2 ـ حكم الجاني في الحرم
يختلف حكم الجاني في الحرم عن حكمه في مكان
آخر، وهنا ثلاث جهات للبحث:
أ ـ حدّ
الجاني:
اتّفقت كلمة فقهاء الإمامية قديماً وحديثاً
على أنّ من أحدث جناية في غير الحرم المكّي ثمّ التجأ إلى الحرم لم يُقم عليه الحد
فيه بل يُضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يخرج منه بذلك قال الشيخ المفيد «ت 413»
في المقنعة 25والشيخ الطوسي «ت 460» في النهاية 26. وابن
البرّاج «ت 481 هـ » في المهذّب 27 وابن إدريس
«ت 598» في السرائر 28 والمحقّق
الحلّي «ت 676 هـ » في الشرائع والمختصر النافع 29 والعلاّمة
«ت 726» في قواعد الأحكام 30والشيخ البحراني «ت 1186» في الحدائق 31
والشيخ صاحب الجواهر 32،
ومن المعاصرين السيّد أبو القاسم الخوئي 33
ومستندهم في ذلك روايات منها صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد
الله (عليه السلام) «في الرجل يجني في غير الحرم ثمّ يلجأ إلى الحرم؟ قال لا
يُقام عليه الحدّ ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُكلّم ولا يُبايع، فإذا فُعل به ذلك
يوشك أن يخرج فيُقام عليه الحدّ... الخ» 34.
ويلاحظ في هذه الرواية عدم وجود كلمة
التضييق التي أوردها الفقهاء في عباراتهم; ولذا قال في الحدائق أنّ «لفظ التضييق لم
يقع في شيء من روايات المسألة وقد فسّر التضييق بأنّ يُطعم ويُسقى ما لا يحتمله
مثله عادة أو ما يسدّ الرمق ولا ريب أنّ كلا المعنيين مناسب للفظ التضييق، إلاّ
أنّه كمّا عرفت لا أثر له في النصوص، وإنّما ظاهرها عدم إطعامه وسقيه بالكلّية ولو
مات جوعاً وعطشاً» 35
وحاول صاحب الجواهر الانتصار للقائلين بالتضييق حينما قال: إنّ النصوص «وإن لم تكن مشتملة على لفظ التضييق المزبور لكن يمكن إرادته منها
ولو بمعونة الفتاوى ومراعاة بعض العمومات بل الأولى تفسيره بما فيها بل في المسالك
حكايته عن بعض واستحسنه» 36
وهكذا ظهر في المسألة اتّجاهان. اتّجاه فسّر النصوص بالتضييق
وهو المشهور، واتّجاه حافظ على ظاهر النصوص المؤدّي إلى منع الطعام والشراب كلّياً
لا إلى التضييق فقط.
ويلاحظ أنّ نصوص المسألة تفاوتت بين تعميم
الجناية والتخصيص بالقتل أو السرقة. والظاهر أنّ النصوص الخاصّة بالقتل أو السرقة
جاءت لإبراز مصداق من مصاديق الجناية، ولذا جاءت كلمات الفقهاء بلسان التعميم لكلّ
جناية إلاّ ما ذكره الإمام الخميني «لو قتل خارج الحرم والتجأ إليه لا يقتصّ منه
فيه لكن ضيّق عليه في المأكل والمشرب إلى أن يخرج منه..»
37
فذكر المسألة بعنوان القتل لا عموم الجناية. والظاهر انّه
أوردها بهذا العنوان; لأنّه العنوان المناسب للكتاب الذي ذكرت فيه وهو كتاب
الديّات، وذلك لا يعني أنّ الإمام الخميني يلتزم باختصاص الحكم في صورة القتل دون
الجنايات الأخرى.
وقد فصّلت النصوص وبتبعها كلمات الفقهاء
بين صورتين في المسألة : صورة ما إذا كانت الجناية في الحلّ والتجأ الجاني إلى
الحرم. وصورة ما إذا وقعت الجناية في الحرم نفسه، وما مضى كان حكم الصورة الأُولى.
أمّا الصورة الثانية فحكمها إجراء الحدّ في الحرم، ففي تتمّة صحيحة هشام بن الحكم
المذكورة قبل قليل قال الإمام الصادق 38
«... وإن جنى في الحرم جناية أُقيم عليه الحدّ في الحرم» وعلّل
ذلك بـ «أنّه لم يرَ للحرم حرمة». وكأن الجناية في الحلّ ثمّ الالتجاء للحرم
تدلّ على اعتقاد الجاني بحرمة الحرم واحترامه لها واحتمائه به، فيمنح فيه الحماية
لأجل ذلك. بينما تدلّ الجناية في الحرم على هتك الجاني لحرمة الحرم وعدم اعتنائه
بها ولذا لم يمنع الحماية فيه.
ويلاحظ المتتبع في كلمات القدماء حكمهم على
الجاني في الحرم بتعزير اضافي زائد على الحدّ المقرّر بجنايته، وذلك في مقابل هتكه
لحرمة الحرم. بذلك قال الشيخ المفيد في المقنعة 39
والشيخ الطوسي في النهاية 40. وابن البرّاج في المهذّب41. وابن إدريس في السرائر42 ولم
يتعرّض المحدّثون لذلك سوى ما ذكروه في باب التعزيرات من انّ
للحاكم تعزير المخالفين للأحكام الشرعية والنظم الإسلامية بما يراه من المصلحة، ولا
شكّ انّ هتك حرمة الحرم من أبرز مصاديق ذلك. إلاّ انّهم لم ينصّوا على التعزير
فيه.
ب ـ ديّة المقتول في
الحرم:
تختلف ديّة المقتول في الحرم عن ديّة
المقتول في مكان آخر بإضافة الثلث إليها، وهذا ما يعبّر عنه بتغليظ الديّة في الحرم
والأشهر الحُرم. بذلك قال الشيخ المفيد في المقنعة43 والشيخ الطوسي في النهاية44 وابن
البرّاج في المهذّب45وابن إدريس في السرائر46. وصاحب
الجواهر47 وأخيراً الإمام الخميني48.
فيما اختار السيّد الخوئي عدم التغليظ49.
وإذا رمى وهو في الحلّ بسهم ونحوه إلى من
هو في الحرم فقتله لزمه التغليظ أيضاً. بذلك قال المحقّق في الشرائع50، وهو
المحكي عن الفاضل. وصرّح به صاحب الجواهر51 وقال به الإمام الخميني52، لصدق القتل في الحرم. وتردّد الأكثر في صورة العكس أي إذا رمى في الحرم من هو في الحلّ فقتله فيه واختار
السيّد الخميني عدم التغليظ. وفي الجواهر أنّ ظاهر النصّ والفتاوى اختصاص التغليظ
بالقتل «ولذا قال المصنّف ـ أي المحقّق الحلّي ـ ولا نعرف التغليظ في
الأطراف; لأنّه لم يذكره أصحابنا كما عن المبسوط والسرائر بل عن الأخير دون قطع
الأطراف عندنا، بل فى المسالك لا قائل به من أصحابنا ولا في قتل الأقارب
للأصل وعدم الدليل، وبه صرّح الفاضل وغيره نعم هو مناسب لمذاق
العامّة القائلين بالقياس والاستحسان كما يحكى عن بعضهم القول به فيها»53 وبذلك قال السيّد الخميني أيضاً54.
جـ ـ ديّة المقتول في المدينة
المنوّرة:
وبحث الفقهاء في ديّة المقتول في المدينة
المنوّرة، وباقي المشاهد المشرَّفة، فاختار بعضهم التغليظ واختار آخرون عدمه كما
سيأتي مفصّلا في أحكام المدينة المنوّرة.