الحُلّة الخراسانية تكسي الكعبة الشريفة
السطور القليلة القادمة تحكي قصة حَدَث
تأريخيّ مهم في القرن التاسع الهجري، ألا وهو مراسم إكساء الكعبة الشريفة
بأول حُلّة صنعت بأيد خراسانية. وكان ذلك بهمّة شاهرخ بن الأمير تيمور
غوركان، وقد عمل المذكور جهده كما ستقرأ ذلك فيما بعد ـ ولفترة طويلة من حكمه
ـ للوصول الى مراده ذاك. ولهذا السبب كان قد ارسل عدّة بعثات الى مصر; لإثبات
حُسن النيّة، وصرف في سبيل ذلك مبالغ طائلة حتى نال في النهاية هدفه، ولولا
ذلك لاقتصرت مسألة إكساء الكعبة على العرب وحدهم، ولحُرِمَ غيرهم من الأمم
المسلمة شرف ذلك.
لقد ظَلَّ
موضوع اكساء الكعبة ـ ومنذ العهد الجاهلي حتى عهد الخلفاء وعلى مرّ العصور ـ
موضع اهتمام المؤرّخين والمحقّقين، ويمكن الوصول الى ما يتعلّق بهذه المسألة
بمجرد الرجوع الى المصادر المتعلّقة بذلك الموضوع. وليس هدفنا من هذه المقالة
الموجزة إلاّ الإطّلاع على جوانب بسيطة من هذا الموضوع، والاشارة إليه دون
إطناب أو تفصيل.
روى
القلقشندي في «صبح الأعشى» نقلا عن «أخبار مكّة» للأزرقي قوله: إنَّ أسعد
الحميري (من تابعية اليمن) كان أول من كسا الكعبة الشريفة بالحُلّة في زمن
الجاهلية.
حُلّة الكعبة أيام الجاهلية
:
كانت
الكعبة الشريفة تُكسى بأقمشة وحُلَل ملوّنة ومتنوعة في الجاهلية. وكانت تلك
الحُلّة في الزمن المذكور تُصْنَعُ وتهيئ بمعونة مختلف القبائل ومساعدة
الجماعات وهمّتهم، حتى اقترح أحد التجّار آنذاك ـ ويُدعى أبو ربيعة عبد الله
بن عمرو بن مخزوم، وكان يعمل بالتجارة مع اليمن ـ أن يقوم هو بإكساء الكعبة
سنة ويُلبسها كسوتها وتقوم قريش كلّها بذلك سنة اُخرى. فاستمرّ ذلك النهج حتى
توفي أبو ربيعة. والجدير بالذكر أنّ الكعبة كانت تُكسى بالنّطع (وهو نوع من
الجلد) مدّة من الزمن.
في صدر الإسلام وما بعده
:
كُسيت
الكعبة أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنسيج اليمانيّ، وسار
الخلفاء الراشدون على هذا النهج كذلك. وكان لون تلك الحُلّة في تلك الأيام
أبيض أحياناً أو أحمر أحياناً اُخرى. وأمّا خلفاء بني العباس الذين كان
شعارهم اللون الأسود فقد ألبسوا الكعبة بلباس أسود أيضاً.
فلمّا
استولى ملوك مصر على الحجاز اقتصرت مسألة إكساء الكعبة عليهم وحدهم، فدام هذا
النهج حتى القرن التاسع للهجرة.
وأمّا
الحَدَث الذي نحن بصدده في هذه المقالة فيرجع تأريخه إلى النصف الأول من
القرن التاسع الهجري، وذلك أيام حكم المماليك في مصر ـ الملك الأشرف حتى
الملك الطاهر ـ وحاكم خراسان أو كما يسميه المؤرخون العرب بـ «ملك
الشرق» شاهرخ ميرزا (ولد سنة 850هـ ) بن الأمير
تيمور غوركان.
طموح وهمّة شاهرخ
:
اعتلى
شاهرخ عرش خراسان الكبيرة بعد وفاة الأمير تيمور سنة 807هـ . واتّخذ
هرات عاصمة لحكمه. وتُعدّ فترة حكمه بحقّ من ألمع فترات الحكم وأكثرها
ازدهاراً في مجال العلم والفن والعمارة والبناء في هذه البقعة من الأرض.
وكانت فكرة إكساء الكعبة حلّتها تدور في ذهنه منذ ارتقائه عرش أبيه، وكانت هي
أمله الوحيد الذي كان حِكراً على الحكام العرب حتى ذلك الحين، ولم يكن لأحد
من العجم حَقٌّ في أداء ذلك على الإطلاق.
وكان شاهرخ
في الحقيقة يهدف من وراء كلّ ذلك الحصول على شرف معنويّ لا مثيل له أوّلا،
وثانياً كان يريد كسر طَوق التمييز بين مختلف الأقوام المسلمة والنهج
اللامنطقي لمماليك مصر، وثالثاً العروج الى المرتبة العُليا بين الاُمم. يصف
عبد الرزاق السمرقندي، صاحب مطلع السعدين، شاهرخ بأنّه «كان يحمل في جنباته
دوماً طموحاً لا يُقاوم وهو إكساء بيت الله الحرام بالحلّة على يديه متى
طُلِبَ منه ذلك، إلاّ أن هذا الطموح لم يكن ليحدث على أرض الواقع دون إذن من
سلطان مصر».
المحاولة الأولى
:
شرعَ شاهرخ
بإعداد أرضية مناسبة لمحاولته الأولى منذ عام 833هـ . ويذكر مؤرخو مصر
أن مبعوث شاهرخ ملك شرق (خراسان) وصل الى القاهرة في 24 محرّم سنة
833هـ . وقام بتسليم الملك الأشرف رسالة من السلطان المذكور. وأمّا
الرسالة فقد تضمّنت ثلاثة أمور رئيسية، هي:
الأمر الأول: كان
شاهرخ قد طلب في الرسالة في بداية الأمر اهداءه
كتابَيْنَ هما:
1 ـ شرح
البخاري لشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني.
2 ـ تاريخ
السلوك لدول الملوك لتقيّ الدين أحمد بن علي المقريزي.
هذا الأمر
يذهب بنا الى مدى اهتمام الحلقات العلمية في هرات بالاكتشافات الجديدة في
عالم العلوم في تلك الحقبة.
الأمر الثاني: كان
شاهرخ قد ذكر في رسالته تلك أنّه كان قد نَذَرَ أن يُهيّء حُلّة للكعبة
الشريفة ويرسلها لإكسائها هناك، وأمّا الأمر
الثالث: فقد أبدى شاهرخ اقتراحه في فتح غدير ماء ويجريه الى مدينة
مكّة، وكأنّه أراد بذلك أن يضع التجارب الخاصة بالإرواء والسّقي بواسطة
القنوات ومجاري المياه، المعمول بها في خراسان آنذاك موضع الفعل في مدينة
مكّة للاستفادة منها هناك.
ويذكر ابن
تغري بردي مؤلّف كتاب «النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة» أنَّ أيّاً من
مطالب ملك الشرق لم تُجَبْ من قِبَلِ ملك مصر، على خلاف ابن إياس مؤلّف
«بدائع الزهور» الذي كتب يقول: انّ السلطان قام بإرسال شرح البخاري وتاريخ
المقريزي الى شاهرخ، إلاّ انّه امتنع عن قبول اقتراح شاهرخ بإرسال حُلّة
للكعبة الشريفة، أو في فتح القناة الى مكّة. وكتب الملك الأشرف الى شاهرخ
يقول: إنَّ هناك أوقافاً تجرى لتهيئة حُلّة الكعبة، وأنّه لا حاجة لأيّ من
الملوك في تهيئة ذلك. وأمّا ما يتعلّق بالقناة فقد ذَكّرَ الملك الأشرف شاهرخ
أنّ في مكة آباراً وعيون ماء كثيرة، ولا داعي لإنشاء غيرها (ويظهر أنَّ الملك
الأشرف لم يكن على عِلم أو اطلاع حول ما قصده شاهرخ من قنوات ومجار مائية،
ولعلّة حسبها كآبار عاديّة وعيون كالتي توجد في مكّة).
وذكر ابن
حجر كذلك أن ثلاثة مجلّدات من «فتح الباري بشرح البخاري» أرسلت الى ملك
الشرق.