الفقر الواعي والفقر المضلّل
:
ولكن علينا
أن نشير هنا : أن هناك نوعين من الفقر ; أحدهما يستنزل رحمة الله ، والآخر
يحجب صاحبه عن رحمة الله . أمّا الذي يستنزل رحمة الله فهو «الفقر الواعي»
الذي يشعر صاحبه بحاجته وفقره الى الله تعالى ، ويربطه بمسبب الأسباب مباشرة
عبر الأسباب ، دون أن يكون معنى ذلك اسقاط الأسباب عن الحساب .
والفقر
المضلّل هو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب ، وتحجبه الأسباب عن الإحساس
بفقره وحاجته الى مسبب الأسباب .
وليس معنى
وعي الحاجة والفقر إلى الله ـ تعالى ـ الغاء الأسباب ، والإعراض والانصراف
عنها ، فهذا ما لا يصح ، ولا يجوز ، ولا يقول به أحد ، حتّى الأشاعرة لا
يذهبون هذا المذهب المتطرف من الأسباب .
ومع
تثبيت هذه الحقيقة نقول : إنّ الفقر الواعي هو الفقر الذي يشعر صاحبه بفقره
إلى الله ، ويثبّت ويركّز الإحساس بالفقر إلى الله في نفسه ، ولا تعيقه
الأسباب عن مسبّب الأسباب .
أما
الفقر المضلّل فهو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب ، وتحجبه الأسباب عن
الإحساس بالحاجة والفقر الى الله تعالى ، مبدإ الأسباب ، ومسبّب الأسباب
.
والفقر
الأوّل هو المقصود من الرواية النبويّة الشريفة (الفقر مخزي) والفقر الثاني
هو الذي (كاد أن يكون كفراً) .
والفقر
الأوّل هو الذي يستنزل رحمة الله ، والثاني يحجب صاحبه عن رحمة الله
.
وهذا الفقر
هو الذي نجده في كلمات أبي الأنبياءِ إبراهيم (عليه السلام) ، كما يتلو علينا
القرآن نبأه : { واتلُ عليهم نبأَ
ابراهيم * ... الذي خَلَقني فهو يَهدين * والذي هو يُطعمني ويَسقين * وإذا مَرِضتُ فهو يَشفين *
والذي يُميتني ثم يُحيين * والذي أَطمعُ أن
يغفرَ لي خَطيئتي يومَ الدين } 3 .
فلا
يريد إبراهيم (عليه السلام) في هذا الخطاب أن يلغي الأسباب الطبيعية في
الإطعام والسقي والشفاء والموت والحياة من الحساب ، وقد كان (عليه السلام)
يتعامل مع كل ذلك إلاّ أن هذه الأسباب لن تحجبه عن الله ـ تعالى ـ مسبّب
الأسباب ومبدإ الأسباب ، وهذا هو الفرق بين الرؤية التوحيدية إلى الأسباب
وبين الرؤية الأخرى المشوبة بالشرك .