إقرار العبد عند البيت
إنّ عظمة وجمال
المسجد الحرام وخصوصاً الكعبة الشريفة ، والأروقة المحيطة بها ،
والمطاف ، ومقام إبراهيم ، وحجر إسماعيل والميزاب والحطيم والملتزم
والمستجار وبئر زمزم ، كلّ منها يشير إلى الذكريات التأريخية
المهمّة ، وأجمل من ذلك مناجاة الناس في المطاف المقدّس بمختلف لغاتهم
حينما يبدأ كلّ منهم بالإقرار بالعبودية والتوبة من الذنوب .
والحقّ أنّ هذا
المكان الرفيع المقدّس أفضل الأمكنة للإقراربالذنوب والمعاصي وطلب
العفو من الله سبحانه وتعالى .
إنّ الإمام علي
بن أبي طالب(عليه السلام)قال : « . . . أقرُّوا عند بيت الله الحرام بما
حفظتموه من ذنوبكم ، وما لم تحفظوه فقولوا : ما حفظتَه ياربّ علينا
ونسيناه فاغفر لنا ، فإنّه من أقرَّ بذنوبه في ذلك الموضوع ،
وعدّدها وذكرها واستغفر الله جلّ وعزّ منها ، كان حقّاً على الله أن
يغفرها له» 12 .
ينبغي للإنسان
أن يكون عارفاً بما يفعل ويعمل ، ويلزم عليه أن يحفظ في ذاكرته كلّ
أعماله ، خصوصاً ما كان منها يحتاج إلى طلب عفو ، أو إعطاء
حقّ ، أو غيرهما . فإذا نسي ما لا بدّ له من الجابر ، فلا
يمكن للناسي الفرار من سخط الله سبحانه وتعالى وعذابه ، سيّما إذا كان
ذلك من حقوق الناس .
ولنعم ما قال
صاحب تفسير آلاء الرحمان ، العلاّمة الشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله)
حول هذا الموضوع ، حيث قال : « . . . إنّ كثيراً من النسيان والخطأ ما
يقع بسبب التساهل والتقصير في التحفّظ لتحصيل ما كلّف به ، وهذا ممّا لا
تقبح فيه المؤاخذة على مخالفة الواقع ، فطلبوا من الله أن لا يؤاخذهم في
ذلك» 13 .
فقوله(عليه
السلام): «...ومالم تحفظوه فقولوا: ما
حفظته يا ربّ علينا ونسيناه فاغفر لنا» . يشعر بذلك
المعنى; لأنّه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في
السماء .
قال سبحانه
وتعالى : { ما يلفظ من قول إلاّ
لديه رقيبٌ عتيدٌ}14 .
وقال
تعالى : {إنْ كلُّ نفس لمّا عليها
حافظٌ}15 .
وقال
تعالى : {إنَّ الله لا يخفى عليه شيءٌ
في الأرض ولا في السماء}16 .
ثمّ إنّه لا
يخفى على المتدبّر أنّ النسيان من النعم الكبيرة التي رزقها الله تعالى
عباده ، فلو لم يكن النسيان وكان الإنسان متذكّراً دائماً بما أصابه من
المصيبات والغموم والهموم ، وبما ظلمه الظالمون ، لم يبقَ حجر على
حجر ، ولكثرت الأحقاد والضغائن ، والحوادث الدامية في
المجتمع .
فالناظر إلى
بيت الله الحرام ، والحاضر في تلك الساحة المقدّسة ، يحقّ أن يباهي
جميع الناس بأنّه الزائر وأنّ المزور يغفر لزائره ، ويا حبّذا من هذا
المقام المنيع ، يقرّ العبد في ذلك المكان المقدّس الطاهر بذنوبه ،
والله سبحانه وتعالى يغفرها .
وبما أنّ
الإنسان محلّ للزلّة والخطإ ، فلا بدّ وأن يجد مكاناً لغفران ذنوبه
وزلاّته ، فهل يوجد مكان أفضل من المسجد الحرام لذلك الغرض؟ ولهذا أمرنا
الإمام(عليه السلام)بالحضور الدائم فيه وأوصى الناس أن لا يتركوا البيت
العتيق خالياً :
قال(عليه
السلام) في وصيّته لابنه الحسن المجتبى(عليه السلام) : « . . . الله الله في بيت ربّكم فلا يخلو
منكم ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا وأدنى ما يرجع به مَن أمَّهُ أن يغفر
له ما سلف» 17 .
إنّ
الإمام(عليه السلام) لم يوص بهذا الأمر فقط ، بأن لا يخلو البيت وأن
يكون دائماً مملوءاً من المستغفرين ، بل إنّه(عليه السلام)عمل بهذا
المعنى ليعلّمنا كيف نستغفر الله وكيف نتقرّب إليه؟! وإليك بعض النصوص
الواردة في هذا الأمر :
كان أمير
المؤمنين(عليه السلام) إذا صعد الصفا استقبل الكعبة ثمّ يرفع يديه
ويقول : «اللّهمّ اغفر لي كلّ ذنب
أذنبته قطّ ، فإن عدتُ فعد عليَّ بالمغفرة ، فإنّك أنت الغفور
الرحيم ، اللّهمّ افعل بي ما أنت أهله ، فإنّك إن تفعل بي ما أنت
أهله ترحمني ، وإن تعذّبني فأنت غني عن عذابي وأنا محتاج إلى
رحمتك ، فيامن أنا محتاج إلى رحمته ارحمني ، اللّهمّ لا تفعل بي ما
أنا أهله ، فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولن
[لم] تظلمني ، أصبحتُ أتّقي
عدلك ، ولا أخاف جورك ، فيا من هو عدلٌ لا تجور
ارحمني»18 .