مدرسة المدينة في عصر الباقر والصادق عليهما السلام - نشاة الحیاة العلمیة فی الحجاز نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نشاة الحیاة العلمیة فی الحجاز - نسخه متنی

عبدالجبار الرفاعی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

مدرسة المدينة في عصر الباقر والصادق عليهما السلام




وبعد وفاة الإمام علي
بن الحسين (عليه السلام) نهض بمهمة إدارة مدرسته والتعليم فيها ولده الإمام
محمد الباقر (عليه السلام)، الذي احتضن تلامذة أبيه، واقتفى أثره في تربية
مجموعة من العلماء، (وشُهِرَ أبو جعفر بالباقر من: بقر العلمَ، أي شقَّهُ
فعرفَ أصلَهُ وخفيَّه)51. واعترف له
بالتفوق العلمي وأهليته لإمامة المسلمين مَنْ ترجم له من المؤرخين، فمثلا قال
عنه الذهبي: (وكان أحد مَنْ جمع بين العلم والعَمَل والسؤدد، والشرف، والثقة،
والرزانة، وكان أهلا للخلافة)52، وقال عنه
أبو زرعة (ولعمري إنّ أبا جعفر عليه السلام لمن أكبر العلـمـاء)>53. ولم ينفرد الشيعة بتوقير مقامه
والإفادة منه، وإنما ورد نميره طائفة من طلاب العلم الآخرين، لما وجدوا لديه
من غزارة في العلم وإحاطه شاملة بالعلوم الإسلامية، فكانوا إذا أرادوا معرفة
السنة الشريفة جاءوه، وإذا اضطربت الآراء وتزايدت الشبهات لم يجدوا الجواب
النهائي عليها عند غيره، فقد (روى أبو جعفر عليه السلام، أخبار المبتدإ
وأخبار الأنبياء، وكَتَبَ عنه الناس المغازي، وأثروا عنه السُّنْنَ، واعتمدوا
عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار، وناظرَ مَنْ كان
يَرِدُ عليه من أهل الآراء، وحفِظَ عنه الناس كثيراً من علم الكلام... وروي
عنه (عليه السلام) أنه سُئِل عن الحديث يُرسلُه ولا يُسندُه، فقال: «إذ
حدّثتُ الحديث فلم أُسنِده، فسندي فيه أبي عن جدِّي عن أبيه عن جدِّه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل (عليه السلام) عن الله عزّ
وجل»)>54. وكان مجلسه عامراً بالعلماء، وهم في
غاية التواضع والاحترام له، قال عبدالله بن عطاء المكي: (ما رأيتُ العلماءَ
عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)،
ولقد رأيتُ الحكم بن عُتَيبْةَ ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنه
صبيّ بين يدي مُعَلِّمه. وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي
(عليهما السلام) شيئاً، قال: حدّثني وصيُّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء محمد
بن علي بن الحسين (عليهم السلام))55. وكان (عليه السلام) يفد عليه
السائلون وطلاب العلم من شتى البلاد في ذلك العصر، ومجلسه يومئذ معروف في
المسجد النبوي الشريف، ومزدحم بهؤلاء القادمين من تلك البلاد، كلٌ منهم يسأل
ويطلب معرفة الحلال والحرام ومعالم دينه من أبي جعفر عليه السلام، يقول أبو
حمزة الثمالي: (كنت جالساً في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ
أقبل رجل فسلَّمَ، فقال: مَنْ أنت يا عبدالله؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة،
فقلت: ما حاجتك؟ فقال لي: أتعرف أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)؟ فقلت:
نعم، فما حاجتك إليه؟ قال: هيّأت له أربعين مسألة أسأله عنها، فما كان من حقّ
أخذته، وما كان من باطل تركته. قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحقّ
والباطل؟ قال: نعم، فقلت له: فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف ما بين الحقّ
والباطل، فقال لي: أهل الكوفة أنتم قوم ما تُطاقون، إذا رأيت أبا جعفر (عليه
السلام) فأخبرني، فما انقطع كلامي معه حتى أقبل أبو جعفر (عليه السلام) وحوله
أهل خراسان، وغيرهم،، يسألونه عن مناسك الحج، فمضى حتى جلس مجلسه، وجلس الرجل
قريباً منه، قال أبو حمزة: فجلست حيث أسمع الكلام، وحوله عالَم من الناس،
فلما قضى حوائجهم وانصرفوا، اِلتفت إلى الرجل، فقال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا
قتادة بن دعامة البصري، فقال له أبو جعفر(عليه السلام): أنت فقيه أهل البصرة؟
قال: نعم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ويحك يا قتادة...)>56. وقد كان أبو جعفر الباقر (عليه
السلام) مثلما كان أبوه السجاد (عليه السلام)، حيثما ذهب أوحلَّ يلحقه أهل
العلم وينتهز أهل ذلك البلد أو القادمون اليه من بلدان آخرى فرصة وجوده (عليه
السلام)فيرتشفون من منهله الغزير، (عن ثوير بن فاخته، قال: خرجت حاجّاً
فصحبني عمر بن ذر القاضي، وقيس الماصر، والصلت بن بهرام، وكانوا إذا نزلوا
منزلا، قالوا: اُنظر الآن، فقد حررنا أربعة آلاف مسألة تسأل أبا جعفر
(عليه السلام) منها عن ثلاثين كل يوم...)57. أما
اذا بلغ الإمام الباقر (عليه السلام) بيت الله الحرام، فيتهافت على مجلسه
المقيمون في مكة وللقادمون من الامصار، ويصبح مجلسه في البيت الحرام حديث
الحاج في الموسم، لشدة ازدحام الناس عليه، (قال الأبرش الكلبي لهشام، مشيراً
إلى الباقر (عليه السلام): مَنْ هذا الذي احتوشه. أهل العراق يسألونه؟ قال
هذا نبيُّ الكوفة، وهو يزعم أنه ابن رسول الله، وباقر العلم، ومفسِّر القرآن،
فاسأله مسألة لا يعرفها، فأتاه، وقال: يا ابن عليّ قرأت التوراة، والانجيل،
والزبور، والفرقان؟ قال: نعم، قال: فإني أسألك عن مسائل؟ قال: سل، فإن كنت
مسترشداً فستنتفع بما تسأل عنه، وإن كنت متعنتاً فتضلّ بما تسأل عنه...)>58. ويؤكد موقف آخر تجمهر طلاب العلم حوله
عليه السلام في الحرم، كما يقول أبو بصير: (كان أبو جعفر الباقر (عليه
السلام) جالساً في الحرم، وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاووس اليماني في
جماعة، فقال: مَنْ صاحب الحلقة؟ قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام)، قال: إيّاه أردت، فوقف عليه، وسلَّمَ وجلس، ثم قال:
أتأذن لي في السؤال؟ فقال الباقر (عليه السلام): قد أذنّاك فسل...)>59. وتخرج في مدرسة الإمام الباقر (عليه
السلام) نخبة من العلماء الذين سهروا على حفظ ورواية أحاديث أهل البيت (عليهم
السلام)ونشرها بين حفظة العلم، من أمثال أبان بن تغلب بن رَباح، الذي كان من
تلامذة علي بن الحسين، وأبي جعفر، وأبي عبدالله (عليهم السلام)، روى عنهم،
وكانت له عندهم منزلة وقَدَم... وقال له أبو جعفر (عليه السلام): «اِجلس في
مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحِبّ أن يُرى في شيعتي مثلك»... وكان أبان
إذا قدم المدينة تَقَوّضَتْ إليه الحَلَق، وأُخليت له سارية النبي(صلى الله
عليه وآله وسلم))60. واعترف
الجمهور باستيعاب تلامذة الإمام الباقر (عليه السلام) ودقتهم في رواية الحديث
الشريف، فقد ورد في (مسند أبي حنيفة قال الراوي: ماسألت جابر الجعفي قطّ
مسألة إلاّ أتاني فيها بحديث...)61. وهكذا كان
محمد بن مسلم الثقفي الذي يقول: (ما شجر في رأيي شيء قط إلاّ سألت عنه أبا
جعفر (عليه السلام)، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبدالله (عليه
السلام) عن ستة عشر ألف حديث)62 وكان
بعض الوافدين إلى مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) من الأمصار يمكثون عدّة
سنوات فيها للتزود من معارف أهل البيت (عليهم السلام) منقطعين عن أوطانهم
وأهليهم، كما فعل محمد بن مسلم الذي (أقام بالمدينة أربع سنين يدخل على أبي
جعفر (عليه السلام) يسأله، ثم كان يدخل على جعفر بن محمد (عليه
السلام)يسأله)63.


وقدم جابر الجعفي إلى
المدينة لطلب العلم منه (عليه السلام)، يقول جابر: (دخلت على أبي جعفر (عليه
السلام)وأنا شاب، فقال من أنت؟ قلت من أهل الكوفة، قال: ممَّن؟ قلتُ: من
جعفي، قال: ما أقدمك إلى ههنا؟ قلت: طلب العلم، قال: ممن؟ قلتُ: منك...)>64.


ولا يسعنا في هذا
المقام أن نتحدث عن جميع منْ تخرج في مدرسة الامام الباقر، والذين تجاوز عدد
المعروفين منهم أكثر من (450) أربعمائة وخمسين رجلاً65.


وبعد وفاة الإمام
الباقر خلفه في مدرسته ولده الإمام جعفر بن محمد الصادق، الذي (نَقَلَ الناس
عنه من العلوم ماسارت به الرُّكبانُ، وانتشر ذكره في البُلدان، ولم يُنقَل عن
أحد من أهل بيته ما نُقِلَ عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونَقَلةِ
الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبدالله (عليه السلام)، فان أصحاب
الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء
والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل... وكان عليه وآبائه السلام يقول: «حديثي
حديث أبي، وحديثُ أبي حديث جدِّي، وحديث جدِّي حديث علي بن أبي طالب أمير
المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وحديث رسول الله قـول الله عـزَّوجـلَّ»)>66. واتسع نطاق مدرسته فاستوعبت عدداً
غفيراً من طلاب العلم، وامتدت جغرافياً لتتخد من مدينة الكوفة مركزاً لها في
ذروة نموها وتطورها. فإن انتقال الإمام وحلوله في أي مكان كان سبباً لأن
يقصده أهل العلم ويلتفوا حوله للارتشاف من نمير علمه. وكان البعض يستفيد من
وفود الإمام الصادق (عليه السلام) إلى بيت الله الحرام فيتلقى العلم منه،
ويلجأ اليه في دحض شبهات الزنادقة التي بدأت بالظهور في هذا العصر، وبلغت
الجرأة بأصحابها أن يذيعوها في المسجد الحرام في موسم الحج، فان (ابن أبي
العوجاء، وابن طالوت، وابن الأعمى، وابن المُقَفَّع، في نفر من الزنادقة،
كانوا مجتمعين في الموسم بالمسجد الحرام، وابو عبدالله جعفر بن محمد (عليهما
السلام) فيه إذ ذاك يفتي الناس، ويُفسِّر لهم القرآن، ويُجيبُ عن المسائل
بالحجج والبيِّنات. فقال القوم لابن أبي العوجاء: هل لك في تغليط هذا الجالس
وسؤاله عمّا يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فقد ترى فتنة الناس به، وهو
علاّمةُ زمانه، فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم، ثم تقدّمَ ففرّقَ بين الناس،
وقال: أبا عبدالله، إن المجالس أمانات، ولابد لكل من كان به سُعالٌ أن
يسعَلَ، فتأذنُ في السُّؤال؟ فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): «سل إن
شئتَ». فقال له ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا
الحَجَر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمَدَرِ، وتهرولون حوله هرولة
البعير إذا نفر؟! مَنْ فكّر في ذلك وقدّر، عَلِمَ أنه فعلُ غير حكيم ولا ذي
نظر، فقُل فإنك رأس هذا الأمر وسنامُه، وأبوك أُسُّه ونظامه. فقال له الصادق
عليه وعلى آبائه السلام: «إنّ مَنْ أضله الله وأعمى قلبه استوخَمَ الحق فلم
يستعذبه، وصار الشيطان وليَّه وربَّه، يُوردُه مناهل الهلكة، وهذا بيت
اِستعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثَّهم على تعظيمه وزيارته،
وجعله قبلة للمصلين له، فهو شُعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غُفرانه، منصوبٌ
على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال، خلقه قبل دَحْوِ الأرض بألفي عام،
فأُحقُّ مَنْ أُطيعَ فيما أمرَ وانتُهي عمّا زَجَرَ، الله عزَّ وجلَّ
المنشيءُ للأرواح والصور».


فقال له ابن أبي
العوجاء: ذكرت ـ أبا عبدالله ـ فأحلت على غائب. فقال الصادق (عليه
السلام):


«كيف يكون ـ يا ويلك ـ
عنَّا غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهدٌ، وإليهم أقربُ من حبل الوريد؟! يسمعُ
كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشتغل به مكان، ولا يكونُ إلى
مكان أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثارُه، وتدلُّ عليه أفعاله، والذي بُعث
بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءَنا
بهذه العبادة، فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أُوضحه لك». قال: فأبلس
ابنُ أبي العوجاء، ولم يدر ما يقول، فانصرف من بين يديه، وقال لأصحابه:
سألتكُم أن تلتمسوا لي خُمرةً فألقيتموني على جمرة، قالوا له: اسكتْ، فوالله
لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، ومارأينا أحقر منك اليوم في مجلسه فقال: ألي
تقولون هذا؟! إنه ابن مَنْ حلقَ رؤوس مَنْ ترون، وأومأ بيده إلى
أهل الموسم)67.


وعندما نراجع مواقف
المعاصرين للإمام جعفر الصادق من الفقهاء، والرواة، والمفسرين، نجدهم يعترفون
بأسرهم له بالفضل والمقام العلمي الشامخ، ويشهد الخصم منهم فضلا عن سواه
بمرجعيته العلمية، وحاجة الجميع اليه واستغنائه عن الجميع، يقول النوفلي:
(سمعتُ مالك بن أنس الفقيه يقول: والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد
(عليه السلام) زُهداً، وفضلا، وعبادة، وورعاً، وكُنتُ أقصده فيكرمني، ويُقبل
عليّ، فقلتُ له يوماً: يا ابن رسول الله ما ثواب مَنْ صام يوماً من رجب
إيماناً واحتساباً؟ فقال:ـ وكان والله إذا قال صدق ـ حدثني أبي عن أبيه عن
جدِّه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ صامَ من رجب
يوماً ايماناً واحتساباً غفر له، فقلت له: يا ابن رسول الله فما ثواب مَنْ
صام يوماً من شعبان؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه عن جدِّه، قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): مَنْ صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غُفِر
لهُ)>68.


وبمثل هذا يشهد الفقيه
المعروف أبو حنيفة، كما في (مسند أبي حنيفة، قال الحسن بن زياد: سمعتُ أبا
حنيفة وقد سُئِل مَنْ أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد. لما أقدمه المنصور
بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد فهيّىء له
من مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو
بالحيرة، فأتيته، فدخلتُ عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من
الهيبة لجعفر مالم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمتُ عليه، فأومأ إليّ فجلستُ، ثم
التفتَ اليه، فقال: يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفتَ
إليّ، فقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبدالله من مسائلك، فجعلتُ أُلقي عليه
فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا،
فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين
مسألة، فما أخلَّ منها بشيء. ثم قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم
باختلاف الناس)69.


وقد أمضى الامام جعفر
الصادق (عليه السلام) جُلَّ حياته في المدينة المنورة منصرفاً لإحياء السنة
الشريفة ونشر معارف الوحي، كتب الشهرستاني يصف الإمام الصادق (عليه السلام)
(وهو ذوعلم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع
تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة، يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض
على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق، وأقام بها مدة)>70.


واشتهر مجلسه في
المدينة; لأنه (كان يجلس للعامة والخاصة، ويأتيه الناس من الأقطار، يسألونه
عن الحلال والحرام، وعن تأويل القرآن، وفصل الخطاب، فلا يخرج أحد منهم إلاّ
راضياً بالجواب)71. واستقطب
مجلسه القادمين إلى المدينة، فكان أهل العلم لا يتركون الورود عليه عندما
يأتونها، فقد دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبدالله بن مسلم، فقال له: (يا أبا
حنيفة، إن ههنا جعفر بن محمد، من علماء آل محمد، فاذهب بنا إليه، نقتبس منه
علماً، فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم
عليه...)>72 ولم ينقطع توافد أصحابه عليه على مدار
السنة، وكان يزدحم وفدهم وقت الحج، فمثلا عُرِف عن زرارة بن أعين واخوانه
مجيؤهم اليه من الكوفة باستمرار، حتى (قال ربيعة الرأي لأبي عبدالله (عليه
السلام): ما هؤلاء الأخوة الذين يأتونك من العراق، ولم أرَ في أصحابك خيراً
منهم ولا أهيأ؟ قال: أولئك أصحاب أبي، يعني ولد أعين)>73. وهكذا (عمر بن محمد بن يزيد أبو
الأسود بياع السابري... أحد مَنْ كان يفد في كلّ سنة)>74، إلى أبي عبدالله (عليه السلام) من
الكوفة للارتشاف من معارف الوحي لديه. وهاجر آخرون من أصحابه إلى المدينة
عازفاً عن وطنه ملتحقاً به (عليه السلام)، مثلما فعل حماد بن عيسى الجهني
البصري، الذي (لحق بأبي عبدالله (عليه السلام)، ومات بوادي قناة
بالمدينة...سنة تسع ومائتين)75.


وقد أسهم تزايد وفود
أصحاب الصادق (عليه السلام) إلى المدينة في تنامي الحركة العلمية فيها،
وازدهار حلقات الدراسة والمناظرة في أروقة مسجد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، يقول أبو خالد الكابلي: (رأيت أبا جعفر صاحب الطاق،
وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه،
فدنوت منه، فقلت: إن أبا عبدالله ينهانا عن الكلام، فقال: أمرَكَ أن تقول لي؟
فقلت: لا والله، ولكن أمرني أن لا أكلم أحداً، قال: فاذهب فأطعه فيما أمرك،
فدخلت على أبي عبدالله (عليه السلام)، فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وماقلتُ له،
وقوله لي اذهب وأطعه فيما أمرك، فتبسم أبو عبدالله (عليه السلام)، وقال: يا
أبا خالد، إن صاحب الطاق يكلِّم الناس فيطير وينقضّ، وأنت إن قصوك لن
تطير)>76. وما كان لهذه الحركة العلمية أن تأخذ
بالاتساع لو لم يكن الإمام مرشداً وهادياً لها، فقد كان أبو عبدالله (عليه
السلام)، يقول لعبد الرحمن بن الحجاج: (يا عبد الرحمن كلِّم أهل المدينة،
فإنني أُحب أن يُرى في رجال الشيعة مثلك)>77.


وكان الامام جعفر
الصادق (عليه السلام) يغمر تلامذته يفيض من العطف والرعاية والمودة، ويتكفل
شيئاً من نفقتهم، ويقوم بضيافتهم في منزله إذا وردوا المدينة، يقول زيد
الشحّام: (رآني أبو عبدالله (عليه السلام)وأنا أصلي، فأرسل اليَّ ودعاني،
فقالَ لي: من أين أنت؟ قلتُ: من مواليك، قالَ: فأيّ مواليَّ؟ قلتُ: من
الكوفة، فقالَ: مَنْ تعرف من الكوفَة؟ قلتُ: بشير النبّال وشجرة، قالَ: وكيف
صنيعتهما اليك؟ فقال: ما أحسن صنيعتهما إليّ! قال: خير المسلمين مَنْ وصلَ
وأعانَ ونفعَ، مابتُّ ليلة قط ولله في مالي حقّ يسألنيه، ثم قالَ: أي شيء
معكم من النفقة؟ قلتُ: عندي مائتا درهم، قال: أرنيها، فأتيته بها فزادني فيها
ثلاثين درهماً ودينارين، ثم قالَ: تعشَّ عندي، فجئت فتعشّيت عنده، قال: فلما
كان من القابلة لم أذهب اليه، فأرسل إليّ فدعاني من عنده (من غده)، فقال:
مالك لم تأتني البارحة، قد شفقت عليّ؟ فقلتُ: لم يجئني رسولك، قال: فأنا رسول
نفسي إليك مادمت مقيماً في هذه البلدة، أي شيء تشتهي من الطعام؟ قلتُ: اللبن،
قال: فاشترى من أجلي شاة لبوناً...)78. ويتكرر هذا
الموقف مع آخرين من أصحابه جاءوا المدينة، فعن مفضل بن قيس بن رمّانة، الذي
قال: (دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام)، فشكوتُ اليه بعض حالي، وسألته
الدعاء... فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار، فاستعن به، قالَ: قلتُ: لا
والله، جُعِلتُ فداك ما أردتُ هذا، ولكن أردت الدعاء لي ...)>79. وفي حالات أخرى يبادر مَن يدخل عليه
فيكرمه، كما يقول جابر المكفوف: (دخلت عليه، فقال: أما يصلونك؟ قلتُ: بلى،
ربما فعلوا، قال: فوصلني بثلاثين ديناراً ...)>80. بهذا الأسلوب يتفقد أبو عبدالله (عليه
السلام) تلامذته، ويتولى تأمين نفقاتهم، ويقيهم الحاجة إلى غيره، وهو أسلوب
ينبئنا عن كيفية تمويل التعليم وتأمين نفقات المتعلم وقتئذ.


وطالما حثَّ الامام
(عليه السلام) أتباعه على طلب العلم، ولا سيما الشباب منهم، وتمنى لهم أن
ينخرطوا في سلك العلماء والمتعلمين، روى (أبو قتادة عن أبي عبدالله(عليه
السلام)، أنه قال: لستُ أُحبّ أن أرى الشاب منكم إلاّ غادياً في حالين: أما
عالماً أو متعلِّماً، فإن لم يفعل فرّط، فإن فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن
أثم سكن النار، والذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحقّ)>81.


وأفصح الصادق (عليه
السلام) عن معيار يحدد في ضوئه منزلة كلّ واحد من شيعته، فيما رواه عن أبيه
الباقر (عليه السلام) حين قال له: (يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم
ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرِّواية، وبالدرايات للروايات يعلو
المؤمن إلى أقصى درجات الايمان، إني نظرت في كتاب لعليّ فوجدتُ في الكتاب: أن
قيمة كلّ أمرء وقدره معرفته، إن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما
آتاهم من العقول في دار الدنيا)82.


/ 9