الثالث: بناء أولاد آدم - عليه السلام
روى الازرقي
بسنده إلى وَهب بن مُنبّه قال : لمّا رُفِعت الخيمة التي عزى الله بها
آدم(عليه السلام) مِن حلية الجنة حين وُضِعَت له بمكة في موضع البيت، ومات
آدم(عليه السلام)فبنوا [فبنى] بنو آدم(عليه السلام) من بعده مكانها بيتاً
بالطّين والحجارة، فلم يزل معموراً يعمرونه هم ومن بعدهم حتّى كان زمن
نوح(عليه السلام)، فنسفه الغرق، وغيّر مكانه حتّى بوّأ [بوِّئ ]لإبراهيم(عليه
السلام)».17
قال الحافظ أبو
القاسم السّهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة :
«وكان بناؤها
الأول حين بنى شيثُ بن آدم(عليه السلام)» انتهى.
ولعلّ مراد
السُّهيلي بالأوليّة بالنسبة إلى بناء البشر لا الملائكة، وان بناء آدم(عليه
السلام) هو الأساس إلى ان ساوى وجه الأرض، وانزل الله عليه من الجنة البيت
المعمور، فوضعه على ذلك الأساس.
والمراد بالخيمة
المشار إليها في خبر وهب بن منبه، هو البيت المعمور، أو لعلها خيمة غير البيت
المرفوع، لعلّها رفعت بعد وفاة آدم(عليه السلام)، واُبقي البيتُ المعمور إلى
أن رُفِع زمان الطوفان، وفي ذلك من ارتكاب المجاز مما يصحح18 هذه
الروايات المتباينة ظواهرها، والله أعلم.
حكى السَّنجاري
قال: «ذكر الفاسي أنّ أول مَن بوّبَ الكعبة أنوش بن شيث ابن آدم(عليه
السلام)، وأنه ذكر عن الفاكهى أنّ أوّل مَن بوّبها وجعل لها غلقاً جُرهُم،
والله اعلم»19 انتهى.
الرابع: بناء الخليل - عليه السلام
قال السَّيدُ
الإمام الفاسي:
«أمّا بناءُ
الخليل(عليه السلام) فهو ثابت بالكتاب والسنة الشريفة، وهو أوّل مَن بنى
البيت على ما ذكره الفاكهي عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)».20
وجزم الشيخ عماد
الدين بن كثير في تفسيره قال: «لم يَرد عن معصوم أنّ البيت كان بيتاً قبل
الخليل(عليه السلام)21 فهو ينكر ما قدمناه من
الآثار .
وأما على ما
قدّمناه من الآثار، فبناء ابراهيم(عليه السلام) أوّل اسمي بالنسبة إلى مَن
بنى بعده لا أوّل حقيقي والله أعلم.
قال ابنُ ظهير
[ابن ظهيرة]: «وجعل الخليل(عليه السلام) طول البيت في السماء تسعة أذرع،
وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً من الرُّكن الأسود إلى الركن الشامي
(الذي فيه الحِجر)، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين
وعشرين ذراعاً، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني احداً
وثلاثين ذراعاً، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني
عشرين ذراعاً، فلذلك سُميت كعبة، لأنها على خِلقة الكعب، وكذلك بنيان أساس
آدم(عليه السلام) وجعل بابها بالأرض غير مبوّب حتّى كان تُبع الحميري هو الذي
جعل لها باباً وغلقاً فارسياً وجعل الخليل الحِجرَ (بالكسر) إلى جنب البيت
عريشاً مِن أراك تقتحمه فكان زرباً لغنم اسماعيل، وحفر في بطن الكعبة جُبّاً
على يمين الداخل يكون خزانة للبيت، وهو الذي نصب عليه عمرو بن اللّحي هُبَل
(صنم قريش) ثم عدا على ذلك الجُبّ قوم مِن جُر هم فسرقوا ما فيه، فبعث
الله الحيّةَ لحراسته، وهي التي اختطفها العقاب»22 نقل
باختصاره.
وروى الأزرقي في
تاريخه عن ابن اسحاق: «أنّ ابراهيم(عليه السلام) لما بنى البيتَ جعل طوله في
السَّماء تسعة أذرع، وجعل طوله في الأرض مِن قِبَل وجه البيت الشريف مِنَ
الحجر الأسود إلى الركن اليماني اثنين وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض من
قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي
اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن
الغربي المذكور إلى الركن اليماني احدى وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض
من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعاً، وجعل الباب لاصقاً بالأرض،
غير مرتفع عنها، ولا مبوباً، وجعل لها تبع الحميري باباً وغَلقاً بعد ذلك،
وجعل ابراهيم (عليه السلام) في بطن البيت على يمين من دخله حفرة لتكون خزانة
للبيت، يوضع فيها ما يُهدى إلى البيت، فكان إبراهيم(عليه السلام) يبني
وإسماعيل(عليه السلام) ينقل له الأحجار على عاتقه، فلما ارتفع البُنيان قرّب
له المقام، فكان يقوم عليه ويبني ويحوّله له اسماعيل(عليه السلام) ينقل له في
نواحي البيت، حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود .
فقال
ابراهيم(عليه السلام)لإسماعيل(عليه السلام) : يا اسماعيل إئتني بحجر
أضعه هنا يكون علماً للناس يبتدئون منه الطواف . فذهب اسماعيل في طلبه،
فجاء جبرئيل(عليه السلام) إلى سيّدنا ابراهيم(عليه السلام) بالحجر الأسود،
وكان الله عزّوجلّ استودعه جبل أبي قُبيس حين كان طوفان نوح(عليه السلام)،
فوضعه جبرئيل(عليه السلام)في مكانه، وبنى عليه ابراهيم(عليه السلام) وهو
حينئذ يتلألأ نوراً، فأضاء بنوره شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً إلى منتهى أنصاب
الحرم في كلّ ناحية وإنّما سوّدته الجاهليّة وأرجاسها .
قال : ولم
يكن ابراهيم(عليه السلام) سَقَّف البيت ولا بناه بمَدَر، وإنّما رصّه
رصّاً».23
قال: وذكر سنده
إلى عبدالله بن عمر [عمرو] «أنّ جبرئيل(عليه السلام) نزل بالحجر [من الجنّة]
على ابراهيم(عليه السلام) من الجنة وأنّه وضعه حيثُ رأيتم، وانتم لا تزالون
بخير ما دام بين ظهرانيكم فتمسّكوا به ما استطعتُم، فإنّه يوشك أن يجيء
جبرئيل فيرجع به مِن حيثُ جاء به» انتهى.24
وقال السيّدُ
الإمام تقيّ الدين الفاسي : روينا عن قتادة قال: «ذَكَر لنا أنّ
الخليل(عليه السلام) بنى البيت مِن خمسة اجبل : مِن طور سينا، وطور
زيتا، ولبنان، والجودي وحراء .
قيل وذكر لنا أنّ
قواعده مِن حراء.
قواعده مِن حراء.
قواعده مِن حراء.
قال: ويُروى أنّ
الخليل أسّس البيت من ستة أجبل من أبي قبيس، ومن الطّور، ومِنَ القُدس، ومن
ورقان، ومن رضوى، ومن أحد».25
قال الازرقي: قال
أبي، وحدّثني جدّي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جُريح [جريج]، عن مُجاهد أنّه
قال : «كان موضع الكعبة قد خفي ودرس زمن الطُّوفان فيما بين نوح
وابراهيم(عليهما السلام) .
قال : وكان
موضعه أكمة حمراء [مدرة] لا تعلوها السيول غير أنّ الناس يعلمون أنّ موضع
البيت هنالك، مِن غير تعيين محلّه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوّذ مِن أقطار
الأرض، ويدعو عنده المكروب، وما دعى [دعا] عنده أحد إلاّ استجيب له، وكان
الناس يحجّون إلى موضع البيت، حتّى بوّأ الله سبحانه وتعالى [مكانه
]لإبراهيم(عليه السلام) لما أراد عمارة بيته، واظهار دينه وشعائره [شرائعه]،
فلم يزل منذ أهبط الله سبحانه وتعالى آدم (عليه السلام) الى الأرض
معظماً محترماً عند الأمم والملل».26
وعن ابن
عمر : «كان الأنبياء يحجّونه ولا يعلمون مكانه، حتّى بوأه الله لخليله
واعلمه مكانه».
وروى أنّ هوداً
وصالحاً، ومَن آمن بهما، حجّوا البيت وهو كذلك.
ونقل العلاّمة
السيوطي في بعض كتبه : «أن جميع الأنبياء حجّوا البيت إلاّ هوداً
وصالحاً، اشتغلا بأمر قومهما فلم يحجّا، وأنّ آدم لمّا حجَّ حَلَق
جبرئيل(عليه السلام)رأسه بياقوتة من الجنّة، فلما بوّأ الله تعالى لخليله
مكان البيت أقبل من الشَّام وله يومئذ مائة سنة، ولاسماعيل ستّ وثلاثون سنة،
وأرسل الله معه السّكينة والصرد والمَلَك دليلا، حتى تبوّأ البيت
الحرام .
قال :
والسّكينة لها رأسٌ كرأس الهرّة وجناحان.
وفي رواية :
كأنها غمامة أو ضبابة تغشى الأرض كالدخان، في وسطها كهيئة الرأس يتكلم، وكانت
بمقدار البيت .
فلمّا انتهى
الخليلُ إلى مكّة وقعت في موضع البيت، ونادت يا ابراهيم ابنِ عليَّ مقدار
ظِلّي، لا يزيد ولا ينقص.27
وفي رواية :
أنّها تطوقت بالأساس الأول كأنّها حيّة.
وفي اُخرى أنّها
لم تزل راكدة تُظِّلُ ابراهيم وتهديه مكان القواعد، فلّما رفع القواعد قدر
قامة انكشفت.
قال: وذكر أنّ
الخليل لما حفر القواعد ابرز عن رَبَض كأمثال خلف الإبل، لا يُحرك الصَّخرةَ
إلاّ ثلاثون رجلا، وكان يبني كلَّ يوم سافاً وهو المُدماك في عرفنا
الآن .
قال ابن
عباس : أما والله ما بنياه بقصة (وهي النورة وشبهها) ولا مَدر، ولا كان
معهما ما يسقِّفانه، ولكن أعلماه وطافا به.
وفي رواية
رخَّماهُ رَخماً .
قال : وروي
أنّ ذا القرنين قَدِم مكّة، والخليل وابنه يبنيان .
فقال : ما
هذا؟ فقالا : نحن عبدان اُمرنا بالبناء .
فطلب منهما
البرهان على ذلك، فشهد بذلك خمسة أكبش.
ثم قال: قال
السهيلي : بناه الخليل مِن خمسة أجبل، كانت الملائكة تأتيه بالحجارة
منها وهي طور سينا، وطور زيتا (وهما بالشام) والجودي (وهو بالجزيرة) ولبنان
وحِراء (هما بالحرم).
قال
المجدد : في كون لبنان بالحرم نظر، إذ لا يعرف ذلك .
ثم ذكر القطب قصة
مهاجرة الخليل بعد أن نجّاه الله مِن نار نمرود، وولادة اسماعيل
واسحاق ، وإسكان الخليل واسماعيل وأمّه هاجر الحرم، وظهور ماء زمزم،
وغير ذلك.
ثم قال، رجوعاً
إلى القصة قالوا : ومرت رفقة مِن جُرهُم يريدون الشام، فرأوا طيراً يحوم
على جبل أبي قبيس .
فقالوا :
إنّ هذا الطير يحوم على ماء، فتبعوه فأشرفوا على بئر زمزم .
فقالوا
لهاجر : إن شئت نزلنا معك وأنسناكِ والماءُ مائكِ، نشرب منه؟
فأذنت لهم،
فنزلوا معها، وهم أول سكان مكة.
وقال بعد ذلك:
قال الأزرقي : ثم ولد لإسماعيل مِن زوجته بنت مضاض بن عمرو الجُرهمي
اثنا عشر رجلا، منهم ثابت بن اسماعيل، وقيدار بن اسماعيل، وكان عمر اسماعيل
مائة وثلاثين عاماً، ومات ودفن في الحِجر مع اُمّه، فولى البيت بعده ثابت بن
اسماعيل، ونشر الله العرب من ثابت وقيدار، فكثروا ونموا، ثم توفي ثابت، ثم
ولي البيت بعده جدّه لأمّه مضاض بن عمرو الجُرهمي، وضمَّ بني ثابت بن اسماعيل
وصار ملكاً عليهم وعلى جُرهم، فنزلوا بقعيقعان بأعالي مكة، وكانوا اصحاب سلاح
كثير، وتقعقع فيهم، وصارت العمالقة ـ وكانوا نازلين باسفل مكة ـ الى رجل منهم
ولّوه ملكاً عليهم، يقال له السُّميدع، ونزلوا بأجياد وكانوا أصحاب خيل
وغيره، وكان الأمرُ بمكّة لمضاض بن عمرو، ورث السميدع إلى أن حدث بينهم
البغي، واقتتلوا فقُتِل السُّميدع، وتمّ الأمر لمضاض بن عمرو.
قال: قال :
ثمّ نشر الله بني اسماعيل وخئولتهم وجُرهم، وكانت جُرهم ولاة البيت لا
ينازعهم بنو اسماعيل لقرابتهم، فلمّا ضاقت مكة انتشروا في الأرض، فلا يأتون
قوماً ولا ينزلون بلداً إلاّ أظهرهم الله عليهم بدينهم، وهو يومئذ دينُ
ابراهيم، حتّى ملأوا البلاد، ونفوا عنها العماليق، وكانت ولاة مكة، وكانوا
ضيعوا حرمها، واستحلوها، واستخفوا بها، فاخرجهم الله مِن أرض
الحرم.
ثمّ إنّ جُرهماً
استخفت بأمر البيت والحرم، فاعتزلهم مضاض بن عمرو وخرج ببني اسماعيل من مكة
بجانب خزاعة، فاخرجت خزاعة جُرهماً من البلاد، ووليت امر مكة، وصاروا اهلها،
فسألهم بنو اسماعيل السكنى معهم فأذنوا لهم، وسألهم في ذلك مضاض بن عمرو فأبت
عليه خزاعة، وصارت خزاعة حجبة بيت الله، وولاة أمر مكة، وفيهم بنو اسماعيل لا
يشاركونهم في شيء ولا يطلبونه، الى أن كبر شأن قُصي بن كلاب بن مرّة، واستولى
على حجابة البيت وأمر مكة» .28
وقد نقلنا هذا
الفصل من القطبي، من ابتداء قصة جُرهم باختصار لا يَخِلُّ بشيء مما نحن
بصدده.
وقصي تصغيراً
اسمه زيد، وإنّما لقب قصياً لأنه ابعد عن أهله ووطنه مع أمّه، لمّا تُوفي
أبوه كلاب، وتزوَّجت أمّه بربيعة بن حزام، ورحل بها إلى الشّام، فلما كبر وقع
بينه وبين آل ربيعة شرٌّ فعيّرُوه بالغُربة، فرجع إلى قومه بمكة وعليها
خزاعة، وكبيرهم خليل بن خيبسة الخزاعي وهذه [هذا] البيت الشريف، فتزوّج
ابنته، وهلك وصار مفتاح البيت لأبي غيشان، وكان سكران فأعوز الخمر، فباع
مفتاح البيت بِزِقّ مِن خَمر! فاشتراه منه قُصي، وفي الأمثال «أخسرُ صفقةً
مِن أبي غيشان» اختصر.