علي المعارضة
إذا
كان الإمام(عليه السلام) قد أسّس المعارضة الشرعية في الإسلام بعد الرسول(صلى
الله عليه وآله) ، وهو يومئذ في موقع الفرد إزاء السلطة الحاكمة ،
فإنّه يعتبر كذلك المنظِّر الأوّل لمنهج التعامل مع المعارضة يوم أصبح حاكماً
على المسلمين72 .
ومنذ
البداية كان الشكّ يخامر البعض ، لأسباب عديدة ، رغم أنّ الإمام
عليّاً(عليه السلام) ، وبشهادة حتّى أعدائه ، الأقدر
والأصلح ، ولكن ثمّة غيوم كانت تتلبّد في أجواء ملبّدة
أساساً .
فحينما
أجمع المسلمون على بيعة الإمام علي(عليه السلام) بعد مقتل عثمان ، تخلّف
عدد من الصحابة عنه ، وثار عليه آخرون ، وتمرّد عليه بعض ،
وانحرف فريق آخر ، فكيف كان موقفه من هذه الفئات المختلفة73؟
بدءاً ، كان امتناع البعض عن تقديم البيعة للإمام(عليه السلام) أوّل
اختبار لمنهجه في التعاطي مع «الآخر» المختلف . وبالرغم ممّا كان
يمثِّله الامتناع عن البيعة من خروج سافر على مبدأ الطاعة لخليفة
المسلمين ، لاسيما وأنّ بيعته كانت الوحيدة من بين مَنْ سبقوه تحقّقت
بمشاركة شعبية واسعة وبإجماع شامل ، إلاّ أنّ النفر الذين تخلّفوا وهم;
سعد بن أبي وقّاص ، وعبدالله بن عمر ، واُسامة ابن زيد ،
وآخرون لا يتجاوزون بضعة نفر . . لم يعاملوا المعاملة المتوقّعة
بمقاييس المسلمين في ذلك العصر . لقد حصل مع علي بن أبي طالب والذين
تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ، أنّهم هُدّدوا وحوصروا في بيت علي ،
وتمّ كشف البيت بالقوّة في الحادثة التي ندم عليها أبو بكر في لحظات
احتضاره ، إلاّ أنّ الإمام عليّاً ترك من تخلّف عنه وشأنه ولم يرغمه في
شيء لم يكن مقتنعاً به ، حتى ندم النادمون في لحظة فوات الأوان ،
مع أنّ أحاديث البيعة والسمع والطاعة للأمير البرّ والفاجر كانت من السِمات
المعروفة عن عبدالله بن عمر ، ممّا يوحي بأنّ موقفه كان سياسياً وليس
نابعاً من شبهات حالت بينه وبين أن يساوي بين علي في سنة 36هجرية وبين يزيد
بن معاوية في سنة 60 هجرية ، واحتفظ المتخلّفون بكامل حقوقهم في دولة
عليّ ، بينما لم يؤدّوا واجباتهم المفترضة ، وعلى رأسها القبول
بالرئيس الأعلى للدولة الإسلامية .
لقد
كان مفهوماً أنّ عليّاً يمنح بذلك معارضيه فرصة التعبير عن مواقفهم ،
ويبيّن ما أشكل عليهم معرفته وفهمه ، والدوافع التي كانت تقودهم إلى
تبنّي تلك المواقف ، ولم يحجر على أحد أو يقطع عطاء أحد من بيت
المال .
ويتكرّر الموقف نفسه مع أهالي «صرنا» في مصر حين امتنعوا عن بيعته ،
بكلّ ما يعنيه ذلك من تمرّد ورفض لسلطة زعيم الدولة الذي اختاره المسلمون ومن
بينهم زعماء المصريين أنفسهم الذين شاركوا في الثورة على عثمان74 .
ومن
الواضح أنّ خلافة الإمام علي(عليه السلام) جاءت في ظروف بالغة الخطورة
والتعقيد ، فذووا النفوذ من الناس قد ألفوا الاستئثار واستراحوا
إليه ، وليس يسيراً أبداً أن يذعنوا لأيّة محاولة إصلاحية تضرّ بمصالحهم
الذاتية .
ثمّ
إنّ المطامع قد تنبّهت لدى الكثير من الرجال ، بعد أن أصبحت الخلافة
مغنماً لا مسؤولية لحماية الشريعة والأمّة . ولقد كان الإمام(عليه
السلام)مدركاً لحقيقة الموقف بدقائقه وخفاياه بشكل جعله يعتذر عن قبول
الخلافة حين أجمعت الأمّة على بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان قائلا :
«دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه
وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وأنّ
الآفاق قد أنماحت والمحجة تنكّرت . .»75 . ولكن جماهير المدينة
المنورة ، وجماهير الثوّار من العراق ومصر أصرّوا على استخلافه
عليهم ، فنزل الإمام عند رغبتهم ، ولكن وفقاً لشروطه الخاصّة
هو : «واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أُصغِ إلى
قول القائل وعبث العابث»76 .
حتى
إذا قام بالأمر وأراد إرجاع الحقّ إلى نصابه ، تألّب عليه الكثيرون من
الساعين وراء مصالحهم الشخصية ، ومنهم الزبير وطلحة ، مختلقين
الأعذار الواهية . فحارب الناكثين من أصحاب الجمل في البصرة ، ثمّ
حارب القاسطين من أصحاب معاوية في صفّين ، ثمّ حارب المارقين من الخوارج
في النهروان ، يبغي تطهير المجتمع الإسلامي من الفتن . .
والنفوس المريضة77 .
وفي
خطبته الشقشقية أشار إلى التحدّيات الكبرى التي واجهته ، وحدّد بدقّه
حقيقة منطلقاتها : «فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت
طائفة ، ومرقت أُخرى ، وقسط آخرون [يشير بذلك(عليه السلام) إلى
أصحاب الجمل (وهم الناكثون) وإلى أصحاب النهروان الخوارج (وهم المارقون) وإلى
أصحاب صفّين (وهم القاسطون)] . كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه
حيث يقول : { تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . بلى والله لقد سمعوها ووعوها ،
ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (أي زينتها)»78 .
هنا
وقفة مقتضبة أمام ثلاث جبهات تباينت في شعاراتها ولكنّها اتّفقت على مناوأة
الإمام(عليه السلام) ، وفي كلّ مرّه ، كان الموقف من قبل
الإمام(عليه السلام)والتعاطي مع هؤلاء منسجماً واضحاً وصادراً من موقف شرعي
محدّد .