ولدتُ على الفطرة
من
اللافت الذي أدهش من تتبّع حياته أنّ ولادته(عليه السلام) ـ التي كانت في
الكعبة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب على قول الأكثر ـ كانت في
اليوم الأوّل لدخول رسول الله(صلى الله عليه وآله) غار حراء للتعبّد
والمناجاة ، وللتدبّر والتفكير في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وما
فيهما . . وكان هذا بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، حقّاً أنّه
أمر يثير العجب ، أن السماء راحت تعدّ أمرين في آن واحد ووظيفتين في وقت
واحد; ففي غار حراء على بعد من الحرم المكّي أعدّت رسولا نبيّاً ، وفي
داخل الحرم المكي راحت تعدّ إماماً ووزيراً وخليلا وفيّاً; ليكمل الشوط ويملأ
الفراغ «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا
نبي بعدي أو لا نبوّة بعدي» «أنت أخي ووصيي
وخليفتي . . .» .
يقول
ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه القيم لنهج البلاغة في قوله(عليه
السلام) : «فإنّي ولدتُ على الفطرة» وفي جوابه عن قول من يقول :
كيف علّل نهيه عن البراءة منه(عليه السلام) ، بقوله : «فإنّي ولدتُ
على الفطرة) ; فإنّ هذا التعليل لا يختص به(عليه السلام); لأنّ كلّ أحد
(واحد) يولد على الفطرة ، قال النبي(صلى الله عليه وآله) : «كلّ مولود يولد على الفطرة; وإنّما أبواه يهودانه
وينصّرانه»؟
فكان
أحد أجوبته الثلاثة : بأنّه(عليه السلام) علل نهيه لهم عن البراءة منه
بمجموع اُمور وعلل وهي كونه ولد على الفطرة ، وكونه سبق إلى الإيمان
والهجرة ، ولم يعلّل بآحاد هذا المجموع ، ومراده هاهنا بالولادة
على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية; لأنّه ولد(عليه السلام) لثلاثين عاماً
مضت من عام الفيل ، والنبي(صلى الله عليه وآله) أرسل لأربعين سنة مضت من
عام الفيل; وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه(صلى الله عليه وآله) مكث قبل
الرسالة سنين عشراً يسمع الصوت ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ، وكان
ذلك إرهاصاً لرسالته(عليه السلام)فحُكم تلك السنين العشر حكم أيّام
رسالته(صلى الله عليه وآله) فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي
لتربيته مولود في أيّام كأيّام النبوّة ، وليس بمولود في جاهلية
محضة ، ففارقت حاله حال من يدّعي له من الصحابة مماثلته في
الفضل .
وقد
روي أنّ السنة التي ولد فيها عليٌّ(عليه السلام) هي السنة التي بدئ فيها
برسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فاُسمع الهتاف من الأحجار
والأشجار ، وكشف عن بصره ، فشاهد أنواراً وأشخاصاً ولم يخاطب فيها
بشيء . وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ،
فلم يزل حتّى كوشف بالرسالة وأنزل عليه الوحي . وكان رسول الله(صلى الله
عليه وآله) يتيمّن بتلك السنة ، وبولادة علي(عليه السلام)فيها ،
ويسمّيها سنة الخير وسنة البركة ، وقال لأهله ليلة ولادته ، وفيها
شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك
شيئاً : «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله
علينا به أبواباً كثيرة من النعمة
والرحمة» .
وهنا
يقول ابن أبي الحديد : وكان كما قال(صلى الله عليه وآله) فإنّه(عليه
السلام) كان ناصره والمحامي عنه ، وكاشف الغماء عن وجهه ، وبسيفه
ثبت دين الإسلام وأرست قواعده .
كما
يذكر تفسيراً آخر : بأنّه(عليه السلام) أراد بالفطرة العصمة ، وأنه
منذ أن ولد لم يواقع قبيحاً ولا كان كافراً طرفة عين قط ولا مخطئاً ولا
غالطاً في شيء من الأشياء المتعلّقة بالدين وهذا تفسير الإمامية7 .
فقد
روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال : «إن
سُبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا طرفة عين : علي بن أبي طالب وصاحب ياسين
ومؤمن آل فرعون فهم الصدِّيقون وعليّ أفضلهم»8 .
وعن
رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «ثلاثة لم
يكفروا بالله قط : مؤمن آل ياسين وعلي بن أبي طالب وآسية امرأة
فرعون»9 .