ؟ الجواب بالايجاب بالتأكيد ، فلنتركهم يبررون ، فمثل هذه التبريــرات لايمكن ان تنفعهم يوم القيامة ، بل على العكس مـن ذلك ، فهذه المعاذير هي بحد ذاتها جريمة .

وعلى سبيل المثال فان الانسان الذي لا يصلي ، ويدعي ان الصلاة غير واجبة فان جريمته هذه مضاعفة ، وكذلك الحال بالنسبة الى الذي ينسحب من الساحة ويثير حوله الغبار والدخان لكي يبرر انسحابه ، ويتهرب بذلك من عتاب ولوم الآخرين ، فان هـذا التبريـر هو بحد ذاته كذب ، والكذب حرام بل ان بعضه افتراء على اللـه - سبحانه وتعالى - .

فلنحاول ان نقبل على العمل الرسالي بقلوب متفتحة ، ونيات خالصة ، واذهان واعية ، لكي نضمن استمرارية هذا العمل رغم الصعاب ، والعقبات التي من المؤكد اننا سنواجهها في هذا الطريق الذي نستهدف من السير فيه مرضاة الخالق وجناته .

الرسالة الاسلامية مشروع البشرية جمعاء

لايمكن لأي مبدأ او مشروع او نظرية وضعية ان يقوى على الوقوف في موازاة الاسلام من حيث شمولية الانسانية جمعاء ، وتغطية حاجاتها في هذه الحياة الدنيا . فالاسلام هو المشروع الانساني الوحيد الذي يتمتع بهذه الشمولية ، ويستطيع ان يتحدى كل المبادئ والافكار والنظريات والقوانين التي ابتدعها الانسان .

ان الانسان في هذا الكون هو واحد من ثلاثين مليون نوع من الاحياء التي تدب على كوكبنا ، وعندما يكون الحديث عنه من زاوية معينة نجد انه ينقسم الى تقسيمات عديدة حسب المعايير المادية ، ولكننا عندما نحيط به وننظر الى جوهره نجده ذلك الانسان الواحد ، ذا الفطـرة الواحدة ، والطبائـع والمصالح المشتركة ، والقوانين والسنن الالهية الواحـدة .

وعندما يصوغ هذا الانسان فكرة ، او يخطط لمشروع ، او يضع منهجا ما فان فكرته ، او مشروعه ، او منهجه يتأثر حسب موقعه ومحيطه . فلو كان الانسان يعيش في منطقة حارة - مثلاً - فان مشروعه سيتأثر بهذه البيئة ومناخها ، وإذا كان هذا الانسان غنيا فان منهجيته في التفكير ستتبلور متأثرة بالترف الذي يعيشه ، فيكون مشروعه هذا منسجما ومتلائما مع ما يرومه المترفون ، اما إذا كان فقيراً معدماً فان مشروعه سترحب به الطبقــة الكادحة الفقيرة وهكـذا ...

المشروع الاسلامي منهاج عالمي :

وعلى العكس من ذلك فان المشروع الذي قدمه الاسلام كان وما يزال يمثل منهاجا عالميا كونيا يتناسب مع كل العصور والازمنة منذ بعثة النبي الاعظم ( صلى اللـه عليه وآله ) ، وحتى قيام الساعة . وهنا يكمن سر عظمة هذا الدين الالهي ، والرسالة الربانية الخاتمة ، وفـي اطار هذا الشمول والاحاطة تبرز عظمة القرآن الكريم ومعجزته . فالانسان مهما بلغ تعمقه وتبحره ، ومهما خاض في بحار الفلسفة التي تبنى على اساسها الافكار والمنهجيات فانه يبقى ذلك الكائن المحدود في فكره ، فلابد ان تتعلق بتفكيره ومنهجيته التي يصوغها خيوط العاطفة مهما حاول قطعها ، فيبقى بذلك محدوداً ومؤطراً بسائر المحدوديات والاطر سواء البيئية ، او المناخية ، او العنصرية وما الى ذلك ، في حين ان ذلك المنهج الذي تبعثه السماء لا يشوبه ادنى شائبة من تلك الشوائب التي تدل على الضعف والنقص والحاجة .

فعندما يضع الانسان مشروعا فانه سوف يصوغه بالشكل الذي يرتضيه هو ومن يرتبط به من مجتمعه ، ولكن رب العالمين عندما يضع مشروعا او يقر مبدأ او منهجا او قانونا فانه يضعه بحيث يتلاءم مع جميع من على هذه الارض من بشر .

مشاريع ناقصة :

من كل ذلك يتبين لنا ان المشاريع الحضارية التي تصاغ هنا وهناك تبقى مشاريع ناقصة تؤمن مصالح فئة معينة دون الأخرى وربما على حسابها ، وعلى سبيل المثال فان الاميركيين عندما يفكرون في مشاريعهم ، ويخططون لها فان تفكيرهم هذا ينطلق مما يؤمنون به من منطق ، ويتلاءم مع ظروفهم ، وبما يوفر لهم مصالحهم ، وعلى سبيل المثال فان الرئيس الاميركي الاسبق (جورج بوش ) عندما فكر في تحرير الكويت فان اختياره وقع على اتباع الاسلوب الذي لا يتسبب في ازهاق روح جنوده ، فالذي وضع هذه الاستراتيجية لم يفكر كم سيقتل ويباد من ابناء العراق ، فهذا غير مهم عنده !

هكذا يخطط الاميركيون ، ويصوغون مشاريعهم ، وستراتيجياتهم

العدوانية وذلك من زاوية صيانة مصالحهم ، واستمرار نهبهم ، ولا يهمهم بعد ذلك ما يجري على الآخرين من مصائب وويلات .

وفي المقابل فاننا لو استعرضنا الرسالات الالهية التي اضطلع بها الانبياء والمرسلون فاننا سوف لا نجد في عملهم ، وحركتهم ادنى ذرة من تلك الستراتيجيات ، والمشاريع المصلحية ، وحاشا لهم ان يفكروا في ذلك ولو للحظة واحدة ، فما عند الانبياء ليس من أنفسهم وانما هو من عند اللـه - تعالى - من الوحي المبين ، ولذلك فان رسالة الرسول رسالة شاملة تهتم بجميع افراد البشرية ايا كانت انتماءاتهم .

مشروع الرحمة :

وعلى هذا فان المشكلة تكمن في انعدام المشروع الالهي الكوني الذي جاهد الانبياء والرسل والاوصياء من أجله ؛ المشروع الانساني الكوني الشامل الذي يعطي لكل وجود حقه ، وهو المشروع الذي كانت ومازالت الانسانية في كل عصر ودهر بأمس الحاجة اليه ، والذي يمكن ان نسميه ايضاً بـ " مشروع الرحمة " انطلاقاً من قوله - عز وجل - :

« وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ » ( الانبياء / 107) .

وقبـل فترة ليست بالبعيدة طرح احد الخبراء الاميركيين مشروعــاً

على صندوق النقد الدولي يقضي بنقل الصناعات التي تسبب تلوث البيئة الى البلدان النامية لكي تتخلص شعوب البلدان المتقدمة من النفايات ، والمواد السامة الناجمة من هذه الصناعات ، وليس مهمّاً في هـذا المشروع الاناني ان تبتلي شعوب البلدان النامية بهذا التلوث ، بل المهمّ ان تسلم رئة الاميركي ولا يصيبها اي اذى ولو على حساب البشر في البلدان الفقيرة !

بهذه الروح ، والتوجهات الانانية يضع الغربيون خططهم ومشاريعهم ، وهذا الأمر ليس بالجديد في تأريخهم ، فالسنوات الأخيرة وقبلها شهدت أموراً كهذه وخاصة بالنسبة الى عمليات تصدير النفايات التي تجري بصورة سرية في أغلب الاحيان ، وهذه هي تجارة الموت الصادرة من مشاريع انانية تتسم بروح الجريمة والعـدوان .

ان هذه وغيرها من المشاريع والافكار والمخططات المصلحية ذات المنظار الضيق والمحدود تشهد على الحاجة الشديدة للانسانية الى نهج الرسالات المتجسدة في خاتمتها ، والتي جاء بها الرسول النبي الأمي الذي بعث رحمة للعالمين ، والذي تمثل شخصيته قمة الانسانية الخيرة والرحيمة ، والحاجة الى هذه الشخصية ماتزال ملحـة .

فلنتصفح التأريخ ، ولننظر كيف كانت الحالة المزرية التي عاشها

العرب قبل اشراقة الاسلام على الجزيرة العربية وعلى العالم ، ولعل ابرز ما يعكس هذه الصورة السوداء دفنهم لبناتهم وهن احياء بغير رحمة ولا شفقة ، وحالة الاقتتال والغارات التي كانت تحدث بين قبائلهم ، وسيادة قانون الغاب حيث القوي يأكل الضعيف .

ولننظر بعد ذلك كيف انقلبت احوالهم تلك بعد فترة زمنية وجيـزة من بعثة النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) اليهم والى العالم اجمع ، فحدث على أثر ذلك انقلاب جذري وعميق في طباعهم واخلاقهم ، وتحولوا من تلك الطبيعة الجافة ، والقلوب القاسية الى اناس يتعاملون بالرحمة واللطف واللين والايثار والبذل ، بل صاروا اخوة في الايمان ، واما في العبادة والطاعة فان اجواف الليالي كانت شاهدة عليهم .

أويس أخو رسول اللـه :

ولعل احدهم ( اويس القرني ) الصحابي الجليل الذي لم ير الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) ولكنه لقب بـ ( الصحابي ) لعظيم ايمانه ، وخلقه ، وكثرة طاعتــه وعبادتـه رغم انه لم يصحب الرسول ، ولم يشاهده ، ولم يوفق لزيارة المدينة إلا مرة واحدة من أجل التبرك برؤية النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) ، ولكنه عندما وصل إليها كان الرسول قد خرج منها في احدى غزواته ، فقفل راجعاً منها الى قريته " قرن المنازل " . لكنه ترك أثراً لم يحس به إلاّ رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) عندما عاد الى المدينة فقال : اشم رائحة الايمان ، فمن الذي جاء الى هنا ؟ فقيل له : يا رسول اللـه انه شاب دخل المدينة على راحلته لرؤياك فلما لم يجدك غادرها وهو مايزال على راحلته لم ينزل عنها . فعرفه الرسول (صلى اللـه عليه وآله) وقال : ذاك أخي " أويس القرني " .

ويتحدث التأريخ عن هذا الصحابي الجليل انه كان يحيي لياليه مع اصحابه ليلة بالدعاء والتوسل ومد يد الضراعة الى اللـه ، وليلة بالسجود الطويل ، واخرى بالركوع المستمر ، وهكذا حتى يطل الفجر وكأنها ليالي القدر المباركة .

وروي عنه ( اويس القرني ) رحمه اللـه عليه " قال لرجل سأله كيف حالك ؟ فقال : كيف يكون حال من يصبح يقول لا أمسي ، ويمسي يقول لا أصبح . يُبشر بالجنة ولا يعمل عملها ، ويحذر النار ولا يترك ما يوجبها . واللـه إن الموت وغصصه وكرباته وذكر هول المطلع وأهوال يوم القيامة لم تدع للمؤمن في الدنيا فرحاً ، وان حقوق اللـه لم تبق لنا ذهباً ولا فضة ، وان قيام المؤمن بالحق في الناس لم يدع له صديقاً ... " [37]

وبهذه الصورة وغيرها من آلاف الصور تحولت تلك القلوب التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة ، وذلك الجفاء الذي جعل الواحد منهم يقتل اخاه ربما من أجل بضع تمرات ، الى قلوب رحيمة ، ونفوس لينة بفضل الرسالة المحمدية المباركة ، فما احوج البشرية اليوم الى اشراقة جديدة لهذا الرسول ورسالته العظيمة .

ولقد احس بهذه الحاجة كل من اطلع ولو على اليسير من آفاق هذه الرسالة من غربيين او شرقيين فضلا عن المسلمين انفسهم ، فهذا هو ( جاك اتالي ) الشخصية الفرنسية العالمية المشهورة ، والذي يرأس حاليا بنك التنمية الاوروبي تحدث في كتابه الذي صدر حديثا والذي يحمل اسم " آفاق المستقبل " عن مشاكل الانسانية ومآسيها مبينا فيه كيف ان البشرية باتت تسير بسرعة هائلة نحو فنائها ، شارحا لذلك الاسباب ، ومن ضمنها التدهور البيئي الذي يقف على رأس هذه الأسباب ، كما وتعرض للحديث عن الحروب ، والازمات الاقتصادية ، والكثير من المشاكل ، و المعضلات التي تقض مضجع البشرية ، ثم ينتهي في كتابه الى تقرير الحقيقة التي لابد له ولغيره من المفكرين ان يعترفوا بانها هي التي تضع حداً للمأساة والمعاناة الانسانية الكبرى حيث يقول :

بلى ؛ فلا خلاص للبشرية وليس امامها إلاّ مخرج واحد وهو ان يأتيهــا منقذ كمحمد ( صلى اللـه عليه وآله ) فاذا جاء من هو مثلــه

/ 6