الرواية التاريخية لقصة السعي الأول
:
تقول الرواية
التاريخية : « إنّ الله ـ تعالى ـ أمر عبده وخليله إبراهيم أن يخرج بزوجته
هاجر (أمّ إسماعيل) من الشام إلى صحراء الجزيرة ، حيث يقع الحرم ، فلما وافى
إبراهيم منطقة الحرم ، حيث تقع مكة اليوم نزل فيها فوجد
شجراً ، فألقت هاجر كساءً كان
معها تستظل تحته فلما سرّحهم إبراهيم ووضعهم ،
وأراد الانصراف عنهم إلى سارة ، قالت له هاجر : يا إبراهيم لِمَ تدعنا في
موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال إبراهيم : الّذي أمرني أن أضعكم في
هذا المكان هو يكفيكم ، ثمّ انصرف عنهم ، فلمّا بلغ كدًى وهو جبل بذي طوى ،
التفت إليهم إبراهيم فقال :
{ربّنا إنّي أسكنتُ من
ذريّتي بواد غيرِ ذي زرع عند بيتك المحرّمِ ربّنا لِيقيموا الصلاةَ واجعل
أفئدةً منَ النّاس تهوِي إليهم وارزقهم منَ الثـّمراتِ لعلّهم
يشكرون } .
ثمّ
مضى وبقيت هاجر ، فلمّا ارتفع النهار عطش اسماعيل وطلب الماء ، فقامت هاجر في
الوادي في موضع المسعى فنادت : هل في الوادي من أنيس ؟ فغاب إسماعيل عنها
فصعدت على الصفا ، ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء ، فنزلت في بطن
الوادي وسعت فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل ، ثمّ لمع لها السراب في
ناحية الصفا فهبطت إلى الوادي تطلب الماء ، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتّى
بلغت الصفا فنظرت حتّى فعلت ذلك سبع مرّات ، فلمّا كان في الشوط السابع وهي
على المروة نظرت إلى اسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه ، فعدت حتّى جمعت
حوله رملا فإنّه كان سائلا فزّمته بما جعلته حوله فلذلك سمّيت زمزم »
.
اسرار الموقف
:
إن
هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة الله تعالى ، ففجر الله لهما زمزم في
واد غير ذي زرع ، وجعلها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات على هذه الأرض
المباركة ، وجعل هذا المشهد جزءاً من أعمال الحجّ ، وثبّته في واحد من أشرف
فرائضه . فما هو السرّ الكامن في هذا المشهد ؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل
الدين ، وتثبيته في الحج ؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله
ـ تعالى ـ بقوة في هذا المشهد ، وجعلها مبدءاً لبركات كثيرة في
تاريخ أجيال الموحّدين ؟
فلابد من أن
يكون هذا المشهد ينطوي على سرّ خاص استدعى نزول رحمته ـ تعالى ـ في ذاك
الوادي القفر ، واستدعى دوام هذه الرحمة وثباتها ، وجعل منها مصدراً ومبدأً
لكثير من البركات ، واستدعى أن يثبتها الله تعالى في حج أجيال الموحدين عند
بيته الحرام .
انني اعتقد ،
والله ـ تعالى ـ أعلم بأسرار هذا المشهد ـ أن هذا المشهد النادر كان يجمع
يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة الله ـ تعالى ـ كلّ منها يستنزل رحمته
تعالى .
وأول هذه
المنازل الحاجة التي كان يمثلها الظمأ الذي أضرَّ بالطفل الرضيع ، والذي
جعله أقرب من غيره إلى رحمة الله تعالى .
ولذلك نرى أن
الأطفال الرضّع إذا أضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ كانوا أقرب إلى
رحمة الله ـ تعالى ـ من الكبار الذين يطيقون ذلك كلّه ، ولأن
الحاجة تضرّ بهم أكثر من الكبار .
وقد
ورد في الدعاء (اللهمّ أعطني لفقري) ، والفقر إلى الله لوحده يستنزل رحمته ـ
تعالى ـ ، وكلما كان الفقر إلى الله أعظم كان أدعى لنزول رحمة الله ، فان
الفقر إلى الله يجعل الإنسان عند رحمة الله ، ويقرب الإنسان منه ، سواء كان
الإنسان يعي فقره إلى الله أم لا يعي ، وإن كان وعي الفقر إلى الله يضاعف من
قيمته وقدرته في استنزال رحمته ـ تعالى ـ . ولكن بشرط ألّا يحرّف الإنسان
الفقر عن موضعه ، فيتصوّره أنّه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا ، أو
إلى بعض عباد الله بدل أن يعيه على واقعه من الفقر إلى الله . وشتّان بين هذا
الفقر وذاك الفقر . والذي يستنزل رحمة الله ـ تعالى ـ هو الفقر إلى الله
، فإذا حرّف الانسان هذا الفقر من الفقر إلى الله إلى الفقر إلى عباد الله
فقد الفقرُ قيمتَه في استنزال رحمته ـ تعالى ـ ، وأكثر فقر الناس
من هذا النوع .
وفي
هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدّة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً
في استنزال رحمة الله تعالى .
كما
أنه ليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى الله مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمته ـ
تعالى ـ أكثر من مشهد طفل يتلظى من العطش ، ولا تجد له أُمّه إلى الماء سبيلا
.
والمنزل
الثاني لرحمة الله في هذا المشهد هو (السعي) وهو شرط للرزق ، ولا رزق من دون
سعي ، وقد جعل الله ـ تعالى ـ السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً
للرزق .
وإذا كان
عامل الفقر يُكْسِب الإنسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة . فإنّ عامل السعي
يُكْسِب الإنسان العزم والقوّة والإرادة ، والحركة والنشاط ، وعلى قدر حركة
الإنسان وسعيه وعزمه يرزقه الله ـ تعالى ـ من رحمته .
وقد
تحركت أمّ إسماعيل ـ عندما نفد عندهما الماء ، وغلب الظمأ على إسماعيل ـ
للبحث عن الماء ، وسعت تطلبه ، تصعد إلى الصفا مرّة ، تنظر في الأفق البعيد
باحثةً عن الماء ، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة ، تارةً أُخرى ، لتصعد
عليه وتنظر إلى الأفق البعيد تبحث عن الماء ، ورغم أنها استعرضت في هذه
الحركة كلّ الأفق من على الصفا والمروة فلم تجد ماءً لم تيأس ، وكرّرت هذه
الحركة ، والصعود والنزول ، والهرولة من الصفا إلى المروة وبالعكس سبع مرات ،
ولولا هذا الأمل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الأوّل ، ولكن الأمل والرجاء
الذين كانا يعمران قلبها كانا يدعوانها كلّ مرة إلى إعادة السعي مرة أخرى ،
حتى فرّج الله عنهما وفجّر زمزم تحت قدمي إسماعيل ، ولكن الأمل هنا في الله
وليس في الماء ولو كان أملها في الماء لانقطع أملها في المرة الأولى أو
الثانية .
وقد
جعل الله ـ تعالى ـ هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق ، ونزول رحمته على
الإنسان ، والله تعالى يرزق عباده ، وينزل عليهم رحمته ، ولكنه
ـ تعالى ـ شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته
.
والمنزل
الثالث لرحمة الله ـ تعالى ـ في هذا المشهد : هو دعاء أمّ اسماعيل ،
وانقطاعها إلى الله واضطرارها إليه ـ عزّ شأنه ـ في طلب الماء في
هذا الوادي القفر غير ذي زرع ، وكلّما انقطع الإنسان في دعائه إلى الله أكثر
كان أقرب إلى رحمة الله.
ولست أدري في
أية حالة من حالات الانقطاع إلى الله ، كانت هذه المرأة الصالحة في تلك
اللحظات في الوادي غير ذي زرع ، وليس من انسان أو حيوان حولها ، ووحيدها
الرضيع يتلظى عطشاً ، ويكاد أن يلفظ آخر أنفاسه .
لقد
انقطعت المرأة إلى الله في تلك اللحظة انقطاعاً ضجّت له ملائكةُ الله بالدعاء
، وضموا أصواتهم إلى صوتها ، ودعاءهم الى دعائها .
ولو
أن الناس كلهم انقطعوا إلى الله بمثل هذا الانقطاع لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم وعمّتهم رحمة الله تعالى .
عليكِ
سلام الله يا أُمنا أمّ اسماعيل ! من أبنائك الذين آتاهم الله النور والهدى
والإيمان والنبوة ، ومن المهتدين بهداهم ونورهم ... ولولا ذلك الانفراد في
ذلك الواد القفر غير ذي زرع في هجير الحجاز ، ولولا تلك المعاناة والمحنة لم
تنقطعي إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ بمثل هذا الانقطاع ، في ذلك الموقف
العسير على جبلي الصفا والمروة ، ولولا ذلك الانقطاع إلى الله ، لم تنزل رحمة
الله تعالى عليكما ، ولولا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك إلى الله وسعيك بين
الصفا والمروة من شعائر الله في الحجّ .
{انّ الصفا
والمروةَ من شعائر الله فمَن حجّ البيت أوِ اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطوّف
بهما ، ومَن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } 40
.
لقد
ثبّت الله ـ تعالى ـ يا أُمّنا ; انقطاعك إليه في ذلك الهجير ، وسعيك إلى
الماء ، وصراخ صغيرك إسماعيل في ذاكرة التاريخ ، ليعرف الأجيال من بعدك كيف
يستنزلون رحمة الله ، وكيف يتعرضون لرحمة الله .
إن
رحمة الله ـ تعالى ـ واسعة لا شحّ فيها ولا نقص ، ولا عجز ، ولكن الناس لا
يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها ، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها
.
ومنك تعلمنا
يا أمّنا ! كيف نطلب منازل رحمة الله ، وكيف نتعرض لرحمة الله ، ومنك يا أمنا
أخذنا مفاتيح الرحمة .
وعذراً يا
أمنا ! إذا كنّا ـ نحن أبناؤك ـ لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلّمتيها إلى
إسماعيل من بعدك ، وتوارثها أبناء إسماعيل من إسماعيل ، وتوارثناها ـ نحن ـ
من ابنك محمد المصطفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فضيعناها فيما
ضيعنا من تراث الأنبياء ومواريثهم .
لقد
تعلمنا من أبينا إبراهيم كيف نوحّد الله ، وتعلمنا من أمّنا هاجر كيف نسأل
الله ، وفي متاهات الهوى والطاغوت ضيعنا هذا وذاك .
فأعنّا
اللهمّ ! على تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا وأمنا (إبراهيم وهاجر) (عليهما
السلام) واجعلنا من أسرتهم ، ولا تطردنا ربنا ! من هذا
البيت من آل إبراهيم وآل عمران .
{ إن اللهَ
اصطفى آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض واللهُ سميعٌ عليم }
41
.
{ ربّنا واجعلنا
مسلمين لكَ ومن ذريتنا أُمّةً مسلمة لكَ وأرِنا مناسكنا وتُب علينا إنك أنت
التوّاب الرحيم } 42
.
لقد
أخذت أمُّنا (أمّ إسماعيل) ـ يومذاك في ذلك الوادي القفر ، وفي رمضاء هجيز
ذلك الوادي ـ بأسباب الخير كلّها ... وذلك هو السعي والدعاء والفقر
.
لقد
كانت أُمّنا تسعى إلى الماء ، وتشرف على الوادي تارة من على الصفا وأُخرى من
على المروة باحثة عن الماء ، والله ـ تعالى ـ يحبّ من عباده الحركة والسعي
والعمل ، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق . ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلى الله
، وتدعوه ـ تعالى ـ ، وتسأله في حالة من الانقطاع ، يقلّ نظيرها في تاريخ
الإنسان ، فلا السعي والتحرك ، كانا يحجبانها ، ويقطعانها عنه ـ تعالى ـ ،
ولا الانقطاع إلى الله كان يعطل فيها حالة الحركة ، والسعي إلى الماء بأقصى
ما تستطيعه امرأة في ذلك الوادي ، وفي ذلك الهجير ... في أشواط سبعة من الصفا
إلى المروة ومن المروة إلى الصفا .
وإننا اليوم
في شعائر حجّنا ، نسعى هذه الأشواط بين هذين الجبلين ، من غير معاناة ، ولا
عذاب ولا همّ ، ولا قلق ، فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي .
وقد
قامت أمُّنا هاجر بهذا السعي كلّه في ذلك الوادي القفر ، وفي رمضاء ذلك
الهجير ، وهي ظمأى قد استنفذ العطش كلّ حولها وقوتها ، ورضيعها الصغير يكاد
يلفظ آخر أنفاسه ... ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي إلى الماء بقوّة وهمّة
وعزم وإرادة .
ولم
يمنعها هذا السعي ـ ولو للحظة واحدة ـ عن الانقطاع إلى الله ، ولم يحجبها ولو
للحظة واحدة عنه تعالى . لقد كانت في هذا السعي المرير كلّه على اتصال بالله
، وانقطاع إليه لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذاك عن هذا ، فقرنت السعي
إلى الماء بالانقطاع إلى الله ، وقرنت الانقطاع إلى الله بالسعي إلى الماء ،
ومَن منّا يقدر على ذلك ؟
والملائكة
يومئذ ينظرون إليها ، ويتعجبون منها ، كيف استطاعت أن تنقطع إلى الله هذا
الانقطاع ؟ وكيف تمكنت أن تسعى إلى الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا
السعي ؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع إلى الله بمثل هذا الجمع
؟
فيضجون إلى
الله ـ تعالى ـ أن يستجيب لدعائها وسعيها ، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمةَ
الله ـ تعالى ـ ، وتقرب رحمة الله حتى تكاد أن تنطبق السماء على الأرض
.
لقد
صعد يومئذ عمود من الدعاء ، والعمل الصالح من الأرض إلى السماء ، ونزل عمود
من الرحمة من السماء إلى الأرض واتّصلت الأرض بالسماء ، والسماء بالأرض ،
وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريد ، ويضجون إلى الله تعالى ،
ويتضرعون ، فيحدث ما ليس بالبال ولا الخيال ، وتنفجر الأرض تحت أقدام الرضيع
ماءً بارداً زلالا شفافاً هنياً .
وسبحان الله
، والحمد لله ، لقد استجاب الله لسعيها ودعائها ، ولكن لا حيث سعت ، وإنّما
تحت أقدام الرضيع ، الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك ، ليعلمها الله
أنه تعالى هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب في هذه الرمضاء وفي هذا
الهجير ، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها ... وإن كان لابد لها من أن
تسعى وتتحرك ليرزقها الله تعالى زمزم .
ففجر الله
(زمزم) تحت أقدام الرضيع ، وأقام الله ـ تعالى ـ في ذلك الوادي بيته
المحرم ، وبارك في زمزم ، وجعل منها سقاية الحاج مدى الأجيال ، وثبت الله هذا
السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج ، يحذو فيها
حشود الحجاج كلّ عام حذوها ، ويحيّون فيها من بُعد أمّهم هاجر وأباهم إبراهيم
وإسماعيل .
لقد
اجتمعت في هذا الوادي ـ يومذاك ـ ثلاثة أسباب من أسباب نزول رحمة الله تعالى
: الفقر والسعي والدعاء ...
فقر
في أقصى درجات الضعف والفاقة ، وسعي في قوة وحزم وعزم ، ودعاء في تضرع
وانقطاع واضطرار .
وفي
الحجّ نحيي نحن كلّ عام هذا المشهد ; لنتعلم من أمّنا أمّ اسماعيل (عليها
السلام)كيف نطلب رحمة الله ـ تعالى ـ وكيف نستنزل فضله ورحمته ، وكيف نغرف من
رحمته ونتعرض لها .