الموقف من أسرى بدر
كان الموقف من
هؤلاء الأسرى يتمحور حول أمور ثلاثة
الأمر الأوّل : موقف
الصحابة .
الأمر الثاني : موقف رسول الله (صلى الله
عليه وآله) .
الأمر الثالث : موقف القرآن
الكريم .
وهذا الموقف
له شكلان
الأوّل : الأسر وحكم الأسرى ، الآيات (67 ـ 69)
الأنفال .
الثاني : بعث الأمل في نفوس
الأسرى . . . (70 ـ 71) الأنفال .
موقف الصحابة
حتى نهاية
معركة بدر ، لم ينزل شيء أو حكم من السماء بخصوص الأسرى ، وإن كان هناك
خبر بحلية الفداء3 فما
كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بعد غياب مثل ذلك الحكم ـ إلاّ أن يستشير
أصحابه ويسمع لهم في مصير السبعين أسيراً .
فبعد أن عاد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بدر إلى المدينة ، التفّ حوله في المسجد
كبار صحابته ، وطرح موضوع أسرى بدر وكيفية التعامل معهم ، وإلى الآن لم
ينزل بشأن الأسرى شيء من السماء أيضاً ، فراح كلّ صحابي يدلي برأيه
فيهم
* فريق من الصحابة كان رأيه أن يبادوا جميعاً وكان منهم
عمر بن الخطّاب حيث قال
يارسول
الله . . كذّبوك وأخرجوك ، قدّمهم واضرب أعناقهم . حتّى قال
قائل : لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم .
* فيما قال عبدالله بن رواحة الأنصاري أشدّ من قول عمر
وإن كان ينتهي إلى النتيجة نفسها وهو قتلهم
«يارسول
الله . . انظر وادياً من حطب فأدخلهم فيه ثمّ أضرمه عليهم
ناراً» .
فسمع العبّاس
بن عبد المطّلب وكان واحداً من الأسرى قول الأنصاري هذا ، فقال له :
قطعتك رحمك .
* فيما رأى أبو بكر و فريق معه الرأفة بهم والتأنّي في
شأنهم ، فقال : يا رسول الله . . قومك وأهلك ،
استبقهم واستأن بهم ، لعلّ الله أن يتوب عليهم4 .
موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان لرسول
الله (صلى الله عليه وآله) موقفان من هؤلاء الأسرى
الأوّل : كان يتمثل في رعايتهم ، حيث
إنّ من أهمّ الاُمور التي يجب توفيرها للأسير هو أن تحترم إنسانيّته وأن يؤمّن له
أكله وملبسه ، وأمّا سكناه فلابدّ من أن يوضع في مكان يأمن به ويؤمن عليه أي
في مكان يتعذّر معه الهرب .
وهذا ما أمّنه
الرسول (صلى الله عليه وآله) للأسير ، وبما أنّه لم يكن هناك مكان خاص يجمع به
الأسرى ، ولأنّهم كانوا قلّة ، ولم تكن الحروب يومذاك طويلة بحيث تستدعي
الإبقاء على الأسرى مدّة الحرب وزيادة ، لهذا نرى أنّهم وزّعوا بأمر رسول الله
(صلى الله عليه وآله)على الصحابة ، فكلّ صحابي يتكفّل بأسير منهم ، ورسول
الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بهم خيراً .
فهذا أحد أسرى
معركة بدر وهو أبو عزيز بن عمير وكان أخاً لمصعب بن عمير ، يقول : كنت في
رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا كلّما قدّموا غداءهم وعشاءهم
خصّوني بالخبز وأكلوا التمر لوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيّاهم
بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاّ نفحني بها ، وكنت أستحي
فأردّها على أحدهما فيردّها عليَّ ما يمسّها5 .
وعندما وقع
آخر أسيراً في يد المسلمين وهو ثمامة بن آثال ، أُتي به إلى المدينة وربط
بسارية من سواري المسجد حتّى يحكم فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال (صلى الله
عليه وآله) : أحسنوا اُساره واجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا إليه .
وكان يقدّم إليه لبن لقحة (ناقة حلوب) رسول الله غدواً ورواحاً ولمّا منَّ
عليه (صلى الله عليه وآله) أسلم وحسن إسلامه .
والعبّاس بن
عبد المطّلب هو الآخر كان أسيراً من أسرى معركة بدر الكبرى ، فلاحت من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) نظرة إليه وقد تمزّق ثوبه ، فالتفت (صلى الله عليه
وآله) ليجد له قميصاً يصلح ، فوجد قميص عبدالله بن أُبي فطلب منه فكساه
إيّاه6 .
وهذا هو
الموقف الإسلامي في رعاية الأسرى والاهتمام بهم فقد جعله القرآن الكريم ثالث ثلاثة
إن أطعموا فإنّ ذلك يكون مورداً لنيل رضا الله سبحانه وتعالى : وعدّ الإنفاق
عليهم من القربات ذات الأجر العظيم { وَ
يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناًوَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ
لانُرِيدُمِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً}7.
الثاني :بعد أن أعلن جمع من الصحابة موقفهم
الذي ذكرناه راح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُثني عليهم ويشبه موقف كلّ
فريق بموقف نبيّ من أنبياء الله تعالى .
فشبّه الأوّل
بموقف نبيّ الله نوح (عليه السلام) إذ قال :
{ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً}8 .
فيما شبّه
الثاني بموقف نبيّ الله عيسى (عليه السلام) إذ قال : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}9 .
وكان رأيه
الأخير أن خيّر الأسرى فقال
«أنتم اليوم
عالة ، فلا يفلتن منكم أحد إلاّ بفداء أو ضرب عنق» .
وتمّ إبلاغ
مشركي مكّة بقرار رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا ، وهم يعيشون الذهول
ممّا حلَّ بهم والحزن والألم ممّا أصابهم والذلّ والعار ممّا جرح كبرياءهم وأطاح
بعنجهيتهم كلّ هذا في معركة بدر ، فغدوا يفكِّرون في مصير
أسراهم . . . وقد كان المطلب بن وداعة السهمي ممّن كان حاضراً
مجلساً لزعماء قريش ، وقد سمع ما قرّروه فيه من عدم التعجيل في فداء أسراهم
حتّى لا يتغالى المسلمون فيه ، إلاّ أنّه ما إن خرج من مجلسه هذا حتّى توجّه
نحو المدينة ، وفدى أباه الذي كان واحداً من أسرى بدر بأربعة آلاف
درهم .
ولما سمعت
قريش بهذا ، أرسلت من يطلق أسراها ودفعت عن كلّ واحد منهم أربعة آلاف
درهم .
وانتهت مسألة
الأسرى هذه عملياً .
إمّا بفداء
دفعه الموسرون منهم وكان مقداره أربعة آلاف درهم لكلّ
أسير .
وإمّا بمنٍّ
تكرّم به الرسول (صلى الله عليه وآله) على فقرائهم .
وإمّا بتعليم
جمع من أطفال المسلمين القراءة والكتابة ، فقد كان من الأسرى من يقرأ
ويكتب ، فجعل عمله هذا فداءه .