بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وصية من أب هَرِمٍ قضى عمراً بالبطالة والجهالة، وهو الآن سائرٌ إلى العالم السرمدي بكف خالية من الحسنات، وصحيفة سوَّدتها السيئات، يحدوه الأمل بمغفرة الله والرجاء بعفوه.. إلى إبنٍ شاب تتجاذبه مشاكل الزمان، وهو مخير بين انتخاب الصراط الإلهي المستقيم (هداه الله إليه بلطفه المطلق) وبن اختيار الطريق الآخر ـ لا سمح الله ـ حفظه الله من مزالقه برحمته. أي بني، الكتاب الذي أهديه إليك هو نفحةٌ من صلاة العارفين، والسلوك المعنوي لأهل السلوك، رغم أن قلم من هو مثلي عاجزٌ عن تبيان مسيرة هذا السفر، وأعترف بأن ما كتبته لا يخرج عن حدِّ بعض الألفاظ والعبارات، فأنا لم أحصل إلى الآن على بارقة من هذه النفحة. ولدي، إنّ ما في هذا "المعراج" هو الغايةُ القصوى لآمال أهل المعرفة، وقد قصرت أيدينا عنها:" اسحب الشباك فالعنقاء لا تكون صيدا لأحد"(1- جزء من بيت شعر لحافظ الشيرازي). ولكن!! لا ينبغي لنا اليأس من ألطاف الله الرحمن؛ فهو -جل وعلا- الآخذ بأيدي الضعفاء، ومعين الفقراء. عزيزي.. الكلام هو في السفر من الخلق إلى الحق تعالى،ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن الناسوت إلى ما فوق الجبروت، إلى حد الفناء المطلق الذي يحصل في السجدة الأولى، والفناء عن الفناء ـ هو الذي يقع في السجدة الثانية ـ بعد الصحوـ وهذا هو تمامُ قوس الوجود (من الله وإلى الله) وفي تلك الحال ليس من ساجد ومسجود له، ولا عباد ومعبود، فـ{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..}(الحديد/3). ولدي، ما أوصيك به ـ بالدرجة الأولى ـ هو أن لا تُنكر مقامات أهل المعرفة، فالإنكار سُنَّةُ الجُهال، واتَّقِ معاشرة مُنكري مقامات الأولياء، فهم قُطّاع طريق الله تعالى. بني: تحرر من حبِّ النفس والعجب، فهما إرثُ الشيطان فبالعُجب وحبّ النفس تمرَّدَ على أمر الله بالخضوع لوليّ الله وصفيه (جل وعلا). واعلم !! أن جميع ما يحلّ ببني آدم من مصائب ناشىءٌ من هذا الإرث الشيطاني، فهو أصل الفتنة، وربما تشير الآية الكريمة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ..}(البقرة/193) في بعض مراحلها (مستوياتها) إلى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده. ولهؤلاء فروعٌ وجذورٌ في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كل إنسان أن يجاهد "حتى لا تكون فتنة" داخل نفسه وخارجها، فإذا حقق هذا الجهاد النصر، صلحت الأمور كافة وصلُح الجميع. بني: اسعَ لتحقيق هذا النصر أو بعض درجاته، إجتهد واعمل للحد من الأهواء النفسانية التي لا حد لها ولا حصر، واستعن بالله ـ جل وعلا ـ فإنه لا يصل أحد لشيء من دون عونه؛ والصلاة ـ معراج العارفين وسفر العاشقين ـ سبيل الوصول إلى هذا المقصد.