إن المحسوس قد يكون هو نفسه في داخل ذاتك،
كالألم، والجوع، والفرح، والخوف، والحزن،
والعطش وغير ذلك..
وقد يكون في غيرك، كمريض تراه، وتسمع
أنينه وشكواه.. فلا شك في أن علمك وإحساسك
بالألم الموجود في داخلك أعمق وأقوى من
علمك وإحساسك بألم غيرك، وأنت تراه يتألم..
وإحساسك بألم من هو أمامك قد يكون أعمق،
وأقوى من إحساسك بألم رجل غائب عنك، وينقل
لك خبره، كما أن علمنا بالآخرة الغائبة
عنا فعلاً، يكون أضعف من علم الأنبياء
والأوصياء بها.. حتى إن أمير المؤمنين
[عليه السلام] يقول: لو كشف لي الغطاء ما
ازددت يقيناً.وقد أشار الله إلى أننا لا نعلم حقيقة
الآخرة فقال: (وَإِنَّ الدَّارَ
الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ)[103]..وحين تتساقط الحجب المانعة من الإدراك،
ويصبح النظر حديداً. كما قال تعالى:(فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[104]..
يصبح الإدراك أشد
والتفاعل مع المدركات أعمق..
والمعاصي أيضاً تحجب الإنسان عن فهم
معاني القرآن الكريم، والتكبر والغرور
يقللان من مستوى إدراك الواقع، والإحساس
به.
«سَمِيِعَاً بَصِيرَاً»، بصيغة
المبالغة
وسبب التعبير بـ (سَمِيِعَاً بَصِيرَاً)هو:1ـ إن الهدايات الإلهية تحتاج إلى
السميعية، والبصيرية العميقتين، ولا يكفي
فيها مجرد السمع والبصر..
وعلى ذلك جاء قوله تعالى:
(وَقَالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا
كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[105].وقال سبحانه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ
يَسْمَعُونَ بِهَا)[106].وقال: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)[107].وسبب ذلك أن هناك آيات ومعجزات وكرامات
تحتاج إلى إدراك عميق، وإلى ضمير حي،
ووجدان طاهر، يستطيع أن يحوّل تلك
الإدراكات إلى محفزات وبواعث، توقظ
الفطرة، وتجعلها تتفاعل وتنشدّ إليها،
وتلتذ وتسعد بها.ولأجل ذلك نلاحظ أن الخطاب الإلهي
المرتبط بالأمور العقائدية، كالتوحيد
مثلاً، يحول الأمر العقائدي إلى أمر
واقعي، وحياتي تنشد إليه الفطرة،
وتستعيده كقوة محركة في داخل وجودها..
وبما أن الهدايات كلها، ومنها العقلية
والتشريعية، لا بد أن تنتهي إلى الهداية
الفطرية، فإنه تعالى لم يتحدث للإنسان عن
التوحيد مثلاً، وعن صفات الله، وعن
الآخرة، وعن.. وعن.. بالطريقة الفلسفية أو
النظرية المجردة، فلم يستدل له بالدور أو
التسلسل، أو بغير ذلك من مصطلحات.بل اتخذ في حديثه عن الآخرة أسلوب:(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *
ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي
تَشْرَبُونَ * ءأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ
مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ
تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ
الَّتِي تُورُونَ * ءأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِئُونَ)[108].وقال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ
سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ
بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ
فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)[109].ومن الواضح: أن الليل والنهار، والماء،
والزرع، والنار، ونحو ذلك هي من صميم حياة
الإنسان ـ ولها ارتباط مباشر ترتبط
بحركته، ونشاطه، وعمله، ونومه، وراحته،
وأكله وشربه، ونحو ذلك..وحتى حين قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلاَ اللهُ لَفَسَدَتَا)[110]
فإنه إنما أثار أمام الإنسان موضوع الفساد
الذي يخشاه «الإنسان».