اسماعيل(عليه السلام)
الذبح : عندما تقترن الزعامة
بالنبوّة . تصبح لها نكهة خاصة ، تجذب إليها النفوس الكريمة ،
وتهوي إليها الافئدة الطاهرة ، ويقترب منها الصالحون . وعندما
يختار الله سبحانه وتعالى عبداً لحمل رسالته ، يدخله في دورة من
الابتلاءات والامتحانات حتى تكتمل شخصيته ، ويكون مؤهلا لحمل
الرسالة . وإسماعيل(عليه السلام)كان واحداً من أولئك العباد
الصالحين ، الذين اختارهم الله لرسالته ، وادخله دورة تأهيلية لحمل
النبوّة . ومن مفردات تلك الدورة قصة الذبح . حيث يرى إبراهيم(عليه
السلام)في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل {يا
بني إني أرى في المنام أني أذبحك}48 ورؤيا الأنبياء صادقة كاليقظة .
فيلبي إبراهيم أمر ربّه ، وفي رحلة الحج أو غيرها يقف ابراهيم على
إسماعيل وهو يصلح النبل للصيد ، ليبلغ إسماعيل(عليه السلام)بالأمر
الصعب . فهل يستجيب له كما استجاب في المرّات السابقة من الطلاق وبناء
البيت والحج وغيرها؟ {يا أبتِ افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين}49 ويحاول إبراهيم أن ينفذ الأمر في ابنه
{فلما أسلما وتلّه
للجبين}50 تنفيذاً لأمر الله وعندما وضع السكين على رقبته
أدركتهُ الرحمة الإلهية فجاءه النداء الإلهي
{ . . . أن يا ابراهيم * قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين * وإنّ هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم}51.
وانطلق إسماعيل
يبدأ خطى الحياة من جديد . بعد أن أصبح مؤهلا للزعامة الدينية
والدنيوية . ويحسن إدارة مكة مستعيناً بأبنائه الاثني عشر وعلى رأسهم
نابت وقيدار ، الذين يرتبط نسب العرب المستعربة بهم ، والذين نزل
القرآن بلغتهم . ولذلك كان الرسول(صلى الله عليه وآله) يقول : أنا
ابن الذبيحين يعني إسماعيل وعبدالله . وورد عنه(صلى الله عليه وآله)
كذلك . «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا
بأهلها خيراً فإنّ لهم ذمة ورحماً» وكان يقصد هاجر أمّ
إسماعيل المصرية ومارية أمّ ابراهيم زوجة النبي(صلى الله عليه وآله)القبطية
المصرية .
ولما حسنت إدارة
مكة على عهد إسماعيل وبنيه ، كثرت الهجرة إلى مكة وتمصرت ، خاصة
بعد خراب سد مأرب حيث انتشرت الأقوام المحيطة في السد ، وقسم منها هاجر
إلى مكة . ويُستدل من بعض الأخبار أنّ مكة قد عمرت بالسكان في عهد
إسماعيل حتى كان لها نظام حكم وسلطة وإدارة ، خصوصاً أن مكة كبرت واتسعت
وتشابكت مصالح سكانها ، وأصبحت لها مواسم تختلف مهماتها من طقوس دينية
وعروض تجارية وغير ذلك52. وبقيت هكذا تزدهر إلى أن توفي إسماعيل ،
وجاء من بعده ابنه نابت ، وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور والحاكم
المطلق في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم . ثم جاء بعد نابت قيدار بن
إسماعيل وسار بالطريقة التي سار بها أخوه نابت وأبوه إسماعيل(عليهما
السلام) .
زعامة جرهم
اختلف المؤرخون
في إدارة مكة بعد نابت وقيدار ، فمن قائل : إنّ إدارتها كانت لجرهم
بعدهما ، وآخر ينسب ذلك إلى العماليق ، وثالث يقول : إنّها
كانت مشتركة بين جرهم والعماليق ، ثم حدث صراع بينهم أدى إلى نفي
العماليق عن مكة ، والى سيطرة جرهم عليها . وآخر يعيد ذلك الحدث من
الصراع الى «طسم» أو أبناء قنطورا . إلاّ أن أشهر الأخبار تشير إلى أن
الذين تولوا إدارة مكة بعد أبناء إسماعيل هم جرهم ، وهم الذين تزوج
إسماعيل منهم زوجته ، إلاّ أنهُ كذلك اختلف في كيفية استيلائهم على
الادارة ، هل كانت بالحرب والقوة أم بالسلم؟ واختلف كذلك هل كانت جرهم
تسكن مكة أو قريباً منها قبل إبراهيم وزوجته هاجر وابنها ، أم أنّها
كانت غير مسكونة ، وإنما اتفق مجيء قافلة من جرهم ، وفي أثناء
مرورهم علموا من نزول الطير وجود ماء في وادي مكة ، وعثروا على هاجر
وابنها في تلك الحال53؟
ثم إنه هناك من
يقول : إنّ جرهم اثنان . الأولى ابيدوا على يد القحطانيين .
والثانية هي التي تولت إدارة مكة بعد أبناء إسماعيل54.
وعلى كل حال أنّ
جرهم تصاهرت مع إسماعيل وكانوا يتكلمون العربية ، وأنّ إسماعيل أخذ منهم
اللغة العربية بعد أن عاش بين ظهرانيهم منذ نعومة أظفاره حتى
وفاته .
ثم إنّه في أيام
إدارة جرهم ، لم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة غير ولد إسماعيل تعظيماً
لهم . فقام بأمر الكعبة بعد ثابت أمين ، ومن بعده يشجب بن
أمين ، ثم الهميع ، وبعده أدر الذي عظم شأنه في قومه وجلّ
قدره ، وأنكر على جرهم أفعالهم ، وهلكت جرهم في عصره55. على إحدى الروايات
وفي رواية المسعودي في المروج56 : أنّ أول ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن
سعد بن الرقيب بن هيتي بن نبت بن جرهم بن قطحان ، ثم بعده عمرو بن
مضاض ، ثم الحارث بن عمر ، ثم عمر بن الحارث ، ثم مضاض بن عمر
الأصغر . وفي رواية أخرى لليعقوبي57 ; أنّ أول ملوك جرهم مضاض بن عمر ، ثم
الحارث بن مضاض ، ثم عمر بن الحارث ، ثم المفسم بن ظليم ، ثم
الحواس بن جحش بن مضاض ، ثم عداد بن ضداد بن جندل ، ثم محص بن
عداد ، ثم الحارث بن مضاض بن عمر ، وكان آخر من ملك من
جرهم .
دفاع جرهم عن مكة : وقد دخلت جرهم في
حروب متعددة دفاعاً عن موقعها ، فمن ذلك أنّ الحارث بن مضاض أول من ولي
البيت ، وكان كلّ من دخل مكة بتجارة عشرها عليه في أعلى مكة . وملك
العماليق السميدع بن هوبز بن لاوي بن قيطور بن كركر . وكان يعشر من دخل
مكة من ناحيته ، وكانت بينهما حروب فتارة تكون على الجرهمين وأخرى
لهم ، واستقام الأمر لجرهم آخر المطاف58وينقل حسين أمين في موسوعة العتبات المقدسة59: أنَّ في أيام الحارث
ابن مضاض الجرهمي نشطت حركة بني إسرائيل ، وزحفوا يريدون مكة من
الشمال ، فقاتلهم الحارث بن مضاض ، فهزمهم واستولى على تابوت من
الكتب يحملونه ، وفيه ما انتحلوه من الزبور .
سقوط جرهم
وردت أخبار
متباينة في كيفية سقوط جرهم . فمن ذلك ما ذكره ابن هشام60: أنّ جرهماً بغوا
بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة ، فظلموا من دخلها من غير أهلها ،
وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها ، ففرق أمرهم ، فلما رأت بنو بكر
ابن عبد مناة من كنانة ، وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من
مكة ، وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً ، ولا
يبغي فيها أحد إلاّ أخرجته ، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلاّ هلك
مكانه . فيقال : إنها ما سميت بكة إلاّ أنها كانت تبك أعناق
الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئاً . فلما أحسَّ عمرو بن الحارث الجرهمي
خرج بغزالي الكعبة وبحجر الركن فقذفها في زمزم ، وانطلق هو ومن معه إلى
اليمن ، فحزنوا على ما فارقوا عن أمر مكة وملكها حزناً شديداً ،
فقال عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض في ذلك شعراً
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
فقلت لها والقلب مني كأنما
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
يلجلجه بين الجناحين طائر
صروف الليالي والجدود الغوائر
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ولهذا الشعر قصة
لطيفة : إنّ عمرو بن الحارث كان قد نزل بقنونا من أرض الحجاز ،
فضلت له إبل فبغاها حتى أتى الحرم ، فأراد دخوله ليأخذ إبله ،
فنادى عمرو بن لحى : من وجد جرهمياً فلم يقتله قطعت يده . فسمع
بذلك عمرو بن الحارث ، وأشرف على جبل من جبال مكة ، فرأى إبله تنحر
ويتوزع لحمها ، فانصرف بائساً خائفاً ذليلا وأبعد في الأرض ،
وبغربته يضرب المثل ، ثم قال هذا الشعر .
وفي رواية
اليعقوبي61. أن
جرهم لما طغت وظلمت وفسقت في الحرم ، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى
إليها ، سلط عليهم الذر فاهلكوا عن آخرهم .
ورواية
المسعودي62
تقول : لما بغت جرهم في الحرم وطغت حتى فسق رجل منهم في الحرم
بامرأة ، بعث الله على جرهم الرعاف والنمل وغير ذلك من الآفات ،
فهلك كثير منهم . وكثر ولد إسماعيل وصارو ذوي قوة ومنعة ، فغلبوا
على أخوالهم جرهم ، وأخرجوهم من مكة فلحقوا بجهينة ، فأتاهم في بعض
الليالي السيل فذهب بهم .