سياسة التعامل الاجتماعي - نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع - نسخه متنی

محمود البغدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين (ع)/ 97-121 ( 1 )

سياسة التعامل الاجتماعي

الوان التعامل

1 ـ قيمة التعامل

يعتبر التعامل الكاشف الواقعي عن جوهر المسلمين ومدى تمسكهم بالاسلام. وهو الركيزة الاكثر تأثيراً في تعميق الاسلام بنفوس مختلف الجماهير، ونشره عقيدة وتشريعاً ومنهجاً تبشيرياً عالمياً.

ان التعامل يترك بصماته الواضحة على النفوس ان خيراً فخير وإن شراً فشر.

بالكلمة الطيبة وبالتعامل بالحسنى دانت بالاسلام مناطق واسعة من ارجاء المعمورة وعلى سبيل المثال اندونيسيا ودول البلقان.

انهم حينما رأوا الخلُق العاطر للتجار المسلمين، والمسامحة في التعامل، و المساهلة في البيع والشراء، والاخلاص في العمل، والابتعاد عن الغش والتطفيف في المكيال والميزان.. رغبوا في دين الاسلام واعتنقوه.

اما سوء التعامل وقبحه من قبل كثير من المسلمين فقد أثر التأثير السلبي على الاسلام فنتيجة لسياسة عدة عصور من التاريخ الاسلامي تلك السياسة الشنعاء الشوهاء التي انطوت على ألوان من التعامل المقيت بما لا يرتضيه القرآن الكريم والسنة المطهرة.. قد انسحب بعض الذين اسلموا الى عقائدهم الاولى غير الاسلامية.

كما ان حركة الاسلام في الكسب الى حظيرته عاشت نوعاً من الفتور او الجمود في ازمان مختلفة للسبب ذاته. كما ان بعض المسلمين قد انسحبوا من حظيرة الاسلام للسبب ذاته ايضاً ولقد سأل الحجاج شاباً ان يقرأ القرآن فقرأ: اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله افواجاً، فقال: ويحك يدخلون. وليس يخرجون فأجاب بأن ذلك الدخول في الاسلام كان في الزمن السابق اما في زمان الحجاج فيخرجون.

ان كل قيمة للتعامل بالحسنى ـ مع صدق الطويَّة ـ اضافة الى آثارها الايجابية سياسياً واجتماعياً في الحياة الدنيا فانها تعكس آثارها النافعة على المتعاملين في الدار الاخرة، بشكل عجيب. وحسبنا ان بعض المتعاملين بالحسنى يدخلون الجنة بغير حساب.

يقول الامام زين العابدين(عليه السلام) وهو ينشر سياسة التعامل بالحسنى ويحث عليها وهذه احدى اساليبه فيها: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم اهل الفضل، فيقوم ناس من الناس فيقال: انطلقوا الى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: الى اين؟ فيقولون: الى الجنة. قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: نعم قالوا: ومن انتم؟ قالوا: اهل الفضل. قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا اذا جُهل علينا حلمنا، واذا ظلمنا صبرنا، واذا اسيء الينا غفرنا، قالوا: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله في داره. فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا الى الجنة، فتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك. قالوا: وبِمَ جاورتم الله في داره؟ قالوا: كنا نتزاور في الله ونتجالس في الله، ونتباذل في الله، قالوا: ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين(78).

مصدر التعامل(عليهم السلام)

إنّ المعتقد الذي يؤمن به الفرد او المجتمع لهو أهمّ مصدر ينطلق منه التعامل.

لا نعني بالمعتقد المعتقد الديني فحسب، وانما نعني جميع المبادئ والاسس الايمانية. سواء كانت دينية أو سياسية او اجتماعية. صحيحة كانت أو خاطئة، حتى تلك الغارقة في الخطيئة والطغيان كذلك التعامل الذي يجري في ارجاء من الولايات المتحدة الامريكية; فنتيجة لاعتقاد الكثيرين من الجنس الابيض انه اسمى عرقاً وأنقى دماً واطهر نفساً من الزنوج السود ومن الهنود الحمر لذلك اضطهدوهم وضيقوا عليهم في المشاركة في مقادير من المرافق الحيوية والشؤون العامة للبلاد، دع عنك كلمات الاستهزاء التي تطلق مجاناً وبغير حساب.

وما يجري اليوم في اسرائيل في تعاملها السياسي والاجتماعي مع الفلسطينيين انما هو على أساس الشموخ النوعي، والاستعلاء العبري، الذي يشكل فيه اعتقادهم انهم شعب الله المختار حجر الزاوية في مجال التعامل السياسي والاجتماعي مع الفلسطينيين المضطهدين.

ان التعامل عند الامام زين العابدين(عليه السلام) منبثق من المعتقدات كذلك، بيد أنها المعتقدات الصحيحة الاصيلة التي لا تشوبها شائبة; اذ ان معرفته بالمعتقدات الاسلامية واصول التعامل السياسي والاجتماعي في الاسلام انما هي معرفة كاملة، واستيعابه لجوانبها استيعاب محيط، وهو بعد على بيّنة من ربه وبصيرة من عقيدته.

فاذا كانت بعض الرهوط الاجتماعية والقيادات السياسية تتعامل وفق الاساس الاعتقادي فقد يكون تعاملهم منبجساً من المعتقدات الزائغة أو الخاطئة. او مسايرة ومداهنة لمثل تلك المعتقدات حذراً من ضغط سياسي أو خشية من بعض القيود الشعبية، أما الامام زين العابدين(عليه السلام) في منطلقاته التعاملية فلم يكن يصدر إلاّ عن طريق الايمان بها، والاخلاص لها، والذوبان فيها.

إنه الرسالي العظيم الذي يتحرك في تعامله ضمن رسالته ومعتقداته مستمراً في خطته، دائباً في عمله البنّاء.

طبيعة التعامل:

لم يرد التعامل عند الامام زين العابدين(عليه السلام) في صيغة انجازية لمسؤوليته الفردية ـ وان كان هذا من خطها ـ وانما يذهب بعيداً الى حيث الهموم السياسية والاجتماعية الى حيث أن يرغب المجتمع ويوجه السياسيين في طريق التعامل بالتي هي اَحسن.

يقول(عليه السلام): ان اَسرع الخير ثواباً البِرّ، واَسرع الشر عقاباً البغي، وكفى بالمرء عيباً أن ينظر في عيوب غيره ويعمى عن عيوب نفسه، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه، أو ينهى الناس عما لا يستطيع تركه.

وقال(عليه السلام): افعل الخير الى كل من طلبه منك; فان كان له أهلاً فقد أصبت موضعه، وان لم يكن بأهل كنت أنت أهله.

أي أنه صلوات الله عليه لم يجعل تبادل المصالح الدافع الوحيد لعمل الخير، بل في نظريته ان عمل الخير لابد منه، فلئن لم يكن المقابل مستحقاً له فينبغي أن يكون فاعل الخير مستعداً لاسدائه، مؤهَّلاً لهبته.

ومن نثره الدر أو نطقه بالكلمات المضيئة في هذا الصدد هذه الدرة اليتيمة:

عليكم بأداء الامانة، فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لادّيته اليه.

إنَّ للامانة قيمة ذاتية وعلى الرسالي تأدية الحق فيها والوقوف منها وقوفاً التزامياً سواء كانت لاقرب الناس اليه سلوكاً ومعتقداً أم لابعدهم عنه; لان بُعد المؤتمن عقيدياً أو سلوكياً لا يغضَّ من القيمة الذاتية للامانة، وها هو الامام زين العابدين(عليه السلام) يضرب لاداء الامانة مثلاً هو سيف ابغض السيوف اليه، من أجل أن يؤكد على القيمة الكبيرة لها. وفي هذا الصدد أو قريب منه جاء الحديث ليؤكد: ائتمن من ائتمَنك ولا تخن من خانك.

اِنَّ الامانة في نظرية الامام زين العابدين لم تكن شاذة في مجمل التعامل والخط العام للسلوك الاجتماعي والسياسي، انها لا تشكل غير جزء واحد من الاطار الشامل للقيمة الذاتية لكل المحاسن الخلقية كالوفاء والانتصار للحق.

ما المثال المتقدم الا حلقة من سلسلة ذهبية لاقواله وأفعاله التي خلّفها للاجيال قدوة حسنة لمن اراد الاقتداء، واسوة مثلى لكل عشاق الرفعة، والسمّو، والخير، والجمال.

لقد كان والي المدينة يؤذيه كثيراً، وعندما أُقيل من منصبه، وأُقيم للناس ليأخذ كل من ظُلم حقه منه كان جُل هم الوالي وخوفه من زين العابدين لانه(عليه السلام)قد لقي منه ظلماً كثيراً. ولكنه(عليه السلام) قد تقدم لاتباعه ومريديه باَن لا يتعرّضوا إليه بمكروه. ومرّ(عليه السلام) بجانبه غير أنَّ شيئاً من خشونة التعامل لم يظهر منه، فبُهت الوالي من هذا التعامل الاسلامي البنّاء والسياسة الباهرة فنادى: الله اعلم حيث يجعل رسالته.

لا احسب ذلك النداء إلاّ نداء الضمير وحركة الوجدان هزّته اليها جاذبية المعاملة المعطار فاستفاق هاتفاً بالحقيقة الغراء.

مراتب التعامل:

اَدنى مراتب التعامل الاجتماعي مرتبة العُرف، وقد وصفتها باَدنى المراتب لان العرف الاجتماعي لا يكتسب درجة عالية من الديمومة. فان الجيل اللاحق قد يرفضه من الاساس، ويقلبه رأساً على عقب، وثانياً لان العرف الاجتماعي في كثير من الاحايين لا ينمو الا في ساحة بعض العقول البشرية والنفسيّات المختلفة ثم على تعاقب الليالي والايام يتّخذ العرف صيغاً متَّبعة عند مجتمع ما.

ان العقول البشرية مع اكبارنا لها ـ من عدة جوانب ـ عرضة للخطأ، والاشتباه. اريد ان اقول: العقل مارد جبار يقفز فوق كثبان من الرمال. وفي هذه القفزات كثيراً ما تغوص قدماه بالرمال، اما النفسيات فانها كثيراً ما تداعبها الاهواء والامزجة الدنيئة والامراض المختلفة، الظواهر منها والكوامن.

ومع هذه المؤاخذات على العرف فان منه ما يسمو بالمجتمع الى الغاية النبيلة والرتبة السامقة. وان من العرف ما يبني صرحه على اساس فطري سليم، وغريزة انسانية فاضلة.

واسمى من مرتبة العرف مرتبة التشريع الاسلامي، والتقنين الربّاني.

ان النعتين السلبيين اللذين تطرّقا الى العرف بعيدان عن التشريع، إذ اِنه منحة الرب عزوجل، ولم يكن من صنيع العقل البشري، وما يؤاخذ على النفس الانسانية لا يُذكر عند التعرض لتشريع الرّب تبارك وتعالى.

ان التعامل وفق التشريع الاسلامي يتكفل بسعادة المجتمع وخلاصه ضمن أطره، وليس في التعامل ضمن التشريع ما يزري بالانسانية ويحط من قدرها والعكس صحيح.

لقد تطرقنا لمرتبتين من التعامل ولابد من التطرّق للمرتبة الثالثة منه ألا وهي التعامل وفق الخلق الاسلامي.

قد يبدو هذا العنوان غريباً أول وهلة فان التشريع الاسلامي بما فيه من التعامل مستند على الركائز الاخلاقية في مناحيه كافة، فكيف يدرج عنوان للتعامل الخلقي الاسلامي مستقلاً عن التعامل الثاني (التشريع) ورابياً عليه، ومتربعاً فوقه؟

الجواب:

لا اشكال بسمو التعامل الثاني وخلقيته، ولكن التعامل ضمن دائرته فحسب يجعل المتعاملين مع تمسكهم بالتشريع يتقاربون في المستوى العملي لانهم يتعاملون وفق ارضية واحدة لا يرتفع بعضها على البعض الاخر الا قليلا، اما التعامل الخلقي فهو اولاً لا يعني غير الخلق الاسلامي وثانياً انه غير واجب على معتنقي الايمان الالتزام به فرضاً حتمياً. وفي الارتقاء لمرتبة الخلق ثم التصاعد فوق مدارجه يتميز الصالحون والصديقون والصفوة من المتقين ما بين درجات عليا من الايمان حتى الحد الادنى منه ما تصدق عليه العدالة.

ولمزيد من الايضاح نضرب لذلك مثالاً عن الامام زين العابدين(عليه السلام). كان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي زين العابدين(عليه السلام): مهلاً كفوا، ثم اقبل على ذلك الرجل فقال له: ما ستر عنك من امرناأكثر. ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى عليه زين العابدين خميصة كانت عليه وامر له بالف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: اشهد انك من اولاد الرسل.

اذا أراد الامام زين العابدين(عليه السلام) ان يأخذ حقه من هذا الرجل العادي عليه فان هذا مما لا شبهة فيه تشريعاً لان الاسلام لم يحرم على الفرد المسلم اخذ حقه ممن ظلمه، بيد ان الامام زين العابدين(عليه السلام) اتبع الخطوات التالية:

اولاً: نهيه اتباعه عن ا لتعرض بسوء للمعتدي.

ثانياً: لطفه وتواضعه في مقابلة الرجل بقوله: ما سُتر عنك من امرنا اكثر.

ثالثاً: عرضه على الرجل القيام باعانته على حاجته.

رابعاً: الهديتين اللتين قدمهما له.

ان شيئاً من هذه الخطوات لا تجب في التشريع الاسلامي، فلو اراد الامامزين العابدين(عليه السلام) او أي انسان آخر ان يتركها لم يكن عليه بأس، ولم يقترف خطيئة، غير أن اتباعها او بعضها شيء محبب، مُرغّب فيه، دعا اليه الخلق الاسلامي ونهض به اعاظم الصالحين و سادة المتقين، يقول تبارك وتعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(79). ويقول تعالى كذلك: (ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(80).

وجهة التعامل:

قبل التوغل في وجهة التعامل لابد لنا ان نعرف الاصناف التي نتعامل معها لان المجتمع لم يكن طبقة واحدة من حيث السلوك والتوجّه، ولو أنه كذلك اذن يصح الاتيان بصيغ من نمط واحد نطبقها على الطبقة الواحدة، بل يختلف اختلافاً بيّناً واختلافه على نحوين:

النحو الاول: اختلاف بين الانحراف وعدم الانحراف.

النحو الثاني: اختلاف في نفس ظروف الانحراف من حيث المسار.

يقول الامام زين العابدين(عليه السلام) في طبقات المجتمع وهو ينعت عصره إلاّ انه ليس ثمَّ فارق كبير بين طبقات عصره وطبقات العصر الراهن. يقول: الناس في زماننا على ست طبقات: اسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير وشاة.

فاما الاسد فملوك الدنيا يحب كل واحد ان يغلب فلا يغلب. واما الذئب فتجاركم، يذمّون اذا اشتروا، ويمدحون اذا باعوا. واما الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بالسنتهم. واما الكلب فيهرّ على الناس بلسانه، ويكرمه الناس من شر لسانه. واما الخنزير فهؤلاء المخنثون وأشباههم لايُدعون الى فاحشة إلا اجابوا. واما الشاة فهم المؤمنون الذين تُجز شعورهم، وتؤكل لحومهم، ويُكسر عظمهم، فكيف تضع الشاة بين اسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير؟(81).

ان التعامل مع هؤلاء يكون تارة باعتبارهم مسلمين واخرى بما لهم من حقوق وثالثة بكونهم بشراً لهم القابلية للانحراف.

فاما الخط العام للتعامل معهم بالاعتبار الاول أي أنهم مسلمون فهذا الذي يستعرض الامام زين العابدين(عليه السلام) جوانبه بكلماته:

فأما حق اهل ملتك فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم الى نفسه واليك فان احسانه الى نفسه احسانه اليك اذا كف عنك، وكفاك مؤونته وحبس عنك نفسه. فعُمَّهُم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصِل اخاك بما يجب للاخ على اخيه(82).

قد يرى الرائي ان هذا اللون من التعامل في الدستور الذي وضعه الامام زين العابدين(عليه السلام) مع طبقات المجتمع كافة بما فيهم الكلاب والذئاب لا يؤدي الا الى نتائج سلبية من حيث تجرئتهم على سوء العمل، وتشجيعهم على الخلق الدنيء، واضافة لهذا الاشكال قد يرى الرائي ان هذا اللون من التعامل ايضاً يتخذ من طيب القلب الركن الوحيد مستنداً له، وطيب القلب وحده لا يمكن التعامل على ركنه فحسب في مجتمع يضم شتى أنماط السلوك المهين.

اقول اننا اذا اخذنا حق اهل ا لملة عامة بالدستور الذي رسمه الامام زين العابدين(عليه السلام) مع قطعه عن دساتيره الاخرى للتعامل الاجتماعي فالامر يكون كما رآه الرائي. بيد ان ا لفرق كبير بين ان يكون الاسلوب التعاملي فكرة مستقلة مبتورة، وبين ان يكون الاعتماد عليه في ضمن اعتبار معين من اعتبارات شتى في التعامل. فهذا النمط التعاملي حق اهل ملتك عامة باعتبارهم مسلمين بقطع النظر عن اي شيء آخر، اما من حيث اعتبارهم بشراً فيهم القابلية الانحرافية فقد حدد الامام زين العابدين(عليه السلام) الدستور التعاملي معهم، ومن أمتن بنوده الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. اذ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر احكم درع يقي الامة من الانحراف وياخذ بايديها الى الصراط المستقيم إذا طُبق وفق شرائطه التي رسمها الاسلام. فمن كلامه(عليه السلام): التارك للامر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، الا ان يتقي تقاة، فقيل: وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه او ان يطغى(83).

وهذا الاعتبار الثاني يختلف كذلك عن الاعتبار الثالث، اقصد معاملتهم باعتبارهم مجتمعاً له حقوق، فأمر المجتمع بالمعروف ونهيه عن المنكر الذي يبلغ احياناً درجة القتل لا يعني ان تُسلَب حقوقه او تُهدر. ففي الوقت الذي يؤمر فيه المجتمع باشياء ويُنهى عن اشياء اخرى يُعطى له حق غير منقوص.

ان الحقوق المعطاة له تأخذ اشكالاً متباينة تختلف من فرد لاخر، ومن جهة لاخرى كما تختلف من ظرف لظرف آخر بالنسبة للفرد ذاته. وهذا الشكل الاخير يختلف اختلافاً نسبياً بين واهب الحق وبين آخذه.

ومثال ما اختلف نسبياً بين واهب الحق وآخذه ما جاء في كلام الامام زين العابدين(عليه السلام) من ذكر حق الكبير يقول(عليه السلام): واما حق الكبير فان حقه توقيرسنّه واجلال اسلامه اذا كان من اهل الفضل في الاسلام بتقديمه فيه وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه الى طريق ولا تؤمه في طريق ولا تستجهله وان جهل عليك تحملت واكرمته بحق اسلامه مع سنّه فانما حق السن بقدر الاسلام(84).

فالفرد في المجتمع يُعَدُّ كبيراً بالنسبة لبعض، فاذاً له حقوق الكبير على من هو اصغر منه، ويُعَد الكبير في اكثر الحالات صغيراً بالقياس لكبير آخر، بل في كل الحالات يعد الكبير صغيراً بالنسبة الى انسان آخر باستثناء شخص واحد في المجتمع كله وهو الذي يعتبر فيه الاكبر على الاطلاق.

الخصائص الذاتية للتعامل

في الطليعة منها ما يلي:

أ ـ التعامل على اساس تشريعي، وقد ألمحنا اليه.

ب ـ التعامل على اساس خلقي، وقد ألمحنا اليه.

جـ ـ العدالة في التعامل.

نقصد بالعدالة ان لا يُرجّح بعض المجتمع على بعض وفق موازين غير معتبرة كميزان الغنى، فيُعظَّم الغني لغناه، ويُحتقر الفقير لفقره، اذ ليس للغنى في الاسلام ميزة للتفاضل لنفسه، بل يُفضل الغني والفقير احدهما على الاخر بسبب شيء خارجي يكون معتبراً في التفضيل، فيفضل الغني على الفقير مثلاً اذا كان الفقير غير صابر و كان الغني متفضلاً مُنعماً، جواداً مكرماً.

ويكون الفقير افضل من صاحبه اذا كان الفقر لا يؤدي به الى اجتراح المآثم، واقتحام المنكرات، فهو يفضل على الغني الزائغ عن الحق، العادل عن سواء السبيل. اذن الغنى بنفسه لم يكن ميزاناً للتفاضل. ومن هذا القبيل التفاضل وفق ميزان الرتبة الاجتماعية في اكثر الاحيان، فإنه غير معتبر ايضاً. اللهم الا ان تكون الرتبة الاجتماعية بعينها دالة على الافضلية كأن تكون التقوى او العلم هي العلة في الرتبة تلك.

ان الموازين السديدة لتنقم على بعض الحضارات المتخلفة روحياً ونفسياً تعاملهم وفق اسس منبوذة، ففي السورة السابعة والاربعين من الزبور:

اتدري يا داود لِمَ مسختُ بني اسرائيل، فجعلت منهم القردة والخنازير؟

لانهم اذا جاء الغني العظيم ساهلوه، واذا جاء المسكين بادنى منه انتقموا منه. وجبت لعنتي على كل متسلط في الارض لا يُقيم الغني والفقير باحكام واحدة.

كم كانت تؤلم رسول الانسانية محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الموازين القائمة على تفاضل الناس من حيث الفقر والغنى والشرف الاجتماعي، ولقد أعلن صلوات الله عليه ثورته عليها، فكان مما صرح به لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يده.

لقد امتد نفوذ العدالة في التعامل الاجتماعي في نظرية الامام زين العابدين(عليه السلام)الى تلك الغاية البعيدة حتى شمل لوناً من اشد الفعاليات ضغطاً على النفس الانسانية وهي العدالة في اعطاء حقوق الخصم الذي يدّعي عليك جناية أو جريمة قد تؤدي الى بالغ الضرر على علم منك بذلك، يقول(عليه السلام):

واما حق الخصم المدّعي عليك، فان كان ما يدعي عليك حقاً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود، فان ذلك حق الله عليك وان كان ما يدّعيه باطلاً رفقتَ به وروّعته وناشدته بدينه وكسرت حدّته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يردّ عنك عادية عدوك بل تبوء باثمه وبه يشحذ عليك سيف عداوته، لان لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر(85).

(2)

المجتمع بين الواجبات والحقوق

شمولية قانون الواجبات والحقوق

ما من خلق على ظهر هذا الكوكب الا وله حقوق معينة. وهذا قانون عام يشمل البشرية كافة وحتى اولئك الذين يُحرمون ـ بحق وعدل ـ من بعض الحقوق لاسباب موضوعية يجب تأمين بقية الحقوق لهم.

فمن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين الحكم لهم او عليهم وفق مقاييس العدل; لان العدل مطلوب لذلك، ولا فرق بين ان يكون المحكوم له او عليه مسلماً او غير مسلم.

ومن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين حق عدم الافتراء; لان عدم الافتراء مطلوب لذاته فمن حق اي انسان الا يفترى عليه مسلماً كان او غير مسلم بل ظالما كان او ليس بظالم. فالكافر يوصف بأوصافه الحقيقية وليس من حق احد ان يتعداها. ولك ان تنعت الظالم او المجرم بشتى النعوت السلبية التي توشح بها عامداً والتي هي محض الصدق والواقع. بيد انه ليس من حق احد ان يقول عمن اغتصب حقوق ألف انسان اَنه اغتصب حقوق اَلفين من البشر مثلاً; لان مثل هذا الكلام من الكذب الصّراح والكذب قبح وشين. ومن لا يصدق في حقوق الاعداء، لا يصدق في حقوق الاولياء، إذ إن الكذب عادة كما يجري نهرها الاسن في ارض العدو يجري كذلك في أرض الصديق.

ومن حقوق الكافرين والمشركين فضلاً عن المسلمين حق الوفاء بالعهد، فانه يلزم الوفاء بشروط العهد ما بين الطرفين ما دام العدو ملتزماً بشروطها آخذاً بمقرراتها.

واذا كانت لكل انسان حقوق فان على كل انسان واجبات وهذا الامر اشبه بالقانون الفطري او الطبيعي الذي لا ينبغي الارتياب فيه، ولا يحتاج الى مزيد إيضاح وهو شامل حتى لاولئك الصفوة المختارة من الانبياء والصدّيقين، اِذ ان خصوصية انسان لنبوة او فضل او علم او غير ذلك لا تجعل منه انساناً تعطى له الحقوق على طبق من ذهب دون اَن يؤدي ما عليه من مختلف الواجبات والمهام الملقاة على عاتقه.

تقديم الواجبات على الحقوق

غالباً ما يهفو المجتمع الى الحقوق مطالباً بها في الوقت الذي ينسى او يتناسى الواجبات التي يتعين عليه القيام بها تجاه رسالته أو تجاه ابناء جنسه.

كلما كان المجتمع اوسع اِدراكاً وثقافةً، واكثر تطوراً كان المرجّى منه القيام بالواجبات بما لا يقل عن المطالبة بالحقوق.

كما ان للتربية الروحية والنفسية والسياسية الصائبة آثارها البعيدة في العمق الاستراتيجي للمجتمع في الموازنة بين الواجبات والحقوق. بل في تقديم اَداء الواجبات على التّلفت المشتاق الى الحقوق. اي تقديم العطاء على الاخذ و الاستلام وهذا من معاني الايثار الذي بينه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بقوله: (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة).

فماالكرم في مفهومه القويم الا التقديم السمح للواجبات على الحقوق.

إن أولى الناس بتقديم الواجبات على الحقوق، في كل زمان ومكان، هم قادة الامم، ولكن الواقع ـ عبر التاريخ ـ خلاف هذه الحقيقة في اكثر الاحايين.

القائد اَب وقدوة للمجتمع ولا خير في اَب لا يضحي في سبيل ابنائه ولا في قدوة تقودها الانانية والشهوات.

ولذا كان علي زين العابدين(عليه السلام) ـ باعتباره اِماما هادياً وقائداً رسالياً ـ متفانياً في سبيل الامة مقدِّماً مصلحتها العامة على مصلحته الخاصة. لقد كانت تحزن قلبه تلك المآسي الدامية التي تحلّ بالامة جماعات واَفراداً فكان يسعى جاهداً لتضميد الجراح النازفة في قلوب المستضعفين والمحرومين. وكم كانت تؤلمه تلك الحالات التي لا يَستطيع اِزاءها ان يكون جبراً للكسور، او بلسماً للجراح. ولقد روي أنه جاءه رجل عليه دين ثقيل ولما لم يستطع الامام رفع كابوس الفقر في تلك الساعة عن المسكين لم يكن منه الا ان ينفجر باكياً وحربة الالم تحزّ في قلبه اَن لا يستطيع انتشال ضعيف نكيب اَزرت به الدنيا الفجوع.

واذا كان تألمه وشجنه لفرد من الامة قد حل بساحته الخطب الجلل، فما هو مقدار تألمه(عليه السلام) وشجنه وتفكيره للبشرية جمعاء وهي تكتنفها النوائب الشداد؟

رسالة الحقوق

في عصر الطغيان والجبروت، وتفشّي الاوضاع المادية، واستعلاء الانحراف والفساد، اعني العصر الذي استهلكت فيه المقدسات كلها او كادت ان تستهلك وتأرجحت فيه القيم الانسانية حتى أوشكت على السقوط، وتعفّر جبين الموازين الصحيحة على ابواب السلطة الحاكمة حتى عظِّم الصغار اكباراً لعروشهم، وبُجِّل السَّقَطة خشوعاً لاَموالهم، وكبت حق الضعيف، واستُصغر الاَبي، واندكت حرمة الشرفاء والابرار.

في مثل هذا العصر لابد من تذكير الناس بأيام الله.

وحملهم على قصد السبيل المشرق.

وردِّهم الى منابع الشرف والكرامة.

فألف الامام زين العابدين(عليه السلام) دستوراً في السياسة.

ومنهجاً عاماً في الاخلاق الاجتماعية.

ومقاييس محكمة في القيم.

في بيان عذب، وتعبير سهل شفيف، مع ما في العرض من قوة، وما في الافق من اتساع.

في كتاب اطلق عليه: رسالة الحقوق.

تحتوي هذه الرسالة العظيمة على فنون من العلم، ودقائق من السياسة، ونفائس من المعارف.

في اسلوب جميل.

ووضوح كانه اعمدة من نور.

وفكر يكادسنا برقه يذهب بالابصار.

اِذا ما كان عصر الامام زين العابدين(عليه السلام) هو السبب المباشر في تأليف رسالة الحقوق فان مضامين الرسالة تبقى المنهاج السديد، والقانون السامي لكل الازمنة والاجيال; إذ انها تنطوي على افكار عامة، و مادة قانونية تبقى القاسم المشترك لتلبية حاجات مختلف العصور، ما بقيت العصور.

نصوص من رسالة الحقوق

ذكر الامام زين العابدين(عليه السلام) توطئة لاطروحته ثم عقّب بذكر الحقوق واحد بعد آخر وهي خمسون حقاً.

ومما جاء في التوطئة : اعلم رحمك الله ان لله عليك حقوقاً محيطة لك، في كل حركة تحركتها، او سكْنَة سكنتها، او منزلة نزلتها، او جارحة قلبتها، او آلة تصرّفت بها، بعضها اكبر من بعض. واكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو اصل الحقوق ومنه تفرع. الى ان يقول(عليه السلام) ختاماً للتوطئة: فطوبى لمن اعانه الله على قضاء ما اوجب عليه من حقوقه ووفقه وسدّده.

ومن هذه الحقوق التي بيّنها الامام زين العابدين(عليه السلام) ما سوف نذكره ولكن لا على سبيل التسلسل الوارد في الرسالة.

1 ـ فأما حق سائسك بالسلطان فان تعلم انك جعلت له فتنة وانه مبتلىً فيك بما جعله الله له عليك من السلطان وان تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لاعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله ولا تعازه ولا تعانده، فانك ان فعلت ذلك عققته وعققت نفسك فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك وكنت خليقاً أن تكون معينا له على نفسك وشريكاً له فيما اتى اليك ولا قوة الا بالله.

2 ـ واما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع اليه والاقبال عليه والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأن تفرغ له عقلك وتحضره فهمك وتذكي له قلبك وتجلي له بصرك بترك اللذات ونقص الشهوات وان تعلم انك فيما ألقى اليك رسوله إلى من لقيك من اهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه اليهم ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه اذا تقلدتها ولا حول ولا قوة الا بالله.

3 ـ واما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان الا ان هذا يملك ما لا يملكه ذاك تلزمك طاعته فيما دق وجل منك الا ان تخرجك من وجوب حق الله ويحول بينك و بين حقه وحقوق الخلق، فاذا قضيته رجعت الى حقه فتشاغلت به ولا قوة الا بالله.

4 ـ فاما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم انك انما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم فانه انما احلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما اولى من كفاكه ضعفه وذله حتى صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذاً، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ولا يستنصر فيما تعاظمه منك الا بالرحمة والحياطة والاناة وما اولاك اذا عرفت ما اعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها ان تكون لله شاكراً ومن شكر الله اعطاه فيما انعم عليه ولا قوة الا بالله.

5 ـ واما حق رعيتك بالعلم، فأن تعلم ان الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة، فان احسنت فيما ولاك الله من ذلك وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي اذا رأى ذا حاجة اخرج له من الاموال التي في يديه كنت راشداً وكنت لذلك آملاً معتقداً وإلا كنت له خائناً ولخلقه ظالماً ولسلبه وعزه متعرضاً.

6 ـ واما حق إمامك في صلاتك فان تعلم انه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله والوفادة الى ربك وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، و دعا لك ولم تدعُ له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك همّ المقام بين يدي الله والمسألة له فيك. ولم تكفه ذلك فان كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك، وان كان آثماً لم تكن شريكه فيه ولم يكن لك عليه فضل، فوقى نفسك بنفسه، ووقى صلاتك بصلاته فتشكر له على ذلك ولا قوة الا بالله.

7 ـ واما حق الجليس فأن تلين له كنفك، وتطيب له جانبك، وتنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت، وتقصد في اللفظ الى افهامه اذا لفظت، وان كنت الجليس اليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس اليك كان بالخيار. ولا تقوم الا بإذنه و لا قوة الا بالله.

8 ـ واما حق الجار فحفظه غائبا، وكرامته شاهداً، ونصرته، ومعونته في الحالين جميعاً، لا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوأة لتعرفها، فان عرفتها منه عن غير ارادة منك ولا تكلّف، كنت لما علمت حصناً حصيناً وستراً ستيراً لو بحثت الاسنة عنه ضميراً لم تتصل اليه لانطوائه عليه. لا تستمع عليه من حيث لا يعلم. لا تسلمه عند شديدة، ولا تحسده عند نعمة. تقبل عثرته وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك. ولا تخرج ان تكون سلماً له تردّ عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة ولا قوة الا بالله.

9 ـ واما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت اليه سبيلاً، وإلا فلا أقل من الانصاف، وان تكرمه كما يكرمك، وتحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك فيما بينك وبينه الى مكرمة، فإن سبقك كافأته ولا تقصر به عما يستحق من المودة، تلزم نفسك نصيحته و حياطته ومعاضدته على طاعة ربه ومعونته على نفسه فيما لا يهمّ به من معصية ربه، ثم تكون عليه رحمة، ولا تكون عليه عذاباً ولا قوة الا بالله.

10 ـ واما حق الخصم المدعي عليك فان كان ما يدّعي عليك حقاً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته، وكنت خصم نفسك له، و الحاكم عليها، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود، فان ذلك حق الله عليك، وإن كان ما يدّعيه باطلاً رفقت به، وروعته، وناشدته بدينه، وكسرت حدّته عنك بذكر الله، وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك، بل تبوء باثمه وبه ويشحذ عليك سيف عداوته; لان لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر ولا قوة الا بالله.

11 ـ واما حق الخصم المدعى عليه فان كان ما تدّعيه حقاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى، فان للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه. وقصدت قصد حجتك بالرفق، وامهل المهلة، وأبين البيان، والطف اللطف، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك، ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة الا بالله.

12 ـ واما حق المستشير فان حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة، وأشرت عليه بما تعلم انك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين، فان اللين يؤنس الوحشة، وان الغلظ يوحش موضع الاُنس. وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى به لنفسك دللته عليه، وارشدته اليه فكنت لم تأله خيراً، ولم تدخره نصحاً ولا قوة الا بالله.

13 ـ واما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما يوافقك عليه من رأيه اذا اشار عليك فانما هي الاراء وتصرف الناس فيها واختلافهم. فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فاما تهمته فلا تجوز لك اذا كان عندك ممن يستحق المشاورة، ولا تدع شكره على ما بدا لك من اشخاص رأيه وحُسن وجه مشورته، فاذا وافقك حمدت الله، وقبلت ذلك من اخيك بالشكر، والارصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع اليك ولا قوة الا بالله.

14 ـ واما حق أهل ملتك عامة فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الى نفسه واليك; فان احسانه الى نفسه احسانه اليك اذا كفّ عنك أذاه، وكفاك مؤونته، فحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلتهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ فان اتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل اخاك بما يجب للاخ على اخيه.

15 ـ واما حق اهل الذمة فالحكم فيهم ان تقبل منهم ما قبِل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده. وتكلهم اليه فيما طلبوا من انفسهم، واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده، وعهد رسوله حائل; فانه بلغنا انه قال: من ظلم معاهداً كنت خصمه فاتق الله ولا قوة الا بالله(86).

مفردات حقوقية:

مضافة اِلى الرسالة الخالدة ـ رسالة الحقوق ـ وردت مفردات حقوقية كثيرة عن الامام زين العابدين(عليه السلام) في اكثر من حديث من احاديثه. ومنها هذا الحديث الذي سنذكره للتدليل على الاهمية الخاصة التي يوليها الامام زين العابدين لمسألة الحقوق والواجبات كما اَنها دعوة روحية وانسانية للقيام بواجبات المستضعفين والمنكوبين واَداء حقوقهم. كما هي في نفس الوقت اَداءٌ لحقوق سواهم من كل من له حق.

عن ابي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين(عليهما السلام) قال: من قضى لاخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مئة حاجة في احداهن الجنة. ومن نفس عن اخيه كربة، نفّس الله عنه كُربه يوم القيامة بالغاً ما بلغت. ومن اعانه على ظالم له اعانه الله على اجازة الصراط عند دحض الاقدام. ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسُرّ بقضائها فكان كادخال السرور على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن اطعمه من جوع اطعمه الله من ثمار الجنة.

ومن كساه من عُري كساه الله من استبرق وحرير.

ومن كساه من غير عُرْي لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسيّ من الثوب سلك.

ومن كفاه بما هو يُمهنُه ويكفُّ وجهه، ويصل به يديه اخدمه الله الولدان المخلدين.

ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة الى الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة.

ومن كفَّنه عند موته فكأنما كساه من يوم ولدته أُمّه الى يوم يموت.

ومن زوَّجه زَوجةً يأنس بها، ويسكن اليها آنسه الله في قبره بصورة احب اهله اليه.

ومن عاده عند مرضه حفَّته الملائكة تدعو له حتى ينصرف وتقول: طبت وطابت لك الجنة.

والله لقضاء حاجته احب الى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام(87).

لقد اومأ الامام زين العابدين(عليه السلام) بصورة مختصرة في المأثور عنه الى طائفة من الحقوق، فحق المكروب تنفيس كربته، وحق المظلوم اعانته على ا لظالم، وحق ذي الحاجة السعي في قضائها. وهكذا تكون المواقف من اصحاب الحقوق الاخرين الذين تم التنصيص على اَداء حقوقهم.

نظرة تقييمية:

ما اقوم العدالة في وضع هذه الحقوق، وما أَنبل الانسانية في مضامينها.. ان هذا لهو الحق المبين.

وما سنَّته حكومات وضعية وسائرون على خطّهم ـ من مصنَّفات حقوقية ـ اِنْ هي الاّ (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب)(88).

ولطالما تكون الحقوق التي تسنها الحكوماتُ لشعوبها مصدر الظلم والطغيان والسبب الاقوى في مصادرة الحقوق، اَو اخذها غير مستوفاة.

ان من المآسي الكبرى في التأريخ الانساني ان يسنّ اعداء الشعوب قوانين لها، ويشرع ارباب الظلم والدكتاتورية مبادئ للعدل والحرية والسلام. حتى كأن قوانينهم مبتناة على النقص والعدول عن العدالة (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اَليم)(89).

فمتى تستيقظ الشعوب من رقادها الطويل، وسباتها العميق، فتستلهم الدين الاسلامي الحنيف روحاً ونصاً، وتنفذ قوانين الله السميع العليم. لتنعم في اكناف حكومة العدل الالهي، وتسعد في رياض الحرية والسلام العالمي والاخاء الانساني (هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً)(90).

(78) احمد بن ابي يعقوب، تاريخ اليعقوبي 2 / 303 ـ 304 والاربلي، كشف الغمة 2 / 103.

(79) آل عمران / آية 124.

(80) فُصلت / آية 34.

(81) الخصال للشيخ محمد بن علي الصدوق / ابواب الستة، الحديث الاخير منها.

(82) من رسالة الحقوق.

(83) محمد بن سعد ـ الطبقات الكبرى ج 5 / ص 213 ـ 214.

(84) الحق 42 من رسالة الحقوق.

(85) رسالة الحقوق.

(86) ابن شعبة الحراني، القرن الرابع الهجري، تحف العقول.

وذكر رسالة الحقوق مع شيء من الاختصار الشيخ الصدوق (ت 381) الخصال ابواب الخمسين، الحديث 1.

(87) الشيخ الصدوق. ثواب الاعمال / ص80 طبعة حجرية.

(88) النور / آية 39.

(89) الزخرف / آية 65.

(90) الفتح / آية 28.

/ 15