العوامل والاسباب البعيدة للواقعة
لم تكن الواقعة وليدة عام
63هـ ولم تكن مفاجئة للحكم الأموي أو لأهل المدينة أو للمسلمين عموماً،
بل تظافرت عوامل وأسباب عديدة لتتفجر في تمرد واسع قام به أهل المدينة، وكان
يزيد يتوقع ذلك منهم حسب وصّية أبيه معاوية له حيث جاء فيها: (إن رابك منهم
ريب أو انتقض عليك منهم أحد فعليك بأعور بني مرّة مسلم بن عقبة)5.
ويمكن تحديد العوامل والأسباب
البعيدة بمايلي:
أولا: هواجس الأنصار من وصول الأمويين للحكم.
كانت للأنصار هواجس ومخاوف من
وصول الطلقاء إلى الحكم سواء كانوا من بني أمية أو من غيرهم أعلنوا عنها بعد
وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وبالخصوص في اجتماع السقيفة
سنة 11هـ ، وكان الحباب بن المنذر يخاطب الأنصار والمهاجرين مؤكداً
هواجسه من ذلك (أما والله وكأني بأبنائكم، وقد وقفوا على أبوابهم يسألون
الناس الماء فلايُسقون... هيهات ياأبابكر... اذا مضيت أنا وأنت وجاءنا قوم من
بعد يسومون أبناءنا سوء العذاب، والله المستعان)6.
وفي مقطع آخر من الحوار قال
الحباب: (منّا أمير ومنكم أمير، إنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها
الرهط، ولكنّا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم
واخوانهم).
وفي تعليق يحيى بن محمد العلوي
نقيب البصرة على هذه الفراسة قال: (لقد صدقت فراسة الحبّاب، فإن الذي خافه
وقع يوم الحرّة، وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر)7.
واستمرت الهواجس متفاعلة في نفوس
الأنصار وجعلتهم لا يتفاعلون مع الوضع الجديد الذي أفرزه اجتماع السقيفة
واعترف عمر بن الخطاب بذلك قائلا: (وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها)8
ثانياً: تهديد بعض القرشيين للأنصار.
لما بويع أبو بكر واستقر أمره ندم
قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً (وذكروا علياً وهتفوا
باسمه) وجزع لذلك المهاجرون، وكان أشد قريش على الأنصار سهيل بن عمرو فكان
يقول: (فادعوهم الى صاحبكم والى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلاّ قاتلوهم)،
والحارث بن هشام (فإنهم قد خرجوا مما وُسِموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة
إلاّ السيف)، وأبو سفيان (وأيم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة
،لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا)9.
فأثارت هذه التصريحات حفيظة
الأنصار، وأيقنوا صحة ما يتخوفون منه، وكادت الفتنة أن تحدث لولا المسارعة في
اخمادها من قبل الإمام علي (عليه السلام)، وتأصلت المخاوف في نفوس الأنصار،
وكانوا يتعاملون مع غيرهم بحذر، وتتوّج هذا الحذر بأقصى الدرجات بعد وصول
الأمويين الى المراكز الحساسة في عهد عثمان بن عفان، ثمّ وقوفهم في وجه الحكم
الجديد الذي يقوده الإمام علي (عليه السلام)، ووقوف الأنصار في صفّه في
معركتي الجمل وصفّين; للحيلولة دون عودة الأمويين الى الحكم، وتبددت طموحات
الأنصار بعد انتقال الحكم الى معاوية ثمّ ابنه يزيد.
ثالثاً: السيادة الأموية في عهد معاوية.
عادت السيادة الأموية من جديد بعد
اضطرار الإمام الحسن (عليه السلام)الى تسليم السلطة الى معاوية، وبها فَقَدَ
الأنصار مواقعهم في المسيرة التاريخية للمسلمين، وأيقنوا أنّ السيادة الأموية
جادّة في استئصالهم، فمعاوية قبل وصوله للحكم وبعد استقلاله بالشام وفي عهد
علي (عليه السلام)كان يرسل الغارات على المدينة ويوصي من يكلّفه بالغارة الى
إخافة أهل المدينة ونهب أموالهم، وفي الوقت نفسه يوصيه بعدم التعرض لأهالي
مكة، وفعلا غزا بسر بن أرطأة المدينة ونهب الأموال ثمّ صعد المنبر وقام
خطيباً(ياأهل المدينة..شاهت الوجوه)، واستمر بشتمهم الى أن نزل من
المنبر10.
واستمرمعاوية على نهجه في التنديدبالأنصارواهانتهم
بعد وصوله الى الحكم وكان يسميهم بأبناء (قيلة) وهو اسمهم في
الجاهلية وينزعج من كلمة الأنصار11.
واستعان معاوية بالأخطل النصراني
لهجاء الأنصار فهجاهم بقوله:
ذهبت قريش بالسماحة والندى
واللؤم تحت عمائم الأنصار12
واللؤم تحت عمائم الأنصار12
واللؤم تحت عمائم الأنصار12
وشعر الأنصار أن الدين الذي
شيّدوه بجهادهم ودمائهم أصبح أداة بيد من وقف أمام زحفه في بدر وأحد، وان
الجاهلية عادت من جديد بلباس اسلامي فمعاوية قد حوّل الخلافة الى ملك وكان
يقول: (رضينا بها ملكاً)13.
وصرّح بعدم الوفاء بشروط الصلح مع
الإمام الحسن (عليه السلام): (ألا انّ كلَّ شيء أعطيته للحسن بن علي تحت
قدميّ هاتين لا أفي به...اني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا
لتحجوا: ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم)14.
وازداد حنق أهل المدينة على الحكم
الأموي وعلى رأسه معاوية حينما تنصّل معاوية عن الشروط التي وافق عليها قبل
الصلح، ولم يفِ بها في الواقع بعد استشهاد الامام الحسن (لعن معاوية
علياً على المنابر، وكتب الى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا)15.
ولعن علي عمّق كراهة معاوية في
قلوب الأنصار، لأن عليّاً مثّل موقف الحق في الفتنة، وكانوا يرونه امتداداً
للرسالة ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستمر معاوية على نهجه
في عدم الوفاء بالشروط فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وآخرين من خيار صحابة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي السنوات المتأخرة على استشهاد
الإمام الحسن(عليه السلام) (ازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد....إلاّ وهو
خائف على دمه،أو طريد في الأرض)16.
ولما استخلف زياد بن سمرة بن جندب
على البصرة أكثر القتل فيها (قال ابن سيرين: قتل سمرة في غيبة زياد هذه
ثمانية آلاف)17.
وازداد بغض أهل المدينة للحكم
الأموي، وأيقنوا أن الاسلام قد أصبح مشوها في عهد معاوية، وقد حُرِّف عن
الأسس الثابتة التي شيّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكانت مسيرة معاوية بعيدة كل البعد عن تلك الأسس ومنها استئثاره بالفيء وضربه
من لاحدّ له، واسقاط الحد عمّن يستحقه، وحكمه برأيه في الرعية، واستلحاقه
زياد بن سمية بأبي سفيان، وشراء الضمائر بالأموال واختيار الولاة القساة
وتسليطهم على رقاب المسلمين18.
وقد عبّر الأنصار عن كراهيتهم
للحكم الأموي، وعن حقيقة الصراع بينهم وبينه حينما أغلظ لهم معاوية في قوله:
(مافعلت نواضحكم)، فقالوا: (أفنيناها يوم بدر لمّا قتلنا أخاك وجدّك
وخالك)19.
وكانوا قد تخلّفوا عن استقباله
حينما قدم للمدينة، وقد اعترف معاوية بكراهية الأنصار لحكمه قائلا: (أمّا بعد
فإني والله ماوليت أمركم حين وليّته إلاّ وأنا أعلم أنكم لاتسرون بولايتي
ولاتحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني خالستكم بسيفي هذا
مخالسة...واياكم والفتنة، فلا تهمّوا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة
وتورث الاستئصال)20.
وأدخل معاوية مبدأً جديداً في
نظام الحكم يتنافى ويتعارض مع مبادئ الاسلام وهو توريث الحكم وتحويل الخلافة
الى ملك يتوارثه الأبناء من الآباء، فعين ابنه يزيد ولياً للعهد، وأجبر أهل
المدينة وبقية الأمصار على بيعة ابنه، فكانت خلافة الأمويين (بنظر الفقهاء
ملكاً دنيوياً لاتستند الى الدين ...وكانت المدينة يومئذ مركز الفقهاء، وكانت
حانقة على الأمويين)21.
واستمر أهل المدينة وأغلبهم من
الأنصار في كراهيتهم للحكم الأموي في عهد معاوية ومن بعده يزيد.