الختام
لقد
قدّر الله لهذه الاُمّة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة وفي أقاليم عديدة
وتجتاز أدواراً كثيرة جدّاً ، مختلفة جدّاً ، من حرارة وقوّة وجمود
وخمود وعنف وقسوة ومصارعة ومقاومة واغراءات مادية وسياسية ، وتقدّم في
الحضارة والمدنية وتوسع في المال وضيق وضنك وبذخ وترف وعسر ويسر وشدّة ورخاء
وتسلّط عدو قاهر وملك جائر ، وكانت الاُمّة في حاجة دائمة إلى إشعال
جذوة الايمان وإثارة عاطفة الحبّ والحنان وإعادة الوفاء والولاء في سائر
الأجزاء والأعضاء ، فجعل الحج ربيعاً تورق فيه أغصان هذه الشجرة الخالدة
كل عام ، تؤتي أكُلها كل حين بإذن ربّها ، وتكتسي فيه هذه الشجرة
العالمية لباساً جديداً قشيباً غضّاً طريّاً . قال الشيخ ولي الله
الدهلوي : كما أنّ الدولة تحتاج إلى عرضة بعد كل ليتميّز الناصح من
الغاش والمنقاد من المتمرّد ، ليرتفع الصيت وتعلو الكلمة ويتعارف أهلها
فيما بينهم ، فكذلك الملة تحتاج إلى حج ، ليتميّز الموفق من
المنافق وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجاً وليرى بعضهم بعضاً فيستفيد
كلّ واحد ما ليس عنده35 .
يأتي
موسم الحج كلّ عام ولكنّ المسلمين يعيشون حياة لا طموح فيها ولا ثقة ،
تحيط بهم ظروف قاسية وتهدّدهم بالذوبان حيناً في تيّار الأحداث والأوضاع
المفروضة عليهم والانسياق حيناً آخر مع المصالح السياسية والاجتماعية دون أن
يكون لهم رصيد من الذاتية والاستقلال النفسي والفكري في مجالات الحياة
المهمة ، ذلك بالإضافة إلى ما يكتنفهم من الغموض فيما تصير إليه الحياة
الاجتماعية وتتجه إليه المجريات من الاُمور ، لقد أنهكتهم المآسي التي
تولتها الأيدي الأثيمة لقوى الظلم والبغي والطغيان وقضت على الأمن والهدوء
النفسي وعكّرت جوّ الحبّ والثقة والاخوّة ، ذلكم الواقع المشرق الذي
عاشته الاُمّة الإسلامية في العالم الإسلامي على امتداد تاريخها
الطويل ، منذ أن أضفى عليهم الإسلام لباس الحب والاخوة الايمانية ولون
الطهر والعفاف ، فقال تعالى :
{ وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ
كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها}36 .
يتوجّه
الحاج المسلم إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج ولكنه بمجرّد حضوره إلى
بلد الله الأمين وطوافه ببيت الله العتيق وسعيه بين الصفا والمروة سيجد في
نفسه راحة وطمأنينة وينصرف عن جميع الأحاسيس والمخاطر التي كانت تزعجه وتعكر
عليه صفو العبادة ولذّة العيش في رحاب البيت ، ومع قرب أيام التشريق
والذهاب إلى منى وعرفات والمزدلفة مشاعر الله في الأرض ، يتناسى هموم
الدنيا وأحزان الحياة ومتاعب الأحداث والمآسي التي مرّت عليه كأمواج البحر
الطامة وظلمات الليالي المدلهمة وتعود إليه الطمأنينة بجميع مظاهرها ومعانيها
وتغطي كيانه من كلّ جهة . إنّ الحج كلّه ذكر وعبادة وهو حبّ وتضحية
وجهاد ، يقول الدكتور زهير الأعرجي : «التعابير الإنسانية كالبكاء
والشعور بالذنب والتوبة الخالصة لله سبحانه ، والإشارات المنظمة كانتظام
الطواف وأفعال الصلاة ورمي الجمرات وتقليد الهدي ونحوها ، كلّها تمثِّل
رموزاً نتفاعل بها مع ديننا الحنيف وخالقنا العظيم إلاّ أنّ هذه الرموز
الموحّدة لا تساعدنا على التفاعل الروحي مع خالق الوجود فحسب ، بل
تساعدنا على التفاعل الاجتماعي أيضاً; لأننا نشعر عن طريق ممارسة هذه المناسك
والأعمال التعبدية أنّ للآخرين أنفساً تشابه أنفسنا في الدعاء والابتهال
والتذلّل لخالقنا العظيم»37 .
إنّ
الحجيج يتزوّد بزاد التقوى ويودع أهله وإخوانه وأقاربه بشعور رقيق من الخشية
والتواضع وعواطف الشكر لله تعالى كما يودّع الملابسات الدنيوية والعلائق
النفسية والوشائج المادية ، ويتطهّر من الذنوب والآلام ومن الهموم
والأحزان ، ويتحوّل إلى خلق جديد بعيد عن الأهواء ومزالق النفس والشيطان
والطاغوت ، ويتمثّل في صورة عبد خاشع لله ولا يلتجئ إلاّ إليه فيناجيه
في اُمور تهمّه في دينه ودنياه ، وتساعده على بناء ما تهدّم من القيم
والأخلاق والمعنويات وإصلاح الفساد الذي عمّ بين الأفراد والمجتمعات ،
واستبدال الظلم والخوف بالعدل والأمن والثقة برفض الصهيونية والرأسمالية
والاشتراكية والقوى الطاغية والشياطين الكبرى بإعلان : { قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا
مِنْكُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا
بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَحْدَهُ}38 .
أخيراً
نسأل الله التوفيق على اداء فريضة الحج كما أدّى سيد الشهداء الحسين ابن علي
(عليهما السلام) بشعور إسلامي عميق ، وذلك أنه أراد الرحيل إلى كربلاء
قبيل موسم الحج ، فقال كثير من معه : قد قرب الموسم ، إن أردت
فتؤدي فريضة الحج ثم ترتحل ، فأجاب : الحج الذي يؤدى برئاسة يزيد
فليس بحج إبراهيمي .