فإننا نقول: إن الأمر بالصبر لا يختص
بالسور المكية، فإنه تعالى يقول في سورة
الكهف في الآية 28:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً)..
وقد روي أن هذه الآية مدنية. وهي
متحدة المعنى مع قوله تعالى:
(فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ)[10]، مع شدة التشابه في
السياق في الموردين.وما كان يلقاه النبي من أذى المنافقين
وغيرهم من الجفاة وضعفاء الإيمان، لم يكن
بأهون من أذى المشركين بمكة.
ولا دليل أيضاً على انحصار الآثم والكفور
في مشركي مكة. بل إن بعض المسلمين كان يكسب
الآثام، كما صرحت به الآيات.
(انتهى كلام
العلامة الطباطبائي)..[11].
ثالثاً
إن المعيار في مكية السورةومدنيتها هو النقل والرواية، لا القياسات
والاستحسانات. فإن كان ثمة من رواية تدّعي
أنَّ السورة مكية، فلا بد من محاكمتها
كرواية، وملاحظة ما فيها من نقاط ضعف وقوة
على هذا الأساس..
وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق..
وعلى كل حال.. فإن ثمة العديد من الأدلة
على عدم صحة الرواية التي ذكرت: أن عبد
الله بن الزبير قد اعتبر هذه السورة مكية،
بالإضافة إلى أن ابن الزبير متهم في ما
يرويه، خصوصاً إذا كان في سياق إنكار
فضائل علي [عليه السلام] وآله الطاهرين.
فإنه هو المحارب لأمير المؤمنين والمعلن
بالتنقص له، ولأهل بيته الطاهرين، حتى إنه
ترك الصلاة على النبي في أربعين صلاة جمعة،
بحجة: أن له [صلى الله عليه وآله] أهيل سوء
يخاف أن يتلعوا بأعناقهم، أو نحو ذلك.وكذلك الحال بالنسبة للرواية بذلك عن ابن
عباس، الذي كان في زمنه [صلى الله عليه
وآله] صغيراً لا عبرة بما يرويه في ذلك
السن.. خصوصاً وأنها معارضة بمثلها عنه،
كما سنرى.
رابعاً
لقد روي عن الإمام علي [عليهالسلام]: أن السورة مدنية[12].وكذلك روي عن ابن عباس، وعكرمة،
والحسن[13] فراجع..
خامساً
قد ذكرت الروايات الكثيرةالمروية من طرق أهل البيت [عليهم السلام]
وغيرهم: أن السورة قد نزلت في مناسبة مرض
الحسنين [عليهما السلام]، وصيام علي
والزهراء، والحسنين [عليهم السلام] ثلاثة
أيام، وصدقتهم بطعامهم في هذه الأيام
الثلاثة المتوالية.
والحسنان [عليهما السلام] إنما ولدا في
المدينة كما هو معلوم.
سادساً
إن آيات السورة ذكرت إطعام الطعامللأسير، ولم يكن في مكة أسرى..
إلا أن يقال: إن الكلام قد جاء في الآية
على سبيل الافتراض، لا على سبيل الحقيقة.
ولكنه احتمال ضعيف يخالف سياق آيات
السورة.. كما أنه يخالف الروايات التي
تحدثت عن سبب نزولها.
وأما احتمال أن يكون الأسير أسيراً عند
قريش، فهو بعيد أيضاً، إذ لم نعرف عن قريش
أنها كان لديها أسرى من حروب خاضتها.
سابعاً
وحتى لو كانت هذه السورة مكية،فإن ذلك لا يضر في صحة رواية نزول السورة
في أهل البيت [عليهم السلام]، فقد أثبتنا
أن السورة كانت تنزل أولاً.. ثم وبعد مضي
مدة من الزمن تحصل الأحداث التي ترتبط
آيات تلك السورة بها، فينزل جبرئيل بتلك
الآيات مرة ثانية..[14].
الفصل الأول:
الخلق.. والهداية..
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ
مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً)
قال تعالى:بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ
مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً).«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»إننا نعتقد وفقاً لما ورد في الروايات
المباركة الواردة عن أهل بيت العصمة
[عليهم السلام] أن (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) جزء وآية من كل
سورة،[15] باستثناء سورة «براءة»..وقد حاولنا تفسير مفردات هذه الآية
المباركة، أعني آية (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في تفسير سورة
«الفاتحة»، وقد عرضنا هناك ما لعله يكون
مفيداً، ورأيناه سديداً.. ولكي لا يلزم
التكرار، فإننا نحيل القارىء الكريم إلى
ذلك الكتاب، ملتمسين منه العذر، والعذر
عند كرام الناس مقبول إن شاء الله تعالى.ولنشرع في بيان ما فهمناه من سائر آيات
سورة «هل أتى»، فنقول: