لو بحثنا عن أول يوم تعلمنا فيه اللغة، لعرفنا ان السياق كان أول سبيل لهذا التعلم، فالوالد استعمل لفظ العصى عندما كان يتكلم عن الضرب، فعرفنا أنه وسيلة الضرب. والوالدة أطلقت لفظة الولاعة حينما تكلمت عن الطبخ، فعرفنا أنها وسيلة إشعال النار.و..و.. ولا ريب ان وجود اللفظ في اطاره المتناسب يوحـي بمعناه ربما اكثر من تفسير اللفظ بدون سياق يحده. والقرآن الحكيم ذلك الكتاب البليغ الذي يناسب بين المفردات في اطار السيـاق بحيث يصعب عليك تبديل لفظـة باخرى دون ان تضـر بتناسب الكلمات. لذلك يهدينا السياق ذاته الى المعاني الدقيقة للكلمات لأنها وضعت في موقع متناسب جداً مع تلك المعاني، فإذا أردنا ان نعرف بالدقة معنى اللفظ كان علينا مراجعة ما قبلها وما بعدها، لمعرفة ما يتناسب معهما من معنى لهذه الكلمة، فمثلاً لو اردنا ان نكتشف معنى "قصد" في هذه الآية « وَعَلَى اللـه قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ » (النحل/9) لو اردنا ذلك قارنا بين القصد، والجائر، والهداية، فنعرف معنى القصد، لأنه جاء في مقابل الجائر الذي يعني المائل، فالقصد هو المستقيم، والجائر هو الظالم فالقصد هو العادل. أو إذا أردنا التعرف على معنى "نفش" في هذه الآيـة « وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَـانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِيـنَ» (الانبياء/78) لو اردنا ذلك لم يكن علينا الا قياس كلمة نفشت بالحرث والغنم والحكم، مما نعرف انه اتلاف الحرث، وهكذا. وقد جاء رجل الى صحابي فسأله عن معنى "الأبّ" الذي جاء في الآية الكريمة « وَفَاكِهَةً وَأَبّاً» فلم يعرفه. وجاء علي u وقال: إن معنى اللفظ موجود في الآية ذاتها، لأن اللـه سبحانه يقول: « وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ» (عبس/31-32) ج - التفسير. إن معرفـة الاطار التاريخي الذي شاهد نزول الوحي، ومعرفة المورد الخاص الذي نزلت فيه الآية، والموقف الاجتماعي الذي وجهته الآية، ذات أثر كبير في تفهم المعنى الدقيق للآية. ومعرفة تفاسير ائمة الوحي (عليهم السلام) للآية قاطعة في معانيها، بيد ان تفاسير الأئمة عليهم السلام قد تختلف فيما بينها، او تبين تطبيقاً واحداً للآية، وهنا لابد ان نتخذ منها سبيلاً لفهم المعنى العام الذي يحل مشكلة الاختلاف - من جهة- ويعطي الآية تطبيقات اشمل من جهة ثانية، ولذلك يجب ان لا نجمد في النصوص الواردة في تفسير الآيات على انها المعاني الوحيدة التي تحملها، بل نتخذ منها وسيلة لفهم المعنى الأشمل للآية، وندرس كيف ولماذا انطبقت الآية على المورد الذي يعينه التفسير، لنعرف انه هل يمكن تطبيق الآية ايضاً على مورد متشابه ام لا؟ فمثلاً جاء في بعض النصوص التفسيرية أن الآية الكريمة « إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللـه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النحل/106) نزلت في حق عمار بن ياسر، حسناً فهل من الممكن تجميد الآية في عمار؟ كلا. بل يجب ان نفكر كيف جاءت الآية تطبيقاً على حالة عمار... أليس لأنه كان قد اكره على الشرك، فأعطاهم بلسانه ما احبوه؟ اوليس ذات الموقف لو تكرر لرجل اليوم وصنع مثل ما صنعه عمار تنطبق عليه. إن هذا الأسلوب من التفكير يجعل القرآن حياً ابداً، وقد امر به الدين، فجاء في الحديث: "لو ان القرآن كان يذهب بموت من نزل فيهم لذهب القرآن كله، وإنما مثله كمثل الشمس، كل يوم جديد". بهذا نعرف ضرورة الاستفادة من التفسير الصحيح بالفهم الواعي لحدود تطبيق التفسير لعموم الآية.
التدبر والصفات النفسية
عدة صفات ينبغي ان يتحلى بها المتدبر في القرآن ليستطيع فهم آياته المجيدة؛ صفات نفسية وعقلية، حتى يتسنى له بعد تطبيق طرق التدبر على نفسه معرفة الحقائق الكبرى التي تنطوي عليها الآيات. وإليك بعض هذه الصفات: 1- الإيمان بالقرآن على انه كتاب أوحى به اللـه رب السموات ليكون لعباده مبشراً ونذيراً. وهادياً الى الحق باذنه وسراجاً منيراً. لابد ان نقرأ القرآن بوصفه خطاباً موجهاً إلينا من اللـه العظيم، فقد جاء في الحديث: "ان في القرآن المناجاة مع الرب بلا واسطة فانظر كيف تقرأ كتاب ربك، ومنشور ولايتك، وكيف تجيب اوامره ونواهيه وكيف تمثل حدوده" ([8]) إنه وثيقة ارتباطنا بالمبدئ المعيد، باللـه. إنه المنقذ من كل ضلالة وشقاء. جاء في الحديث: "القرآن عهد اللـه إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم ان ينظر الى عهده". إن القرآن قد يخاطب رسوله في نصوصه ولكنه لا يعنيه فقط، بل ويعني معه كل شخص تال له، جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق u: إن القرآن نزل على لغة "إياك أعني واسمعي يا جارة". أي أنه خطاب موجه إلى الرسول صلى اللـه عليه وآله وسلم، ولكنه شامل ايضاً لك ولي ولكل التابعين له. حينما يقول القرآن :« فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ اللـه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ » (محمد/19) يجب ان أبادر بالاستغفار لانه خاطبني شخصياً بذلك. وحينما يقول اللـه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ..» يجب ان استعد لتلبية امره، واقول: لبيك اللـهم لبيك ماذا تأمرني؟ . وحينما يقول : « يَآ أَيُّهَا النَّاس» اقول : نعم. ماذا نعمل؟ وهكذا. لقد كان اولياء اللـه العارفون يتلون القرآن بهذه الصفة، فكانت جلودهم تقشعر وقلوبهم ترتجف حين يقرؤون آية ، بل كانوا يصعقون لعظمة وقع الآية في نفوسهم. لقد تلا الإمام الصادق u آية في صلاته وردّدها مرات، فصعق صعقة ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق سئل عن ذلك منه، قال: " لقد رددتها حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته". ([9]) 2- وتنشـأ من صفة الإيمان بالقرآن صفة كريمة اخرى؛ هي الاستعداد لتطبيق آياته. إن هذه الصفة شرط هام في فهم آيات اللـه، إذ ان التسليم المسبق لنتائج البحث عن الحق يساعد النفس على البحث المجرد، بعكس الاستكبار والتردد في قبول نتائج البحث العلمي، إذ أنه يقلل من قيمة هذا البحث عند الانسان وبالتالي يصرفه عنه. من هنا كان على الإنسان ان يجعل القرآن امامه ويسلم إليه زمام امره قبل ان يبدأ بتلاوة آياته حسبما يصف الإمام علي u المؤمن الصادق فيقول: "قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وامامه يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله". وان فريقاً من الناس يتلون القرآن فيؤوّلون آياته حسب اهوائهم ابتعاداً عن العمل بها، إن هؤلاء لا يؤتون فهم القرآن ابداً، بل ان تلاوة القرآن ستزيدهم وزراً ووبالاً. إنما يؤتى علم القرآن من تواضع للحق، وسلم للـه وفتش عن الواقع، واستعد سلفاً لاتباع الحقيقة لو انكشفت له.
التدبر والصفات العقلية
وان أهم الصفات العقلية الضرورية للتدبر هي التركيز والشجاعة: 1- فتركيز شعاع الشمس عبر زجاجة مقعرة، هو الذي يسبب في تحويل هذا الشعاع الى طاقة جبارة. كذلك تركيز شعاع الفكر عبر نقطة واحدة سوف يضاعف من فاعلية الفكر ويكشف الحقائق بوضوح. وبمدى اهمية التركيز تكون مدى صعوبته، إذ ان النفس تقاوم التفكر في امر واحد عدة ثوان، ولكن على الذي يريد الفهم ان يروّض نفسه على صفة التركيز، فيظل يوجه اهتمامه الى شيء واحد عدة لحظات، حتى يعرفه. ولهذا جاء في الاحاديث الأمر بترتيل القرآن لانه اقرب الى التركيز من التهامه. فجاء في حديث عن امير المؤمنين u انه قال في تفسير قول اللـه تعالى: « وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً » (المزمل/4) ، قال: "بيّنه تبييناً، ولا تهذّه هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن فزّعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ احدكم آخر السورة". ([10]) وعن الامام الصادق u في تفسير هذه الآية« وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً» قال: "قف عند وعده ووعيده وتفكر في أمثاله ومواعظه". ([11]) 2- والشجاعة هي الصفة العقلية التي لابد ان يتحلى بها من شاء العلم، ذلك ان عدم الثقة بالنفس يتسبب في تردد الشخص في نتائج بحوثه، وهنا تبرز أهمية الشجاعة النفسية في قبول النتائج. إن الحق يظهر لكثير من الناس، إلا ان قليلاً منهم يراه، لماذا؟ لان اكثرهم يهاب رؤيته، ويخاف ان يتعارض مع مسبقاته الفكرية ورواسبه التقليدية، يخاف ان يتناقض مع افكار مجتمعه وبيئته، لذلك لا يقترب منه، بل يغمض جفنه إذا اقترب الحق منه. هكذا يجب ان نتحلى بشجاعة الفهم إذا اردنا ان نخوض حقل التدبر، فيجب ان نجعل الحق فوق كل شيء. فليكن معارضاً لأفكارنا السابقة، او ليكن متناقضاً مع افكار الناس. لابد ان نقول اننا سوف نتبعه، فانما بهذه الروح الشجاعة فقط نستطيع كشف الحقائق. إن آراء المفسرين حول الآية يجب ان لا تعيقنا عن التدبر من جديد في معناها، إذ ربما كانوا جاهلين بمعناها، او ببعض معانيها وآفاقها.
التدبر والسياق القرآني
وللسياق دور كبير في بيان الواقع العلمي للقرآن، والسبب؛ ان القرآن يلاحظ ارتباط آية بأخرى ملاحظة دقيقة، ولا تتلاحق الآيات ولا الكلمات داخل آية واحدة إلاّ بإحدى علاقتين: علاقة علمية او تربوية.
1- العلاقة العلمية:
القرآن يعكس واقع ارتباط حقيقة باخرى فيذكرهما مع بعض، فمثلاً يقول اللـه سبحانه: « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ اللـه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ » (محمد/19) ان علاقة الاستغفار من الذنب بتوحيد اللـه علاقة واقعية تفرضها حقيقة الربانية من جهة والعبودية من جهة ثانية، فالعقيدة بأحدية اللـه توجب العقيدة بعبودية الفرد، وواضح ان العبد يجب ان يخضع للـه. وتماماً مثل هذه العلاقة موجودة في قوله تعالى: « وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لآ إِلَهَ إِلآَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ» (الانبياءِ/25) فعلاقة عبادة اللـه بتوحيده، امر واقعي، من جهة ان على العبد مسؤولية العبادة للـه الواحد. وكذلك علاقة آيتين ببعضهما في مثل قوله سبحانه: « وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُفِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللـه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللـه لا يُحِبُّ الْفَسَادَ» (البقرة/204-205) فعلاقة الآية الاولى بالثانية ناشئة من وجود ارتباط بين صفات المنافقين، فهم من جهة ينمّقون كلامهم، وهم من جهة ثانية يفسدون في الأرض. ان القرآن يتحدث إلينا عن نموذج من الناس، لذلك يذكر كل صفاتهم ولا تكون صفة فيهم دون وجود اخرى. ان هذه العلاقة نجدها في اواخر الآيات التي تنتهي في كثير من الاحيان بذكر صفة او صفتين للـه سبحانه ترتبط بنوع المضمون المذكور في الآية، فمثلاً نجد في هذه الآيات الكريمة مدى ارتباط آخر الآية بمضمونها (ارتباطاً واقعياً) يقول اللـه سبحانه: « وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» (الشورى/28) فالولي الذي يحب عباده ينزل عليهم الغيث، والحميد ينشر عليهم رحمته، فهناك علاقة وثيقة بين الولاية ونزول الغيث، والحمد ونشر الرحمة. وكانت العرب ترى وجود هذه العلاقة وتستنبط منها اشياء واشياء. فمرة سمع اعرابي رجلاً يتلو آية هكذا: « والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من اللـه واللـه غفور رحيم » فقال له : اخطأت! قال: وكيف؟ قال: إن المغفرة والرحمة لا تناسبان قطع يد السارق، فتذكر الرجل الآية وقال: «.. وَاللـه عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فقال الاعرابي: نعم، بعزته اخذها وبحكمته قطعها. انه عرف كيف يجب ان تكون نهاية الاية متناسبة مع بدايتها، من ناحية العلاقة الواقعية.
2- العلاقة التربوية.
بما ان القرآن كتاب تربية، وبما ان صفات النفس ترتبط ببعضها، فان القرآن المجيد يلاحق النفس البشرية بما يُصلحها من التوجيهات فإن طغت - افراطاً- صفة عليها عالجها بحكمة. وإن طغت - تفريطاً- عالجها بحكمة اخرى ولا يزال يُعد لها حتى تتحول الى نفسٍ سوية. ونستفيد من دراسة علاقة الآيات التربوية ببعضها علماً بخبيئة النفوس، وبمعرفة القوانين التربوية التي تتحكم فيها. وكمثل لهذه العلاقة نذكر قوله سبحانه: « وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللـه وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللـه يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ » (البقرة/195) ان جمل هذه الآية ثلاثة: الأولى في الانفاق. والثانية في النهي عن إلقاء النفس في التهلكة. والثالثة في الاحسان. فما هي علاقتها ببعضها؟ اول ما أمر اللـه بالانفاق توجهت النفوس إليه وكانت مخافة الافراط في الانفـاق، فجاءت الجملة الثانية تنهى عن التهلكة وتأمر بالاقتصاد في العطاء، فاعتدلت صفتا الانفاق والاقتصاد في النفس، وبما ان النفوس مفطورة على البخل كان من الضروري ترجيح كفة الانفاق، في مقابلة الشح الطبيعي، فجاءت الجملة الثالثة، واحسنوا ان اللـه يحب المحسنين.
التدبر والواقع الخارجي
الذي يهدف تفهم القرآن يجب ان يجعله حياً نابضاً بالحركة، وذلك عن طريق تطبيق آياته الكريمة على الواقع الخارجي. إن لآيات القرآن أهلاً تطبق عليهم في كل عصر، فآية المتقين لها تطبيق حي، كما لآية الفاسقين. فلابد ان يبحث الفرد عن هؤلاء كلما تدبر في القرآن، وهناك يتحول الكتاب المبين الى منهاج عمل. ليس هذا فحسب، بل ويهدي الإنسان الى حقائق كثيرة ، لانه يساعد الفرد على فهم الاحداث المعروفة، ويكون مثله آنئذ مثل المرشد في متحف للآثار، حيث لا تفيد رؤية المتحف بدونه كما لا يغني ارشاده دون رؤية الاثار. وهذا هو السبب في ان المعاصرين لنزول الوحي كانوا يفقهونه، حتى كادوا ان يكونوا انبياء، من سعة العلم ونضوج الفقه، ذلك لانهم كانوا يتلقون الوحي في حمّى الاحداث اليومية، لان القرآن نـزل مع الأحداث الرسالية، يوماً بيوم، وقد علّل القرآن ذاته هذا التقسيط بتثبيت آياته فقال: « وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً» (الفرقان/32) فإذا شئنا أن نفهم الكتاب فلابد ان نعرض عليه الاحداث اليومية، ليكشف عن حقائقها الكامنة. جاء في الحديث عن الامام علي u قال: "سمعت رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد ستكون في امتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللـه فيه بيان ما قبلكم من خبر وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل وليس بالهزل". ([12]) في هذا الحديث: امر اللـه بعرض الفتنة على القرآن لمعرفة حكم اللـه فيها، وهو نوع من تطبيق القرآن على الحياة الواقعية. وفي حديث آخر قال رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم: فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق. ([13])
التدبر والتطبيق القرآني
أكبر فائدة يغتنمها المتدبر في كتاب اللـه هي تزكية نفسه وبناء شخصيته. حقاً أننا لا نكون ذوي شخصية مثالية منذ الولادة، وحقاً ان تربيتنا منطوية على الكثير من السلبيات، فمن يا ترى مسؤول عنا بعد ان كبرنا؟ ومن ذا يخسر إن بقينا هكذا؟ من المؤكد اننا بحاجة الى تربية ، ولكن من الذي يربينا؟ إن القرآن افضل وسيلة لتربية نفوسنا، لذلك وجب ان يعرض كل شخص نفسه على القرآن ليعرف انحرافاته. والعقبة التي تعترض طريق التربية الذاتية هي عدم اقتناع الفرد بانه المعني بالتوجيه، بل يزعم كل شخص ان غيره فقط المقصود، اما هو فيجعل نفسه مقدساً عن شمول التعاليم له. من هنا لابد ان يتجاوز الفرد هذه العقبة بالايحاء الذاتي بانه معني مباشرة بهذه التعاليم. وان كل قصة يجد مثالها في نفسه إذا عمل ما عمله بطل القصة، وان كل مثل يجد تطبيقه في ذاته إذا جسّد مغزاه. وان كل ثواب سوف يناله هو ان عمل الخير، وان كل عقوبة ستحيط به إن اقترف خطيئةً، وهكذا يجعل نفسه تدور عليها آيات الكتاب ليتمكن من تربية ذاته وتزكيتها. من هنا جاء في الحديث عن الامام الصادق u : "كان اصحاب محمد صلى اللـه عليه وآله وسلم يقرأ احدهم القرآن في شهر واحد او اقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها واسأل اللـه تعالى الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ باللـه من النار". ([14]) هذا عن الثواب والعقاب، اما عن القصص التاريخية فكيف يمكن تزكية النفس في ضوئها؟ يقول فيها الإمام الصادق u: "عليكم بالقرآن فما وجدتم آية نجا بها من كان قبلكم فخذوه وما وجدتموه مما هلك بها من كان قبلكم فاجتنبوه". ([15]) بهذه الكيفية نستطيع كشف الانحرافات التي تنطوي عليها نفوسنا، لكي نستعد لتقويمها بالقرآن. كما نقدر على فهم الآيات بصورة اشمل واعمق إذ ان ازدواج القانون الموجود في القرآن بتطبيقه الكامن في النفس، أفضل وسيلة لفهم كلا الأمرين.
منهج التدبر في القرآن
قبل ان نستعرض المنهج لابد ان نذكر امرين: أ- ان المنهج تلخيص لما سبق في الصفحات الماضية بصورة مفصلة، انما لخّصناها لتبقى عالقة بالأذهان فلا تُنسى. ب- كما ان للقرآن جانبي التزكية والتعليم، كذلك لمنهج التدبر، ونحن ندمجهما ببعضهما لصنع البرنامج المتكامل: 1- الهدف من التدبرهو تكوين شخصية القارئ والوصول الى اهدافها المشروعة ، ومعرفة الحق والقوة الكافية لتنفيذه. 2- ويعني التدبر: التفكر المنطقي في المعنى الحقيقي للآية. بينما يعني التفسير بالرأي: الاستغناء عن هذا التفكر باختلاق معنى للآية ، والتدبر واجب والتفسير بالرأي حرام. 3- ومحـور التدبر البحث عن القوانين العلمية التي انطوت عليها آيات القرآن او المناهج التربوية التي صيغت بها هذه الآيات، وبكلمة واحدة؛ معرفة ظاهر التربية وباطن العلم من القرآن. 4- ويقتصر محور التدبر على الحقائق التي يصل الى فهمها فكر المتدبر، (ويُسمى بالمحكم) اما مالا يفقهه المتدبر فيدعه الى حين يفقهه ( ويُسمى بالمتشابه). 5- لمعرفة ظاهر لفظ القرآن يجب الرجوع الى اللغة؛ بشرطين: الاول: تصفيتها من رواسب المناخ المحدودة الضيقة، والتركيز على معناها العربي الصافي. الثاني: التفكر في المادة الاساسية التي تنبثق عنها سائر المعاني الخاصة، وهكذا يمكن جمع موارد استعمال اللفظ لنبحث عن معنى واحد مشترك بينها فنتمسك به. 6- اجمع موارد استعمال اللفظ في القرآن وقارن بينها، لتعرف ما هو المعنى الجامع المشترك بينها حسب ما يهدي اليها سياق كل واحد منها. 7- اطرح على نفسك هذا السؤال كلما تدبرت في آية: لماذا استخدم القرآن هذه الكلمة، ما هي ميزتها عن كلمات مترادفة معها؟ وابحث عن الجواب في إطار المادة الخامسة والسادسة. 8- ابحث في التفسير الصحيح، واحذر من تحديد عموم القرآن بخصوص مورد نزوله، او بتطبيق تاريخي واحد. كلا.. اهتد بالمورد والتطبيق الى امثالهما، وتعرَّف من خلالهما الى الصفات التي اوجبت نزول الآية او تطبيقها عليهما. 9- قسّم ظاهر القرآن الى سبعة اقسام: الى امر، وترغيب، وزجر، وترهيب، وقصص تاريخية، ومثل بيانية، وجدل مع الاعداء، فكّر (!) هذه الآية تنطوي على كم قسم منها؟ 10- وتدبر في باطن الآية عن علاقة جملة بأخرى وآية بثانية، ومجموعة آيات بأخرى، وفتش عن نوعين من العلاقة بينهما: أ - علاقة علمية بحيث يعتبر الواحد سبباً للثاني او مسببين لسبب ثالث. ب - علاقة تربوية بحيث يكون الواحد مستوجباً للثاني، حتى يكون المجموع منهجاً متكاملاً لتربية الفرد وتزكية نفسه. 11- عليك ان تتحلى بصفات نفسية وعقلية حتى تتمكن من اكتشاف حقائق القرآن وهي: أ - الإيمان بالوحي، وانه وثيقة بينك وبين ربك وخطاب مباشر اليك من خالقك. ب - الاستعداد لتطبيق تعاليمه والتسليم لافكاره حتى ولو خالفت مصالحك او تناقضت مع تقاليدك السابقة وافكار مجتمعك. ج- التركيز في بؤرة واحدة بحثاً عن الحقيقة، ويدعى بالتروّي وهـو- أي التركيز- عمق التدبر البعيد، وبغيره تصبح المواد الاخرى في هذا المنهج قشوراً بغير لب. د - الشجاعة في التمسك بالحق والثقة بعقلك او بما يهدي اليه من الواقع. 12- ابحث عن تطبيق خارجي حي لمواضيع القرآن الحكيم، ابحث عن اشخاص يصفهم القرآن وابحث عن اوضاع يبيّنها القرآن، وابحث عن نتائج يتحدث عنها القرآن . 13- طبق القرآن على نفسك، لتجد فيها كل ما شرحه الكتاب، ولتخشَ عما قد يصيبك مما بينه.
فلسفة القرآن الحكيم
ما هو الوجود؟
1- التعريف.
لعل مفهوم الوجود ابسط واعقد المفاهيم في وقت واحد، إذ اننا نتعايش مع الوجود في كل شيء، ولكنه بعيد عنا حينما نحاول فهم كنهه، وهو تماماً كالروح نعيش بها ونعيش منها ولكننا نظل نجهلها ابداً. ومن هنـا لا نجـد تعريفـاً دقيقـاً للوجـود، الا القـول بانه ما نـرى آثـاره في كـل شـيء.
2- نقـاش حـاد.
وقد أثير نقاش حاد بين الفلاسفة حول طبيعة الوجود، ادى ببعضهم الى تبني آراء شاذة غريبة، كالقول بانه ليس في إطار التحقق شيء، سوى الوجود الذي هو اللـه - وهو الخلق- وضمنه التطورات جميعـاً. وقد انقسم انصار هذا المذهب الى فريقين: فريق آمن بعظمة اللـه وكفر بقدرته الدائمة على الكون، وقال: ان اللـه - تعالى عما يشركون- هو في درجة عالية من الوجود، اما الخلق فهو في درجة دانية، وليست عملية الخلقة سوى نزول من الدرجة العالية الى درجة دانية ، وهؤلاء هم الفلاسفة المشائيون ومن اتبعهم من المتكلمين. وفريق آمن بعلم اللـه بكل شيء، وقدرته على كل شيء، ولكنه جرّد اللـه - سبحانه - من عظمته، فقال: ان كل شيء هو اللـه؛ بلا فرقٍ بين كبير وصغير وجليل وحقير، ولا فرق ابداً بين اللـه وخلقه. بل مفهوم الخلق حجاب بين اللـه ونفسه سبحانه لان اللـه ليس غير خلقه. وهؤلاء الرواقيون ومن ضاهأهم من مذاهب الفناء الصوفية . وجاء القرآن بمذهب جديد يمثل التوحيد النقي من الشرك والجحـود، فقــال: « سَبَّحَ للـه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُـوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيــرٌ » (الحديد/1-2) وقال: « يُسَبِّحُ للـه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » (الجمعة/1). والتدبر في هاتين الآيتين يهدينا الى الحقائق التالية: 1- إن كل شيء يُرى في السماوات والارض شاهد على تقدس اللـه، وتنزهه عن مشاركة مخلوقاته في صفة الذل والعجز والتحول. 2- وهو من جهة اخرى ليس بعاجــز عن التأثير في خلقه، بعلوه عنهم وتقمصه المرتبة الشديدة من الوجود، كما قال الفلاسفة الذين وضعوا اللـه سبحانه في برج معزول عن الخلق. بل هو العزيز القادر وليس بالذليل العاجز. 3- وبقدرته التامة يمتلك السماوات والارض فيحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. ويفسر الامام u هذه الحقيقة في حديث حكيم حين يقول بعد ان سئل عن اللـه جسم او لا جسم، فقال: " ان للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : إثبات بتشبيه، ومذهب النفي، ومذهب اثبات بلا تشبيه. فمذهب إثبات بتشبيه لا يجوز، ومذهب النفي لا يجوز ، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه". إن المذهب الاول؛ هو مذهب الصوفية الذين تصوروا ربهم انه مثلهم، وعرَّفوا الوجود بانه كل شيء في العالم وليس سواه شيء ابداً، وهو يقتضي وجود اللـه شبيهاً بخلقه. والمذهب الثاني؛ هو المذهب الفلسفي الذي تصوّر اللـه سبحانه في عزلـة عن خلقـه، بعيـداً عنهم، عاجزاً عن تصريف شؤونهم، وجاهلاً بما يعملون - سبحانـه-. وكلاهما يخالفان المذهب الإسلامي الذي يرى ان اللـه سبحانـه حـق، مبايــن عن الوجود. وان الوجود حقيقـة قائمـة به ومملوكة له. فهناك شيء هو اللـه، وشيء هو الوجود؛ وليس بينهما صفة مشتركة، إذ ان الشيء الاول خالق مالك قدوس، والشيء الثاني مخلوق مملوك له.
أبعاد البحث في الوجود
وللبحث في طبيعة الوجود عدة ابحاث تتصل مباشرة بأهم قضايا المبدأ والمصير، والتي هي المواضيع الاساسية التي عالجها القرآن الحكيم، وهي بالتسلسل: 1- الفرق بين الوجود والموجود. 2- التباين بين اللـه والخلق في الصفات والأسماء. 3- طبيعة الخلق. والسبب في توالي هذه المسائل وتسلسلها الفلسفي هو الخلط الشديد بينها، الذي ادى بالبشر الى ضلالات كبرى في الحياة. فمـن الخلط بين الوجود والموجود انطلق البشر الى القول باصالة الوجود (لا الماهية)، وتجاهلوا الفـوارق المائـزة بين طبيعة الاشياء، ودفعت هذه الجهالـة بهم الى ضلالة اخرى هـي: الخلط بين الوجود والمُوجِد، فاحتجبوا عن اللـه سبحانه ببعض خلقـه. وهكذا تسلسلت الاخطاء: الموجودات هي طبيعة الوجود، وطبيعة الوجود هي الموجدة لذاتها، وانتهى! فعلينا إذاً ان نبحث اولاً عن الفرق بين الوجود والموجود، وثانياً المباينة في الصفات بين الوجود والخالق، واخيراً طبيعة الخلق لهذا الوجود. وقبل ان ننطلق في رحاب هذه البحوث العميقة ، ينبغي ان نتذكر عقولنا، ونثق بان اثارتها هي الوسيلة الوحيدة الى معرفة اعمق الحقائق الكبرى. فمن العودة الى العقل نستطيع ان نعرف حقيقة ذواتنا التي نجدها كالظلال المحددة التي يعود تحققها الى ما سواها، لاننا - باثارة عقولنا- نستطيع ان نفهم عدم امكانية الجمع بين المتناقضين، وانه لو كانت نفوسنا قائمة بذاتها، لكانت اقوى وأدوم مما هي الآن. وباثارة عقولنا نستطيع معرفة مدى الصعوبة في الاهتداء الى سر الموجودات، والتي كانت هي العلة في ضلال الانسان عن هذا السر العظيم. ذلك ان عقولنا تعودت على النظر في الامور الجزئية ذات الابعاد المحدودة، ولذلك فهي تقيس الاشياء الكبيرة بها. إن الوجود الذي يقوم به كل شيء وفي كل زمن، لابد ان تكون عظمته وسعة ابعاده سببين من اسباب غموضه على العقول الضعيفة. لابد اننا نهتدي الى هذه الحقائق حينما نعصر انفسنا عصراً ونحاول الاحاطة علماً بسر الموجودات، والذي يعرضنا ايضاً لخطر التوهم، ذلك لاننا نحاول دائماً الايحاء الى انفسنا، باننا احطنا فعلاً بكل الاسرار، والوجود اجلّ شأناً من ان يكتنه بين لحظة واخرى لانه شديد الظهور واسع الشمول. والخلاصة: اننا باثارة العقل والتجرد عن السابقيات الضيقة الأفق، نجد ان الوجود حقيقة ظاهرة جداً ولكنها - لشدة ظهورها- خافية عن اعيننا، وانها بشمولها وعظمتها محتجبة عن العقول التي تعودت النظر في الامور الجزئية. والان ، لنعرف حقيقة الوجود.
حقيقة الوجود
لابد ان نمهد السبيل الى معرفة حقيقة الوجود ببعض الحقائق: 1- اننا لم نعرف معاني الالفاظ التي لم نـزل نستعملها إلاّ عن طريق الايحاءات الخاصة التي اكتشفت استعمال الكلمة بادئ ما سمعناها. فحيـن كنـا صغاراً سمعنا لفظـة الماء ورأينا الاشـارة الى مـادة سائلــة فعرفنا ان هذه اللفظة خصصت لهذه المادة الخاصة، وبكثرة الاستعمال تطور مفهوم الماء بوعينا، حتى شمل كل شيء يملك ذات الخصائص الموجودة في هذه المادة. ولذلك؛ فإن الالفاظ توحي إلينا بالمفاهيم الجزئية، التي استعملت فيها بادئ الأمر، وعن طريقها يستشف الفكر البشري بعض الابعاد الكلية. وهنا تكمن مشكلة الفكر البشري في معرفة الحقائق المطلقة ، لانه يستصعب التحليق فوق الاطارات الخاصة التي تكتنف الالفاظ التي تُعتبر القنطرة الوحيدة الى المعاني المطلقة. ولذلك يجب على الباحث الفلسفي التخلص من "اطارات الألفاظ" الجزئية، بجعل اللفظ طريقاً الى المعاني التي لا يمكن بيانها باللفظ ابداً. فعلينا حين نستعمل لفظة الوجود الاّ نتقيد بحرفية الكلمة وجزئيتها، بل نحلّق بعيداً لنتصور حقيقة مطلقة. 2- لفظة "العدم" من الاضافيات التي لا تعرف الا بالنسبة الى شيء آخر، تماماً كلفظة " اكبر، واصغر، وفوق وتحت" وما اشبه . فينبغي لمن سمع كلمة العدم ان يسأل عن الغرض منها، انه عدم أي شيء؟ فعدم الدار يختلف عن عدم البستان وقد يجتمع عدم الدار مع وجود البستان. ومن هنا فحين نقول: عدم الوجود، لا يعني عدماً مطلقاً بل عدماً معيناً فقط. 3- إن انسجام الحقائق بعضها مع بعض وانسجام النفس معها بالاطمئنان والارتياح، لهو احد المقاييس الثابتة للإنسان التي يستكشف بها حقيقة الاشياء. فمثلاً: حينما تردد "نيوتن" في النظريات الفلكية ورأى وجود مشاكل علمية كثيرة في النظرية البطليموسية القائمة على اساس دوران الشمس، تنبه الى عدم انسجام الحقائق مع هذا المبدأ، فوضع نظرية "دوران الارض" فرأى المشاكل العلمية حلت على اساسها، وحصل انسجام تام بينها وبين سائر الحقائق، فتأكد عقم نظرية بطليموس ، وصدق نظريته هو. وكذلك يكتشف البشر كثيراً من الحقائق حينما يتردد فيها عند اول نظرة لعدم انسجام هذه الحقيقة مع سائر الحقائق التي يعرفها الفرد من قبل، وبالبديهة يعرف ان مجرد التعارض بينهما يعني عدم صحة إحداهمـا. وبعد هذه النقاط لابد ان نعرف حقيقة هامة؛ هي ان الوجود شيء والموجود شيء آخر . فالموجود هو ما نراه ونلمسه، مثل القلم والدفتر، فكل منهما موجود، اما الوجود فهي الحقيقة التي تجعل القلم موجوداً، والدفتر موجوداً، وهي مشتركة بينهما. وإذا كان الأصل في الاشياء هي ماهيتها وحدودها وانها لم تكن ثم كانت، لابد ان نفترض الوجود حقيقة وراء حقائق الموجودات، فهي نبعها الفياض الذي يعطيها الاستمرارية في التحقق والظهور. والآن لنبحث عن الأدلة التي تهدينا الى طبيعة الوجود، ولابد ان نعرف ان اثارة العقل هي الوسيلة الوحيدة الى ذلك، وليست الغاية من سرد الأدلة سوى نوع من الاثارة.
1- تشابك العدم والوجود.
ان كل موجود يطرأ عليه الوجود بشهادة تحدده بالعدم. فمن الذرة الصغيرة حتى المجرة الكبيرة، يشكل العدم جزءً من حقيقته، فمثلاً يشغل مساحة الذرة فقط بنسبة واحد في .../.../1، اما الباقي فهو عدم، وحجم المجرات الذي لا يحدده الخيال، يمكن ان يصغر لو نقيناها مما نشاهدها فيها من العدم الى بضعة عشرة مرات من حجم الشمس فقط. وهذا التشابك يهدينا الى ان طبيعة الأشياء التي نراها ليست هي الوجود، بل الوجود شيء والموجود به شيء آخر. ولعلنا - لو تقدم بنا العلم- عرفنا ان وجود الموجودات لايعدو ان يكون بعض مراتب الوجود نفسه.