العقل موهبة - بحوث فی القرآن الحکیم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بحوث فی القرآن الحکیم - نسخه متنی

محمدتقي مدرسي

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

وهذه الصفة تهدينا الى اهمية التركيز في المعرفة، إذ ان التركيز لا يعدو التوجه التام الى حقيقة ما، باستعمال العقل كله فيها، كما ان البلبلة التي ليست سوى ضعف في الارادة وعدم القرار الحازم بها، تسبب الضعف العقلي لانها تفقد التركيز.

وحالات الانهيار العصبي الذي يأتي احياناً على الإنسان بسبب الغضب الشديد او الشهوة العارمة، او الحزن العميق، هو الآخر يضعف الارادة فيؤثر على نفاد العقل.

و- وإذا كانت الإرادة ضرورة عقلية بحيث يستحيل على البشر ان يهتدي دون ان يختار الهداية.. ولا ان يعرف دون ان يريد المعرفة، فقد ارتبط حقل التعليم بالتربية، والعرفان بالايمان، والعلم بالعمل.

إذاً؛ مادامت التربية هي القدرة على ضبط النفس حسب الإرادة الحرة، ولا يعدو ان يكون الإيمان والعمل نوعين من التربية.. فان العقل يتأثر بها، إذ يتأثر العقل بالإرادة.

وانما العقدة التي يعاني منها الضالون، عقدة نفسية آتية من فقدهم الإرادة، التي تحررهم من الرواسب والمخاوف وتجعلهم يفكرون بصورة منطقية. فأول ما ينبغي معالجته فيهم؛ هذه الارادة الكسولة العاجزة، حتى تحررهم من الضغوط الخارجية التي تفرض عليهم نوعاً خاصاً من الافكار. وهناك فقط يستضيئون بنور العقل الذي سيهديهم الى صراط الحق.

ويدعو القرآن العقدة النفسية التي تحول بين المرء والحقيقة، يدعوها بالهوى، فيقول مندداً بها:

« فإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللـه إِنَّ اللـه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (القصص/50)

« وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْـمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَـــعَ اللـه عَلَى قُلُوبِهِـمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُــمْ» (محمد/16)

ففي الآية الاولى: جعل القرآن السبب الوحيد لرفض الكفار الاستجابة لدعوة النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم، انهم يتبعون اهواءهم، فعقدة الهوى هذه هي العقبة الوحيدة التي تحول بينهم وبين الايمان. ثم انهم كظالمين يحرمون أنفسهم من الهداية. وبذلك نعرف ان ارادة البشر دخيلة في عمله، ذلك ان الظلم عمل والعمل مرتبط بالمشيئة الحرة.

وتجعل الآية الثانية اتّباع المنافقين لاهوائهـم سببـاً لتلبــد شعورهم عن معرفة ما يقول الرسول صلى اللـه عليه وآله وسلم الذي سماه اللـه

سبحانه بالطبع على القلوب، وانغلاقها الكامل عن الهوى.

وفي آيات كثيرة نجد اتّباع الآباء او البيئة الاجتماعية او الظروف الاقتصادية، سبباً قوياً للضلالة في الإنسان، ولكنها جميعاً اسباب ارادية خاضعة لمشيئة الانسان ذاته، الذي يدعوه القرآن مرة بعد اخرى الى تحرير نفسه عن ضغوط هذه العوامل المضادة للمعرفة الصادقة.

ز- هل يستضيء بالعقل من لا يريد ان يهتدي الى الحق؟ كلا. وهنا نكتشف العلاقة الوثيقة بين العقل وبين اتّباع الحق. فالعقل يهدي الى الحق، وحب الحق وارادة اتّباعه يدعوان الفرد الى العقل. ومن هنا تأتي ضرورة التسليم للحق، ورفض الاستكبار عليه!

وبمدى التسليم للحق، واتباع سبله، يرتبط قوة العقل في الإنسان، فكلما كان الفرد اكثر تجرداً عن سابقياته واكثر تحفزاً الى معرفة الحقيقة كلها ، كلما اقترب الى الواقع وكان اكثر عقلاً.

ان التسليم للحق يرتبط بثلاثة عوامل:

1- العامل النفسي الذي يتلخص في حب الحق والرغبة في معرفته ، والعلم بأنه الباقي، وانه المفيد، إذ بدون ذلك لا يسعى اليه الإنسان.

2- الشك فيما عند الفرد من افكار والتردد في انه هو الحق، اذ بدونه يأخذ الإنسان غرور كبير بما لديه، فيترك البحث عن الحق.

3- الثقة بقدرته على معرفة الحق، وبالتالي ثقته بعقله، فمن قنط عن بلوغ الحق خلد الى التقليد، ولم ير تشجيعاً على متابعة بحثه عن الحق. وكذلك التضاؤل امام فكر نابغة يدع الانسان عاجزاً عن متابعة بحوثه، إذ يظنّ الفرد سلفاً انه عاجز عن بلوغ ما لم يبلغه النابغة، فهو مهما تعب فسوف يكون ما يحصل عليه اقل مما حصله النابغة من افكار، والنتيجة الطبيعية لذلك تقليد النابغة دون تجشم عناء البحث.

ح- وإذا كانت معرفة العقل وصفاته إنما تكون بالنظر "العبوري" فيما يكشفه لنا من حقائق، فكلما عددنا الصفات الحسنة التي يهدي اليها العقل، وكلما احصينا الحقائق العلمية التي توصلنا اليها بها ، كلما استيقظ العقل فينا وزدنا ثقة به، ووعياً لخفاياه، إذ يعود بنا ذلك الى ذات العقل، كما تعود بنا المرآة الى صورة الوجه.

ومن هنا كان لبيان الحقائق والمثل التي يكشفها العقل ويأمر بها اهمية كبيرة في معرفته، وبالتالي معرفة الأشياء به، والأحاديث المفسرة للقرآن الحكيم تواصل إيقاظ العقول عن طريق بيان هذه الحقائق، ففي الحديث (في بيان جنود العقل وجنود الجهل):

فأعطى العقل الخير وهو وزيره، وجعل ضده الشر وهو وزير الجهل، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفران ، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق، والرهبة وضدها الجرأة ، والتواضع وضده الكبر، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضده السفه، والصمت وضده الهذر، والاستسلام وضده الاستكبار، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والغنا وضده الفقر، والتذكر وضده السهو، والحفظ وضده النسيان، والتعطف وضده القطيعة ، والقنوع وضده الحرص، والمواساة وضده المنع، والمودة وضدها العداوة.

ان هذه الصفات بعضها ينكشف بالعقل، فلينظر الإنسان إليها نظرة يعبر من خلالها الى الحقيقة الكاشفة لها وهي العقل.

وانطلاقاً من هذه البنود الثمانية نستطيع رسم المنهج القرآني للبحث العلمي الذي يوجز في الامور التالية:

1- على الباحث إثارة عقله، بطول النظر فيما يكشفه العقل من حقائق بديهية نظراً (عبرياً) يبصر من خلال الحقائق المضادة ، الى اشعة عقله المضيئة لها تماماً كما ينظر الإنسان الى المرآة ليرى من خلالها عينه الباصرة.

2- على الباحث تحرير نفسه من الضغوط الخارجية والرواسب القديمة، ويستعد لاستقبال أية حقائق يتوصل اليها عقله بعده.

3- وعليه ان يحب الحق، ويسلم عنان نفسه لقيادته، وان يشك فيما هو فيه، شكاً نقياً من كل شوائب الغرور الذاتي ، وان يثق تماماً بقدرته على معرفة الحق، قدرة مطلقة.

4- وعلى الباحث - اخيراً- التركيز في نقطة بحثه، دون التأثر بالشرود الذهني الآتي من قبل الشهوة حيناً والغضب حيناً آخر.

العقل موهبة

1- ومن بين الحقائق التي سوف تنكشف امامنا بالنظر في العقل من خلال آياته، هي حقيقة الموهبة في العقل؛ التي نعرف بها ان ضوء العقل لم يكن لدينا ثم فجأة وبدون أي نوع من الاكتساب الذاتي حصلنا عليه، ونفقده حيناً لا نزال نصب إليه، فترانا نريد ان نتذكر شيئاً فننساه، ونريد ان نعرف شيئاً وقد يكون شيئاً بسيطاً فنجهله، هناك نعلم ان تدبير العقل بيد غيرنا وهو اللـه سبحانه .

لو كانت موهبة العقل من ذات انفسنا، إذاً ما فقدناها لحظة، وهل يفقد الشيء ذاته؟ ولما كان محدوداً ابداً، إذ المحدود نوع من الفقد الذاتي، ولما عصت علينا حينما اردناها، افتعصي الذات على الذات؟

ان ذات الادلة التي اهتدينا بها الى ذاتية العدم فينا وبالتالي عرفنا ان الوجود لا يعدو ان يكون نوراً عارضاً على الاشياء، ولا يعدو ان يكون هبة من خالقه، اقول ان ذات الأدلة تأتي هنا لتهدينا مرة اخرى الى ان العقل ايضاً موهبة ، بما فينا من قدر خاص منه، وانه لا يخضع تماماً لإراداتنا رغم انه يخضع نوعاً ما لها.

2- وحين جهل البشر حقيقة "الموهبة" في العقل، راح يتطرف يمنة وشمالاً؛ ففريق حسب العقل من ذات الانسان، فلم يتصور نفساً جاهلة واخرى عاقلة، بل العقل والعلم من ذات النفس (التي سماها: روحاً علوية مقدسة عن كل نقص) وقال هذا الفريق: ان النفس البشرية تتطور بصورة آلية حتى تكتمل فلا تجهل شيئاً ، ومنهم من قال: إن النفس كانت تعرف كل الحقائق فنسيتها ثم تتذكر ايضاً.

وفريق زعم العقل مجرد عارض على الإنسان الذي يملك فقط اداة استقباله، فالعلم مجرد تجارب، والتجارب احاسيس وهي امور مادية صرفة.

فلم يتصور الفريق الثاني نفساً تملك رصيداً داخلياً يفترق عن الحيوان، ويبني به حضارة سامية.

وهؤلاء الحسيّون انكروا وجود مقاييس ثابتة يملكها البشر بعيداً عن التجربة ليقيس بها تجاربه فيميز الصحيح منها عن الخطأ .

وبين هذين المتطرفين؛ كان موقف القرآن الحكيم الذي قال: «وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى » (الضحى/7)

« فَلَمَّآ أَفَـلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّـينَ » (الانعام/77)

« إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللـه يَهْدِي مَن يَشَآءُ» (القصص/56)

إن الهداية التي هي وصول اكبر الحقائق الكونية واوضحها، إن لم تتحقق بغير اللـه، فان غيرها احرى الا تكون سوى نعمة من اللـه العزيز.

3- وبما ان العقل موهبة ، فانه مفقود من الصبا، ولكنه يُبعث فجأة في الانسان حينما يبلغ سن الرشد، قال اللـه :« حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» (الاحقاف/15)

وهناك يشعر بضوء باهر يغمر فؤاده، ليهديه الى :

أ- الحكمة.

ب- العلم.

فالحكمة تبين له الخير والشر، وتعرِّفه الفضيلة والرذيلة، وتدعوه الى الصلاح والسعادة. ان الحكمة هي السبيل الذي هدى اللـه اليه الإنسان، فقال تعالى: « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (الإنسان/3)

وهي تُلهم الإنسان فجوره وتقواه، الذي قال عنه اللـه: « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس/7-10)

والحكمة - أخيراً- هي القيمة النهائية التي نحتكم إليها في تقييم اعمال الشعوب والدول ، والتي نجدها واحدة في كل مكان، لا اقل نظرياً.

فالصدق والوفاء والصراحة هي الفضائل التي تدعو اليها حكمة العقل في كل مكان وزمان، والكذب والغدر والالتواء هي الصفات التي تنهى عنها حكمة العقل، انى كانت ومتى وجدت.

ومن الحكمة تأتي النفس اللوامة التي توبخ الانسان كلما اقترف اثماً

ولو بعد حين من عمله، وذلك مثل ان يفقد الفرد اعصابه امام شهوة عارمة فيجترح الفاحشة، او امام غضبه فيرتكب الجريمة .. ثم يعود اليه رشده فيأخذ بملامة نفسة من سوء ما عمله! وجاء ذكر النفس اللوامة في القرآن في الآية التالية، فقال تعالى:

« لآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (القيامة/1-2)

والحكمة هي العقل العملي الذي يقوم حجة بين الناس وحجة من اللـه على الناس، وهو الرسول الباطن الذي يحتكم اليه اهل الشرائع السماوية بعد انبيائهم، والذي جاءت الشرائع مذكرة به، ومنبهة له ومثيرة لدفائنه وخباياه.

واتبع القرآن الحكيم وسيلة التذكير لايقاظ هذا العقل في الإنسان ليجعل منه - دون الخرافات- مقياساً في افكاره واعماله. وفي الحديث التالي الماثور عن الامام موسى بن جعفر u دراسة وافية للـهدف والوسيلة اللذين مارسهما القرآن في إثارة العقل العملي، ودعوة الإنسان اليه:

قال الامام الكاظم - مخاطباً احد اصحابه-: يا هشام؛ ان اللـه بشر اهل العقل والفهم في كتابه فقال: « فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللـه وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» (الزمر/17-18)

يا هشام؛ ان اللـه تعالى اكمل على الناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالإله فقال: « وإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللـه مِنَ السَّمآءِ مِن مَآءٍ فَاَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمآءِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (البقرة/163-164)

يا هشام؛ قد جعل اللـه ذلك دليلاً على معرفته بان له مدبراً « وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِاَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (النحل/12)

يا هشام؛ ثم وعظ اهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: « وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (الانعام/32)

ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: « ثُمَّ دَمَّرْنَا الأَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَـمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » (الصافات/136-138)

يا هشام؛ ثم بَيَّن ان العقل مع العلم فقال تعالى: « وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ» (العنكبوت/43)

يا هشام؛ ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: « وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ اَنْزَلَ اللـه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَيَهْتَدُونَ» (البقرة/170)

ثم ذم الكثرة فقال: « وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللـه» (الانعام/116)

« وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللـه قُلِ الْحَمْدُ للـه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (لقمان/25)

قال: « وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَاَحْيَا بِهِ الاَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللـه قُلِ الْحَمْدُ للـه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَعْقِلُونَ » (العنكبوت/63)

يا هشام؛ ثم مدح القلة فقال:« وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (سبأ/13)

وقال : « وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللـه » (غافر/28)

يا هشام؛ ثم ذكر اولي الألباب بأحسن الذكر وحلاّهم بأحسن الحلية فقال: « يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ » (البقرة/269)

وقال: « وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ » (آل عمران/7)

يا هشام؛ ان اللـه تعالى يقول في كتابه: « إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ» (ق/37) يعني العقل. « وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ » (لقمان/12) قال: الفهم والعقل.

يا هشام؛ إن لقمان قال لابنه: تواضع تكن اعقل الناس، يابني ان الدين بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى اللـه، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على اللـه، وقيِّمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.

يا هشام؛ إن لكل شيء دليلا ودليل العقل التفكر ودليل التفكر الصبر، ولكل شيء مطية، ومطية العقل التواضع، كفى بك جهلاً ان تركب ما نهيت عنه.

يا هشام؛ ما بعث اللـه انبياءه ورسله الى عباده إلا ليعقلوا عن اللـه، فاحسنهـم استجابـة احسنهــم معرفة، واعلمهــم بأمر اللـه احسنهم عقـلاً،

واكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخـرة.

يا هشام؛ ان على الناس حجتين؛ حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة العقول.

إن هذه الدراسة العميقة لفلسفة واسلوب القرآن في معرفة العقل ونوعية إيقاظه في القلوب، ابتدأت بذكر الآيات القرآنية حسب المنهج التربوي الذي اتبعته الآيات في إثارة العقول وإيقاظها.

فإذا كانت التربية العقلية مرتبطة بالرغبة والرهبة، ذلك أن الإنسان لا يعمل شيئاً إلا إذا وجد فيه فائدة عائدة إليه، عاجلاً او آجلاً، لذلك بدأ الحديث عن آية البشارة التي قررت الهداية لأولي الألباب وبشرهم خيراً.

والاسلوب القرآني يذكّر الفرد بالآيات الظاهرة ثم يتدرّج به الى معرفة الحقائق التي وراءها، كذلك كانت الآية الثانية والثالثة تذكرة باعظم آيات اللـه، ثم اثارة للعقل عن طريقها بالقول لآيات لقوم يعقلون([20]) ذلك أن من يهتدي الى اللـه بهذه الآيــات يعرف انه لولا وجود العقـل لديه لم يكن يقدر على معرفة الربط بين اللـه وبين آياته العظيمة.

وإذا كانت الدنيا الحاجز الضخم بين الإنسان وبين عقله لانه يحبذ للإنسان المغانم العاجلة وينسيه الحياة الآخرة ، وجب ازالة هذا الحاجز حتى يستطيع الفرد ان يبلغ الحق بعقله. ومن هنا جاءت الآيتان الرابعة والخامسة لكي ترغب الناس في الآخرة وتنذرهم من الدنيا. ثم ذكّرت الآيتان بالعقل، فقالتا: افلا تعقلون؟ افلا تعقلون؟

وجاء بيان ربط العقل بالعلم في الآية السادسة محفزاً آخر نحو التفكر المنطقي.

الا ان حاجزاً آخر يبقى ابداً مانعاً بين الإنسان وبين التعقل، ذلك هو اتباع الآباء الضالين، فجاءت الآية السابعة تذم الذين يتركون عقولهم ضحية خرافات الآباء، وذكَّرهم مرة اخرى بان لديهم عقولاً لو رجعوا اليها لاهتدوا الى سواء السبيل .

ويبقى بعد حب الدنيا وحب الآباء حاجز ثالث بين الإنسان وعقله، هو ضغط الجماعة، فجاءت الآيات الثامنة الى الثالثة عشرة لاعطاء المنعة دون هذا الضغط، وجاءت ثلاث آيات في ذم الكثرة وثلاث في مدح القلة، ليعرف العاقل ان خروجه عن المجتمع الجاهل خير من خروجه عن قائمة العقلاء.

والعقل يزيد بالتوعية الذاتية التي تدعى بالتذكر. فما دام ايقاظ العقل لايكون إلاّ باثارته لان معرفته لاتكون إلاّ بذاته، فان التذكرة هي السمة المائزة للعقل.

والآيتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة ، تدعوان الانسان الى التذكر، بعد ان تذكران مثلين له، فالتذكر يتجسد في عمل الخير والتسليم للحق، وهما مفادا الآيتين تماماً.

ولكن من اين نعرف من القرآن ان التذكر خاص بذوي العقول، وان

كلمة "وما يذكر الا اولو الالباب" تهدي الى التوعية الذاتية للعقل؟

الجواب نجده في الآية السادسة عشرة: ففيها قول اللـه سبحانه : « إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ» والقلب في القرآن هو العقل.

وفي الآية السابعة عشرة نجد الحكمة قد فُسِّرت بالفهم والعقل، وهي بالضبط مفهوم الآية السابقة التي نجد فيها قوله تعالى: « يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ »

فإذا كانت الحكمة هي العقل، فالتذكر في الآية يعني إثارة العقل. ومن هنا نعرف ان طريق معرفة العقل هو التذكر. ان هذه الدراسة العميقة لنوعية المنهج القرآني في تربية العقل، تسير على ذات القواعد التي سبق القول فيها. انها هي النظرة القرآنية الى العقل. وهي تربى حكمة العقل في الإنسان وتعطيه قوة التفكير المنطقي.

وتلخص الدراسة بعد ذكر الآيات - تلخص نظرة القرآن الى العقل ومنهجـه في ايقاظه في ان التسليم للحق هو الخطوة الاولى للعقل ([21]) من هنا نقل الامام عن لقمان قوله : تواضع للحق تكن اعقل الناس، ثم علل لقمان ذلك بان الشقاء ينتظر كل من لا عقل له.. إذ ان سفينته ستغرق في بحر الدنيا العميقة.

ثـم ربط الامام العقل بالتفكـر، والتفكـر بالصمت، إذ ان التذكر منهج

ذاتي لزيادة العقل واتساع مداه.

وبعد ان ذكر اهمية العقل عاد ليذكرنا بان العقول هي حجج اللـه الباطنة على الناس، ولم يبعث اللـه انبياءه ورسله إلا لكي يعقلوا عن اللـه، وفي الجزء الذي لم نذكره من الدراسة يستمر الامام في توضيح نظرة القرآن ومنهجه في العقل.

خلاصة القول: ان حكمة العقل، هي القيم التي نجعلها نحن ابناء آدم مقاييس في اعمالنا وحججاً في خصوماتنا، وهي بالتالي حجج اللـه التي بعث الانبياء من اجل تنقيتها وبلورتها في النفوس.

العلم وموهبة العقل

1- قلنا العقل موهبة. وهو نوعان؛ حكمة وعلم، وفصلنا القول عن الحكمة وما هي وما هو المنهج القرآني المتبع في سبيل بلورتها في النفوس. بقي علينا معرفة الجانب الثاني من موهبة العقل وهو الجانب العلمي.

وتتلخص نظرة القرآن فيه ان للانسان مقاييس علمية ، يستطيع بها معرفة الاشياء. هذه المقاييس غير مكتسبة، بل انها مواهب مقدرة رغم انها خاضعة لمشيئة الانسان كأية موهبة اخرى فيه، فالعين خاضعة لمشيئتك ولكنها في اصلها موهبة إلهية عليك. وقد يزيد العقل بالعمل إلاّ ان ذاته موهبة.

وتهدينا الى ان العقل موهبة وليس بمكتسب:

اولاً: فطرة كل فرد منا إذ نحن حين نعلم شيئاً نستطيع ان نعرف سبب علمنا به، فمثلاً حين نعلم بوجود مكة المكرمة ، نعرف ان علمنا بها آت من رؤيتنا او من اخبار احد بوجودها وما اشبه.. ولما نفتش عن اصل معرفة المقاييس العقلية نجد اننا نعرفها بصورة ذاتية ودون ان يكون لمعرفتها سبب خارجي ابداً . فمثلاً حين نريد ان نعلل علمنا بامتناع التناقض فنقول: ان التناقض مستحيل لأننا رأيناه، أم لان شخصاً قال لنا ذلك، ام لان ادلة علمية قامت على امتناعه، لا نجد أي واحد من هذه الفروض صحيحاً، بل نجد ان طبيعة هذا الكشف لا تحتاج الى دليل من الخارج، او بتعبير آخر لا يرتاب إنسان في مقاييسه العقلية، ولا يحتاج في كشفها الى اية حجة خارجية، وهذا افضل برهان على انها ذاتية.

ثانياً: لولا وجود المقاييس العقلية لانهار بناء العلم دفعة واحدة، إذ يعتمد العلم على تفسير الظاهرة بقاعدة عامة، فالعلم يقول: ان الضغط يولد الانفجار، ويكشف لنا عن اسباب انفجارات معينة بانها ضغوط قاسية.

حسناً؛ كيف استطعنا معرفة ان كل ضغط يولد الانفجار، ولم نلاحظ إلا بعض اقسام الضغط وبعض افراده فقط؟ وكيف جزمنا بان هذا الانفجار تولد من الضغط؟ اليس لاننا حين شاهدنا الف ضغط وفي ظروف مختلفة سبب كل منها الانفجار، عرفنا بمقاييسنا العقلية ان اية ضغوط مشابهة لما شاهدنا تولد الانفجار ايضاً. ولولا هذه المقاييس اذاً لم نقدر على الجزم بسبب أي انفجار، بل لم نكن نعرف ان للانفجار سبباً ما إذ وجود السبب ذاته - خاضع لمقاييس العقل الذي يقول ان لكل شيء سبباً ونتيجة.

فالنتيجـة : ان قوة ايماننا بمعارفنا تدعنا نؤمن بعقولنـا ايماناً قوياً لانهـا

هي اصل كل معرفة لدينا.

ثالثاً: ولولا هذه المقاييس العقلية، لم نستطع الايمان بصدق الاحساس، دعنا نفكر قليلاً: اننا نؤمن بصدق ابصارنا فيما نرى، وهناك افتراض بكذب هذا الاحساس (كما يزعم فريق من الفلاسفة الذين يسمون بالمثاليين) فكيف يمكننا التثبت من صدق الاحساس وكذب هذا الافتراض، إنما المقاييس العقلية حجة قوية لذلك. الاحساس في حقيقته عارض جديد ولابد ان يكون، فما وراء الاحساس ايضاً صحيح. اما لو نفينا صدق هذه المقاييس فلا يمكننا الا ان ننفي ايضاً احاسيسنا جملة واحدة.

2- العقل يكشف عن الاشياء، ومن طبيعة كشفه الوضوح والاطمئنان والثبات في كل حال وزمان وعند كل احد وفي كل مكان، فمادام العقل يشاهد الاشياء حتى يباشر النفس حقائق الامور مباشرة فعلية وجب ان تطمئن النفس الى وضوحها ولا ترتاب بها، والا يختلف عند أي فرد ولا في أي حال.

ان هذه الحقيقة تعطينا فرصة كافية لاختبار معلوماتنا عن طريق النظر اليها؛ هل تنطبق عليها صفات العلم الحقيقية التالية:

اولاً: الوضوح

فما دامت الفكرة غير واضحة عند النفس يجب ان لا تنسب الى العلم، ولا يجوز لنا ان نتخيل وضوح شيء مادامت النفس هي بذاتها لم تستطع الجزم بها.

ثانياً: الاطمئنان

فما دامت النفس لا تجد برد اليقين إزاء الفكرة فلا يمكن ان تطلق عليها صفة العلم. ذلك ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً يجذب النفس الصافية فتطمئن اليها.

قال اللـه سبحانه وهو يصف الضالين: « إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللـه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» (التوبة/45)

« وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطـاً» (الكهف/28)

وصفتا التردد والفرطية تلازمان الجهل ابداً.

ثالثاً: الثبات

إذا كانت الشمس طالعة يوم كذا في بلد كذا، وعرفت ذلك بصورة واضحة، فلابد ان يعرفها كل فرد وفي كل مكان وفي كـل حال، امــا اذا كان بخلاف ذلك فلا يمكن ان يكون "علم" الجميع صحيحاً. من هذه النقطة تبدأ المقارنات العقلية التي تجريها النفس امام كل احساس لتميز الصحيح منه عن الباطل، فمثلاً يحس المريض بدوار فيرى الاشيـاء في حركـة، ولكنه سرعان مايقارن بين رؤيته وبين سائر الاحاسيس، فيقول: لو كنت غير مريض ولو كانت يدي ايضاً تلمس حركة الاشيـاء، إذاً كانت الحركة صحيحة، امـا الآن فلا، إذ العلم يجب ان يكون ثابتـاً بالنسبة الى كل احساس بل الى كل الاحاسيس.

وهكذا من يضع يديه في ماء فاتر بعد ان كانت احداهما في ماء حار

والثانية في ماء بارد فيحسس بالاولى ان الماء الفاتر بارد وبالثانية انه حار، وحينما يقارن بين اليدين ويعلم ان الماء الواحد لا يمكن ان يكون حاراً وبارداً في آن واحد، ويقارن الاحساس بالحالة السابقة يتوضح له انما الماء فاتر.

وكذلك ترى العين العصا بانكسار حينما توضع في الماء، ولكن حين يخرجها الانسان يراها معتدلة، او حينما تلمسها اليد يجدها مستقيمة ، فيقارن العقل بمقاييسه بعض الاحاسيس ببعض ويحكم ان العصا مستقيمة وان العين هي القاصرة.

ويشعر الجسم بقشعريرة البرد فيزعم الفرد ان الطقس شديد البرد، إلا انه حين يقارن بين هذا الشعور وبين الشعور بالزكام الشديد او يقارن بين شعوره بالبرد وعدم شعور من هم مثله من الناس به، يعرف ان الطقس ليس ببارد.

وترى العين شخصاً قزماً من بعيد ويسمع صوته ضعيفاً، ولكن المقياس العقلي يفرض عليه اعتباره رجلاً طويلاً ذا صوت عال، حيث يقارن بين احساسه بنظر الشخص البعيد ومقاله، وبين رؤيته لسائر الاشياء البعيدة، فحين يقدر المسافة؛ يعرف مدى صحة رؤيته وسماعه.

ولو تفكرنا قليلاً لوجدنا الإنسان لم يتوصل الى حضارته ولا الى أي كشف علمي بدون هذه المقارنات التي تعتمد على المقياس الفعلي الذي يكشف بسرعة زيف الاحساس عن حقه، فمثلاً وجد ابن الهيثم - وهو رياضي اسلامي قديم- تعليلاً لكسر الاشعاعات عندما تمر خلال وسيط مثل الهواء او الماء، واعتماداً على هذه الظواهر وتلك الحقائق استطاع ابن الهيثم معرفة ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الارضية وانها خمسة عشر كيلو متراً. ([22])

كيف استطاع ابن الهيثم معرفة الكثافة الحقيقية للـهواء المحيط بنا؟ ببساطة استطاع معرفتها بواسطة المقارنة بين انكسار شعاع الشمس في الهواء، وقال: لو كانت معرفتي بانكسار الاشعاع في انبوبة هواء صحيحة فلابد ان تكون صحيحة في فضاء هواء، إذ العلم من خصائصه الثبوت في كل مكان وكل زمان إذا كان الموضوع واحداً.

واننا قد نعتقد فكرة ونزعم اننا نعلم بها حقاً، ولكن بمجرد ما نقيس هذه الفكرة بما يماثلها في حجم الادلة القائمة عليها، او نتجرد عن الظروف الذاتية التي تحيط بهذه الفكرة، نراها تتبخر في الهواء، مما يدل على اهمية المقارنة بالمقاييس العقلية في كل جوانب حياتنا الخاصة.

والآن دعنا نفترض ان الإنسان لا يملك هذه المقاييس، فهل يستطيع ان يؤمن بشيء، بل هل يستطيع ان يتثبت من بعض احاسيسه بل كلها؟ باي شيء كان يهتدي الى ضرورة الاحساس والى صحته. والى مقارنته والى البحث عما يماثله . هكذا يكون العقل.

الانسان؛ طبيعة وعقل وإرادة

معرفة الانسان بداية سلسلة من المعارف الحضارية، فمعرفة نزعات الانسان وطاقاته الفكرية تشكل موضوع علم النفس، وإذا لاحظنا كل ذلك مرتبطاً بمدى نشاطاته من اجل اشباعها، كان موضوع علم الاقتصاد ، وحين نتحدث عن مجموعة افراد - نزعاتهم وطاقاتهم- يكون من اختصاص علم الاجتماع، واما علم التاريخ فهو مجموع هذه العلوم حينما نبحث عن اناس مضوا.

صحيح ان كل علم من هذه العلوم يتميز بمقاييس ومواضيع لا نجدها في غيره، الا ان خطه الفلسفي العام مشترك مع سائر العلوم، حتى انك تحتار حينما تحاول فصل البعض عن الآخر لشدة التشابك بينها.

ونظرة القرآن الى الإنسان نابعة من نظرته العامة حول الحياة وهي:

1- ان للإنسان جوانب إيجابية واخرى سلبية، والجوانب الإيجابية موهوبـة له من اللـه القديـر، بينمــا الجوانب السلبية ذاتية له لا يمكـن

تعليلهـا بشـيء.

وتبدو هذه الحقيقة اشد وضوحاً لو تبصرنا واقع الكون على انه حدود ووجود. وان حدوده (التي تميزه عما سواه وتدعى في منطق الفلاسفة بالماهية) حدوده هذه نابعة من ذاته، واما وجوده فمن اللـه، الذي يستمد نور الوجود منه القيمومة والحياة.

فالإنسان كذلك يملك جانب التحديد، وجانب الوجود. وجانب التحديد نابع من ذاته بينما جانب الوجود قائم باللـه مستمد منه الحول والقوة.

فلكل فرد قدر من العلم والقدرة والارادة، وفيه الى جانب ذلك قدر اكبر من الجهل، والعجز والانقياد، وبامتزاج العلم والجهل والقدرة والعجز والارادة والانقياد تتكون الصفات المائزة للإنسان، فهذا يعلم النحو ويجهل الفقه، ويقدر على البناء ولا يقدر على الصياغة، ويقاوم ضغط الشهوة ولا يقاوم ضغط الغضب! وهكذا فهو إنسان يتميز عمن يعلم الفقه ويجهل النحو، ويستطيع الصياغة ويعجز عن البناء، ويقاوم بارادته الغضب وينقاد للشهوة.

فهذه حدود الإنسانية المتمايزة ، وذلك وجودها المشترك.

والحدود ذاتية لانه ما من فرد إلا ولم يكن في حين من الدهر شيئاً مذكوراً ثم شيئاً بعد شيء امتلك بعض القدرات، بفضل اللـه الحي القيوم.

2- والانسان يسير مسيرة شاقة نحو الجوانب الإيجابية، ومن الجوانب السلبية، وكل القيم الموحى بها إليه وقود لهذه المسيرة إن في جانبها الفردي او المجموعي، وقافلة الحضارة تتابع ذات المسيرة الشاقة الطويلة، حتى تنتصر في العاقبة ببلوغ النهاية الحميدة التي تتمثل في تفوق الجوانب الايجابية على الجوانب السلبية في البشرية جمعاء.

3- وهكذا يكون الاعتراف بواقع الثنائية في الإنسان، البداية الطبيعية لعلم النفس، اما علم الاخلاق فهو الأضواء المشعة التي تكشف جوانب هذه الثنائية ، وتحاول وضع معالم في سبيل الفرد نحو التفوق ضد الجوانب السلبية. وعلم الاجتماع اعتراف بواقع الثنائية في الإنسانية ، وكشف لخطوط السلبيات فالايجابيات فيها، ووضع مشاعل على طريق انتصار الخطوط الايجابية على السلبية، والتاريخ علم يتابع - بعد الاعتراف بكل هذه الحقائق - مسيرة الانسانية في الاحقاب المتطاولة نحو انتصار جوانب الكمال، وعبرة مستفادة من الماضي للمستقبل.

وهكذا يتحول كل علم - من العلوم الإنسانية الأولية- الى جانبين: جانب الكشف وجانب التوجيه. ورغم ان جانب الكشف هو قاعدة الجانب الثاني، فإن هذا الأخير ايضاً هدف الجانب الأول الذي ينشأ من تناسيه الفوضى في مسيرة (علم معرفة الإنسان).

علم النفس في القرآن

وجانب الكشف من علم النفس في فلسفة القرآن يتبع القواعد التالية، التي ليست سوى تبسيطاً لذات الحقيقة الآنفة الذكر:

1- ليست النفس سبيكة بيضاء، ولا صخرة سوداء، كما زعم كل ذلك فريقان متطرفان من فلاسفة البشر، وانما هي امر بين امرين.

2- ومن هنا فان الجوانب السلبية والايجابية متعايشتان عند الإنسان لا يفرضهما عليه فارض من خارجه، اللـهم الا اللـه واهب الخير له ويفرض عليه كلمة التقوى احياناً.

3- وخطأ فلاسفة البشر الاول آت من افتراضهم سلفاً ان النفس التي تتبع الخير لا يمكن ان تكون مصدر الشر، وكذلك العكس، جاهلين ان طبيعـة النفـس الشريـرة لا تنافي هبة اللـه لها موهبة خيرة. كما كانت طبيعة الإنسان الموت فوهب اللـه له الحياة، وذاته العدم، فاعطاه اللـه الخلق والوجود وهكذا.

4- ومن هنا تكون المحفزات الطبيعية حقة وواقعية بذات القوة التي تكون العوامل الحضارية صحيحة وواقعية، فالعصبية الى جانب الايثار، والشهوة الى جانب التعفف، والرياء الى جانب الاخلاص امور واقعية ومعترف بها.

5- وتكون التربية والاخلاق والعقوبات والضغوط كلها ضرورية، لأنها ستساعد الجانب الايجابي في البشر على الجانب السلبي، ولكن بعد الاعتراف بواقعية الحالة الاعتدائية في النفس واثر الوراثة والهوى والكفاح المعاشي في تسييره، مما يشكل الجانب السلبي منه.

هذه هي النقاط الخمس التي تعود لتتمركز في ثورة فكرية واحدة هي قاعدة الثنائية في الكائنات وفي النفس البشرية، هذه القاعدة التي اخطأها فلاسفة البشر قديماً وحديثاً، وهدى اليها القرآن الحكيم الذي قال:

« وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَـا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللـه نَاقَةَ اللـه وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا » (الشمس/7-14)

النفس تعرف الفجور وتعرف كيف تبقى فيها وتتخلص من سيئاتها، ولكنها تسير ناحية التزكية حيناً وناحية الدس والنفاق حيناً، واي الناحيتين سارت فهي نابعة من قوة متأصلة فيها، فعشيرة ثمود حيث اختارت الضلالة فانما اختارتها بطغواها؛ انها طغت بالنعم، والطغيان بالنعم حقيقة معترف بها لدى الاسلام وسنة اجتماعية، ولكن القرآن من جانب آخر يدين ثمود، لانها كانت تستطيع الافلات من قيود هذه السنة الاجتماعية وتستجيب لنداء رسولها فلم تفلح، فعوقبت ودمدم عليهم ربهم فسواها. والعقوبة ذاتها نابعة من التخيير في الاسلام، فلولا اعتقادنا بامكانية ثمود التمرد على سنن الكون لما حسنت العقوبة ولا حتى الادانة.

وبعيداً عن تفسير الظواهر النفسية بالثنائية( الذات + الموهبة) نتورط في الفلسفات التجزيئية التي لم تستطع ان تعطي الإنسان وجوده المتكامل، واكثرها تجرد الإنسان من حريته في اختيار السلوك الفاضل.

أ- فداروين يجعل مسألة التقدم البشري طبيعية الى درجة بعيدة ، ويجعل الكفاح من اجل الوجود وسيلة الإنسان الوحيدة نحو التقدم الطبيعي ، ثم يربط بين الشرور وبين مرحلة الإنسان، بحيث يكاد يقدس تلك الشرور ويعكس نظرية الخطيئة الاولى في الديانة المسيحية، ولا نذيع سراً لو قلنا ان بناء العلوم الحديثة (والمرتبطة بمعرفة الإنسان) قد قام على نظرية داروين ليس في اصالة الشر في طبيعة الإنسان فقط، بل وأيضاً في جعل الكفاح من اجل الوجود الوسيلة الوحيدة لرقي الإنسان.

ب- وفرويد، يجعل الصفة الاعتدائية طبيعية في الإنسان متجاهلاً تماماً صفة الرحمة فيه، بل يتطرف بالقول: إن اعاقة الاعتدائية على العموم شيء غير صحي.

ج- وتطرف فريق ذات اليمين، فلم يرَ في الإنسان أي شر اصيل، وقال: ان الطبيعة الانسانية غير مصابة باية خطيئة اصلية غير الخطيئة الاصلية التي ارتكبها المجتمع ضدها. ومثَّل هذه النظرية: روسو وكانت وغوته وآخرون.

وكانت من نتائج اصالة الخطيئة دون الفضيلة؛ اليأس من اصلاح الإنسان، بل وتبديل القيم الى حد الزعم بان الرذيلة نوع من الفضيلة، اما النظرية المعاكسة فكان من نتائجها تحميل التربية كل اخطاء الإنسان وتناسي العوامل المضادة في ذات البشر وبالتالي عدم الواقعية في ذات البشر.

إن الانسان حسب نظرية الاسلام ليس مخيراً بالمرة، فهناك الوراثة والتربية بل عامل الكفاح من اجل الحياة ، تفرض عليه احياناً اتجاهاً محدداً، الا انه من جانب آخر ليس مسيّراً بالمرة فهناك عامل العقل الذي يسمو به احياناً اخرى الى الثورة ضد عوامل الفساد، والعقل هذا موهبة يتأصل في ذات الإنسان الى كائن حضاري لا جبر فيه ولا تفويض بل امر بين امرين.

الاخلاق في القرآن

يبقى الجانب التوجيهي من فلسفة القرآن في علم النفس. وفي هذا الجانب يذكرنا القرآن مرة اخرى بالثنائية في الكائنات، فمن حيث ذاتها الأصلية تحدد بالعدم والعجز والجهل، ومن ناحية المواهب والعطايا الإلهية تتمتع بالوجود، والقدرة والمعرفة، وحين تنعكس هذه الحقيقة الكبرى على صعيد النفس وتهبط الى مستوى التوجيه، نرى الاخلاق الفاضلة تتمثل في الشخصية التي تعكس حقيقة النفي والاثبات في الكائنات وتعمل بوحي هذه الحقيقة.

والتعبير الدقيق عن هذه الحقيقة في النفس هو العمل وفق محور اليأس والرجاء؛ اليأس من كل شيء على انه موجود ناقـص عاجز جاهـل بالذات، وانه لا يملك نفعاً ولا ضراً، والرجـاء باللـه (الذي لا يشبه خلقه في شيء من ذلك والذي يملك كل شيء) واليأس من القـوى الموجودة في كف الإنسان فعلاً، والرجاء فيما قد يبلغه هذا الإنسان

بالذات في المستقبل.

ومحور اليأس والرجاء بمعناه العام يصنع الشخصية القرآنية التي تتمتع بالاعتدال في السلوك، والاستقامة في الرأي؛ لانه - وكما سبق- يعكس حقيقة الكون بصورة دقيقة، فلا يغرّ بما يملك، ولا يتوانى عما يطمع، ويأسه عن المخلوق يعطيه مناعة عنه، ورجاؤه في الخالق يزيده عملاً له، يؤمن بما يملك؛ لان كل ما يملك من اللـه، ولكنه من جانب آخر لايبطر بما يملك، إذ يعلم انه امانة في يديه من غيره، وهكذا لا تعجزه المصائب ولا تكسر عزيمته الفوادح؛ لانه يملك رجاءً قوياً باللـه.

فلسفة المجتمع في القرآن

والجانب الفلسفي من نظرة الاسلام الى المجتمع نابع كذلك من الإيمان بان الانسان كائن محدود المعطيات وانه يملك خط السلبيات وخط الايجابيات، وعلينا حين نلاحظ المجتمع، التفتيش عن تفرعات حقائق الخطـين. والقواعد الاساسية لفلسفة المجتمع في القرآن تتأطر ضمـن نقــاط:

1- دراسة علم النفس اساسية في معرفة المجتمع، فكل شيء نجد مصغره في الفرد، نجده في المجتمع بصورة متجسدة؛ تشابك الخير والشر في نفس كل انسان يعكس ظاهرة تشابك الاخيار والاشرار في المجتمع. وذات القوانين التي تحكم طبيعة التشابك على صعيد النفس ذاتها تحكم التشابك على صعيد الجماعة.

2- وبناءً على ذلك؛ فاننا لا نستطيع ارجاع كل الظواهر الاجتماعية الى الجانب السلبي من الانسان حتى نجد انفسنا في حلقة مفرغة لا نعرف من اين تبدأ المؤثرات، بل يجب ان نبحث عن خطي السلبية والايجابية معاً؛ فمثلاً في موضوع اساس المجتمع، لا نستطيع ان نجعله الحاجة وضرورة العيش فقط، (وهو - طبعاً- اساس تقتضيه الغريزة الانسانية) بل لابد ان ندخل في حسابنا الحب البرئ الذي يتمتع به كل فرد إزاء ولده ووالديـه وأقاربـه فمجتمعـه.

وليس من الصائب ان نجعل اكتشاف الحديد واستسلام الانسان له، سبباً لطور جديد من المجتمعات، خاضعة للزراعة والصبر والعمل، بل لابد ان نلاحظ ايضاً، حالة الصبر والعمل الذي سبق اكتشاف الحديد، وكان جانباً ايجابياً من الانسان وغير متأثر بالظروف المادية.

كذلك لا نجعل العصبية اساس الملك، ونربط العصبية بالقبلية فالعنصرية فالاقليمية، ثم التيار القومي والحضاري (كما جعله ابن خلدون وتابعوه) بل نلاحظ الى جانب هذا الخط السلبي في تسيير المجتمعات خطوطاً ايجابية ابتدأت من الفكرة الحضارية وطليعة المبشرين بها، والامة وتموجاتها في العالم و..و.. مما هو جانب ايجابي بنّاء في حياة الانسان.

3- وبالتالي في تقييم دور الفرد في تسيير المجتمع ، او تسييره بالمجتمع لابد ان نقدر ليس فقط حاجات الفرد المادية، والتي ترتبط بصورة اخرى بالمجتمع وضغوطه، بل وايضاً تطلعاته الاصلاحية المبدعة، ومدى "ارادته" في فرض هذه التطلعات علىالتيار الاجتماعي، وهكذا يجب رسم خط بياني كالتالي في معرفة التأثير المتقابل في المجتمع.

في تأثّر الفرد بالمجتمع نقول:

الفرد = نسبة ضغطه + نسبة ضعف مقاومة المجتمع له= نسبة التأثير.

وبالعكس نقول:

المجتمع= نسبة ضغطه + نسبة ضعف ارادة الفرد = نسبة التأثير.

/ 6