تمهيد
القرآن، وما أدراك ما القرآن، كتاب جاء به بشر مبلغا أنه وحي يوحى (علّمه شديد القوى)(1) في العصر الوحيد في رُقىّ الفصاحة والبلاغة ـ في نوع العرب ـ وقيام سوقهما وعموم أدبهما.
وكانت دعوة القرآن باهضة لأهل ذلك العصر، مضادة لأهوائهم، مهددة لطاغوتهم في جميع شؤونهم، وكانوا هم أهل السلطة والصولة، والاقتدار والثروة، وأهل اللسان الراقين في الفصاحة والبلاغة، فاحتجّ القرآن ونبيّه بجلالة مقامه بحيث يعجزون عن معارضته والاتيان بمثله.
وكم تحدّاهم(2) في ذلك بطلب المعارضة تعجيزاً، فلمّا عجزوا تنازل في تعجيزهم إلى "عشرة سور من مثله"(3) فلمّا عجزوا تنازل معهم إلى الإتيان (بسورة مثله)(4) وقد كان لهم بالمعارضة أحسن مندوحة تقوم لهم بها الحجّة، وتظهر الغلبة، ويخلد لهم الذكر، ويسمو الشرف، ويستريحون إليها من مقاساة أهوال الحروب التي طحنتهم، ومعاناة(5)هوان الأسر، وصَغار المغلوبية، وذلّة الانحطاط من جبروتهم، والتنازل عن ضلالهم وعوائدهم.
لكنّهم يعرفون ـ لا كغيرهم ـ أنّ الذي يُفتخر به ويُتنافس فيه من ارتفاع قدر الكلام وبلاغته إنّما يكون بمقدار مطابقته لمقتضى
الحال الذي يُتكلّم فيه وجريانه على الوجوه اللازمة في ذلك، لا بمجرّد
(1) النجم 53: 5.
(2) تحدّاهم: نازعهم.
(3) اقتباس من سورة هود 11: 13.
(4) البقرة 2: 23.
(5) المعاناة: الملابسة والمباشرة.