بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الذي لا رحمن ولا رحيم غيره، ولا يُعبد ولا يُستعان إلا به، ولا يُحمد سواه، ولا رب ولا مربي إلا إياه. وهو الهادي إلى الصراط المستقيم، ولا هادي ولا مرشد إلا هو، ولا يُعرف إلاّ به، هو الأول والآخر والظاهر والباطن. والصلاة والسلام على سيّد الرسل ومرشد الكلّ الذي ظهر من غيب الوجود إلى عالم الشهود. وأتمّ الدائرة وأرجعها إلى أولها، وعلى آل بيته الطاهرين الذين هم مخازن سر الله. ومعادن حكمة الله. وهداة ما سوى الله. وبعد.. هذه وصية من عجوز عاجزٍ، أمضى زهاء التسعين عاماً من عمره غارقاً في مستنقع الضلالة وسكر الطبيعة، يطوي الآن أيام أرذل عمره(1- إنه اصطلاح قرآني ورد في الآية70 من سورة النحل، وبعض الروايات عدّت ذلك عند بلوغ العام الخامس والسبعين.) منحدراً نحو قعر جهنم، غير آمل بالنجاة، وغير آيَس من روح الله ورحمته، فلا أمل سواه تعالى، يرى نفسه عالقاً في متاهات العلوم المتعارفة والقيل والقال وأضحت معاصيه مما يعجز سوى الله تبارك وتعالى عن إحصائها. إلى شاب يُؤمَّل له أن يشقّ طريقه نحو الحق وينجو -بتوفيق الله وهداية الهداة- من المستنقع الذي سقط فيه أبوه. ولدي العزيز أحمد، أنظر ـ سلمك الله ـ في هذه الأوراق نظر ناظر إلى ما يُقال، لا إلى من يقول "وانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال"(2- غرر الحكم ودرر الكلم لأمير المؤمنين عليه السلام "لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال".). فإني أهدف مما أقول تنبيهك رغم أنني خالٍ مما أقول بعيد عنه. إعلم أن ليس لأيّ موجود من الموجودات ـ بدءاً من غيب عوالم الجبروت وإلى ما فوقها أو تحتها ـ شيءٌ من القدرة أو العلم أو الفضيلة، وكل ما فيها من ذلك إنما هو منه جلَّ وعلا، فهو الممسك بزمام الأمور من الأزل إلى الأبد، وهو الأحد الصمد، فلا تخش من هذه المخلوقات الجوفاء الخاوية الخالية، ولا تُلق آمالك عليها أبداً، لأن التعويل على غيره تعالى شركٌ، والخوف من غيره جلت عظمته كفر. بني: اسع في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنك ستخسر كل شيء في الشيخوخة، فمن مكائد الشيطان (ولعلها أخطر مكائده ـ التي سقط فيه أبوك ومازال ـ إلا إذا إدّاركته رحمة الحق تعالى) "الاستدراج"(3- هو التدرج في نحو العناد، وسمي توالي النعمة مع ارتكاب المعاصي استدراجاً.). ففي أوائل الشباب يسعي شيطان الباطن ـ أشد أعداء الشاب ـ في ثنيه عن إصلاح نفسه ويمنّيه بسعة الوقت، وأن الآن هو آن التمتع بالشباب، ويتسمر في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماما، وساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم يتصرّم الشباب، ويرى الإنسان نفسه فجأة في مواجهة الهرم الذي كان يؤمِّل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأىً عن وساوس الشيطان أيضا، إذ يمنيه آنذاك بالتوبة في آخر العمر. لكنه حينما يحُسُّ بالموت في آخر العمر، يصبح الله تعالى أبغض موجود إليه، لأنه يريد انتزاع الدنيا التي هي محبوبه المفضّل منه. وهذه حال أولئك الذين لم ينطفئ نور الفطرة فيهم تماما. وهناك من أبعدَهم مستنقع الدنيا عن فكرة الإصلاح كلياً، وسيطر عليهم غرور الدنيا بشكل تام، وقد رأيت أمثال أولئك بين أهل العلوم وما زال بعضهم على قيد الحياة، وهم يرون أن الأديان ليست سوى خرافة وترهات. بني: إنتبه جيداً، إلى أن أيّ أحد منا لا يمكنه أن يكون مطمئنا إلى عدم وقوعه في حبائل هذه المكيدة الشيطانية.