إعلم، أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها جميعا محتاجةٌ، لأن الوجود ليس ذاتياً لها، ولو تفكرت وأحطت عقليا بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثل الكمالات عين ذاته. ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقليا وسألتها: أيتها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟ فإنها ستردُّ جميعا بلسان الفطرة: "إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود". وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد {.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..}(الروم/30) من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدل إلى غنية بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرة بذاتها ومحتاجة، فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها. كما أن هذا الفقر الذي هو لازم ذاتي لها، هو صفة دائمة أيضا، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها. كذلك فإن أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أي موجود ليس منه ذاتا، إنما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله {.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..}(الأنفال/17) حقيقةٌ تصدق على كل شيء وكل فعل وكل قول وإن كلُّ من يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجوَ غيره تعالى. هذه بارقةٌ إلهية، حاول أن تفكر فيها في خلواتك، ولقن قلبك الرقيق وكررها عليه إلى أن ينصاع اللسان لها، وتسطع هذه الحقيقة في ملك وملكوت وجودك. وارتبط بالغنيّ المطلق حتى تستغني عمن سواه، واطلب التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك ومن جميع من سواه، ويأذن لك بالدخول والتشرف بالحضور.