روايات الباب
1 ـ روايات أهل السنّة
:
بعدما راجعتُ كتب أهل
السنّة الروائية والفتوائية، كصحيح المسلم، وصحيح البخاري، وسنن الترمذي،
وسنن النسائي، وسنن أبي داود، والسنن الكبرى للبيهقي، والمبسوط للسرخسي،
والمحلّى لابن حزم، والموسوعة الفقهية (الكويت) و...، لم أجد رواية صريحة حول
الحج البذلي. وكلّ ما عثرت عليه إطلاقات وردت في كتبهم:
نقل البغوي في مصابيح
السنّة عن علي (عليه السلام) أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): «مَنْ مَلك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحجّ فلا
عليه أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى يقول:
{ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه
سبيلا }» >26.
ونقل الشوكاني في نيل
الأوطار عن أنس: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله عزّوجلّ
{من استطاع إليه سبيلا } قال: قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة. رواه الدارقطني 27.
ونقل أيضاً عن ابن
عبّاس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الزاد والراحلة يعني
قوله: {من استطاع إليه
سبيلا }
رواه ابنُ ماجة>28.
وروى الترمذي في سننه
عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: يا
رسول الله! ما يوجب الحجّ؟ قال: الزاد والراحلة>29.
2 ـ روايات الإمامية
:
1 ـ روى الصدوق في
كتاب التوحيد عن العلاء بن رزين قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن
قول الله ـ عزّوجلّ ـ { ولله على
النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا }
قال: يكون له ما يحجّ به، قلت: فمن عرض عليه فاستحى؟ قال: هو ممّن
يستطيع >30.
2 ـ عن محمّد بن مسلم
قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قوله تعالى { ولله على النّاس
حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا }؟
قال: يكون له ما يحجّ به قلت: فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال: هو ممّن
يستطيع الحجّ، ولِمَ يستَحيي؟! ولو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع
أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل 31.
3 ـ عن معاوية بن
عمّار قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل لم يكن له مال فحجّ به
رجل من إخوانه. أيجزيه ذلك عن حجّة الإسلام، أم هي ناقصة؟ قال: بلي هي حجّة
تامّة 32.
4 ـ عن الإمام
الصادق (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال: فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه
فاستحيى فلم يفعل فإنّه لايسعه إلاّ (أن يخرج) ولو على حمار أجدع أبتر 33.
5 ـ نقل الشيخ
المفيد (رحمه الله) في المقنعة عن المعصوم (عليه السلام) قال: من
عرضت عليه نفقة الحجّ فاستحيى فهو ممّن ترك الحجّ مستطيعاً إليه السبيل 34.
6 ـ عن أبي بصير قال:
سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول: من عرض عليه الحجّ ولو على حمار
أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحجّ 35.
7 ـ عن أبي أسامة زيد
الشحام عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله: {ولله على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه
سبيلا }
قال: سألته: ما السبيل؟ قال: يكون له مايحجّ به، قلت: أرأيت إن عرض عليه مال
يحجّ به فاستحيى من ذلك؟ قال: هو ممّن استطاع إليه سبيلا، قال: وإن كان يضيق
المشي بعضاً والركوب بعضاً فليفعل، قلت: أرأيت قول الله: {ومن كفر }، أهو في الحج؟ قال: نعم،
قال: هو كفر النعم، وقال: من ترك
36.
8 ـ عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه
السلام) قال: قلت له: رجل عرض عليه الحجّ فاستحيى أن يقبله أهو ممن يستطيع
الحجّ؟ قال: نعم مُره فلا يستحيي ولو على حمار أبتر وإن كان يستطيع أن يمشي
بعضاً ويركب بعضاً فليفعل 37.
أقول: لا يخفى أن
الأخبار التي ذكرناها، بين صحيحة وحسنة وغيرهما، تدلّ على وجوب قبول ما بذل
للحجّ من قبل المبذول له، وأن الإمام (عليه السلام) فسّر الآية المباركة
في سورة آل عمران 38،
فيمن يكون له ما يحجّ به ولو بعروض الحجّ له، وأن الاستطاعة الواردة في تلك الآية كما ذكره
صاحب كتاب تفصيل الشريعة ـ دام بقاه ـ من العناوين التي أخذت في موضوعات
أدلّة الأحكام، فإنّ الحاكم في تشخيصها هو العرف، ومن الواضح حكم العرف بثبوت
القدرة عند البذلِ خصوصاً إذا قيل له: حجّ ببذل المال، وكان كافيّاً للحجّ
لنفقة عياله، فالآية بنفسها تدلّ على الوجوب بالبذل >39.
كما لا يخفى أيضاً
بأنّه لافرق بين البذل والهبة وإن زعمه بعض; لأن المفردة (عَرَضَ) التي كانت
في تلك الأخبار تشمل البذل والهبة كليهما.
نعم، من فرّق بين
البذل والهبة صرّح بعدم وجوب قبول إتيان الحجّ بسبب الهبة، وفيه مالايخفى بعد
الدقّة والنظر فيما نقلناه من الأخبار الواردة في هذا الباب وأقوال أهل
اللغة.
ثمّ إنّه يظهر من
كلمات بعض الأعاظم القول بعدم الفرق بين البذل والهبة، كالشهيد(رحمه الله) في
الدروس حيث قال: في الفرق [بين البذل
والهبة] نظر 40.
وبه صرّح المحقّق الأردبيلي في شرح
الإرشاد والسيد السند (رحمه الله) في المدارك 41.
وقال صاحب الحدائق (رحمه
الله): الظاهر أنّه لافرق بين بذل الزاد والراحلة وبين هبتهما في حصول
الاستطاعة، لإطلاق النصوص المتقدّمة 42.
أضف إلى ذلك كلّه أنّه
تحصل الاستطاعة بمجرّد قول الباذل: «حجِّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك» وحينئذ هل
الواجب الواقع على عاتق المبذول له صار واجباً مطلقاً حتّى يلتزم به، أم صار
واجباً مشروطاً، لكي يستطيع المبذول له في قبول الحجّ
وعدمه؟
لا شك في أنّه
لايشترط تحصيل شرط الواجب المشروط كما اشترط ذلك في الواجب المطلق مثل تحصيل
الطهارة للصلاة ومسّ الكتاب العزيز، وعلى ذلك فمن لم يتحقّق له الاستطاعة
فلايجب عليه تحصيلها.
فالحجّ وإن كان واجباً
مشروطاً بالنسبة إلى الاستطاعة ولكنّ الاستطاعة البذلية حصلت بمجرّد قول
الباذل فصار الواجب هنا واجباً مطلقاً فوجب على المبذول له القبول، ووجب عليه
أيضاً الإقدام في تهيئة المبادئ للتشرّف إلى الحجّ لما استفدنا من الآية
المباركة والأخبار الدالّة على وجوب القبول.
وممّا يجدر ذكره أن في
أكثر الروايات الواردة في هذا الباب ذيلا يحكي: أن على المبذول له الخروج إلى
الحجّ ولو على حمار أجدع أبتر، ونحن نرى أن الاستطاعة في ساير الأمور تكون
لصالح الحاجّ، وأن لايتحمّل أيّ حرج ومشقّة وأن يحجّ موافقاً لزيّه وشرفه،
بخلاف الحجّ البذلي، لأنّ الحج البذلي ربّما يستلزم الحرج والمشقّة على
المبذول له كما قد يستلزم ركوب حمار أجدع أبتر: فما هي الطريقة لرفع هذه
العويصة؟
أقول:
أوّلا: تلك الفقرة
ليست في صحيحة العلاء بن رزين وعلى ذلك فهذه الصحيحة كافية لإثبات وجوب
القبول.
وثانياً: كأنّ تلك
الفقرة تحكي عن الحثّ والتوكيد لإتيان الحجّ البذلي، وأنّه لاينبغي ردّ هذه
الاستطاعة البذلية.
وثالثاً: هذا الذيل
(ولو على حمار...) يحكي عن استقرار الحجّ عليه وبعد أن استقرّ
الحجّ على المبذول له، يجب عليه المبادرة ولو
بالركوب على حمار أجدع أبتر.
ثمّ أنّه لايبقى مجال
للقول بلزوم العقد والتمليك فيما إذا وهبه، بأن الهبة تحتاج إلى الإيجاب
والقبول ويلزم على الواهب أيضاً أن يملّكه، كما لايبقى مجال للبحث في التمليك
بعد ما قلنا: إنّ المبذول له صار مستطيعاً بعد قول الباذل: «حجَّ وعليّ نفقتك
ونفقة عيالك». لإطلاق النصوص، فلانحتاج إلى التمليك.
وبهذا ظهر ضعف ما ذكره
ابن إدريس حيث قال:
والذي عندي في ذلك،
أنّ من يعرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج إليه من مؤونة الطريق فحسب، لايجب عليه
الحجّ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم، بل
هذا يصحّ فيمن لايجب عليه نفقة غيره، بشرط أن يملكه ما يبذل له، ويعرض عليه،
لاوعداً بالقول دون الفعال...
43
وقال صاحب المدارك (رحمه
الله)بعد نقل كلام صاحب السرائر (رحمه الله): وهو تقييد للنصّ من غير
دليل 44.
نعم يمكن القول بوثوق
ما قاله الباذل واطمئنان المبذول له به، فتأمّل.
قال صاحب
المدارك (رحمه الله): ...لايبعد اعتبار الوثوق بالباذل، لما في التكليف
بالحجّ بمجرّد البذل مع عدم الوثوق بالباذل من التعرّض للخطر على النفس
المستلزم للحرج العظيم والمشقّة الزائدة، فكان منفيّاً >45.