مروان بن الحكم: الصهر المدلّل
أمّا
عن موقفه (عليه السلام) من مروان بن الحكم فهو معروف ، إذ كانا على طرفي
نقيض تماماً . وقد تفجّر الوضع بينهما إثر حادثة نفي عثمان لأبي ذر
رضوان الله عليه إلى الربذة ، على خلفيّة مشادّة حصلت بينه وبين
كعب الأحبار في مجلس عثمان انتصر فيها هذا الأخير لجانب كعب الأحبار ،
«وأمر عثمان أن يتجافاه الناس ، حتّى يسير إلى الربذة ، فلمّا طلع
عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب(رضي الله
عنه)ومعه ابناه [الحسن والحسين] وعقيل أخوه وعبدالله بن جعفر وعمّار بن
ياسر ، فاعترض مروان فقال : يا علي إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس
أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه ، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد
أعلمتك ، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين اُذني
راحلته ، وقال : تَنَحَّ نحّاك الله إلى النار ، ومضى مع أبي
ذرّ فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف ، فلمّا أراد علي الانصراف بكى أبو
ذر ، وقال : رحمكم الله أهل البيت ، إذا رأيتك يا أبا الحسن
وولدك ذكرت بكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) . فشكا مروان
إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشر
المسلمين مَنْ يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له ، وفعل
كذا ، والله لنعطيّنه حقّه ، فلمّا رجع علي استقبله الناس ،
فقالوا له : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فقال
علي : غَضَبَ الخيل على اللَّجمِ .
فلمّا
كان بالعشي جاء إلى عثمان ، فقال له : ما حملك على ما صنعت بمروان
ولِمَ اجترأتَ عليَّ ورددت رسولي وأمري؟! قال : أمّا مروان فإنّه
استقبلني يردّني فرددته عن ردّي ، وأمّا أمرك فلم أردَّه ، قال
عثمان : ألم يبلغك أنّي قد نهيتُ الناس عن أبي ذرّ وعن تشييعه؟ فقال
علي : أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتبعنا
فيه أمرك؟ بالله لا نفعل . قال عثمان : أقِدْ مروان ،
قال : وممّ أُقيده؟ قال : ضربت بين أذني راحلته ، وشتمته فهو
شاتمك وضارب بين أذني راحلتك . قال علي : أما راحلتي فهي تلك فإنْ
أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل . وأمّا أنا فوالله لئن شتمني
لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّاً . قال
عثمان : ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته ، فوالله ما أنت عندي بأفضل
منه؟! فغضب علي بن أبي طالب : ألي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا
والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، فغضب عثمان واحمرّ
وجهه ، فقام ودخل داره ، وانصرف علي ، فاجتمع إليه أهل
بيته ، ورجال من المهاجرين والأنصار .
فلمّا
كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال : إنّه
يعيبني ويُظاهر مَنْ يعيبني ، يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر
وغيرهما ، فدخل الناس بينهما حتّى اصطلحا وقال له علي : والله ما
أردت بتشييع أبي ذرّ إلاّ الله تعالى .»49
وإضافة
إلى ما تقدّم ، تبدت مظاهر الثراء والبذخ على عدد كبير من
الصحابة ، في عهد عثمان ، ويطول الحديث في هذا المقام ،
ونكتفي بالإشارة إلى أحد هؤلاء ، وهو عبد الرحمن بن عوف ، إذ أصبحت
ثروته مضرب الأمثال كما يقول الدكتور محمد عمارة «فعلى مربطه مائة فرس ،
وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة من الغنم» ، وعندما توفي قدّرت
ثروته بأكثر من مليونين ونصف من الدراهم ، ولقد بلغ حجم القدر الذي
أُحضر منها إلى عثمان ابن عفّان في «البِدَر» و«الأكياس» قدراً من العظم جعله
يحجب رؤية عثمان عن الرجل الواقف أمامه!50
أمّا
فيما يتعلّق بالخليفة نفسه ، والذي يفترض به أن يكون قدوة ويعيش كأضعف
الناس «كيلا يتبيّغ بالفقير فقره»51 كما يقول الإمام
علي(عليه السلام) ، فإنّ المصادر التاريخية تشير إلى أنّ عثمان كان أوّل
خليفة يترك عند مماته ثروة طائلة ، فيحصون له يوم مقتله «عند خازنه من
المال خمسين ومائة ألف دينار ، وألف ألف درهم» وذلك غير قيمة ضياعه
بوادي القرى وحنين ، تلك التي قدّرت بمبلغ مائة ألف دينار ، هذا
عدا الخيل والإبل وغيرها من الممتلكات والمقتنيات52 .
ويمضي
عثمان بعيداً في سياسته هذه المصحوبة بإغداق المنح والأموال على بني عمومته
الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا في الأرض فساداً وعتوّاً . . فيما
يحرم الصحابة ويضرب بعضهم على مشهد من الملإ ضرب إهانة وإيجاع53 ، وليوسّع دائرة
تبرّمه من الأمّة نفسها ، دونما مبرّر سوى ضيق الصدر . إذ روي عن
عبيد بن حارثة قوله : «سمعت عثمان وهو يخطب ، فأكبّ الناس
حوله ، فقال : اجلسوا يا أعداء الله! فصاح به طلحة : انّهم
ليسوا بأعداء الله; لكنّهم عباده ، وقد قرأوا كتابه»54 .
فهذا
يعني ـ فيما يعني ـ أنّ هناك حاجزاً نفسيّاً خطيراً بين الراعي ورعيته .
وتحوّل الحاجز النفسي هذا إلى عقدة مستحكمة من عدم الثقة المتبادلة بين
الطرفين ، حاول عثمان أن يردمها أو يعوّضها بالارتماء أكثر فأكثر في
أحضان الشلّة الفاسدة من بني عمومته ، كلّ ذلك انعكس بشكل سلبي على مجمل
الأوضاع ، الأمر الذي أوجد مناخاً اجتماعياً ونفسيّاً «ولّد وشهد العديد
من التناقضات والصراعات»55 .
ولقد
كان صوت علي بن أبي طالب في مقدّمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة
لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي
الإسلامي على عهد عثمان بن عفّان . . بل لا نغالي ـ يقول د .
محمد عمارة ـ إذا قلنا : إنّ صوت معارضته ونقده كان أعلى هذه
الأصوات56 .
ولمّا
لم تجد نصائح الإمام علي(عليه السلام)أذناً صاغية من عثمان ، رغم أنّه
بذل ما في الوسع لتقديم النصيحة . . فقد اعتزل عثمان بعدما ألقى
عليه الحجّة تلو الأخرى . ووصل الأمر إلى امتناع الإمام علي(عليه
السلام) عن الاستشفاع بالبعض إلى عثمان ، إذ روى سفيان بن عيينة
قائلا : جاء رجل إلى علي(عليه السلام)يستشفع به إلى عثمان ،
فقال : حمّال الخطايا! لا والله لا أعود إليه أبداً . فآيسه
منه57 .
بيد
أنّ مقاطعة الإمام علي(عليه السلام)لعثمان لم تخفّف من درجة المعارضة
المستعرة للسلطة إن لم تساهم أكثر في إذكائها «ومن ثمّ فإنّ حركة المعارضة
والنقد ، ثمّ الثورة ، ضد الأوضاع الجديدة قد اتخذت من عليّ رمزاً
لها وقيادة تلتفّ من حولها ، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب
المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع التي طرأت على المجتمع في ذلك الحين»58 .
وحين
تألّب الناس على عثمان . . أرسل في طلب عليّ ليصرفهم عنه ،
فلمّا قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال ،
فأذن له . . فانصرفوا عن زعماء الفتنة ، وهدأوا إلى
حين .
ثمّ
توافد المتذمِّرون من الولايات إلى المدينة مجنّدين وغير
مجنّدين . . وتولّى زعامة المتذمّرين في بعض الأحيان جماعة من
أجلاّء الصحابة ، كتبوا صحيفة وقّعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ
الخليفة . . فلمّا حملها عمّار بن ياسر إليه ، غضب وزيره
مروان بن الحكم ، وقال له : «إنّ هذا العبد الأسود قد جرّأ عليك
الناس . . وإنّك إنْ قتلته نكلت به منْ وراءه» فضربوه حتّى غُشي
عليه .
وفي
مرّات أخرى ، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه
أعوانه بعلمه أو بغير علمه ، ثمّ يعلن التوبة إلى رعاياه ، ويؤكّد
لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان واخلافهم في أعمالهم بمن يرضي
المسلمين ، ويرضي الله .
ثمّ
يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته ، فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما
تعودوه من الترف والنكاية ، وعلى رأسهم مروان بن الحكم . أبغض
أولئك الأعوان إلى المسلمين59 .
وعندما
زحفت جموع الثائرين على ولاة عثمان والتغييرات الاجتماعية التي
أحدثها . . عندما زحفوا من الولايات : مصر ،
والعراق ، واليمن ، والشام ـ على العاصمة المدينة ـ يطلبون
التغيير ، ذهبت هذه الجموع إلى عليّ وكلّموه ، وطلبوا منه أن يحمل
مطالبهم إلى عثمان ، ثمّ يأتيهم بالجواب . ويحكي الإمام علي وقائع
مقابلته لعثمان عندما دخل عليه فقال له : «إنّ
الناس ورائي وقد استفسروني (أي جعلوني سفيراً) بينك وبينهم ، ووالله ما
أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا اُدلّك على أمر لا
تعرفه . . فالله الله في نفسك! . . وإنّ الطرق
لواضحة ، وإنّ أعلام الدين لقائمة . فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند
الله إمام عادل . . وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُلّ
به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنّي سمعت
رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول : «يؤتى يوم القيامة بالإمام
الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنّم ، فيدور كما
تدور الرحى ، ثمّ يرتبط في قعرها» . وانّي أُنشدك الله ألاّ تكون
إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنّه كان يُقال : يُقتل في هذه الأمّة
إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويُلبس أمورها
عليها ، ويبثّ الفتن فيها ، فلا يبصرون الحقّ من الباطل ،
يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان
سَيِّقةً (أي ما استاقه العدوّ من الدواب) يسوقك حيث شاء بعدَ جلال السنّ
وتقضّي العمر» .
فقال
له عثمان : «كلّم الناس في أن يؤجلوني ، حتّى أخرج إليهم من
مظالمهم» فقال(عليه السلام) : ما كان بالمدينة
فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصولُ أمرِك إليه60 .
من
نافلة القول التأكيد بأنّ هذه ليست الأولى التي حذّر فيها الإمام علي(عليه
السلام)عثمان من مغبّة اعتماده المفرط على سفهاء بني أميّة ، فقد سبق
وأن طرق هذا الباب غير مرّة .
وقد
روى الواقدي في كتاب «الشورى» عن ابن عبّاس(رحمه الله) ، أنّه شهد عتاب
عثمان لعليّ(عليه السلام) ذات مرّة ، ذكّره فيه بموقفه المساند للشيخين
(ولست بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً ، وأقرب إليك
صهراً . . ولم أقصّر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي ، فكن لي
كما كنت لهما) .
وفي
معرض ردّه أجاب الإمام علي(عليه السلام) عثمان على تساؤلاته ، وممّا
قاله : « . . وأمّا التسوية بينك
وبينهما ، فلستَ كأحدهما ، انّهما وليا هذا الأمر فظلفا (أي كفّا)
أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمْتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجّة ،
فارجع إلى الله أبا عمرو ، وانظر هل بقي من عمرك إلاّ كظم الحمار! فحتى
متى وإلى متى؟! ألا تنهى سفهاء بني أميّة عن أعراض المسلمين وأبشارهم
وأموالهم؟! والله لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان اثمه مشتركاً
بينه وبينك .
قال
ابن عبّاس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعلْ واعزلْ من
عمّالي كلّ مَنْ تكرهه ويكرهه المسلمون; ثمّ افترقا ، فصدّه مروان بن
الحكم عن ذلك ، وقال : يجترئ عليك الناس ، فلا تعزل أحداً
منهم»61 .
وهكذا
يتّضح مدى الدور القذر الذي كان يلعبه بنو أمية عموماً ، ومروان
خاصة ، في الوقوف بوجه أيّة محاولة اصلاح لتدارك الاُمور ، وإيقاف
التداعي . ولمّا آيس الناس من إذعان عثمان واستماعه إلى شكاواهم ،
عمّ الاستياء ، وإلى الحدّ الذي «لم يبق أحد في المدينة إلاّ حنق على
عثمان» على ما يقول السيوطي62 .
ثار
الناس وتجمهروا حول قصره «وكانت مدّة حصار عثمان في داره أربعين يوماً أو
أكثر قليلا . .» وطلبوا منه أحد أمور ثلاثة : إمّا أن يعزل
نفسه أو يسلّم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه . لكنّه رفض العروض
الثلاثة . . وكانت الثورة63 .
في تلك
الأثناء ، كانت مشاعر الغضب على عثمان وبطانته تعتمل في صدور
الصحابة ، وبلغ الأمر ببعضهم مشاركة الثوّار ، فيما كانت عائشة
تؤلِّب على قتل عثمان «اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا! تعني
عثمان ، وكان هذا منها لما غاضبته وذهبت إلى مكّة»64 .
أمّا
علي فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيّله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب
من كلّ جانب . . كان عليه أن يكبح الفَرس عن الجماح ، وكان
عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفَرس . . كلّما حيل بينها
وبين الانطلاق .
كان
ناقداً لساسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه . . ناصحاً
للخليفة بإقصاء تلك البطانة ، وتبديل السياسة التي تزيّنها له وتغريه
باتباعها وصم الأذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها . وكان مع هذا أوّل
منْ يُطالب بالغوث ، كلّما هجم الثوار على تلك البطانة ، وهمّوا
بإقصائها عنوة من جوار الخليفة .
كان
الثوّار يحسبونه أوّل مسؤول عن السعي في الإصلاح ، وكان الخليفة يحسبه
أوّل مسؤول عن تهدئة الحال وكفّ أيدي الثوّار . ولم يكن في العالم
الإسلامي كلّه رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة التي تلقاه من جانبيه كلّما
حاول الخلاص منها ، ولا خلاص!
وضاعف
هذا الحرج الشديد الذي كان يلقاه في كلّ خطوة من خطواته ، أنه لم يكن
بموضع الحظوة والقبول عند الخليفة حيثما وجب الإصغاء إلى الرأي والعمل
بالمشورة . وإنّما كان مروان بن الحكم موضع الحظوة الأولى بين المقرّبين
إليه . . لا ينجو من إحدى جناياته التي كان يجنيها على الحكومة
والرعية حتى يعود إلى الخليفة فيوقع في روعه أنّ عليّاً واخوانه من جلّة
الصحابة هم الساعون بين الناس بالكيد له وتأليب الثائرين عليه ، وأنّه
لا أمان له إلاّ أن يوقع بهم ويعرض عنهم . . ويلتمس الأمان عند
عشيرته وأقربائه ، ومن هم أحقّ الناس بسلطانه وأصدقهم رغبة في
دوامه .
ففي
المؤتمر الذي جمعه الخليفة للتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة ، لم يكن
عليّ مدعوّاً ولا منظوراً إليه بعين الثقة والمودّة . . بل كان
المدعوون إلى المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه . . وهم معاوية
وعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبي سرح وعبدالله بن عامر وسعيد ابن
العاص ، وهم في جملتهم من أولئك الولاة الذين شكاهم عليّ وجمهرة الصحابة
وبرحت بهم صدور المهاجرين والأنصار .
كان
هؤلاء هم الوزراء والنصحاء وأهل الثقة عند عثمان ، ومن ورائهم مروان بن
الحكم يلازمه ويكفل لهم أن يحجب النصحاء عنه ، وفي مقدّمتهم عليّ
واخوانه . . ثمّ تفرّق المؤتمرون وقد ردّ عثمان كلّ عامل إلى
عمله ، وأمره بالتضييق على من قبله .
فكانت حيلة
عليّ في تلك المعضلة العصيبة جدّ قليلة ، وكان الحول الذي في يديه أقلّ
من الحيلة .
إلاّ
أنّه مع هذا قد صنع غاية ما يصنعه رجل معلّق بالنقيضين ، معصوب
بالتبعتين ، مسؤول عن الخليفة أمام الثوّار ومسؤول عن الثوّار أمام
الخليفة65 .
فحينما
تناهى إلى سمعه ، أنّ الثوّار يريدون قتل عثمان ، بعث الإمام
علي(عليه السلام)بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه
لنصرته ، وأمرهم أن يمنعوه منهم66 وهكذا حذا حذوه بعض الصحابة اقتداءً
بالخطوة ، فصدّوهم عن الدار . . واشتبك القوم ، وجُرح
الحسن ، وشُجّ قنبر ، وجرح محمد بن طلحة ، فخشي القوم أن
يتعصّب بنو هاشم وبنو أميّة ، فتركوا القوم في القتال على الباب ،
ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوّروا عليها ، وكان ممّن وصل
إليه محمّد بن أبي بكر ورجلان آخران . .67 .
وبينما
كان البعض يشحذ سيفه استعداداً لخوض الجولة الأخيرة مع عثمان ، والبعض
الآخر يمنّي نفسه بالأمر . . جاء الثوّار إلى الإمام علي(عليه
السلام)يعرضون الخلافة عليه . . فلقيهم أسوأ لقاء ، وأنذرهم
لئن عادوا إليها ليكونن جزاؤهم عنده وعند الخليفة القائم ، جزاء العصاة
المفسدين في الأرض68 .
ووقع
المحذور ، ويهرع الإمام علي(عليه السلام) إلى دار الخليفة
المقتول ، ولطم الحسن وضرب الحسين ، وشتم محمّد ابن طلحة وعبدالله
بن الزبير وجعل يسأل ولديه : كيف قُتل الرجل وأنتما على الباب؟ فأجاب
طلحة : لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن ، لو دفع مروان ما
قُتل69 .
وبقيت
المدينة خمسة أيّام بعد مقتل عثمان ، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من
يجيبهم إلى القيام بالأمر ، والمصريون يلحوّن على عليّ وهو يهرب إلى
الحيطان (البساتين) . . وكلّهم يقول : لا يصلح لها إلاّ
علي70 .
وهنا ، يصل المأزق إلى مرحلة الخيارات الصعبة ، فأمّا أن يقبل أمير
المؤمنين علي(عليه السلام) بالتصدّي لاُمور المسلمين ويتسنّم قيادتهم رسميّاً
أو أن يلقي الحبل على غاربه ، مع ما يترتّب على الخطوة الأخيرة من نتائج
خطيرة ومهوّلة لا تتوقّف آثارها على حقبة تاريخية معيّنة وإنّما تتعدّاها
بجملة تشويهاتها إلى كلّ العصور; لأنّ المشكلة كانت تكمن في المنهج المعتمد
لا في غيره . وأمام فداحة تلك النتائج المتوقعة ، قبل الإمام
علي(عليه السلام) بتسلّم السلطة ، حاملا معه اطروحته بكلّ
دقائقها ، محاولا استئناف العمل بالمشروع الإسلامي البعيد71 .
ولكن;
هل أُتيحت الفرصة المواتية للإمام علي(عليه السلام) لإنجاز مشروعه
هذا؟!