الامام زين العابدين(عليه السلام) ممثّل لتيار - نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع - نسخه متنی

محمود البغدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين (ع)/ 295-319

الامام زين العابدين(عليه السلام) ممثّل لتيار

لقد كان الادب السياسي بل مطلق ادب الامام زين العابدين صلوات الله عليه يمثّل تياراً اصيلاً.. دافقاً في حياة الامة وفي تاريخ الادب.

ولقد انتمى لهذا التيار صفوة من كبار الادباء بصورة واخرى، ومن المعاصرين للامام زين العابدين(عليه السلام) زينب الكبرى .. عبدالله بن عباس.. عبدالله بن جعفر الطيار.. ابو الاسود الدؤلي.. ابو دهبل الجمحي.. اعشى همدان.. عدي بن حاتم الطائي.. عبدالله بن عوف الاحمر.. قيس بن فهدان الكندي .. الفضل بن العباس بن عتبة.. ابو الطفيل عامر بن واثلة.. حضين بن المنذر الرقاشي.. الجارود بن ابي سبرة.. الاحنف بن قيس. يزيد بن مفرغ الحميري.

لقد قام هؤلاء بدور فاعل في تثبيت عقائد الاسلام، ونشر راية القرآن، وتركيز خط اهل البيت، وارساء قيم الفضيلة والجمال، كما قاموا بتحرك حيوي في مقاومة الحكّام غير الاسلاميين، ورمي مواقد السخط والثورة في وجوههم.

من اغراض الادب السياسي

الخطب

اثر القرآن الكريم على الخطب

ارتفع شأن الخطابة في الاسلام، واتسع مداها. وتعددت اغراضها.. وقد هذّب الجو الديني مقاول الخطباء، وشذّب كلماتهم، وألهب مشاعرهم، ووجّه البابهم وانضجها فانطلقت حناجرهم كأنها السنة من النار.

وكان للقرآن الحكيم تأثيره البالغ على رفع القدرة البيانية للادباء، وللخطباء منهم على وجه الخصوص، وتوسيع افقهم، وتزويدهم بالحجج المقنعة، والادلة المشرقة، والبسهم لوناً جديداً من الادب.. ما كان لهم ولا لابائهم به من علم.

ولو امعنّا في التحقيق.. لعرفنا انّ اكثر الخطباء تمسكاً بالقرآن، واستجلاء لاياته.. واستنطاقا لمعانيه.. واقتفاء لاساليبه.. هم الامكن في الخطابة، وفي الاغراض الاخرى من الادب. وهم الاشد اقتداراً على كسب الجماهير، والاخذ بمقود اسماعهم.

ومنذ ان نزل الروح الامين على صدر نبينا ليكون من المنذرين.. اصبح من الواضح جداً نفوذه الى شخصية الرسول وملكاته.. وتجلّت انعكاساته في خطبه وكلماته.. فهذه خطبه كما قيل ـ نمط جديد من القول بلاغة وفصاحة، وايماناً وبساطةً، وصدقاً وعمقاً لم يالفه العرب من قبل، وتبصير واضح بسيط نافذ بحقائق قد غفل الناس عن وجودها وهي ماثلة امامهم كل يوم(263).

خطباء اهل البيت

وفي عصر صدر الاسلام فما بعده لا نجد خطيبا بذّ الاقران، وفاز بالقدح المعلى.. كخطباء اهل البيت.. الذين نزل القرآن في بيوتهم وارتشفوه معنىً ومبنىً .. فهذا رسول الله وهذا الامام علي بن ابي طالب وتلك فاطمة الزهراء، وذلك الامام الحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليهم السلام) .. اينما تلفتّ في خطبهم وامعنت النظر.. استشرفت تأثير القرآن فيها، ونفوذه في اغوارها، واشعاعه بين جنباتها.

بين القرآن وخطب زين العابدين

ولو شخصنا ببصرنا الى خطب الامام علي بن الحسين عليه الصلاة والسلام وسائر ادبه.. لعلمنا انه لا جرم ان يكون كذلك، السنا نعلم انّ من القابه (حليف القرآن).

بلى، انه حليف القرآن، وسميره.

انهما الحبيبان وهيهات ان يفترقا.

ومن ولعه بكتاب الله العزيز انه كان يرفع صوته بقراءته، ويجوِّده، ويتلوه حق تلاوته بصوت جميل ما بعده من جمال.

وهذه الملازمة الوثيقة للقرآن صاحبت الامام علي بن الحسين(عليه السلام) لا في قراءته للقرآن وتفسيره له، وتأويله لاياته فحسب بل حتى في مناظراته ورسائله وخطبه، وسائر شؤونه الفكرية والاجتماعية ومختلف انطلاقاته، وكانت خطبه في كل يوم جمعة في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة وهي خطب في التربية الروحية والسياسية تشعّ بالروح القرآني، وتتدفق بالبيان العذب، والكلمات المتّسقة، والالفاظ الشائقة، وحسن النظم، وجودة التأليف.

وان كثرة الاستدلال والاستشهاد والاستنطاق لايات الكتاب طابع مميز لخطبه(عليه السلام).

ولابد من الاشارة والتذكير: ان يد الخيانة والعاطفة امتدّت فشوهت مقادير من خطبه السياسية، وفنونه الادبية الاخرى. وأحدثت اضافات يبرأ منها الادب والادباء، بيد انّ مقادير كثيرة جدا من أدبه بقيت على اصالتها ورونقها.

وما يهمنا الان منها خطبته يوم الجمعة في مسجد رسول الله.. فجاءت هذه الاخيرة.. مزهوّة مهيبة.. رائعة القسمات.. ظاهرة الوسامة.. تتهادى بين الفصاحة وبين الجمال. وقد حذر فيها من سلوك خط الظالمين وسياسة المعتدين.

خطبة للامام زين العابدين:

ومن جملة ما جاء فيها:

... اشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما قد وعدكم في مرجعكم اليه من حسن ثوابه، كما قد خوّفكم من شديد عقابه; فانه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه.

ولا تكونوا من الغافلين المائلين الى زهرة الحياة الدنيا، وقد قال الله تعالى: (افأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الارض او يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * او يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين او ياخذهم على تخوف)(264).. فاحذروا ما حذركم الله، بما فعل بالظلمة في كتابه ولا تامنوا ان ينزل بكم بعض ما توعد به القوم الظالمين في كتابه.

لقد وعظكم الله بغيركم.. وان السعيد من وعظ بغيره، ولقد اسمعكم الله في كتابه ما فعل بالقوم الظالمين، من اهل القرى قبلكم حيث قال: (وانشأنا بعدها قوماً آخرين).

وقال: (فلما احسّوا بأسنا اذا هم منها يركضون) ـ يعني يهربونـ (قال):(265)(لا تركضوا وارجعوا الى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون).

فلما اتاهم العذاب(266) (قالوا يا ويلنا انا كنّا ظالمين)(267).

فان قلتم ايها النّاس ان الله انما عنى بهذا اهل الشرك، فكيف ذلك؟ وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل اتينا بها وكفى بنا حاسبين)(268).

اعلموا عباد الله: ان اهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ولا تنشر لهم الدواوين وانما يحشرون الى جهنم زمرا. وانما تنصب الموازين وتنشر الدواوين لاهل الاسلام. فاتقوا الله عباد الله واعلموا ان الله لم يحبّب زهرة الدنيا لاحد من اوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها، وظاهر بهجتها، فانما خلق الدنيا وخلق اهلها ليبلوهم فيها ايهم احسن عملا لاخرته.

وايم الله لقد ضربت فيه الامثال، وصرفت الايات لقوم يعقلون فكونوا ايها المؤمنون من القوم الذين يعقلون، ولا قوّة الاّ بالله، ولا تركنوا الى الدنيا فان الله قال لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار...)(269).

من الفلسفة السياسية للزهد:

حقاً ان هذا منعطف مهم جداً في فلسفة الزهد. فاذا كان المتبادر الى الاذهان من معنى الزهد، الزهد في الطعام والشراب والملبس، فهذا صحيح لا سيما اذا كان المجتمع بحاجة الى هذا اللون. ولكنّ الذي هو اهم ان يزهد الانسان في الركون الى القوى الشريرة، والطغيان والاستبداد، او كما قال الامام زين العابدين(عليه السلام) ولا تركنوا الى الدنيا فان الله قال لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار) انّ الله تعالى لم يتوعّد بالنار من لم يزهد بالمطعم والمشرب والملبس ونحوها. وان كان الزهد فيها في اكثر الحالات يشير الى الرفعة، وسمو الذات. ولكن الله تعالى توعّد بالنار اولئك الذين لم يزهدوا بالركون الى الظالمين (ولا تركنوا....) اذا كان الزهد في الافراط بالمشتهيات مستحبا، فان الزهد في الركون الى الظالمين واجب لا ريب فيه.

وعلى ضوء مقولة الامام زين العابدين(عليه السلام): ولا تركنوا الى الدنيا... حول هذا الزهد الناهض، والمتضمن بقوة للوعي السياسي نستطيع ان نعي الكثير من الاحاديث الداعية للزهد والمرغّبة فيه.

ان قول الامام زين العابدين(عليه السلام): ولا تركنوا الى الدنيا... لا يعني بالضرورة ان الزهد يقتصر على حالة عدم الركون للظالمين، اذ من الواضح ان الزهد في الافراط بالمشتهيات قد ورد في روايات كثيرة غير قابلة للتأويل. ولكنه(عليه السلام) يؤكد على اهم فرد من افراد الزهد واعظم مصداق من مصاديقه الا وهو الزهد في الركون الى الظالمين .

ومن خطب الامام زين العابدين(عليه السلام) السياسية: الخطبة التي ادلى بها في دمشق امام يزيد بن معاوية، وبحضور حشد جماهيري من اهل الشام. وكذا الخطبة التي القاها على اهل المدينة المنورة، بعد توجهه من الشام اليها. وقد اوردنا الخطبتين معا ضمن هذا الكتاب

اطلالة اخرى:

ويطل الامام زين العابدين(عليه السلام) مرة اخرى علينا بهذه الخطبة من خطبه السياسية الرائعة التي لم نذكرها الى حد الان.

لقد حدد الامام(عليه السلام) في هذه الخطبة الشخصية الاسلامية الحقة التي تعتبر المثل الاعلى للمجتمع والقوة للجميع. كما يؤكد فيها على الدقة والتحقيق في الهوية العقائدية والمنحى الواقعي لانماط اجتماعية كثيرة تتظاهر بالورع والزهد والتقوى، بينما تفصح حقيقة انفسهم انهم على خلاف ذلك. وانما يصنعون من ذلك ما يصنعون تستّرا على نواياهم الخبيثة واغراضهم الدنيئة.

يقول الامام زين العابدين(عليه السلام):

اذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتمارث في منطقه، وتخاضع في حركاته فرويدا لايغرنكم، فما اكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم فيها، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لايزال يختل الناس بظاهره، فان تمكن من حرام اقتحمه. فاذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام.. فرويداً لا يغرنكم، فان شهوات الخلق مختلفة، فما اكثر من ينبو عن المال الحرام وان كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّما.

فاذا وجدتموه يعفّ عن ذلك.. فرويدا لا يغرنّكم حتى تنظروا ما عقده عقله. فما اكثر من يترك ذلك اجمع ثم لا يرجع الى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله اكثر ممّا يصلحه بعقله.

فاذا وجدتم عقله متينا.. فرويدا لايغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله؟ او يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها؟ فان في الناس من خسر الدنيا والاخرة بترك الدنيا للدنيا، ويرى ان لذة الرئاسة الباطلة افضل من لذة الاموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك اجمع طلبا للرئاسة، حتى: (اذا قيل له اتّق الله اخذته العزّة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)(270).

فهو يخبط خبط عشواء.. يقوده اول باطل الى ابعد غايات الخسارة، ويمدّ به يده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه.. فهو يحلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما احلّ الله. لا يبالي ما فات من دينه اذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من اجلها، فاولئك مع الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهينا.

ولكنّ الرجل.. كلّ الرجل.. نعم الرجل: هو الذي جعل هواه تبعا لامر الله، وقواه مبذولة في رضاء الله تعالى، يرى الذل مع الحق اقرب الى عز الابد من العز في الباطل ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤديه الى دوام النعم في دار لا تبيد ولا تنفد، وان كثير ما يلحقه من سرّائها ـ ان اتبع هواه ـ يؤديه الى عذاب لا انقطاع له ولا زوال، فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، والى ربكم فيه فتوسلوا، فانه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة(271).

دفع آليّات الوعي السياسي

لقد ضم عصر الامام زين العابدين(عليه السلام) رجالاً كثيرين من الانتهازيين في كل زاوية من زوايا الخارطة السياسية للعالم الاسلامي.

ولقد قام السيناريو القيادي بالانتفاع من الامية السياسية وشبه الامية المنتشرة في المجتمعات على اختلافها.

وعلى سبيل المثال نرى الحجاج الثقفي وهو يجيد النصيحة والموعظة، وكان بليغا بارعا في الامر بتقوى الله تبارك وتعالى.

وهذا عبدالله بن الزبير يلجأ في حالة ضعفه الى البيت الحرام قائلاً: انا عائذ الله.

ولكنه في حالة القوة يضيّق الخناق على اولياء الله..

واذا كان الناس على دين ملوكهم... فسوف نعرف حجم الانتكاسة الروحية والاخلاقية، ومساحة الاستغلال السياسي لشتى العوامل المؤثرة والتي يمكن ان تكون وسيلة لخداع الجمهور. كما ان دراسة مفصلة اجتماعية وادبية للعصر الاموي، تزودنا بارقام مذهلة عن هذا التوجه المقيت.

ومن هذا المنطلق ندرك الاهمية السياسية والروحية البالغة لخطبة زين العابدين الانفة. ومن الخير ان نتساءل ـ من اجل دفع آليات اليقظة الروحية والوعي السياسي ـ هل كانت تعاليم الامام زين العابدين(عليه السلام) في حدود العصر الذي انتشر اريجها فيه؟ ان الجواب بالنفي هو الجواب المتحتم.

وفي خصوص الموضوع الذي نحن فيه لو سألنا الامام زين العابدين(عليه السلام)هل يختلف واقعنا المعاصر جوهريا عن الحقبة التاريخية التي كنت فيها؟

حقا انني احسّ من الاعماق ان الامام زين العابدين(عليه السلام) سوف يطرق برأسه، ويفتح عينيه; ليصوّب نظراته السديدة الى الواقع المعاصر. ثم يطبق عينيه، وترتعش الحروف على شفتيه متمتما:

لتركبنّ سنن من كان قبلكم.

ولعمري ان التاريخ يعيد نفسه.

بيد انه(عليه السلام) لا يكتفي باسداء النظرة التقييمية فحسب، بل يواصل الكلام، و يحدد المسؤولية قائلاً: اذا رايتم الرجل قد حسن سمته وهديه...

فاذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام. فرويدا لا يغرنّكم...

فذا وجدتم عقله متينا، فرويدا لا يغرنّكم...

ولكن الرجل.. كل الرجل.. نعم الرجل..

واخيراً لابد لنا من القول

ان تعاليم الامام زين العابدين(عليه السلام) سوف تظل ناهضة عبر العصور لا تؤثر فيها خناجر السنين.

المناظرات

مقدمة

هي في الاصل المجادلات التى تستند على ادلة منطقية يهدف فيها الطرفان الى اثبات صحة عقيدة او فلسفة او سياسة... او تفنيد ذلك غير ان ابتغاء الباطل في الناس كثير و ما اكثره، ولهذا يعتمد الكثيرون على ادلة ايهامية او سوفسطائية من اجل مساندة موقف او رأي مهما كان مرتكزه.

ولا بد للمناظر ـ في الاساس ـ من ان يمتلك وضوحاً في الرؤية، لئلا يتلكأ في المناظرة او يقع في المتناقضات.

وكان الفيلسوف النمساوي لودفيج يوهان فتجنشتين (1889 ـ 1951م) يعتقد أن كل ما يمكن التفكير فيه على الاطلاق يمكن التفكير فيه بوضوح، وكل ما يمكن ان يقال يمكن قوله بوضوح(272).

كما ان المناظر في حاجة الى قوة الارتجال، ونشاط عقلي فعّال، وقدرة متمكنة على اقتناص نقاط الضعف عند المقابل، وقد تكون المناظرات من اجل المناظرات، او في سبيل اثبات القدرة الجدلية، كالذي يستخدمه بعض عشّاق السفاسف. فكأنما يلهون بادوات الشطرنج، او كالذي يريد ان يهتف في وسط مفرّغ من الهواء.

وهكذا تضيع الحقائق، ويهدر رونق الواقع. وما اشبه هؤلاء بقوم عاطلين وفارغين في اليونان، كانوا يعبثون بالالفاظ، ويقلّبون المعاني على غير وجوهها، ويتّخذون المناظرات وسيلة للّهو العابث مما حدا بالفيلسوف الكبير ارسطو طاليس ان يضع موازين خاصّة للمناظرات، وقوانين لمعرفة صحة الكلام من فساده ـحسب رأيهـ في كتاب يعرف بالمنطق.

وعلى هذا الاساس لا يمكن ان نعتبر المناظرات او مطلق الكلام افضل من الصمت في جميع الاحوال، بل لكل من الصمت والكلام محاسن ومساوئ، والحكيم من استطاع دقة التمييز ما بينهما، وتجنب ما لا ينفع.

ولقد سئل الامام زين العابدين(عليه السلام): ايّهما افضل السكوت ام الكلام؟ فقال(عليه السلام): لكل واحد منهما آفات، فاذا سلما من الافات فالكلام افضل.

قيل فكيف ذلك يا بن رسول الله؟

فقال: ان الله سبحانه لم يبعث الانبياء والاوصياء بالسكوت، انما بعثهم بالكلام.. ولا استحقت الجنة بالسكوت.. ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت.. ولا توقيت النار بالسكوت.. ولا تجنب سخط الله بالسكوت. انما ذلك كله بالكلام. وما كنت لاعدل القمر بالشمس، وانّك تصف فضل السكوت على الكلام، ولست تصف فضل الكلام على السكوت.

وقال(عليه السلام) ايضاً على لسان حال الجوارح واللسان كما في رواية ابي حمزة الثمالي: ان لسان ابن آدم يشرف على جوارحه كل صباح فيقول: كيف اصبحتم؟ فيقولون: بخير ان تركتنا.. ثم يقولون: الله فينا، ويناشدونه ويقولون: انما نثاب ونعاقب بك.

اهل البيت والمناظرات

ولقد اتّخذ اهل البيت المناظرات إحدى الوسائل الوطيدة لارساء المبادئ ونصرة العقيدة.

وابدعوا في المناظرات كل الابداع.. واتوا بحجج هي صرخة الحق ونداء السماء وضوء البصيرة. ومن صور ابداعهم انهم يفاجئون المقابل بادلّة تربكه وتبهته اذ لا عهد له بها، ولم يحسب لها حساباً..

لم تزل جرأة القلب عاملاً من عوامل قدرة اهل البيت على المناظرات التي.. ليس لوقعتها كاذبة.

فالامام زين العابدين(عليه السلام) وهو في الاسر وبين يدي الطاغية الاثيم عبيد الله بن زياد، وبين يدي الجبار العنيد يزيد بن معاوية، يفحمهما في المناظرة، ويدلهما على ضآلة مكانهما الذي يرزح في الحضيض الاوهد.

فابن زياد قد نكّسه الامام على امّ رأسه في مناظرة مختصرة الاّ انها البسته تفصيلاً من الخزي والعار.. فابرق، وارعد، ثمّ هدد فاوعد، ثمّ انتفخت اوداجه، وتصلّبت شرايينه، وعرق جبينه فغصّ بريقه، وارتعشت يداه، فصاح صيحة ملؤها الويل والثبور: يا جلاّد اقتله. وهكذا حينما يعجز الطواغيت عن التصفية الفكرية يلتجئون الى التصفية الجسدية.. فاولى لهم فاولى. ثمّ اولى لهم فاولى. وقد تقدّم في المناظرة في هذا الكتاب كما تقدمت مناظرته مع يزيد بن معاوية.

شواهد من المناظرات

انّ لزين العابدين(عليه السلام)مناظرات كثيرة نذكر شيئاً يسيراً منها، ومن لم يغنه القليل لا يغنه الكثير.

أ ـ دخل الامام زين العابدين(عليه السلام) المسجد الحرام فرأى الحسن البصري وحوله جماعة من الناس وهو يعظهم، وكان يعرف منه انه يرى رأي المعتزلة في تخليد من يعمل ذنباً كبيراً في النار..

فقال له الامام زين العابدين(عليه السلام): امسك. اسألك عن الحال التي انت عليهامقيم، اترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله اذا نزل بك غدا؟

قال: لا

قال: افتحدّث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك الى الحال التي ترضاها؟

قال: (الراوي) فاطرق ملياً ثمّ قال: انّي اقول ذلك بلا حقيقة.

قال: افترجو نبيا بعد محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) يكون لك معه سابقة؟

قال: لا

قال: افترجو داراً غير التي انت فيها ترد اليها فتعمل فيها؟

قال: افرأيت احداً به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟

انّك على حال لا ترضاها ولا تحدّث نفسك بالانتقال الى حال ترضاها حقيقة ولا ترجو نبيا بعد محمد ولا دارا غير الدار التي انت فيها فتعمل فيها وانت تعظ الناس؟!

قال (الراوي): فلمّا ولّى(عليه السلام) قال الحسن البصري من هذا؟

قالوا: علي بن الحسين.

قال: اهل بيت علم. فما رؤي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس(273).

ب ـ كان الامام زين العابدين(عليه السلام) يصف حال من مسخهم الله قردة من بني اسرائيل ويحكي قصّتهم.. فلمّا بلغ آخرها قال: ان الله تعالى مسخ اولئك القوملاصطيادهم السمك، فكيف يكون ترى عند الله عزوجل حال من قتل اولاد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهتك حريمه. ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا، فان المعد لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف المسخ، فقيل له: يا بن رسول الله فانّا قد سمعنا منك هذا الحديث فقال لنا بعض النصّاب: فان كان قتل الحسين(عليه السلام)باطلاً فهو اعظم من صيد السمك في السبت، افما كان يغضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك؟ فقال علي بن الحسين(عليهم السلام): قل لهؤلاء النصّاب فان كان ابليس عليه اللعنة معاصيه اعظم من معاصي من كفر باغوائه، فاهلك الله من شاء منهم كقوم نوح وفرعون، فلم لم يهلك ابليس وهو اولى بالهلاك فما باله اهلك هؤلاء الذين قصّروا عن ابليس في عمل الموبقات، وامهل ابليس عليه اللعنة مع ايثاره تكشّف المخزيات. والاّ فان كان ربنا عزوجل حكيماً تدبيره حكمه فيمن اهلك وفيمن استبقى فكذلك هؤلاء الصيادون للسمك في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين(عليه السلام) يفعل بالفريقين ما يعلم انه اولى بالصواب والحكمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وقال الباقر(عليه السلام): فلمّا حدّث علي بن الحسين بهذا الحديث قال له من في مجلسه: يا ابن رسول الله كيف يعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الاخلاق على قبائح اتاها اسلافهم وهو يقول: (ولا تزر وازرة وزر اخرى).

فقال الامام زين العابدين (عليه السلام): ان القرآن الكريم نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه اهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي ـ قد اغار قومه على بلد وقتلوا من فيه ـ : أغِرْ على بلد كذا وكذا، ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خرّبنا بلد فلان، لا يريد انهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل، واولئك بالافتخار انه قومهم فعلوا كذا. وقول الله عزّو جلّ في هذه الايات انما هو توبيخ لاسلافهم على هؤلاء الموجودين، لان ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، والان هؤلاء الاخلاف أيضاً راضون بما فعل اسلافهم، مصوّبون لهم. فجاز ان يقال: انتم فعلتم. اي: اذا رضيتم قبيح فعلهم(274).

ج ـ قال ابو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه: ان رجلاً جاء الى على بن الحسين برجل يزعم انّه قاتل ابيه، فاعترف فاوجب عليه القصاص، وسأله ان يعفو عنه ليعظم الله ثوابه، فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال الامام علي بن الحسين(عليه السلام) للمدّعي الدم الذي هو الولي المستحق للقصاص: ان كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا فهب له هذه الجناية، واغفر له هذا الذنب، قال: يا بن رسول الله له علي حق ولكن لم يبلغ به ان اعفو عنه عن قتل والدي اريد القود، فان اراد لحقه عليّ ان اصالحه على الدية صالحته وعفوت عنه.

قال الامام علي بن الحسين(عليه السلام)فما هو حقه عليك؟

قال: يابن رسول الله لقّنني التوحيد، ونبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وامامة علي بن ابي طالب والائمة(عليهم السلام).

فقال الامام علي بن الحسين(عليه السلام) : فهذا لا يفي بدم ابيك؟ بلى والله هذا يفي بدماء اهل الارض كلهم سوى الانبياء والائمة ان قتلوا، فانه لا يفي بدمائهم شيء(275)...

وجيز الافكار

سياسة الالفاظ

ان الهيمنة على سياسة الالفاظ وجعلها اداة طيّعة.. لمن ادلّ الادلّة على القدرة البيانية المتفوقة، والبراعة السياسية.

البليغ البليغ من امتكلها، واحسن توجيهها. فاذا اراد المعنى الواضح، والتعبير السلس ـ لسبب يقتضي ذلك ـ امكنته سياسة اللفظ من ذلك. وإذا اراد الاسلوب الجزل، والتركيب الفخم ـ لسبب يقتضي ذلك ـ امكنته أيضاً ممّا اراد. واذا رغب في تفصيل المطالب، وبسط المقاصد، لم تعصه السياسة المذكورة.

وان ارتأى ايداع المعاني الكثيرة، والمفاهيم الوسيعة، في اوعية صغيرة من الكلمات.. اطاعته السياسة اللفظية كما كانت تطيع الامام زين العابدين(عليه السلام)، تنفيذاً لامره، وإذعاناً لارادته.

لقد كان الامام زين العابدين(عليه السلام) ذا باع طويل... في ايراد قصار الكلمات التي تحظى باهمية خاصّة من حيث الكمية او من حيث الكيفية، كما ان فيها من جودة الحكمة، ودقة الرأي، وواقعية التفكير ورهافة الحس.. ما لا يبلغ شأنها ارباب كثيرون، يشارُ اليهم بالبنان، ويقام لهم و لا يقعد.. كلما ذكرت البلاغة واستعرض الفكر، وتجلّت الواقعية.

وان فيها ما اصبح امثالاً سائرة، ومواعظ مشهورة، وان كان الجهل في نسبتها اليه واضح عند اكثرية من يتمثلون بها، او يذكرونها في كتبهم.

ولقد احتضنها عاشقو الادب، ورجال الفكر والقلم، كما تحتضن الربى الورود، او كما تحتضن الهالة القمر.

ومن معالم السياسة البيانية عند الامام زين العابدين(عليه السلام)انه يأتي بالكلام المجيد، ويحسن القول بما ليس على حسنه مزيد، سواء كان ذلك في الكلام الطويل، كعدد من رسائله وخطبه، وقسط وافر من ادعيته، او بالكلام القصير كجملة من ادعيته، ورسائله، وكذا كلماته القصار، وافكاره الوجيزة.

ان الاجادة الفائقة في طويل الكلام وفي قصيره، وفي مختلف الاغراض ليس بمقدور احد الاّ قليلاً من ائمة اصحاب البيان.

كلمات شمّاء(عليهم السلام)

ـ ايّاك ومعاداة الرجال; فانه لم يعدمك مكر حليم، او مفاجأة لئيم...(276)

ـ الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بملكه...(277)

ـ كفى بالمرء عيبا ان يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، او يؤذي جليسه بما لا يعنيه...(278)

ـ ايّاك ان تتكلم بما يسبق الى القلوب انكاره، وان كان عندك اعتذاره، ليس كل من تسمعه شرا، يمكنك ان توسعه عذرا.

ـ من لم يكن عقله من اكمل ما فيه، كان هلاكه من ايسر ما فيه.

ـ اهل الدنيا يتعقّبون الاموال، فمن لم يزاحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم، و من لم يزاحمهم ومكّنهم من بعضها، كان اعز واكرم...

ـ لا تحتقر اللؤلؤة النفيسة ان تجلبها من الكِبا (الكناسة) الخسيسة..

ـ وقال بحضرته رجل: اللّهم اغنني عن خلقك، فقال(عليه السلام): ليس هكذا، انما الناس بالناس ولكن قل: اللهم اغنني عن شرار خلقك..

قلت:

نظر الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي الى هذا المعنى فقال:

النّاسللناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وان لم يشعروا خدم

ـ كفى بنصر الله لك ان ترى عدوّك يعمل بمعاصي الله فيك.

ـ ابن آدم انك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعارا، والحذر لك دثارا...(279)

ـ لا حسب لقرشي ولا لعربي الاّ بتواضع(280).

ـ يا سوأتاه لمن غلبت احداته عشراته ـ يريد ان السيئة بواحدة، والحسنة بعشرة(281).

ـ مجالس الصالحين داعية الى الصلاح(282).

ـ الخير كله صيانة الانسان نفسه(283).

ـ من رمى الناس بما فيهم، رموه بما ليس فيه(284).

ـ من لم يعرف داءه افسده دواؤه(285).

ـ لا تمتنع من ترك القبيح، وان كنت قد عرفت به، ولا تزهد في مراجعة الجميل وان كنت قد شهرت بخلافه(286).

ـ الشرف في التواضع، والغنى في القناعة(287).

ـ خير مفاتيح الامور الصدق، وخير خواتيمها الوفاء(288).

ـ الدنيا سبات والاخرة يقظة ونحن بينهما اضغاث احلام(289).

ـ اخذ هذا المعنى الشاعر الكبير ابو حسن التهامي ـ علي بن محمد (ت416) فقال في رثاء ولده:

فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري

وللمؤلف:

العمر نوم ويوم الحشر يقظتنا (ونحن بينهما اضغاث احلام)

ـ عن الامام ابي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: لمّا حضرت علي بن الحسين(عليهما السلام)الوفاة ضمّني الى صدره ثم قال: يا بني اوصيك بما اوصاني به ابي حين حضرته الوفاة وبما ذكر ان اباه اوصاه به: يا بني اياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الاّ الله(290).

ـ التارك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره الا ان يتقي تقاة. قيل: وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً ان يفرط عليه او أن يطغى(291).

قلت:

لقد شدّد الامام زين العابدين(عليه السلام) النكير على تارك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ممثلا له بنابذ كتاب الله وراء ظهره، وهذا امر هائل.

والذي نعتقده ان هذا التمثيل المرعب.. الشديد، بسبب ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من المفاهيم القرآنية الثابتة، التي لا تقبل النقاش او التأويل، بل وردت صريحة ظاهرة في جملة من الايات المباركة مثل قوله تعالى:

(ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون)(292).

ومثل قوله تعالى:

(الذين ان مكنّاهم في الارض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور)(293).

اذن اصبح من الواضح ان التارك لامر صريح ظاهر في القرآن كالنابذ له ولقد قال تعالى: (افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)(294).

ان القرآن الكريم وحدة متكاملة متناسقة غير قابلة للتجزئة او التشرذم.

الحقيقة ان ترك العمل بأي مفهوم من المفاهيم القرآنية غير القابلة للتأويل هو بمثابة نبذ القرآن وراء الظهر، غير ان الامام زين العابدين اكّد ذلك في خصوص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار الاهمية الخاصّة للامر والنهي.

ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر طاقة روحية وادبية تحفظ جوهر الاسلام وتمنح التربية الاجتماعية الديمومة والاصالة.

بيد ان السؤال الذي يفرض نفسه: لم اوجب الامام زين العابدين(عليه السلام)الامر والنهي في جميع الحالات الاّ اذا ارتفع امر الى مستوى التقية فحينئذ يسقط الوجوب؟ فلماذا يسقط الوجوب؟

الذي اتصوّره: ان الامر والنهي اللذين يقصدهما الامام زين العابدين(عليه السلام)انما هما الامر والنهي في الشؤون الاعتيادية، او ما نستطيع تسميته بيوميات الامر والنهي. اما اذا بلغت الحال الى درجة الحفاظ على لباب العقيدة، وكيان الاسلام فلا تقية حينئذ. ويستمر الامر والنهي حتى وان غضب الف جبار. كما قال الامام الشهيد الحسين بن علي(عليهما السلام) انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، خرجت لامر بالمعروف، وانهى عن المنكر.

وكما واجه الامام زين العابدين(عليه السلام)بشدة وعنف يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وكما حضر وقعة كربلاء بل كما قاتل فيها وهو عليل حتى سقط جريحا كما في رواية.

وعن طريق الرؤية هذه نتمكن من الجمع بين كلام الامام زين العابدين(عليه السلام)حول الامر والنهي اللذين حددهما بعدم وصول الامر الى درجة التقية وبين كلام الامام الحسين(عليه السلام)وكذلك الجمع بين كلام الامام زين العابدين وبين سلوكه وسلوك ابيه(عليه السلام)وموقفهما من الجبابرة.

ـ وقال الامام زين العابدين(عليه السلام): ان عدوّي يأتيني بحاجة فابادر الى قضائها خوفا ان يسبقني احد اليها وان يستغني عني فتفوتني فضيلتها.

ـ لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم الا اوشك ان يقول فيه من الشر ما لا يعلم(295).

ـ وقال(عليه السلام): هلك من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده.

قلت: هذا ما تؤكده المختبرات السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، اذ في كثير من الحالات لا تستطيع الشخصية القويمة والمتزنة ان ترد على طيش اجتماعي، او سفه، او اعتداء من نوع خاص.. بينما باستطاعة السفيه الذي يعضدك ان يرد السفه بالسفه والاعتداء وان كان بما لا يليق.

ولقد كان الاحنف بن قيس مضرب المثل في الحلم والصفح ومع هذا فهو يمدنا من حقيبته التجريبية بالحكمة قائلاً: عليكم بالسفهاء فانهم يكفونكم العار والنار.

والمقصود من السفيه هنا الخفيف التصرف الذي يتسارع لرد الطيش والاعتداء كيلا بكيل، والذي لا يغض النظر عن هفوة عامدة.

ان الحكمة التي ادلى بها الامام زين العابدين(عليه السلام) لا تقتصر على الشؤون الفردية، بل ان الدولة تستخدم مثل هذا العضد الذي يفدي ولا يفدى، وفي بعض المنتسبين للقوى التنفيذية في الدولة ما يدل على ذلك.

ان كلام الامام زين العابدين(عليه السلام) لا يعني في حالة من الحالات تشجيعا للسفهاء، ولاحثا على السفه ولكنه(عليه السلام) لا ينظر الى الحياة السياسية والاجتماعية بمنظار الخيال المحلق بل بمنظار واقعي رزين... فان وجود السفهاء في المجتمع ظاهرة لا تخفى، كما ان الحاجة الى امثالهم في بعض الاحيان من الامور الواضحة التي لا ينبغي اطالة الجدال فيها.

وللفلاسفة والقادة والتأريخيين والشعراء كلمات رائعة تلتقي وسياق حكمة الامام زين العابدين(عليه السلام) في هذا المجال.

ولقد قال سعد بن كعب الغنوي:

ولا يلبث الجهال ان يتهضموا اخا الحلم ما لم يستعن بجهول

وقال نهشل بن حري التميمي(رحمه الله):

ومن يحلم وليس له سفيه يلاق المعضلات من الرجال

وينسب هذا البيت أيضاً للاحنف بن قيس.

وقال(عليه السلام):

ـ المؤمن نطقه ذكر، وصمته فكر ونظره اعتبار(296).

ـ الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته(297).

ـ لقد استرقك بالود من سبقك الى الشكر(298).

ـ وقيل له(عليه السلام): من اعظم الناس خطراً؟ قال:

من لم ير الدنيا خطراً لنفسه(299).

قلت:

هذا كلام عظيم صادر من رجل عظيم، وهو بعد عميق المحتوى.. بعيد الاثر.. سواء كان ينصب في المداليل الروحية او المداليل السياسية.

اما مدلوله الروحي فباعتبار ان الدنيا بزينتها.. وبهجتها.. والوان زخارفها (فيما اذا كانت بمعزل عن التوجيه الى الاخرة) ليست معادلة للكيان الروحي للانسان ولا ثمنا للنفس الانسانية. وان حاول الاستغناء بها عن الاخرة كل محاولة، وجاهد في سبيل الانتفاع بلذائذها، ومتعها البائدة..

يقول الامام(عليه السلام): انه ليس لانفسكم ثمن دون الجنة فلا تبيعوها الا به.

واما المدلول السياسي فالكلام يتضمن نقداً عنيفاً للقادة السياسيين الذين يجعلون من مناطق نفوذهم وصلاحياتهم السياسية دليل العظمة والشموخ.

وهكذا كلما تضاءلت همة الانسان استكثر مناطق النفوذ التي يديرها واستعظم حجم الدولة الخاضعة لحكمه.

كما ان في كلام الامام زين العابدين(عليه السلام)تقديراً واكباراً للقادة السياسيين من اولي الهمم الشماء الذين لا يعدون مكانتهم الدولية او مناطق نفوذهم بالامر، الذي هو فوق الخط البياني لمستوياتهم ومكانتهم النفسية او السياسية.

ولقد فطن احد قادة الامام علي(عليه السلام)لهذا السياق الدلالي فقال يخاطب الامام(عليه السلام): لقد زنت الخلافة وما زانتك وشرفتها وما شرفتك. وللمؤلف ـغفر الله لهـ ما يلتقي مع هذا المعنى:

ارأيتم الصقور لاتقطن اعشاش العصافير كذلك لا تتسع الدنيا لهمم العظماء.

(263) الدكتور مصطفى الشكعة / الادب في موكب الحضارة الاسلامية ج2 ص65.

(264) سورة النحل الاية 45 ـ 47 وتكملة الاية الاخيرة (فان ربكم لرؤوف رحيم).

(265) من تفسير الاية المباركة وليس من نصها.

(266) أيضاً من تفسير الاية المباركة.

(267) الانبياء الاية 12 ـ 14.

(268) الانبياء / الاية / 47.

(269) ورّام الاشتري ـ مجموعة ورّام 2 / ص 47 ـ 50، والديلمي ـ اعلام الدين / ص 323 ـ 325.

(270) البقرة / الاية 206.

(271) نسخة خطية من التفسير المنسوب للامام الحسن العسكري (عليه السلام).

(272) د . عزمي اسلام ـ لدفيج فنجنشتين / ص 372 ط دار المعارف بمصر.

(273) الديلمي ـ اعلام الدين / ص 328 ـ 329 وابن شهرآشوب / مناقب آل ابي طالب ج4 ص189.

(274) الامام الحسن العسكري(عليه السلام) / التفسير المنسوب اليه جمعته من نسختين خطيتين.

(275) المصدر السابق.

(276) علي بن عيسى الاربلي ـ كشف الغمة 2 / 106.

(277) المجلسي ـ البحار 17 / 106.

(278) الكليني ـ اصول الكافي ـ على هامش مرآت العقول 2 / 428.

(279) الشيخ المفيد ـ الامالي / ص 207، والديلمي ـ ارشاد القلوب / ص 25.

(280) الشيخ الصدوق ـ الخصال باب الواحد.

(281، 4، 5) تحف العقول، فصل: وروي عنه في قصار هذهِ المعاني.

(284، 7، 8، 9) اعلام الدين/ فصل من كلام علي بن الحسين.

(288) الديلمي ـ ارشاد القلوب / ص 25.

(289) وفي رواية ورام الاشتري ـ مجموعة ورام 2 / 24 الدنيا سنة. والسنة اشبه بالنوم الخفيف.

(290) الصدوق ـ الخصال باب الوصية بخصلة / ص 16.

(291) ابن سعد ـ الطبقات الكبرى ج 5 / ص 213 ـ 214.

(292) آل عمران / الاية 104.

(293) الحج / الاية 41.

(294) البقرة / الاية 85.

(295) ابن الصباغ المالكي ـ الفصول المهمة / ص 202.

(296) الحسن بن محمد الديلمي ـ ارشاد القلوب / ص 25.

(297) تاريخ دمشق ـ نسخة مصورة على النسخة الخطية في المكتبة الظاهرية بدمشق.

(298) المصدر السابق.

(299) تحف العقول ـ فصل: وروى عن الامام زين العابدين (عليه السلام)، في قصار هذه المعاني.

/ 15