بين يدي النبوّة
لقد
كنت سيّدي شجرة طيّبة توسّطت روضة فيحاء وباحة خضراء ودوحة معطاء ، فكان
أصلها ثابتاً وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن
ربّها .
ففي
ربى النبوّة أبصرت النور بعد أن انبرى رسول الرحمة لرعايتك وتربيتك ،
ومن نسيمها العذب وأريجها الفوّاح تنشقت الحياة ، ومن نمير ساقيتها
الصافي الذي كانت النبوّة نبعه الدافق ارتشفت أوّل قطرة ماء ، وعلى
أديمها الأخضر كانت أوّل خطواتك . كان حضن النبوّة يرعاك فكنت في جنّة
عالية ، قطوفها دانية .
شممت رائحة
النبوّة في مراحل حياتك الأولى ، ورأيت نور الوحي
والرسالة بعد أن وضعك
رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حجره وضمّك إلى صدره وكنفك في فراشه ومسّك
جسده الطاهر وأشمّك عَرْفه . . فجنيت بروض النبوّة ورداً وذقت
بكأسها شهداً .
وكيف
لا تجني ذلك كلّه وقد اختارتك السماء برعماً تحتضنك شجرة النبوّة
والرسالة ، ثمّ لتكون بعد ذلك بقية النبوّة والامتداد الطبيعي
للرسالة . .؟!
روت
فاطمة بنت أسد «اُمّ عليّ» : بينا أنا أسوق هدياً إذ استقبلني
رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهو يومئذ غلام شاب قبل البعثة
فقال لي : يا أمّاه إنّي أُعلمك شيئاً فهل تكتمينه
عليَّ؟
قلت :
نعم .
قال :
اِذهبي بهذا القربان فقولي : كفرت بهبل (كبير آلهة المشركين وهو أوّل
صنم نصب بمكة) وآمنت بالله وحده لا شريك له .
فقلتُ :
أعمل ذلك لِما أعلمه من صدقك يا محمّد ، ففعلت
ذلك .
فلمّا كان بعد
أربعة أشهر ، ومحمّد يأكل معي ومع عمّه أبي طالب ، إذ نظر إليَّ
وقال : يا اُمّ ما لَك! مالي أراك حائلة اللون؟!
ثمّ قال لأبي
طالب : إن كانت حاملا اُنثى فزوجنيها .
فقال أبو
طالب : إن كان ذكراً فهو لك عبد ، وإن كان اُنثى فهو لك جارية
وزوجة .
فلمّا وضعتُه ـ
في الكعبة ـ جعلته في غشاوة ، فقال أبو طالب : لا تفتحوها حتّى
يجيء محمّد فيأخذ حقّه .
فجاء محمّد ففتح
الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده ، وسمّـاه عليّاً ،
وأصلح أمره ، ثمّ إنّه لقمه لسانه فما زال يمصّه حتّى
نام .
وقد سمّته أوّل
الأمر حيدرة بمعنى أسد على اسم أبيها ، فغلب عليه اسم عليّ الذي سمّـاه
به محمّد(صلى الله عليه وآله) .
* * *
ثمّ
راح عليّ(عليه السلام) الذي ما إن فتح عينيه في بيت أبي طالب حتى وجد
محمّداً(صلى الله عليه وآله)يضمّه إلى صدره ويبثّه كلماته ويعلمه
خطواته . . .
ولمّا
تزوّج خديجة رضوان الله عليها انتقل إلى بيته الجديد ، ففارق بيت عمّه
أبي طالب ولكنّه لم يترك برّه لعمّه ورعايته لابن عمّه عليّ(عليه
السلام) ، ومنذ ذلك اليوم راح يتعهده رسول الله(صلى الله عليه وآله)
ويرعاه رعاية خاصّة ومنذ نعومة أظفاره . .
وبدأ
عليّ(عليه السلام) يلتهم زاده الوحيد مبادئ السماء وقيمها حتّى شحن بها فكره
الثاقب ، وغدت نفسه الطاهرة ترتشف الايمان وتستنشق عقيدته
وعبيرها ; لتسمو نفسه ولتصبح مصباحاً يستضيء به من
حوله .