بیشترلیست موضوعاتبحوث في أدب القرآن الحكيملماذا القرآن؟ضرورة التدبر في القرآنالقرآن والتفسير بالرأيالقرآن بين التزكية والتعليمالقرآن الحكيم بين الظاهر والباطنالقرآن الحكيم بين المحكم والمتشابهالقرآن الحكيم والأحرف السبعةالقرآن الحكيم واثباتات معانيه أ- اللغـة. ب - السياق.التدبر والصفات النفسيةالتدبر والصفات العقليةالتدبر والسياق القرآني 1- العلاقة العلمية: 2- العلاقة التربوية.التدبر والواقع الخارجيالتدبر والتطبيق القرآنيمنهج التدبر في القرآنفلسفة القرآن الحكيم 1- التعريف. 2- نقـاش حـاد.أبعاد البحث في الوجودحقيقة الوجود 1- تشابك العدم والوجود. 2- الصلة بين العدم والوجود:نظرة الاسلام في الخلقآيات وتفاسيرنتائج النظرة الاسلامية حول الخلق 1- مشكلة العدم. 2- مسألة البعث. 3- مسألة التطورات. 4- مسألة المعاجز. 5- مسألة الطبائع. 6- مسألة الشرائع.اللـه في القرآنالعقل في القرآنالسبيل الى معرفة العقلالعقل موهبة اولاً: الوضوح ثانياً: الاطمئنان ثالثاً: الثباتالانسان؛ طبيعة وعقل وإرادةعلم النفس في القرآنالاخلاق في القرآنفلسفة المجتمع في القرآنالنظام الاجتماعيفلسفة التاريخ في القرآنالسمات البارزة للفلسفة 1- الواقعية: 2- الشمولية: 3- العقلانية:توضیحاتافزودن یادداشت جدید
هل الكون حادث؟ نعم لانه متطور، ولأن القانون العلمي اثبت وجود عمر محدد للكون، وانه لا يمكن ان تسير حرارة الكون من الصفر الى الواحد بل انها تسير بصورة عكسية تماماً من الطاقة الى "لا طاقة" حتى تنتهي طاقات الكون جميعاً. وبعد: ان حدوث الكون دليل على ان ذاته لم يكن موجوداً، وهل يمكن ان يكون شيء ذاته الوجود ويكون معدوماً في لحظة من الزمن. افلا يكون هذا تناقضاً ظاهراً؟ ان التفسير الوحيد لوجود الكون بعد عدمه يكمن في القول: بعدم انقلاب الذات من العدم الى الوجود، بل اعطاء نور الوجود للعدم عطاءً مستمراً، بحيث لو توقف العطاء تحولت الموجودات الى العدم. وهذا التفسير يهدينا الى الفرق الكبير بين الوجود كحقيقة ثابتة ظاهرة بذاتها، والموجود كظل متطور ظاهر بغيره. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة سبحت اسم اللـه، كما ابتدأت سور الكتاب باسمه العظيم، وحين نسأل عن معنى الاسم في اللغة ، نجد انه العلامة والدليل الى شيء ما، ثم حين نعود الى القرآن الحكيم نجد ان هذا الاسم كان سبباً في خلق الاشياء، من ارض وسماء، ونجد في آية اخرى: « بِسْمِ اللَّهِ مَجْريهَا وَمُرْسَاهَا » (هود/41) ان التدبر في مجموع هذه الآيات يهدينا الى ان اسم اللـه، المقدس، هو النور الذي خلق به السموات والارضين، وهو الذي سميناه الوجود، دون ان نستطيع تحديده لسعته وشدة حقانيته المانعة عن احاطتنا به. فهو ذاته النور الذي اشرقت به الأرض فقال اللـه: « وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا» (الزمر/69) وهو كذلك النور الإلهي الذي مثَّله القرآن بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري فقال: « اللـه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ » (النور/35) وكذلك هو العرش ([16]) الذي استوى عليه اللـه سبحانه، الذي قال: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» (طه/5) وقال:«اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (النمل/26) وهو المثل الأعلى الذي قال عنه القرآن: « وَللـه الْمَثَلُ الاَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيرُ الْحَكِيمُ» (النحل/60) وهو ايضاً: جوهر اسماء اللـه الحسنـى التي قـال عنها الكتاب: «وَللـه الاَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (الاعراف/180) وقال: «اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَسْمَاءُ الْحُسْنَى» (طه/8) وهو ايضاً الاسم الذي يدعو العباد ربهم به حين يجأرون. ([17]) ان تذكرة القرآن بحقيقة هذا الاسم الذي لا يُهتدى اليه دون المزيد من اثارة العقل باتجاه سماته، وآياته.. ان تذكرة القرآن به لا تنحصر بهذه الآيات، اذ نجد في اكثر آيات القرآن توجيهاً صريحاً او مستبطناً اليه. فمن كل آية في القرآن يشع نور هذه الحقيقة: ان الخلق بحاجة مستمرة الى الخالق الذي امسك السموات والارض ان تزولا.. ولئن زالتا ان امسكهما من احد من بعده. قال اللـه سبحانه: « إِنَّ اللـه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» (فاطر/41) واللـه سبحانه وراء كل علم وعمل فلولا دوام الحاجة إليه لما كان كل شيء فقيراً إليه، ولما نسب كل فعل الى قدرته بصورة مباشرة. بلى ان نوره هو الذي يمسك الكائنات ان تزول زوالاً، فهو الذي يعطيها الوجود فيضاً بعد فيض وخلقاً بعد خلق. لنستمع الى الآية الكريمة: «إِنَّ اللـه فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللـه فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ اِلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَاَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِن أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الانعام/95-99) وكذلك القرآن كله مذكر بهذا الاسم العظيم الذي لو تنبه اليه الفرد، عرف ضلالة اولئك المتصوفة، الذين لم يفقهوا حقيقة الوجود، انه نور مقدس من اللـه، يعطي الاشياء خلقها ، ويمسكها ان تزول، وهو بيد اللـه سبحانه.
نظرة الاسلام في الخلق
ومن معرفة حقيقة الوجود نعرف النظرة الاسلامية في الخلق، إذ ان الخلق لا يعدو ان يكون ايجاداً مستمراً للاشياء. فالكون موجود بينما نور الوجود قائم باللـه، فاللـه سبحانه هو القيوم القائم بذاته، والذي تقوم الأشياء به! ويجب ان ننتبه الى لفظة الباء ههنا، فهي عميقة الدلالة على طبيعة الصلة بين الخالق والمخلوق، اذ انها تدل على "التأثير بلا تأثر". فاللـه، يمسك السموات والارض ولكن دون ان يكون ذلك بعمل منه يحتاج الى حركة وتغير ونقصان وبالتالي تعب وارهاق. بل انه سبحانه لشدة فعاليته، وشمول قيمومته، يخلق الأشياء بدون ان ينقص منه شيء او يحتاج الى تطور فيه. فهو ليس بحاجة الى الهبة بجزء من كيانه ليصوغ من كينونته الأشياء (كما تصورت الفلسفات الجاهلية) بل ان نظرة منه تكفي لانقلاب الظلمات الى النور. إذاً فطبيعة خلق اللـه سبحانه لا تخرج عن اطار حدين اثنين: 1- فعل وفاعلية وتأثير وتكوين. 2- بلا انفعال ومفعولية وتأثر وتكوّن. ومن المستصعب على الفكر البشري، وقد تعود على مباشرة المخلوقات، ان يتصور الخلق الأول إذ انه لا يخرج عن اطار فاعليات البشر التي هي "تأثير وتأثر" فبقدر ما يؤثر الفاعل في شيء يتأثر به، فهو يستنزف منه الطاقة ويورثه التعب والارهاق! بينما اللـه بعكس ذلك تماماً فهو متعال عن التأثر والتطور. ومن هنا جاء في الحديث : ان الامام علياً u سأل خطيباً من اهل الكوفة يتكلم في الاستطاعة، فقال له: أمع اللـه تستطيع ام بدونه؟ فقال: لا ادري ما اقول. فقال الامام u ايهما قلت ضربت عنقك. قال: فمـا اقـول يا امير المؤمنين؟ قـال : قل: باللـه استطيع، فليس اللـه داخلاً فـي الانسان حتى يكون الخلق في صفه ويكون شريكاً له سبحانه. وليس - من جهة اخرى- مزايلاً عن الخلق بعيداً عنه حتى يكون الخلق مستغنياً عنه مستطيعاً بدونه، بل هو مؤثر في الخلق دون ان يكون متأثراً به سبحانه.
آيات وتفاسير
« إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (النحل/40) والقول هنا كناية عن المشيئة الإلهية التي حين تريد ان تخلق شيئاً، لا تحتاج الى حركة او عمل بل تبدعه ابداعـاً. « وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا» (الزمر/69) فالنور هنا تعبير لطيف عن تلك الطاقة (ان صح التعبير) التي تجعل الأشياء موجودة وهي مملوكة للـه. « إِنَّ اللـه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» (فاطر/41) ويدعى ذلك الأمر الذي يعطي الوجود بصورة مستمرة بالعرش - في لغة القرآن الكريم- وقد جاء فيه: « الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى » (طه/5) «اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ([18])» (النمل/26)
نتائج النظرة الاسلامية حول الخلق
إن نظرة الخلق الإسلامية تنسجم بمجملها مع سائر الحقائق المكتشفة، مما يزيدنا ثقة بها وايماناً بصدقها، والحقائق التالية في الوقت الذي هي استعراض لمدى انسجام النظرة الاسلامية مع سائر الحقائق المشهورة، فإنَّ ذكرها يفيد من جهة اخرى، هي انها تشكل زوايا المقارنة مع النظريات الفلسفية الاخرى:
1- مشكلة العدم.
لقد تعود الماديون اثارة الشبهة في وجه المؤمنين بالسؤال: كيف يمكن خلق الاشياء من اللاشيء؟ إلا ان النظرة الاسلامية في الخلق تنسف هذه الشبهة بسرعة، إذ ان اللاشيء لم يتسبب في ايجاد الشيء. ولا ان اللـه خلق الأشياء من " لا شيء" بل ان اللـه تعالى لا من شيء خلق الأشياء. فهو باعث الخلق، وهو مبدئه. وبتعبير آخر: ان الوجود لم يصدر من العدم، ولا ان العدم تحول الى الوجود، بل ان اللـه لشدة فاعليته وشمول قيمومته افاض من نوره فتحققت الأشياء وظهرت. إلا ان الحقائق الموجودة لم تصبح بعد الخلق قائمة بذاتها حتى تأتي الشبهة بانه كيف تحول الزائل بذاته الى قائم بذاته، والذاتي لا يتطور ولا يتغير ؟ ان طريقة الإجابة على هذه الشبهة: القول بان الأشياء كانت ولم تزل فانيـة بذاتها، وممكنة ان تقوم بغيرها، وسواءً بعد الخلق او قبله فان الأمر لم يتغير.
2- مسألة البعث.
وبما ان العدم لم يتحول الى وجود، بل ان المعدوم الذي كان من طبيعته امكانية الإيجاد، رُش عليه نور الوجود، فبقدره اكتسب من النور الظهور، فان "اعدام" الموجود لن يكون مستحيلاً امام قدرة الخالق العظيم. وثم" اعادته" الى الوجود ممكنة ايضاً، إذ لا يعدو ان يكون مثل اللوحة التي نوجه إليها النور فتظهر ثم نذهب بنورها فتعود مظلمة ثم نعيد النور إليها. ان مسألة البعث ستكون عادية للغاية، لو سلمنا بنظرة الإسلام في الخلق، المبتنية على عرضية الوجود بالنسبة الى الموجودات القائمة بغيرها.
3- مسألة التطورات.
والتطورات المفاجئة لا تعدو مشكلة فلسفية كما لا تعدو قفزة الطبيعة مشكلة اخـرى. إذ ان يد الخلقـة لم تقصر عن المخلوقات في لحظة بل هي مبسوطة عليها، مستطيلة فيها. فاللـه سبحانه حين خلق الأشياء لم تقم بذاتها، بل لا تزال محتاجة الى فضل اللـه الذي يعطيها الاستمرارية في الوجود. وعليه: فان كل لحظة تمر عليها تختلف عن اللحظات السابقة.. او اللاحقة . وعلى ذلك؛ فكل لحظة يخلق اللـه الأشياء خلقاً جديداً، ولا مانع لديه ان يخلقها في طور جديد ايضاً. ان تدخل القدرة الغيبية ليس كما يُظن يتحقق بظهور أيادٍ طويلة واجهزة ضخمة، من السماء الى الأرض، كلا، بل بما ان خلفية الموجودات هي من عند اللـه، فان تغييرها انما هي من داخلها، من خلفها، من حيث وجودها الذي يوهب لها بصورة مستمرة. ولست بحاجة الى تغيير لون لوحة تركز عليها الضوء حتى تبدو بشكل جديد بل نهاية ما يتطلب الأمر منك تغيير زجاجة "المصباح" الذي تستخدمه للاضاءة. بل حتى التطورات التدريجية ليست غير تغيرات في الخلق، فهي خلقة جديدة بعد خلقة اخرى.
4- مسألة المعاجز.
والمعاجز كذلك، ليست بعيدة عن روح النظـرة الإسلامية في الخلــق، إذ هي هي الخلقة ، تعدم او تغيرّ ببساطة، ما دامت الأشياء قائمـة بغيرهـا! فالنار التي تعود برداً وسلاماً تبدو لدينا معجزة، ولكنها في الواقع ليست سوى عملية واحدة مع النار التي تحرق الأشياء ، والفرق ان اللـه كان يخلق النار ويخلق معها الحرارة في كل لحظة، اما الآن فخلق النار ولم يخلق حرارتها، بل خلق مكانها برداً وسلاماً.
5- مسألة الطبائع.
والقوانين الكونية ليست سوى سنن إلهية ، قد قضى اللـه على نفسه اجرائها فهي اقدار، ليس إلا.
6- مسألة الشرائع.
وإذا استطالت قدرة اللـه على الأشياء فاستطاع تغيير ماشاء تغييره، فانه سيكون قادراً على بعث الأنبياء ودعمهم بالمعاجز، وارسال الكتب معهم.
اللـه في القرآن
ليس اللـه في تذكرة القرآن وتوجيهه وجوداً ولا موجوداً، وانما هو حقٌ قيوم. فالوجود رغم انه اسم مقدس من اسماء اللـه الحسنى، ورغم انه نور يُظهر حقائق الكون، ورغم انه يختلف عن الموجودات - حسبما سبق- رغم ذلك كله فهو ليس بإله.. ولا اللـه سبحانه بوجود، انما الوجود خلق من خلقه، يتصرف فيه كيفما يشاء يعطيه لشيء فينقلب ظاهراً مخلوقاً. إن اقرب الوسائل لمعرفة ان الوجود مخلوق، انما هو التصرف فيه وإعطاؤه مرة لشيء ثم سحبه منه. فهو إذاً حقيقة يديرها مالكها اللـه القدير. والموجودات ليست بإله هي الأخرى، بل النجم والشجر يسجدان للـه، والشمس والقمر يجريان بتدبير اللـه والأرض خاشعة بامره. وأبسط الأدلة الى ذلك، ان معالم الضعف بارزة في الأشياء، ولا ولن تكون اللـه القدير سبحانه. ان المبدأ الفلسفي الذي يقسم الوجود إلى ممكن وواجب، ويتصور ان القسم الأول هو الخليقة، والقسم الثاني هو الخالق. ان هذا المبدأ مرفوض في القرآن . إذ ان اللـه ليس بوجود ولا الخليقة بوجود، انما الوجود نور مملوك للـه، وموهوب للخليقة. فكيف يمكن ان يشترك الخلق مع اللـه في قائمة واحدة نسميها الوجود. بينما هي ثلاث قوائم: اللـه. الوجود. الخلق!! والمبدأ الصوفي الذي يزعم ان اللـه هو هو ذات الموجودات. وكذلك المبدأ المادي الذي يحسب الخلائق هي ذات السيطرة الذاتية على نفسها، فهي هي الرب، ولا إله سواها. إن هذين المبدأين مرفوضين أيضاً. ذلك ان اللـه اسمى من مخلوقاته، وأجل واعلى من ملكوته! فهو خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وبينه وبين خلقه تباين في الصفات،ولا اشتراك إلا في الألفاظ التي لم توضع الا في حدود امكانيات الخلق انفسهم. إن الحد الفاصل بين اللـه وبين الخلق التباين المطلق بينهما. فكلما يجوز في الخلق يستحيل في الخالق وهكذا العكس. وبهذا التباين نكشف اننا لا نقدر على تحديد اللـه، ولا على اكتشاف صفاته، لاننا نعيش في مناخ المخلوقين ولا نعهد صفة، الا بقدر ما هي ظاهرة في مخلوق ما. فصفة القدرة مثلاً نعرفها في الإنسان ، في التيار، في العاصفة، في الكهرباء والذرة، صحيح انها صفة قدرة إلا إنها مثبتة حسب معرفتنا في المخلوق، فلا يمكننا - بطبيعة التباين بين الخلق والخالق- قياسها على اللـه.. وهكذا صفة العلم والملك و..و.. ولكننا مع ذلك نستطيع ان نعرف ثبوت ما هو أسمى من صفات القدرة والعلم والملك المتوافرة في المخلوقات بثبوت ما هو أسمى منها وأكبر في الخالق، الذي غرز في خلقه هذه الصفات المثلى. وقد نسمي ذلك الأمر الاسمى والأكبر من صفات المخلوقين بالقدرة اللامحدودة، والعلم التام والملك الدائم. إلا انها لا تعني بهذه التسمية ايجاد علاقة "بين قدرة الخلق" و"قدرة الخالق" حتى تكونان سواء، او بين "علم الخلق" و"علم الخالق" أو"مشيئة الخلق" و"مشيئة الخالق" وما اشبه.. إذ لا علاقة بينهما إلاّ علاقة المقابلة الشديدة الانعكاس، بل انما نريد بهذه التسمية ايجاد علاقة بين لفظ ولفظ، حتى نعرف اشارةً ما الى ذلك الأمر الأسمى، الثابت للخالق! من هنا كان اثبات أيّة صفة للـه لا يعدو ان يكون اشارة (في اطار الفهم الذي نملكه) الى صفاته واسمائه دون ان يكون تحديداً للـه او جعله في اطار المخلوقين وسحب صفاتهم عليه سبحانه! فاللفظ مشترك بين اللـه وبين الخلق، كلاهما لدى التسمية (قدرة وعلـم وملك) ولكن المعنى مختلف، بقدر ما هو مختلف ومتباين: اللـه وخلقـه، فأيـن هي القدرة المحدودة العرضية الضئيلة، من الاقتدار المطلق الدائم ابــداً عنـد اللـه، وأين هي معرفـة احدنـا بشيء، وعلم اللـه المحيط بكل شيء، او ملكنا المتاع وملكوت اللـه للسموات والارضين؟! ونحن نعرف ان اللـه حق، ولكن هل ان ثبوته يتشابه ووجودنا . كلا إذ ان اللـه حق، ثابت، قيوم بذات نفسه، ونحن موجودون قائمون باللـه، وهل هي سواء قيمومة بالذات، وقيام بالغير؟! لا نستطيع ان نقول أنّ بينهما فرق كبير، حيث لا تشابه ابداً بينهما بل هما شيئان متباينان! ومن هنا فأفضل صفة نطلقها على اللـه، هي صفة محورية تدور بين النفي والاثبات، النفي لقطع أية صلة تشابه بينه وبين خلقه، والاثبات للايمان بأنه اسمى من خلقه واكبر. فهو القادر غير مقدور، والمالك غير مملوك، والعليم ولا معلوم! ولترسيخ هاتين الحقيقتين؛ حقيقة ثبوت اللـه وصفاته المثلى من جهة، ونفي الصفات المعروفة في المخلوقين عنه، لترسيخ ذلك في نفوس البشر التي تعودت على معرفة الخلق! كان لا بد من التقديس، والتسبيح، والتنزيه، بكلمة سبحان اللـه التي كثرت في القرآن، واعتبرت ركيزة الأذكار في الصلاة! إن التسبيح يجعلنا فجأة امام اللـه، إذ انه ينفي عن اذهاننا المخلوقين فيظهر الخالق، ولانه من جهة ثانية، يحل عقدة مستعصية من نفس البشر، وهي العادة على تحديد الأشياء، لأن النفس البشرية مخلوقة من طبيعتها التحديد، فلما تقف امام اللـه وتعجز عن التحديد، تتورط في الشبهات العقيمة! كيف؟ واين؟ وماذا؟ بل حتى لماذا؟ وتريد ان تُخضع اللـه لمقاييس الخلق فتضل ضلالاً بعيداً؟ وهنا تأتي كلمة "سبحان اللـه" لتنقذ البشر مرة واحدة من ورطته الكبيرة، وتقول له: إنك امام خالق المخلوقات، حيث تعجز الالفاظ وتنهار الحدود، وتنحسر المعارف البشرية الساذجة؟ وهكذا يحاول معرفة اللـه من جديد. ان القرآن قد بدأ سوراً كثيرة بالتسبيح، وقال انه لسان ما في السموات والارض جميعاً، وأمر بالتسبيح بكرة واصيلاً. وإذا كان يعرّف اللـه في القرآن، بنفي التشبيه بينه وبين خلقه فان صفاته الحسنة، انعكاس لهذه المباينة دون ان تكون صفات محدودة، مميزة متسمة بالكم والكيف والأين، فلا نعني من قدرته سوى نفي العجز عنه ، ولا من علمه غير نفي الجهل منه، وهكذا .. لانه لا يمكن تصور اللامحدود، او تعريف اللامتناهي!! يبقى سؤال : كيف إذاً قدر البشر على نفي العجز والجهل عن ربهم، وكلما هناك من صفة المخلوقين؟ والجواب ببساطة: وجود هذه الصفات في الخلق هدانا الى ان اللـه حق. فلو افترضنا وجود ذات الصفات في الخالق، إذاً وقعنا في المحال الذي هربنا منه، تصوّر لو انك رُميت بحجر ففحصته فلم تر فيه القدرة الذاتية، فقلت لابد ان تكون حركته من غيره، ثم افترضت ان يكون رامي الحجر حجر ساكن مثله، ألست قد تناقضت مع نفسك، إذ لو كان الحجر الثاني قادراً على التحريك وهو ساكن، فلماذا رفضت ان يكون الحجر الاول متحركاً بذاته؟.. واللـه سبحانه لو كان منطوياً على العجز لم تكن تحتاج اليه، إذ كفى بالمخلوقين عاجزين، انما اهتدينا الى اللـه القادر بعد ان شاهدنا صفات العجز في المخلوق. من هنا لا نجد صفة عجز او ذل او صغار في المخلوق الا وتهدينا الفطرة الى تعالي اللـه عنها علواً كبيراً. ولا نرى فعلاً محدوداً منظماً بتدبير حكيم، الا ونهتدي به الى اللـه، وكلّما وجدنا الفعل من الدقة والحكمة والفائدة اهتدينا الى نوع من صفات اللـه واسمائه الحسنى ، فلو وجدنا مثلاً وردة بديعة المنظر زاكية العرف، قلنا: سبحان اللـه اللطيف، أوليس يتصف باللطف (ودقة الصنع) من ابدع هذه الوردة؟ اما لو لاحظنا الاهداف العديدة التي صنعت من اجلها الوردة، من تنظيف الجو واشاعة العبق، لاهتدينا الى حكمة بارئها، اما إذا تصورنا الفوائد الصحية التي تصيب الإنسان من الوردة عرفنا ان خالقها رحيم بعباده. ان آيات القرآن تذكرنا مرة بعد اخرى بنوع الافعال التي تشهد على صفات اللـه تعالى ، وقد تسبق التذكرةُ بالفعل، التذكرةَ بالصفة التي نهتدي بسببها إليها. وها نحن نستمع الى القرآن يذكرنا بصفات اللـه: قـال تعـالى: « ذَلِكَ بَأَنَّ اللـه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللـه سَمِيعٌ بَصِيرٌ» قـال تعـالى: « ذَلِكَ بِاَنَّ اللـه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللـه هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» قـال تعـالى: «أَلَمْ تَـــرَ أَنَّ اللـه أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللـه لَطِيفٌ خَبِيرٌ» قـال تعـالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللـه لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» قـال تعـالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللـه سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِاَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَرْضِ إِلاَّ بإِذْنِهِ إِنَّ اللـه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» ان نظام الليل والنهار يهدي الى تدبير رشيد، والذي يهدي بدوره الى ان اللـه سميع عليم. فهل يدبر من لا يسمع؟ (او بالاحرى من لا يعرف ما يجري في محور تدبيره) او هل ينظم من لا يعلم؟ والثابت الذي لا يتغير يتسم بالعلو والكبرياء، فهو الحق وغيره الباطل الذي سيزول عاجلاً او آجلاً، إذاً فهو العلي الكبير، ومَن اكبر ممن يدوم بعد فناء كل شيء؟ ونظرة الى الارض وما بها من تراب ناعم، كيف ينزل اللـه عليه الماء ويحوله الى مصانع بارعة تنسج رداءً اخضر للارض. ان هذه النظرة تهدينا الى دقة صنع اللـه، وبالتالي الى ان اللـه لطيف خبير. ونحن حينما نعبر بالغني عمن يملك شيئاً، ننسى انه لا يملك اشياء كثيرة، وانه قد يكون غنياً بمحض الصدفة. اما اللـه الذي له ما في السموات والارض، فهو وحده الغني الذي لا فقر معه وانه حميد لانه لم يرث الغنا، ولا جاءته صدفة، بل خلقها وابدعها ابداعاً. وترى مـا في الارض مسخرة لك ذليلة امامك. وفي البحار حيث تجري الفلك بأمر اللـه، ترى مدى النعمة عليك. ثم تنظر الى السماء فتخشى ان تنزل عليك، (وتتصادم نجومها) إلا ان اللـه امسكها عنك، فتسائل نفسك: افليس من احاطني بهذه النعم رؤوفاً رحيماً، ومن هو اوسع رحمة من اللـه؟ ان هذا النوع من البيان ليس طرازاً رفيعاً من الأدب الموجه فقط، -إن صادف ذلك- بل انه المنهج العلمي الذي يهدينا فعلاً الى اللـه الكبير. فنحن عاجزون، بطبيعة المحدودية التي بنا، عن ان نفكر في الخالق الذي لا تحيط به الحدود، فكان لابد ان ننظر الى المخلوقات التي نشترك واياها في المحدودية.. لنجعلها معبراً الى معرفة الخالق. التفكير انما هو في المحدود. وكلما تعمقنا في معرفة حدوده وآيات عجزه او سمات كماله.. توضح لدينا اكثر فاكثر صفة "المخلوقية فيه"، وبالطبع نهتدي هناك الى بعض آيات اللـه، لانه مباين مع مخلوقيه.. فالمنهج القرآني يكرّس بيانه لمعرفة المخلوق، والنظر اليه وملاحظة جوانب الحاجة فيه، على ان ذلك معبر الى اللـه تعالى! وهذا هو الطابع الذي يميز الحضارة القرآنية عن جاهليات الفلسفة الاغريقية التي تعمقت في ذات اللـه بعيداً عن النظر الى آياته، فضلّت ضلالاً بعيداً. إن اللـه تعالى يقول: « لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وقبل ان نختم الحديث عن اللـه ينبغي ان نعرف ان النظر في الحياة يهدينا الى ان كل شيء مقدر تقديراً مناسباً ليحقق هدفاً معلوماً، مما يدل على ان المجموع ايضاً خلق لهدف معين، وهذا لا يهدينا فقط الى حكمة اللـه البالغة، بل وايضاً الى عقلانية الحياة، فليس اللانظام يشغل ولا مساحة بوصة واحدة من هذا الكون الفسيح، ولا نظام الا لحكمة معينة. ومن حكمة اللـه التامة تنبثق نظرة القرآن الى "هدفية حياة الانسان"، فليست الحياة عبثاً ولهواً اراد بها اللـه سبحانه اللعب او اراد بها تنكيلاً، انما خلق الانسان وقدره، وبيّن له السُبل ويسّرها لكي يخضع للتقدير فيفلح، اما اذا اختار العكس فانه سيهوي الى مكان سحيق. ففي الدنيا سيشتري ضنكاً في العيش وقارعة وراء قارعة، اما في الآخرة فسيجزي اللـه الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابداً. ان هدفية الحياة تهدينا الى ضرورة الحساب. فإذ لا نجد في الدنيا حساباً دقيقاً وحاسماً للانسان نتطلع الى الآخرة التي سيحاسب فيها الكافر حساباً عسيراً، ويلقى جزاءه موفوراً. فمعرفة اليوم الآخر نابعة من معرفة اللـه وبالذات من معرفة صفتي الحكمة والقدرة فيه، اذ الحكمة هي التي تهدينا الى ضرورة الآخرة والقدرة الى امكانها. ومعالجة القرآن للقيامة، آتية من هاتين الزاويتين، وكلّما كملت فيه معرفة صفتي الحكمة والقدرة كلما زادت معرفته بالساعة، ودقة حسابها. فلنستمع الى القرآن الحكيم: قال تعالى: « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» (الذاريات/56) وقال تعـالى: « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ» (المؤمِنون/115) وقـال تعـالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمآءَ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَتَّخِذَ لَهواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» (الانبياءِ/16-18) وقال تعالى: « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاَُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللـه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَهذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (آل عمران/190-191) فهناك غاية من الخلق هي العبادة. والتسليم لسنن الكون وشرائع الحياة، التي جعلها اللـه سبحانه ، وليست الغاية اللعب الذي يختلف جذرياً عما نلاحظه في الكون من آثار الحكمة وآيات الهدف. إن مسيرة الحياة تدل على انها الحق، وان الباطل لا حول له فيه، فليس هناك ما يدعو الى تصور ان اللعب هو غاية الحياة، إذ اللعب نوع من الباطل، الذي يدمغه اللـه ويدعه زاهقاً. وذوو العقول فقط يعرفون آيات الحياة، وما بها من لطف التدبير وعمق التقدير، في ليلها ونهارها، ذلك لانهم يعبرون من آيات الكون نحو تذكر اللـه، فلا قيام ولا قعود إلاّ وفيه نوع جديد من الإثارة نحو اللـه سبحانه، ولذلك فهم يتفكرون فيما وراء خلق السماوات والارض من غايات حكيمة، ويقولون ربنا ما خلقت هذا باطلاً فكل شيء جعلته فيه حق ويهدف شيئاً مقدراً، أفيكون مجموعها باطلاً؟ سبحانك تقدست ان تفعل ذلك، كلا؛ إذاً فلا تعذبنا بنارك.. حينما تحاسبنا بالحق. صحيح ان اعمالنا اليوم تذهب بغير حساب، ولكن هل يمكن ان نشذ نحن من بين كل المخلوقات في الهروب من الهدف؟ كلا. ومن صفتي الحكمة والقدرة في اللـه سبحانه، نعرف ضرورة وامكانية الرسالة السماوية ايضاً. فلأن اللـه حكيم لا يخلق الناس ليعذبوا، ولا يعذبهم حتى يبين لهم ما يتقون، ولانه سبحانه قادر على ان يبعث اليهم رسلاً من انفسهم يهدونهم الى رضوان ربهم، نعرف انه بعث فعلاً انبياءه الذين ختموا بمحمد بن عبد اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم. ولكن بموت النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم يبقى الناس محتاجين الى هداة ميامين هم الأئمة الطاهرون عليهم السلام. كذلك قـال اللـه في كتابه: «يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللـه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (المائدة/19) « يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللـه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِـينٌ * يَهْدِي بِهِ اللـه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَـهُ سُبُـــلَ السَّــلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (المائدة/15-16) إن مشيئة اللـه الرحيم قد قضت بإكمال النعمة على الإنسان بحكمته البالغة التي لا يخلق البشر عبثاً، فلذلك أتمت الحجة على الإنسان، إذ بعث إليه رسولاً بشيراً ونذيراً لكي لا يقول: لو كنت يا رب بعثت إليَّ الرسول لكنت اهدى مما كنت. إن هذا الرسول وسيلة لهداية اللـه من اسلم نفسه له واتبع مرضاته وهدايته الى سبل السلام، والمعرفة التي هي الصراط المستقيم.
العقل في القرآن
حقائق تمهيدية: 1- إذا كان لكل باحث منهج للبحث ثم أسلوب للعرض نابعين من نظرته الخاصة الى العقل والمعرفة، فان منهج القرآن واسلوبه نابعين ايضاً من نظرته الآتية الى العقل والمعرفة، فلا منهج افضل من التوجه الذاتي، ولا اسلوب افضل من التوجيه الذاتي. فالتذكر والتذكير هما السبيلان المفضلان في حقل العقل والمعرفة، كما في سائر حقول الفلسفة وعلم النفس لدى القرآن. وهذا بالذات منهج واسلوب ما سيأتي من الحديث انشاء اللـه. 2- بمعرفة العقل، نهتدي الى المنهج السليم للمعرفة، وإلى طبيعة الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى كثير من الحقائق الهامة. ذلك ان الرأي الحازم في حقل معرفة العقل يعطينا قاعدة راسخة للعلم وسُبُل تحصيله، إذ العقل هو السابقيات، التي بالإيمان بها نملك الحجة القوية على صحة مداركنا فأفكارنا واستنتاجاتنا . ولدى الكفر بها ينبغي تصور قاعدة بديلة من احساس او خيال، نركن اليها في ذلك، كما ان الرأي الحازم فيه اثباتاً او نفياً يُعرِّفنا تعريفاً اعمق بواقع انفسنا من حيث هي ذات قيم مثلى، ام ليست سوى مادة عمياء. وبمعرفة انفسنا نعرف الآخرين، ونضع الاسس السليمة لعلم الاجتماع فالاقتصاد فالسياسة. 3- لا تجد اليوم احداً ينكر العقل، او يرضى بان يقال له مجنون، بيد إن النظرات مختلفة جداً حينما يحاول الانسان تحديد هذه الكلمة، فما هو العقل؟ فنحن حين نقول (العقل) نقصد به ذلك الامر الذي يهدينا الى الحق والخير والجمال ويأمرنا به، ويكشف لنا عن امتناع التناقض وامكان التسامي..و..و.. وفريق يقول (العقل) ويعني به مجرد عمل الخير ويكفر بما وراءه من "نور كاشف للخير آمر به".. وفريق يؤمن بوجود ما يكشف الخير ويأمر به وانه اصيل في الانسان مفطور عليه ، ولكنه ينكر ان يكون ذلك شيئاً مختلفاً عن طبيعة الإنسان ويدّعي انه من ذاته، سواء كان ذاته الروح، او الجسم، فانه من ذاته. بعد هذه الحقائق التمهيدية ينبغي تلخيص نظرة الاسلام في العقل عبر نقاط: أ- ان معرفة كل شيء تتم بالعقل ، ومعرفة العقل تتم بذاته. ب- العقل نور ( او طاقة) موهوب للنفس فلا هو من ذات النفس ولا هو مكتسب من الخارج! ج- تعتمد صحة العلوم البشرية على التسليم للعقل. ولذلك فان معرفة العقل هو بداية التقييم الصحيح للعلوم جميعاً. د- معرفة الخير والشر تعتمد على العقل. والدعوة الى الخير آتية من العقل، ولا عقل لمن لا يعمل به. هـ- المعرفة تربية اولاً، وتعليم ثانياً.
السبيل الى معرفة العقل
التذكرة الاولى التي نبّهنا إليها القرآن الحكيم وعلومه هي: ان العقل تختلف معرفته عن أي شيء آخر، وان السبيل الوحيد الى معرفته هي شدة اثارته، حتى يتنبه الى نفسه ويعي مكنونات ذاته بذاته. وقد تبدو هذه الحقيقة مستصعبة لأمرين: 1- إن الانسان تعوَّد أن يعرف الأشياء بمُعَرِّفات خارجة عنها، كمعرفة اللون بالعين ومعرفة العين بالإحساس ومعرفة الإحساس بالعقل، واما معرفة الشيء بذاته فلم يتعودها البشر، فهي مستصعبة عليه لعدم العادة فيه. 2- إن جميع توجيهات البشر الفلسفية، تقيس معرفة العقل بمعرفة أي شيء آخر، وتحاول الحصول عليها بمساعدة امور خارجية. ولذلك فان طريقة القرآن جديدة عليها ومباينة من حيث الأساس مع الرواسب الفكرية لكل من له خبرة بالفلسفة البشرية او نصيب من توجيهها. من هنا كان علينا توضيح هذه الحقيقة ببضعة نقاط: أ- انى تصورنا حقيقة العقل، فهي لا تعدو ان تكون واقع الكاشف عن حقائق الكون. ولا ريب في ان حقائق الكون لا تكشف عن ذاتها، بصورة آلية، انما يجب الكشف عنها باداة نسميها بالعقل. وإذا عدنا الى العقل نواجه حقيقة بديهية هي ان الحقائق التي لم تكن تقدر على كشف ذاتها لا تستطيع ان تكشف لنا عما سواها، وابسط مثل توضيحي لذلك، العين التي تكشف عن الأشياء لنا، ورغم ان طبيعة الأشياء موجودة قبل ان تكون هناك أية عين، فان رؤيتها والكشف عنها من عمل العين- لا من عملها- وحين تريد العين رؤية ذاتها يعرف الانسان ان الأشياء التي عجزت عن ان ترينا ذاتها بدون العين (مثلاً في حالة اغماض العين) لن تقدر على ارائتنا العين، بل العين هي التي ترى ذاتها عبر مرآة او ما أشبه. وبتعبير آخر؛ لايعدو ان يكون الكاشف عن الأشياء الجهل أم العقل. ولا يعدو ان يكون الكاشف عن العقل ذاته أم الجهل. لا ريب اننا لا نتردد في اختيار العقل ككاشف عن الأشياء، وعن ذاته معاً. وكمثل مبسط؛ النور يكشف عن المظلمات، وفي الوقت ذاته يكشف عن ذاته، حيث لا يمكن ان يكشف عنه مظلم آخر. وبتعبير ثالث النور القادر على كشف الأشياء أليس بقادر على كشف ذاته؟ وكذلك العقل لايمكن ان يكشف عن كل شيء ثم يبقى مجهولاً. ب- فكيف إذاً تستطيع العين ان تبصـر نفسهـا. ببساطة انظر الى الأشياء فإذا رأيتها بوضوح تعرف ان عينك سليمة، أما إذا غشاها الغبار فاعرف ان عينك مصابة . كذلك لو اردت ان تعرف عقلك، فأكثر النظر في العلم، في الحقائق التي بعقلك اكتشفتها ، ومن خلالها حاول تقييم عقلك (او بالأحرى فليحاول عقلك تحليل ذاته). انهما عمليتان لابد منهما لكشف العقل: كشف الحقائق والعبور من خلالها الى واقع الكاشف تماماً كما تنظر الى الأشياء المضاءة بالنور لا لتكشف عنها، بل لتعبر منها باتجاه النور الذي اضاءها. وهذه العملية (عملية العبور من المكشوف الى الكاشف) تشبه عملية العبور من الآيات الى معرفة اللـه سبحانه، حسبما سبق الحديث حولها مفصلاً. ج- وبتكرار عملية العبور هذه يزداد وعي العقل لذاته ويقظته تجاه مكنوناته، وتشتد ثقته بقدراته، ويقتدر على كشف حقائق جديدة. ([19]) وهذه الظاهرة (زيادة العقل بشدة إثارته) هي الظاهرة التي فشلت في تفسيرها فلسفات البشر. فقال ارسطو: المعلومات تكشف عن مجهولات جديدة، في الوقت الذي لا يمكن - ان نظرنا بدقة- ان تكون المعلومات التي كانت حتى قريب مجهولات وبحاجة الى الكاشف، تكون كاشفة لغيرها، بل الممكن والواقع هو ان المعلومات تزيد العقل قدرة على كشف حقائق جديدة، فالعقل لا المعلومات يكشف كل شيء، وانما المعلومات تزيده قدرته. وقال بعض الفلاسفة: ان وعيي أنا شرط لوعي سوى انا، وانما العلم يبدأ من جمع أنا ، وما سوى انا فمراحل العلم (أنا - غير انا وانا + غير انا = العلم). ولكن ليس من الصحيح تسمية العقل الذي يكشف الأشياء بـ"انا" لما سيأتي (من ان النفس مختلفة مع العقل) نعم؛ العقل لا يكشف الأشياء الا بعد وعي ذاته والثقة بها، ثم حينما يكشف الاشياء يعود ليكشف نفسه من خلالها. وقال هيجل: تنطلق معرفة الإنسان من نقطة الجدل الذي سمّاه بعض ناقديه بفض الفكر نفسه. - ولعله عنى بذلك ان الخارج يكون وسيلة ليس إلا - نحو المزيد من إثارة العقل. وهكذا عادت الفلسفات عاجزة عن تفسير ظاهرة التفاعل بين المعرفة وبين العقل. في حين ان التفسير الصحيح لذلك : ان العقل يتنبه لذاته، كلما تنبه للخارج. د- ومن هنا فطريقة معرفة الأشياء معرفة العقل التي تعني زيادته أيضاً، والطريق الى معرفة العقل العبور من خلال المعارف الواضحة إليه، ثم بعد تقويته العود الى الحقائق الغامضة لكشفها، وهكذا حتى ينكشف العقل بصورة واضحة لنفسه. وربما يتساءل البعض: كيف تتم النظرة "العبورية"؟ والجواب: فرق كبير بين ان تنظر الى المرآة كسلعة تقتنـى، وبينهــا كمعبر للصورة المنعكسة من الوجه العائدة الى الوجه ايضاً، ففي الصورة الأولى تكون النظرة ذاتية الى المرآة نفسها وفي الصورة الثانية تكون النظرة "عبرية" من اجل الوجه المنعكس عليه. ولعل الإنسان في تلك الحالة ينسى وجود شيء آخر غير العين، التي ترى والوجه الذي يرى، أي ينسى مؤقتاً وجود المرآة . كذلك حين يلاحظ الفرد - معلوماته على انها اشياء قائمة، يختلف عما إذا لاحظها على انها منكشفات بالعقل بعد ان كانت غامضات ومنورات بالعلم، بعد ان كانت مظلمات، و متمايزات بنعوت واسماء، بعد ان كانت مختلطات في قائمة واحدة، فالخير الذي لا يرتاب عاقل في حسنه ، كان والشر سواء امام الفرد في لحظة غضبه العارم، إلا انه عاد فميزهما عن احدهما بعدئذ، والنظر العبوري يهدينا الى وجود امر ما في الفرد عندما اكتشف الخير بينما لم يكن من قبل. إن ذلك الأمر الذي افترقت به حالتا الغضب والصحو هو ما نسميه العقل، وهو الذي يستيقظ كلما عبر الفرد من آياته إليه! وامتناع النقيض الذي يكتشفه الإنسان بعقله بعد سن الرشد او التمييز ولم يكن يعرفه قبل، انه يدل على وجود العقل عند الفرد بعد ان لم يكن، وهو بذلك وسيلة لمعرفة العقل بذاته. هـ- وهذا المنهج الجديد في معرفة العقل لا يختص بثبوت العقل، بل يكشف ايضاً لو اتبع مضبوطاً عن صفات العقل. واسباب زيادته ونقصانه وسبُل بلوغه الحقائق. فأول ما يكشف عن العقـل من صفات نفسية ارتباطه الوثيق بالمشيئة البشرية والتي تستنير او لا تستنير بالعقل، إذ العقل كأية نعمة موهوبة للإنسان.. رغم انها ملك الإنسان ومستجيب لحاجته، لا يفرض ذاته عليه، بل يخضع له خضوعاً، فأنت قادر على ان تستنير من عقلك فتفكر وتستطيع ان تدع ضوء عقلك، ولا تفكر ابداً، وإذا اردت ان تفهم ان الوقت نهار تستطيع ان تفهم ذلك بلفتة، اما إذا لم ترد فيكفيك ان تتوجه الى أشياء اخرى.