المراكز العلمية عند الشيعة
:
من المعالم الشاخصة في
مسيرة مدرسة أهل البيت الاهتمام بالعلم وتوقير العلماء، كما نقرأ ذلك في
تاريخ أتباع هذه المدرسة من الشيعة في مختلف مراحل التاريخ، فلم تمنعهم ظروف
الاضطهاد السياسي والقمع العنيف من أجهزة الخلفاء والسلاطين من طلب
العلم.
ويمكن القول: إن
التشيع تحقق في العلوم الاسلامية بعمق مثلما تحقق وظهر في الثورات الاسلامية
منذ عاشوراء وصبغ التاريخ الاسلامي بلون الدم والشهادة. وكما لانحتاج إلى جهد
كبير للتدليل على دور الثوار الشيعة في مقاومة سلاطين الجور، كذلك لا يمكن أن
نغفل حجم مساهمات علماء الشيعة عند الحديث عن نشأة وتطور العلوم
الاسلامية7. وهذا لا يعني أننا نذهب إلى
ماقاله بعض الباحثين في رد تمام ما
يزخر به التراث الاسلامي من معارف وفنون إلى التشيع ونفي مساهمة بقية فرق
المسلمين، فإن المسلمين بأسرهم كان لهم نصيب في ابداع هذه المعارف وتنميتها،
إلاّ أن العطاء العلمي للتشيع يظل متميزاً كما وكيفاً، ولاسيما إذا أخذنا
بنظر الاعتبار الوضع الأمني والسياسي الذي عاشه الشيعة في مختلف فترات
التاريخ. ولأجل بيان شيء من آثار هذا العطاء سنتحدث بايجاز عن المراكز
العلمية للتشيع بالحجاز وموقعها الريادي في نشأة وتطور العلوم
الاسلامية.
المدينة المنورة
المدينة المنورة
:
المدينة هي الرحم الذي
ولدت فيه بذرة التشيع، واحتضن الجيل الأول من شيعة الإمام علي ابن أبي طالب
(عليه السلام)، وتواصل توطن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيها إلى الامام
الحسن العسكري (عليه السلام)، ولم يغادرها أحد منهم إلاّ لضرورات سياسية أو
عسكرية أو علمية أو أن يستقدمه السلطان الجائر فيسيّره إلى بغداد أو
سامراء.
إن تراث أهل البيت
وعلوم الإمامة فاضت من المدينة إلى بقية الأمصار بعد انتشار التشيع في شتى
أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك، وكان المسجد النبوي هو المركز العلمي الأهم
الذي عقدت تحت سقفه الحلقات الدراسية الأولى عند الشيعة، وشهد هذا المسجد منذ
تأسيسه إلى عدة قرون تعاقب مجموعة كبيرة من التلامذة، الذين انخرطوا في حلقات
الأئمة(عليهم السلام) وأصحابهم ثم العلماء الشيعة في فترات لاحقة. فبعد غياب
الرسول (صلى الله عليه وآله) عن المسرح مكث الإمام علي (عليه السلام) نحواً
من ثلاثين سنة أمضى معظمها في المدينة ماخلا نحو خمس سنوات في الكوفة ـ عكف
فيها على صيانة القرآن الكريم والسنة الشريفة وتعليمهما، وكان قد انبرى لهذه
المهمة منذ اليوم الأول بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول
ابن النديم: إن علياً عليه السلام (رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءَه حتى يجمع
القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن)8ويشير إلى ذلك ابن أبي الحديد بقوله (وأمّا قراءته
للقرآن واشتغاله به فهو المنظور اليه في هذا الباب، اتفق الكلّ على أنه كان
يحفظ القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن غيره
يحفظه، ثم هو أول من جمعه)9 وانفرد الإمام علي من بين الصحابة
كافة باستيعابه لتمام علوم النبوة،
فقد أورد الصفار في بصائر الدرجات بسنده (عن سماعة بن مهران عن أبي عبدالله
عليه السلام قال: إن الله علَّمَ رسوله الحلال والحرام والتأويل وعلَّمَ رسول
الله علمه كله علياً (عليه السلام)) وبسنده (عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبدالله
(عليه السلام)قال: إنّ الله تعالى علَّمَ رسول الله (عليه السلام)
القرآن وعلّمه شيئاً سوى ذلك منا علَّمَ رسوله فقد علَّمَ رسوله علياً(عليه
السلام))10 ويقول الإمام علي (عليه السلام) (كنت أدخل على رسول الله كل يوم
دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علِمَ أصحاب رسول الله أنه لم يصنع
ذلك بأحد غيري... وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكتُ وفنيت مسائلي ابتدأني،
فما نزلت على رسول الله آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها
بخطي، وعلّمَني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها،
وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعلمني فهمها وحفظها)11. وقال (عليه
السلام) موضحاً مرجعيته للتفسير وعلوم القرآن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (سلوني قبل أن
تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية في ليل نزلت أو في
نهار أُنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها
ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، لأخبرتكم به)12. واحتفظت لنا كتب الحديث
بعناوين جملة من الكتب، التي أملاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي بن
أبي طالب(عليه السلام)، اشتهر منها «الصحيفة» و «كتاب علي» و «مصحف فاطمة».
أما الصحيفة فهي عبارة عن (صحيفة صغيرة تشتمل على العَقْل ـ مقادير الديات ـ
وعلى أحكام فكاك الأسير)13 أخرج نبأها البخاري، وغيره (عن أبي جعيفة، قال: قلت لعلي: هل
عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فَهْمٌ أَعطيه رجُلٌ مسلم، أو مافي
هذه. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقْل، وفكاك الأسير، وأن
لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر)14.
والكتاب الآخر الذي
ورثه الإمام علي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما
عُرِف بـ «كتاب علي»، قال غذافِر الصيرفي: (كنت مع الحَكَم بن عُتَيْبَة
عند أبي جعفر (عليه السلام)، فجعل يسأله، وكان أبو جعفر (عليه السلام) له
مُكْرِماً، فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا بني قم فأخرج
كتاب علي، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، وفَتَحَهُ، وجعل ينظر حتى أخرج
المسألة. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خطّ علي (عليه السلام)، وإملاء
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد،
إذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالا فوالله لا تجدون العلم
أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (عليه السلام)>15 وعن أبي عبدالله
(عليه السلام) قال: (والله إن عندنا لصحيفة طولها سبعون
ذراعاً، فيها جميع مايحتاج اليه الناس حتى أرش الخدش، إملاء رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) وكتبه علي بيده صلوات الله عليه)>16. وعن (الفضيل بن يسار قال: قال لي
أبو جعفر (عليه السلام): يا فضيل
عندنا كتاب علي سبعون ذراعاً، ما على الأرض شيء يُحتاج اليه إلاّ وهو فيه حتى
أرش الخدش، ثم خطه بيده على إبهامـه)>17.
وكان «مصحف فاطمة»
كتاباً آخر أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه
السلام)، وتوارثه أهل البيت (عليهم السلام) كأحد ودائع النبوة، روى (أبو حمزة
عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: قيل له إن عبدالله بن الحسن يزعم أنه ليس
عنده من العلم إلاّ ما عند الناس، فقال: صدق، والله ما عنده من العلم إلاّ ما
عند الناس، ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام، وعندنا الجفر،
أفيدري عبدالله أمسك بعير أو مسك شاة، وعندنا مصحف فاطمة، أما والله ما فيه
حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)وخط علي عليه السلام..)18.
لقد كان الامام علي بن
أبي طالب (عليه السلام) يمثل المرجعية العلمية في حياة المسلمين بعد وفاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالرغم من إقصائه عن المسرح السياسي في
حياة الخلفاء الثلاث، لكنه كان يسهر على حماية تجربة الاسلام الفتية من
النكوص والتداعي، وهذا ما جعله يسجل حضوراً مشهوداً في مواقف متنوعة، منها ما
يرتبط بالقضاء وحسم الخصومات بين الطرفين المتنازعين حين يتعذر على الخليفة
اتخاذ موقف قضائي بذلك19، ومنها ما
يرتبط ببيان المواقف الاستراتيجية
في المنعطفات السياسية والعسكرية في الحياة الإسلامية، عندما يتعرض المسلمون
لأخطار وشيكة، إثر الصراع المحتدم مع الامبراطوريتين الرومانية والفارسية،
وقوى الشرك الأخرى في الجزيرة العربية. يضاف إلى ذلك الدور البارز الذي اضطلع
به الإمام علي (عليه السلام) في حلّ المعضلات العقائدية والفكرية، التي كانت
تتوالد كلّ يوم مع ازدياد عدد المسلمين واتساع رقعة الدولة الإسلامية. وهذا
ما تحكيه بوضوح المراجع التاريخية، التي تحدثت عن تلك الحقبة، فحين تشير إلى
طبيعة التحديات المختلفة، التي كانت تواجه المسلمين وقتئذ، تكشف عن الدور
المتميز، الذي كان ينهض به الإمام علي (عليه السلام)، ففي التفسير وبيان ناسخ
القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه كان هو المرجع، وفي بيان الأحكام الشرعية هو
المرجع، وفي حلّ المعضلات الفكرية المتنوعة هو المرجع، وفي المناظرات
العقائدية هو المرجع، حتى شهد الخليفة الثاني بمرجعيته هذه غير مرة قائلا:
(لولا عليٌّ لهلك عمر)، و (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، و (لا يُفتين
أحد في المسجد وعليّ حاضر)>20.
من هنا يتبين أنه كان
المدرس الأول في المدينة المنورة، فإن (أمير المؤمنين علَّمَ في مجلس واحد
أربعمائة باب، مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه)>21. وكان هو منهل العلم الذي استقى منه عدد وفير من الصحابة
والتابعين المعارف الاسلامية، واليه ينتهي تأسيس جملة من العلوم الإسلامية،
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: (ومن العلوم علم تفسير القرآن، وعنه أُخِذَ،
ومنه فُرِّع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه وعن
عبدالله بن عباس، وقد علم الناس حالَ ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه اليه،
وأنه تلميذه وخرّيجه. وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنِسبة قطرة
من المطر إلى البحر المحيط. ومن العلوم علمُ الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف،
وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام اليه ينتهون، وعنده يقفون،
وقد صرّح بذلك الشِّبْلي، والجُنَيد، وسَري، وأبو يزيد البِسْطامي، وأبو
محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم... ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس
كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه)>22.
في ضوء ذلك يتضح أن
الإمام علي (عليه السلام) مكث في المدينة المنورة بعد وفاة رسول الله مدة
ناهزت عقدين ونصف العقد عكف فيها على غرس بذرة العلوم الإسلامية، واعداد جيل
من التلامذة كعبد الله بن عباس المعروف بحبر الأمة، أسهم هذا الجيل فيما بعد
في الامتداد بمدرسة علي (عليه السلام) من المدينة إلى بقية الأمصار
الإسلامية، وتنمية العلوم التي غرسها. ومثلما كان للإمام علي الريادة في
إرساء أسس مدرسة المدينة المنورة، والسهر على تربية طائفة من التلامذة من ذوي
البصائر، كذلك فعل الشيء نفسه لما بويع بالخلافة واتخذ من الكوفة عاصمة
له.