من فلسفة السماحة في الاسلام: - نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نظریة السیاسیة للامام زین العابدین ع - نسخه متنی

محمود البغدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين (ع)/ 170-191

من فلسفة السماحة في الاسلام:


وباعتبار أن الدين الاسلامي يوجه الطاقات كافة نحو العلة الاولى، والغاية الكبرى لذلك اراد أن يكون الكرم كرماً في سبيله تعالى خالصاً لوجه ذي الجلال والاكرام. يقول تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له)(141)، ويقول تعالى: (مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء)(142).


ويندد الدين الاسلامي بالسماحة التي تكون في سبيل اغراض دنيئة ويذم العطاء من أجل الرياء والشهرة. يقول تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين)(143)، صفوان: حجر املس، واحدته صفوانة.


ولما كان الاسلام ينظر الى الثروات على اَنها طاقة عالية فاعلة في الحياة حرص على ان يصب هذه الطاقة في مسار نظيف، ومرتع خصب، للخير، والفضل، والرحمة، والكرامة، والسناء والشمم.


فمن موارد توزيع المالية في نظام الاسلام بشرط ابتغاء رضوان الله ما قاله الامام علي(عليه السلام) كما في نهج البلاغة: فمن آتاه الله ما لا فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الاسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب; فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الاخرة ان شاء الله.


ومن واجبات النظام السياسي في الاسلام تربية المجتمع تربية حرة كريمة معطاء، ولهذا اعتبر السخاء ما كان ابتداءً،اما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم(144). على حد تعبير الامام علي(عليه السلام).


ذلك لتخلص النية في الكرم والعطاء ابتداءً من اي باعث من البواعث غير النزيهة، ولكي يبادر الكريم بالعطاء دون تردد، ومن اجل ان يبقى المحتاج محتفظاً بماء وجهه.


جود النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت:


ولقد بلغ النبي واهل بيته في الجود والسماحة شأواً بعيداً، وكطبيعتهم في المسارعة الى كل الفضائل ادركوا قصب السبق في السماحة والكرم.


فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اعطى سفانة بنت حاتم من الانعام ماوصف بانه يسد ما بين جبلين.


واشتهر بين مفسري القرآن الكريم اَن هذه الاية نزلت في علي(عليه السلام): (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصَلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(145).


وبعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم اشاد القرآن العزيز: (ويطعمون الطعام على حبه(146) مسكينا ويتيماً واسيراً * انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً)(147).


جود زين العابدين(عليه السلام):


وكان الامام زين العابدين(عليه السلام) يشتري المماليك، فيبرحون عنده قليلا ثم يعتقهم.


وفي المجالس السنية عن الباقر(عليه السلام) انه كان يخرج في الليلة الظلماء يحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام والحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرع ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه اذا ناول فقيراً لئلا يعرفه. فلما توفي(عليه السلام) فقدوا ذلك فعلموا انه كان علي بن الحسين.


وفي خبر انه كان اذا جنّه الليل وهدأت العيون قام الى منزله فجمع ما يبقى فيه من قوت اهله وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج الى دور الفقراء وهو متلثم ويفرّق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على ابوابهم ينتظرونه، فاذا رأوه تباشروا به وقالوا: جاء صاحب الجراب.


وقال الزهري: لما مات زين العابدين(عليه السلام) فغسلوه وجد على ظهره محل فبلغني انه كان يستقي لضعفاء جيرانه بالليل... وكان يعجبه ان يحضر طعامه التيامى والاضرّاء والزمنى(148) والمساكين الذين لا حيلة لهم. وكان يناولهم بيده ومن كان له عيال حمل الى عياله من طعامه ... وكان اذا اتاه سائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي الى الاخرة(149).


وعمله الاخير هذا مستند الى قول الامام عليّ(عليه السلام): واذا وجدت من اهل الفاقة من يحملُ لك زادك الى يوم القيامة. فيوافيك به غداً حيث تحتاج اليه فاغتنمه وحمّله اياه، واكثر من تزويده وانت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده.


عود الى فلسفة السماحة:


وفي صنع علي بن الحسين(عليه السلام) وفي وصية الامام علي ما يؤكد مرة اخرى نظرة الاسلام في ان الجود لابد ان يكون جوداً نزيها خالصا، ولعمري.


أنّ في مفاهيم الاسلام ان درهما ينفق في سبيل الله خير من جنات وعيون وزروع واموال تنفق رئاء الناس، ولقد اُنزلت آية في كتاب الله العزيز بحق جود الامام علي(عليه السلام) (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية)(150) وما هي الا اربع دراهم انفقها على الترتيب الذي ذكره الكتاب الكريم. غير ان القليل في سبيل الله تعالى كثير وافر.


حسبنا من نزاهة الكرم والسماحة في الاسلام ان في مفاهيمه: صدقة الليل تطفئ غضب الرّب.


وكانت بيوتات في المدينة المنورة يؤتى لهم ليلاً وفي وضع سري بالارزاق ولا يعرفون من يأتيهم بها حتى توفي زين العابدين(عليه السلام).


ومن الوجهة السياسية في الاسلام أن مجرد اتصاف انسان بالبخل لينفي عنه الصفة القيادية، وان توفرت فيه الخصائص الاخرى. ومن ادلتنا على ذلك الايات القرآنية المباركة التي تذم البخل وتندد بالبخلاء، كقوله تعالى: (ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه...)(151)، وكقوله تعالى: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة)(152).


ولان البخيل يسيء الظن بالله، إذ لولا ذلك لم يبخل. ولا يُعقل ان يكون الحاكم باسم الله مسيئاً الظن بالله.


وقال الامام علي(عليه السلام): عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي اياه طلب; فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الاخرة حساب الاغنياء.


وفي روايـة معتبرة السند عن ابي جعفر الاول محمد الباقر(عليه السلام) رواها عنه ابو بصير: قلت لابي جعفر الباقر: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتعوذ من البخل؟ فقال: نعم يا أبا محمد في كل صباح ومساء ونحن نتعوذ بالله من البخل. ان الله يقول: (ومن يوق شحَّ نفسه فاولئك هم المفلحون)(153).


ولقد أقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الجد بن قيس زعيم بني سلمة من منصبه بسبب بخله، وقال في ذلك: اي داء ادوى من البخل؟! وذلك لمّا قيل له: اَن لا عيب في الجد بن قيس سوى البخل.


مع ان الجد بن قيس لم يكن قائداً الا لشريحة اجتماعية قليلة العدد. اذاً كيف يكون الحال لو كان مرشحاً لقيادة دولة اسلامية. لا ريب إذن يكون التاكيد على اقصائه من المنصب الالهي المقدس يأتي بصورة اقوى واجلى.


4 ـ الفصاحة:


يقع الكلام هنا على ثلاثة محاور.


المحور الاول حول مفهوم الفصاحة.


المحور الثاني فصاحة اهل البيت عموماً و الامام علي زين العابدين خصوصاً مع مثال طويل من فصاحته.


المحور الثالث ما بين السياسة والفصاحة.


تفصيل البحث:


مفهوم الفصاحة إذا قيل فصح اللبن فصحاً وفصاحة فمعنى ذلك أنه اصبح خالصا نقياً مما يشوبه. ومن هذا المنطلق يكون معنى الفصاحة اجادة الكلام وجماله وخلوه من كل ما يشوب من العجمة وضعف العبارة وقصور التأليف.


واذا قلنا: فصاحة المتكلم يضاف الى الامور السابقة قدرته على النطق والاداء بشكل صحيح من دون وجود حاجز يمنعه كالفأفأة والتأتأة وغيرهما.


اذن الفصاحة هي القوة في تبيين الرأي بلفظ عربي اصيل، وايقاع جميل. كما اَن اشراق الفكرة، ووضوح الرؤية، والخلفية العلمية، من مرتكزات الفصاحة.بيد اَنه ليس كل عالم يعد فصيحاً، طلق اللسان. فاذا كان ذا علم غزير، وفكر ثاقب، غير انه لا يستطيع الكشف عن فكره والابانة عن علمه فلا ينبغي ان يُذكر في الفصحاء. ولو قلنا بفصاحته نظراً لبعض الجهات فلا يمكن نعته بالافصح، ولذا نرى موسى(عليه السلام) مع ماله من العلم النبوي والفكر الرسالي يقول ـ نظراً لعقدة في لسانهـ(عليه السلام)(واخي هارون هو افصح مني لسانا)(154).


ان السرعة في توارد الافكار وتبيين المطالب من غير تردد تعد من اجود البيان، ومن الفصاحة بمكان. اراد ثابت قطنة الخطبة في البصرة في يوم الجمعة فحصر واعياه الكلام، ونزل عن المنبر وهو يقول:


فان لم اكن فيكم خطيباً فانني بسيفي على ظهر الجواد خطيبُ


فقال الناس: لو تكلم بهذا وهو على المنبر لكان من اخطب الخطباء.


وفعلا لم يكن ثابت من اخطب الخطباء لان الفصاحة قد تخلفت عنه في الوقت المناسب.


ان السرعة في توارد الافكار فيما اذا اراد المتكلم الارتجال امام الملا اما اذا اراد الكتابة فلا دليل على فصاحة كلامه من حيث السرعة في انهمار الافكار.


فصاحة اهل البيت عموماً وزين العابدين(عليه السلام) خصوصاً:


والمصطفى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته الكرام من افصح العرب واجلاهم بيانا. يقول(صلى الله عليه وآله وسلم): أنا افصح من نطق بالضاد بيد اني من قريش.


ويقول الامام علي(عليه السلام) كما في نهج البلاغة: وانّا لاَمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه.


ولو لم تكن لعلي من الاثار الاّ خطبة الاشباح التي ارتجلها، والاّ عهده لمالك الاشتر لكان المثالان دليلين على أنه من اهل بيت هم أمراء الكلام حقاً. وخطبة الاشباح هي التي ارتجلها حينما قيل له صف لنا ربك. وهي التي اولها: الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود(155). وهي طويلة وكأفصح ما يكون الكلام وكأنه اعدها منذ اعوام.


وذكر الامام علي(عليه السلام) مقارنة بين بني هاشم وبين بني عبد شمس كانت الفصاحة فيها الى جانب بني هاشم. وهذه الميزة للهاشميين عامة فضلاً عن اهل البيت(عليهم السلام)خاصة الذين هم افصح الهاشميين كما تدل على ذلك الاثار التاريخية والادبية.


وهذا الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) شدَّ جيلاً من الناس الى دينهم ووثق صلة الارض بالسماء، واحكم الارتباط بالخلق الرفيع عن طريق بلاغته الساحرة، وفصاحته السامية، التي تتعلق بها القلوب، وتنشد لها الطباع، وتعشقها الارواح، وترتشفها الاذواق السليمة; لما بها من رونق واصالة، ووضوح وسلاسة، وصدق وعمق وانسجام.. وان ذلك لواضح اين ما تصفحنا صحيفته السجادية ورسائله وما صحَّ من تراثه البارع الجميل.


والحقيقة ان الادلة على ذلك كثيرة غنية، فاين ما تتبعنا نتاجاته الادبية، وتراثه المجيد تكشفت لنا ملكات عجيبة، وازددنا ايماناً بقدرة هذا الامام على الفصاحة والبلاغة قدرة تنساب كشعاع الشمس في كل حدب وصوب. تصبغ الحياة بصبغتها وتألقها، وتمنح القوة والجمال، لتبني الانسان بناءً اسلامياً وحضارياً خالصاً.


ولقد كتبنا بحثاً طويلاً فيما يتعلق بأدب الامام زين العابدين(عليه السلام)، وكان من المقرر منهجياً أن يكون ضمن الكتاب الكبير عن الامام زين العابدين(عليه السلام)، ثم رأينا ان يستقل بنفسه في كتاب آملين اَن يساهم بقدر ما في اعطاء الامة لوناً حضارياً زاهياً، من الوان حضارة آبائها الكرام، وفيضاً ثرّاً من تراثها الخالد.


واليك الان مثالاً مهمّاً للتدليل على فصاحة الامام زين العابدين(عليه السلام)، تلك الفصاحة النادرة، وللتفصيل محل آخر.


في دفع كيد الاعداء ورد بأسهم:


الهي هديتَني فلهوتُ، ووعظتَ فقسوتُ، وابليتَ الجميل فعصيتُ ثم عرفتُ ما اصدرتَ اذ عرّفتنيه، فاستغفرتُ فاقلتَ فعدتُ فسترتَ، فلك الحمد. الهي تقحمتُ اودية الهلاك، وحللت شعابَ تلف تعرّضتُ فيها لسطواتِكَ وبحلولها عقوباتكَ، ووسيلتي اليكَ التوحيدُ، وذريعتي اَنّي لم اشرك بك شيئا، ولم اتخذ معك اِلها، وقد فررتُ اليكَ بنفسي، واليك مفرُّ المسيء. ومفزَعُ المضيّع لِحظِّ نفسه الملتجئ.


فكم من عدوّ انتضى عَليَّ سيف عداوتِهِ، وشحذَ لي ظُبَةَ مُديَتِهِ وارهق لي شبا حده، وداف لي قواتل سُمُومِهِ، وسدّدَ نحوي صوائِبَ سهامه، ولم تَنَمُ عني عين حراسته، واَضْمَرَ اَن يسومَني المكروهَ، ويجرعني زُعاقَ مرارته، فَنَظَرتَ يا الهي الى ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن الانتصار مِمّن قصدني بمحاربته، ووحدتي في كثير عدد مَنْ ناواني وارصد لي بالبلاء فيما لم اُعْمِل فيهِ فكري، فابتَدَأتَني بنَصْركَ وشددت ازري بقوتك ثم فللتَ لي حده، وصيرته من بعدِ جمع عديد وحدَهُ، واعليتَ كَعْبي عليه، وجعلت ما سدّده مردوداً عليه، فرددتَهُ لم يشفِ غَيظَهُ، ولم يسكن غليله، قد عضَّ على شواهُ، وادْبَرَ مُوَلّيا قد اَخلَفَتْ سراياه.


وكم من باغ بغاني بمكائِدِهِ، ونَصبَ لي شَرَكَ مصائدِهِ، ووكَّل بي تفقُّدَ رعايتِهِ، وأضبَأَ اِليَّ اِضباءَ السبع لطريدته، انتظاراً لانتهاز الفرصة لفريسته، وهو يظهر لي بشاشة الملق، وينظرني على شدّة الحنق.


فلما راَيتَ يا الهي تباركت وتعاليت دَغَلَ سريرتِهِ، وقبح ما انطوى عليه، اركستَهُ لامِّ رأسِهِ في زُبيَتهِ ورددتَهُ في مهوى حفرته من بعد استطالتهِ ذليلاً في رِبقِ حبالتِهِ التي كان يقدِّرُ اَن يراني فيها، وقد كاد اَن يَحُلَّ بي لَولا رحمتك ما حلَّ بساحتِهِ.


وكم مِن حاسد قد شرق بي بغصّتِهِ وشجي مِنّي بِغَيظِهِ وسلقني بحدِّ لسانِهِ، وَوَحَرَني بِقَرْفِ عيوبه، وَجَعَلَ عِرضي غرضاً لمراميه، وقلّدني خلالاً لم تزل فيه، ووحرني بكيده، وقصدني بمكيدته، فناديتك يا الهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة اجابتك، عالماً اَنّه لا يُضطهد مَن أوى الى ظلِّ كنفكَ، ولا يفزع من لجأَ الى معقل انتصارك، فحصّنتني من بأسِهِ بقدرتِكَ.


وكم من سحائِب مكروه جلَّيْتها عني، وسحائِب نعم امطرتها عَليَّ وجداول رحمة نشرتها، وعافية البستَها، واعيُنِ احداث طمستَها وغواشي كربات كشفتَها.


وكم مِن ظنّ حسن حقَّقْتَ، وعدم جَبَرتَ، وصرعة انعشتَ، ومسكنة حَوَّلتَ، كلُّ ذلك اِنعاماً وتطوُّلاً منك، وفي جميعهِ انهماكاً مني على معاصيك لم تمنعك اساءتي عن اتمام احسانك، ولا حجرني ذلك عن ارتكاب مساخطك، لا تُسال عمّا تفعل، ولقد سُئِلتَ فاعطيتَ، ولم تُسأل فابتدأت، واستميح فضلكَ فما اكديت. ابيتَ يا مولاي الا احساناً وامتناناً وتطوُّلا وانعاماً، وابيتُ الا تقحُّماً لحرماتك، وتعدياً لحدودك، وغفلة عن وعيدك.


فلك الحمد الهي مِن مقتدر لا يُغلب، وذي أناة لا تَعْجَلُ، هذا مقامُ من اعترفَ بسبوغِ النعم، وقابلها بالتقصير، وشَهِدَ على نفسِهِ بالتَّضْييع.


ما بين السياسة والفصاحة:


لابد لنا ـ إتماماً للبحث ـ من أن نلمَّ بالارتباط الوثيق بين الفصاحة والسياسة، فنقول: يختلف المفهوم القيادي في الاسلام عنه في اكثر الدول الراهنة في العالم، إذ انها تفصل بين العقيدة الروحية للشعوب و بين المعتقدات السياسية للدولة; فالقيادة فيها معبرة عن كثير من مفاهيمها السياسية المقررة قبلاً، وكثير من مفاهيمها المرتجلة.


ولما كان غير جائز نهائياً فصل السياسة عن الاسلام، إذ ان السياسة من بعض شؤونه، وقسط من أنظمته الشاملة لكيان الحياة اِذن كان على الامام في الدين، أو على القائد الاسلامي أن يكون داعية للحياة الروحية، مطبقاً لها، وداعية للسياسة الاسلامية مطبقّاً لها، ولا يجدر اصطناع هوّة ما بين الحياة الروحية والحياة السياسية في نظام القرآن، وفلسفة الاسلام.


اذن فالتوجيه والنصيحة واجبان على قائد الدولة، فهو موجِّه نحو القضايا الروحية وواعياً لها، وموجّه نحو المفاهيم السياسية وناصحاً في ذلك.


ومن هذا المنطلق تكون للقيادة الاسلامية، بل وكل القيادات السياسية التي تستند الى عقيدة روحية أحوج الى الاساليب المؤثرة من غيرها; لاتساع الاُطُر القيادية لعملها وتحركها، بما في ذلك اسلوب الفصاحة النادرة والبيان العذب، لان لهما قوة جذب، وتأثيراً سحرياً على الاخرين.


نعم نحن أحوج إلى إمام عادل منا الى إمام خطيب، أو قائد فصيح، كما أشار الى ذلك الخليفة الثالث عثمان بن عفان، غير أن الفصاحة تقوم بالدور الاسنادي للعدل، وبوظيفة الدفاع عن المكاسب الخيِّرة، ومكافحة الباطل، والدعوة لسُبُل الخير والنمو والكمال. ولو لا ذلك لما احتاج الخيلفة الى تقديم الاعتذار.


اننا في الوقت الذي نؤكد فيه على اهمية تزود القيادة السياسية في الاسلام من متاع الفصاحة والبيان لنأخذ بنظر الاعتبار بالتفاوت الزمني بين اُمة واخرى، وعصر وآخر. وكذا التفاوت العقلي والذوقي وفلسفة الحياة.


فنحن مثلا نحتاج في المقطع الزمني الراهن لما نسمّيه الفصاحة التربوية، والفصاحة السياسية، كما كان في عصور سالفة حاجة لفصاحة تحقق الانسجام والتناغم مع اللغة والحياة والحقول الفكرية والذوقية والنفسية آنذاك.


اي لابد أن تكون لكل جيل وعصر فصاحة وبيان يتناسبان والحاجات الفعلية والسلوك العام.


لم تزل الفصاحة ميزاناً من موازين التفاضل بين القياديين عند العرب وغيرهم. ولقد حاول فرعون استغلال اللكنة في لسان النبي موسى(عليه السلام) ليجعل من ذلك ذريعة الى التفوق والاهلية، فقال: (ام انا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)ناسياً او متناسياً الموازين الاخرى للتفاضل.


وفي زمن لاحق كان الوليد بن عبد الملك مورداً للانتقاد السياسي والشعبي; اذ لم يتسم بالفصاحة، ولقد انتقصه بذلك حتى بعض رجالات العرش الاموي، بينما كان معاصره الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) في الدرجة العليا من درجات اساليب البيان العربي.


5 ـ الشجاعة:


يحظر الاسلام التبعية، لاية دولة من الدول الوضعية سواء العلمانية منها أو غير العلمانية. ويقرر وجوب الاستقلال في كافة الاعمدة السياسية والاقتصادية والتعليمية وهلمَّ جرا.


ولكن رفض التبعية، والانقياد لوجوب الاستقلال الشامل ليس بالامر اليسير، بل هو عسير جداً، ويتطلب التضحيات الجسام، ودرجة عالية من الحزم والعزم وقوة الارادة، كما يتطلب الشجاعة الكافية في اتخاذ القرار، ومواجهة التحديات.


إذن فالقائد إذا لم يكن شجاعاً مقداماً فسوف يقع في قبضات الانظمة الوضعية جنوحاً منه للذلة والاستكانة، واشفاقاً من القوى المعادية، والضغوط الخارجية.


كما أنه في حالة اشتداد المعارضة الداخلية، وتفاقم مشاكلها سيتخذ من المواقف ما يتلائم وخور قلبه واستسلامه، وضعف نفسه، وان أضرَّ ذلك بالمصلحة العامة للشريعة والبلاد.


كما ان القائد اذا كان شجاعاً، جريئاً على الاهوال، فان ذلك سينعكس، ايجابياً على الانصار والاتباع، وجملة الشعب الخاضع لحكمه، اَما اذا لم يكن شجاعاً فالعكس هو المتوقع.


وفي حالة افتقاد القائد للشجاعة المطلوبة; فإنه وفي الظروف الحرجة له، قد يكون مثاراً للاستخفاف به حتى من قبل الخاصة، كما وقع ذلك لبعض القادة والامراء، على مدى التاريخ السياسي العام للانسانية.


ان الخطر عظيم على المستقبل السياسي للبلاد فيما إذا كان القائد مثاراً للاستخفاف، من قبل الخاصة. اريد أن أقول: أحر بمن لم تكبره الخاصة أن تتجرأ عليه العامة.


اذن فالشجاعة ليست نعتاً شخصياً مجرداً عن ا لتأريخ الايجابي للدولة بل شجاعة القائد حصن الدولة الحصين، ومعقلها المنيع، وهيبة الوجود العقائدي في الداخل والخارج.


روافد الشجاعة:


تتأتى الشجاعة غالباً من الاسس التالية:


أ ـ الايمان بالقضية التي يقدم الانسان من اجلها.


ب ـ السخط على الوضع المعاش الذي يمارَس ضدّه، وعلى السياسة الحاكمة.


جـ ـ قوة الاحتمال.


د ـ الوراثة.


هـ ـ البيئة الجغرافية.


و ـ الوسط الاجتماعي.


اما عن الاساس الاول فإن ايمان اهل البيت بالقضية العادلة التي يضحّون في سبيلها يفوق حدّ التصور و ما احق ان يكون قول علي(عليه السلام) تمثيلاً حقيقياً لهذا الايمان لو كشف الغطاء ما ازددت يقين ومن يكن هكذا ايمانه فاي شيء يروعه، او يقف حاجزاً دون بلوغ امانيه وتطلعاته.


وعمار بن ياسر تلميذ اهل البيت ينادي: والله لو ضاربونا حتى ابلغونا سعفات هجر(156) لعلمنا اَنا على الحق وهم على الباطل.


فما ظنك بأهل البيت وايمانهم، ووضوح الرؤية لديهم، وانكشاف الحقائق عندهم. يقول الامام علي(عليه السلام): والله لو لقيتهم وهم طلاع الارض ما باليت و لا استوحشت.


وقال(عليه السلام): ومن العجب بعثهم اليَّ ان ابرز للطعان، وان اصبر للجلاد. هبلتهم الهَبول. لقد كنت وما اهدد بالحرب، ولا ارّهب بالضرب، واني لعلى يقين من ربي، وغير شبهة من ديني(157).


واما عن الاساس الثاني فانه ينصرف انصرافاً كليّاً الى عدم الرضا مما يغضب الربّ عزوجلّ، والرفض المطلق لما يشين الاسلام، ويحط من قداسة الروح الدينية، ويسرق من اَلق العدالة. يقول الامام الشهيد الحسين بن علي(عليهم السلام): الا ترون الى الحق لا يُعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه. ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً; فاني لا ارى الموت الاّ سعادة، والحياة مع الظالمين الاّ برم.


واما عن قوة الاحتمال والصبر على الشدائد فغير بعيد عنك قول علي(عليه السلام)كما في نهج البلاغة: وانا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد. والله لو اجتمعت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت اليه.


ومما يدل على قوة احتمال الامام زين العابدين(عليه السلام) ما جاء عن الامام احمد بن حنبل من انه(عليه السلام) اُلبسَ درعاً ففضل عنه فاخذ الفضلة بيده ومزقها(158).


وانه(عليه السلام) نقل من الكوفة الى دمشق على جمل بغير غطاء ولا وطاء مقيد اليدين فلم يشك الماً، ولم يئن أَنةً على الرغم من طول الطريق ومشقة السفر وعلى الرغم من أنه كان سقيم البدن في تلك الايام.


واما عن الوراثة فلا ريب أن لها الاثر الجليل في شجاعة الانسان، وهي تُسكب في قلوب الابناء من اوعية الاباء والامهات. ويعتقد الكثير من علماء النفس المعاصرين بتناقل الصفات الوراثية السلبية والايجابية من فرد الى فرد ومن جيل الى آخر، ومن هذه الصفات الشجاعة، والادلة التجريبية على ذلك كثيرة.


ومن هنا يُعلم تهافت نظرية المدرسة السلوكية التي تنفي الصفات الموروثة عن سيكولوجية الانسان. يقول وطسن مؤسس المدرسة السلوكية نافياً كل أثر للوراثة: إئتوني بعشرة اطفال فاني اذا اخذت احدهم على غير تعيين فسأجعل منه ما شئتم طبيبا او عالماً أو لصاً.


واما عن البيئة الجغرافية فالملاحظ أن ابناء الجبال وسكان الصحارى اشجع في الغالب من ابناء الحاضرة، والسبب الاكبر في ذلك شظف عيشهم وجشوبة حياتهم. والمتربون في الوسط العسكري يمتازون بشجاعتهم في الغالب على ابناء المدن. واذا كان الامام زين العابدين(عليه السلام) او اهل البيت عامة من سكان المدن فان الزهد العظيم الذي يمتازون به قد جعلهم يعيشون ـ من حيث شظف العيش وجشوبة الحياة ـ كعيش اولئك في الجبال والصحارى.


واما عن الوسط الاجتماعي فالمعروف بين علماء الاجتماع اَنه يلعب دوراً مهما في التأثير على سلوك الاشخاص سلباً او ايجاباً. وكانت الامة الاسلامية آنذاك امة الشجاعة والاقدام. واذا كانت هنالك روافد غزيرة لشجاعتها واقدامها، فانها اكثر توفراً واغزر مادة، بالنسبة لشجاعة اهل البيت بما فيهم الامام زين العابدين(عليه السلام).


ولقد اظهر اهل البيت من الشجاعة ما تكبر أن تقاس، بشجاعة احد من الناس، حتى كبار المشهورين بها كعتيبة بن الحارث بن شهاب، وعمرو بن معدي كرب، وبسطام بن قيس، وسليمان بن صرد.


وفي شجاعة الرسول اشتهر قول الامام علي(عليه السلام): كنا اذا اشتد البأس، واحمرت الحدق لذنا برسول الله فما يكون احد منا اقرب الى العدو منه(159).


وصمم الامام علي بن الحسين(عليهما السلام) ان يخوض حرب كربلاء بالسيف على مابه من علة شديدة فمنعه الحسين خشية من انقطاع نسل الرسول الاقدس(صلى الله عليه وآله وسلم).


وعندما سيق سبايا آل الرسول الى الشام حاول يزيد بن معاوية معرفة شجاعة الامام علي بن الحسين(عليهما السلام)، وهل احدث قتل ابيه واهل بيته سلام الله عليهم اجمعين ردّ فعل عنده، وخفض من شجاعته، وان كان ابن الحسين(عليه السلام) فقال له هل لك ان تصارع ولدي خالداً؟


ويبادر ابن الحسين(عليه السلام) للاستجابة بدون تردد بشرط ان يسلحه يزيد ويسلح خالداً سلاحاً مثله. وهنا يصرح يزيد بشجاعة ابن الحسين(عليه السلام) ويعلق بقوله: هيهات، هل تلد الحية الاّ الحية(160).


فما كانت محاولة يزيد غير محاورة، لم يخرجها الى حيز التنفيذ، إذ لا يريد لولده الاّ السلامة ولا يروم ان يوقعه بين فكي ليث هصور ذي قوة عالية، وجرأة ظاهرة.


فالامام زين العابدين(عليه السلام) هو ابن الذي قاد الثورة العملاقة في تاريخ الانسانية، والذي جرد سيفه على رقاب المجرمين ولم يغمده الاّ في صدورهم.


لم يكن جبروت يزيد بن معاوية بالذي يمنع الامام زين العابدين(عليه السلام) من مجابهته بالحق، وان يسقيه الزعاف القاتل من الكلمات العنيفة. ونكتفي بسياق اقصوصة واحدة شاهدة على ذلك.


دخل على يزيد وهو متكئ على منبر السلطة.


يزيد: كيف رأيت يا علي بن الحسين؟


يعني بذلك كيف رأيت الله نصرنا وخذلكم؟


علي بن الحسين: رأيت ما قضاه الله عزوجلّ قبل ان يخلق السماوات والارض.


ويكلم يزيد مستشاريه. فيما يصنع بعلي بن الحسين.


المستشارون: اقتلهُ. لا تتخذ من كلب سوء جروا.


الامام علي بن الحسين(عليه السلام) وهو يخاطب يزيد باسمه لا بالخلافة ليبين عدم شرعيته في الخلافة قائلاً:


يا يزيد لقد اشار عليك هؤلاء بخلاف ما اشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسى وهارون، فانهم قالوا له: اَرجه واَخاه(161)، وقد اشار عليك هؤلاء بقتلنا ولهذا سبب.


يزيد: وما السبب؟


الامام علي بن الحسين(عليهم السلام): ان اولئك كانوا رشدة، وهؤلاء لغير رشد، ولا يقتل الانبياء واولادهم الا اولاد الادعياء.


6 ـ المحبة في قلوب المؤمنين:


الحب هو المعبر الحقيقي عن الولاء، والالتزام بالاوامر، كما ان الولاء والالتزام الحقيقيين بالاوامر هو المعبر الحقيقي عن الحب. ان كل ولاء أو التزام لا يُفصح عن الحب، وكل حب لا يفصح عن الولاء والالتزام مظهر زائف، وادعاء كذوب.


يحكم القائد العام امة من الناس قلّت او كثرت، فلابد له اذاً من طائفة معينة تكنّ له الحب الصادق، وتمتثل اوامره امتثالاً كاملاً. وهو عن طريق كفاءته الذاتية، وعن طريقهم. يتصدى لقهر المتعصبين من اعدائه في الداخل. وعن طريق مجمل القوة الداخلية يتصدى لقهر اعدائه في الخارج.


اذاً فالعلة الكبرى، او من العلل الرئيسية على الاقل، في قدرة القائد العام على التصدي للمناوئين خارج دائرة حكمه انما هي وجود القوة الداخلية، ولقد علمنا ان قسطاً من القوة الداخلية انما يخضع بواسطة الذين تنطوي قلوبهم على الحب الصادق; فهم العلة الكبرى، او من العلل الرئيسية على الاقل في طاعة الاخرين من اعداء الداخل.


ان هؤلاء المحبين هم القاعدة الشعبية الاولى للقائد العام، والركن الركين في كل تقدم وازدهار يناله البلد، ويخدم العقيدة، وبهم يستتب الامن والاستقرار في المنطقة بشكل مباشر وغير مباشر.


واذا ما عرفنا القيمة السياسية وغير السياسية للحب تتجلى امامنا صور توضيحية عن الايات القرآنية والاحاديث الكثيرة التي تؤكد على الحب، وليس غرضنا التفصيل في ذلك ولكننا سوف نشير إلى شيء منه:


من المسلّم به ان مودتهم اجر يتلقاه صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله وسلم) لقاء تبليغها، وذلك بنص الذكر الحكيم. يقول تعالى: (قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ان الله غفور شكور)(162).


وقد اخرج الحافظ السلفي عن محمد بن الحنفية صلوات الله عليه أنه قال في تفسير هذه الاية: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا): لا يبقى مؤمن إلاّ وفى قلبه ودّ علي واهل بيته.


وصحّ ان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: احبوا الله لما يغذوكم به من نعمه واحبوني لحب الله عزّوجلّ واحبوا اهل بيتي لحبي.


وذكر ابن الجوزي: لهذا في العلل المتناهية وهم. واخرج البيهقي وابو الشيخ والديلمي انه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يؤمن عبد حتى اكون احب اليه من نفسه، وتكون عترتي احب اليه من نفسه، ويكون اهلي احب اليه من اهله وتكون ذاتي احب اليه من ذاته.


واخرج الديلمي انه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ربّوا اولادكم على ثلاث خصال، حب نبيكم وحب اهل بيته، وعلى قراءة القرآن والحديث.


وصح ان العباس رضوان الله عليه شكا الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم، وقطعهم حديثهم عند لقائهم فغضب(صلى الله عليه وآله وسلم) غضباً شديداً حتى احمر وجهه، وعرق ما بين عينيه وقال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم لله ولرسوله. وفي رواية صحيحة ايضاً: ما بال اقوام يتحدثون فاذا رأوا الرجل من اهل بيتي قطعوا حديثهم. والله لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني(163).


وقد روى جابر بن عبدالله الانصاري(رحمه الله) قال: جاء اعرابي الى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال:


يا محمد، اعرض عليَّ الاسلام.


فقال(صلى الله عليه وآله وسلم)، تشهد ان لا اله الاّ الله وحده لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله.


قال: تسألني عليه اجراً؟


قال(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ... الا المودّة في القربى.


قال: قرباي او اقرباؤك؟


قال(صلى الله عليه وآله وسلم): قرباي.


قال الاعرابي: هات ابايعك. فعلى من لا يحبك ويحب قرباك لعنة الله.


قال(صلى الله عليه وآله وسلم): آمين.


من علل حب أهل البيت:


يحب المسلمون اهل البيت لانهم المثل الاعلى للدين الاسلامي.


يحب المسلمون اهل البيت لانهم اشد من يضحي في سبيل المبادئ.


يحب المسلمون اهل البيت لانهم حملة ألوية كل علم وسداد وصلاح وخير وانسانية ونقاء.


ولقد جُبل الانقياء بشكل خاص على حب اهل البيت. وانعقدت عليه ضمائرهم.


يقول احد المعاصرين:


جبلنا على حب النبيِّ وآله كما الفطرةالبيضاء في الطفل تجبلُ(164) ولو واجهتهم الصعاب الشداد على ان ينفصلوا، عن حبهم لما تحقق الانفصال في اي شكل من الاشكال.


ولو قلنا: ان الصعاب الشداد لم توجه اليهم من قبل اعدائهم بل توجهت اليهم من قبل اهل البيت بالذات، اذن لما اختلفت النتيجة، ولكانت القضية في الحالتين قضية واحدة. يقول علي بن ابي طالب(عليه السلام) كما في نهج البلاغة لو ضربت لو ضربت المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما ابغضني.


ان من ادل الادلة على الحب الصادق الذي يكنه المؤمنون لاهل البيت ذلك الكم الجماهيري الذي خرج مسرعاً على اِثر اطلاعه على قدوم الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام) وموكبه المقدس من ارض كربلاء الى مدينة الرسول. وها هو على قرب من المدينة.


لقد شرق المستقبلون بدموعهم، واكتووا بنار الامهم واشجانهم لمظلومية الامام الحسين وآل الحسين. وماهي الا فترة وجيزة حتى رفعوا حرابهم بوجه السلطة معلنين الثورة المسلحة التي تعرف بثورة اهل المدينة.


ومن الادلة ايضاً ما كان من تلك المحنة المحزنة الفاجعة، حيث انتقل الامام زين العابدين(عليه السلام) الى الرفيق الاعلى، وخبت جذوة العشق الالهي. لقد هب المجتمع المدني لتشييع الجثمان الطاهر. لم يشغلهم شاغل، ولم يروا لاحد تخلى عن تعظيم هذا الشعار المقدس، تشييع الامام علي زين العابدين(عليه السلام) من عذر.


ولما خرج كل من في المسجد للتشييع ولم يبق فيه الا سعيد بن المسيب يصلي، حينئذ كان سعيد موضعاً للدهشة والاستغراب من جراء التصرف المذكور، وهو انشغاله بصلاة مستحبة يستطيع الاتيان بها في وقت آخر عن تعظيم شعيرة من شعائر الله. حتى قال علي بن زيد التيمي: قلت لسعيد بن المسيب: انك اخبرتني ان الامام علي بن الحسين(عليهم السلام) النفس الزكية وانك لا تعرف له نظيراً.


قال: كذلك، وما هو مجهول ما اقول فيه، والله ما رؤي مثله.


قال علي بن زيد: فقلت: ان هذه الحجة الوكيدة عليك يا سعيد فلم لم تصلِّ على جنازته(165)؟!.


ومن الادلة على التعلق الشديد والحب الصادق ما كان من قصة الامواج البشرية التي ترتاد البيت العتيق، والتي ما ان رأت الامام زين العابدين(عليه السلام) يهمّ ان يشقّ طريقه حتى انفرجت له وافترقت. (فكان كل فرق كالطود العظيم)(166).


بينا كان هشام بن عبد الملك محتفظاً بموطئ قدم له، منتظراً ان يخف الزحام ليؤدي مناسك الحج.


واذا كانت القصة الاولى والثانية استقبال الامام زين العابدين(عليه السلام)وموكبه، وتشييع جثمانه للتدليل على الولاء الاكيد، والحب العميق قد وقعتا ضمن اطار المجتمع المدني فان القصة التي وقعت في موسم الحج اوسع من كليهما بكثير، اذ تتقاطر الوفود الى البيت العتيق من مختلف بقاع العالم الاسلامي ويأتون (رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق)(167).


(141) الحديد / الاية 11.


(142) البقرة / الاية 261.


(143) البقرة / الاية 264.


(144) التذمم: اجتناب الذم.


(145) المائدة / الاية 55.


(146) أي على حب الطعام، بمعنى انهم على الرغم من حبهم للطعام بسبب الجوع ولكنهم يؤثرون المسكين واليتيم والاسير طلباً لوجه الله تبارك وتعالى.


(147) الانسان / الاية 8 ـ 9.


(148) اصحاب العاهات.


(149) المجالس السنية، ج5 ص422 ـ 423.


(150) البقرة / الاية 274.


(151) محمد / الاية 38.


(152) آل عمران / الاية 180.


(153) الحشر / الاية 9.


(154) القصص / الاية 34.


(155) ابن ابي الحديد / شرح نهج البلاغة ج6 ص398. ط. دار احياء الكتب العربية ط.2.


(156) هجر: مدينة كثيرة النخيل وبكثرة نخيلها يضرب المثل فيقال: كناقل التمر الى هجر.


(157) وردت هذه الخطبة في صور مختلفة ولكنها متقاربة. انظر شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج10 ص3، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة للشيخ محمد باقر المحمودي ج1 ص300 ط. مؤسسة الاعلمي للمطبوعات. وغيرهما.


(158) محمد علي بن شهرآشوب المازندراني / مناقب ال ابي طالب: ج4 ص142 ـ 143.


(159) يحتاج الكلام المنسوب الى الامام علي(عليه السلام) الى توضيح وتفصيل ليس هنا موضع ذكره.


(160) ويروى ان القصة وقعت مع عمرو بن الحسن السبط، وممن ينسب وقوعها مع الامام زين العابدين(عليه السلام)ابن شهرآشوب محمد بن علي (ت 588)، مناقب آل ابي طالب: 4 / 173.


(161) من قوله تعالى (أَرْجِهْ واخاهُ وارسل في المدائن حاشرين) سورة الاعراف / الاية: 111.


(162) الشورى / الاية 23.


(163) الهيثمي: احمد بن حجر المكي (ت 974 هـ). الصواعق المحرقة / ص172، الناشر مكتبة القاهرة.


(164) من ملحمة اولها:


كذا العاشقُ الولهانُ يُسبى ويُقتل فلا شيءَ إلاّ انت اسمى واجملُ


(165) الكَشّي / محمد بن عبد العزيز / رجال الكشي ص76.


(166) من الاية 63 من سورة الشعراء.


(167) من الاية 27 من سورة الحج.


/ 15