تلخيص واستنتاج
تأسيساً على ما سبق
يمكن استخلاص النقاط التالية; لبيان معالم مدرسة المدينة:
1 ـ مؤسس مدرسة
المدينة هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعد الهجرة الشريفة، ثم
وَرثه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وورث الحسنان
أبيهما عليهم السلام، ولم يزل أبناؤهم الأئمة يرث الخلف منهم السلف إلى أن
هاجر الإمام العاشر أبو الحسن الهادي (عليه السلام) تاركاً المدينة إلى
سامراء مكرهاً بأمر المتوكل العباسي.
2 ـ مركز الحركة
العلمية في المدينة هو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففيه كانت
تُعقَد حلقات الدروس، وفيه يتلقى الرواة الأحاديث الشريفة، ويتعلم أهل القرآن
تلاوته، وتفسيره، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه. وفيه أيضاً كانت تجري
المناظرات العلمية، وإليه ترد البعثات من سائر الأمصار، ممن يرحلون في طلب
العلم. وربما علَّمَ الأئمة (عليهم السلام) في منازلهم أحياناً خاصة شيعتهم،
حذراً من أعين السلطان.
3 ـ لم تقتصر مهمة
التعليم في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الائمة (عليهم
السلام) فقط، بل كانت تعقد حلقات لتلامذتهم البارزين أيضاً، مثل حلقة عبدالله
بن عباس كما ذكرنا فيما سبق، وغيره. وبموازاة ذلك عُقِدت حلقات لرجال معروفين
من الصحابة في هذا المسجد كعبدالله بن عمر، وآخرين من التابعين بعد ذلك.
وتميز فيما بعد دور مالك بن أنس الذي انطلق مذهبه من أروقة مسجد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتلميذه محمد بن إدريس الشافعي.
4 ـ مرت مدرسة أهل
البيت (عليهم السلام) بالمدينة تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها
التشيع بالأدوار التالية:
أ ـ الدور
الأول: ويبدأ هذا الدور بتأسيس مدرسة المدينة، ويمتد إلى
وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) سنة 148 هـ ، ويمثل هذا الدور
الذي استمر قرن ونصف القرن تقريباً عصر نشأة هذه المدرسة ونموها وبلوغها ذروة
تكاملها في حياة الإمام الصادق (عليه السلام).
ب ـ الدور
الثاني: ويبدأ هذا الدور مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم
(عليه السلام)بعد وفاة أبيه جعفر الصادق (عليه السلام)، ويمتد إلى مغادرة
الإمام علي بن محمد الهادي المدينة إلى سامراء نحو سنة 234 هـ ، ويمثل هذا
الدور الذي استمر نحو قرن من الزمان عصر انكماش هذه المدرسة، واختفاء بعض
نشاطاتها، وانتقال بعض حلقاتها من المسجد النبوي، وغيابها في بيوت أهل البيت
(عليهم السلام) وشيعتهم بالمدينة، وتحّول بعض فعالياتها العلمية، مثل بعض
الاتصالات والمكاتبات إلى الحالة السرية، حذراً من السلطان الغاشم وجواسيسه
على نشاطات الأئمة وشيعتهم.
جـ ـ الدور
الثالث: ويبدأ هذا الدور في منتصف القرن الثالث الهجري، بعد
هجرة الإمام الهادي (عليه السلام) من المدينة، وانتقال مركز علوم أهل البيت
(عليهم السلام) قبل ذلك إلى الكوفة، وقم، والري، ثم بغداد. ويمثل هذا الدور
عصر اضمحملال هذه المدرسة، وأفولها، وقلة تعاطي دراسة علوم أهل البيت (عليهم
السلام) فيها.
5 ـ كانت مدرسة
المدينة هي الينبوع الذي تدفقت منه علوم أهل البيت(عليهم السلام) إلى المراكز
العلمية الأخرى عند الشيعة، فمنها فاض العلم إلى الكوفة، ومنها فاض العلم إلى
البصرة، ومنها فاض العلم إلى قم والري، ثم انتشرت العلوم من هذه المراكز فيما
بعد إلى غيرها من البلدان.
6 ـ علوم مدرسة
المدينة تمحورت بالسُنة الشريفة، والتفسير وعلوم القرآن، بشكل أساسي، وظهرت
فيها في فترة لاحقة بذور علم الكلام والفقه، واشتد عود العلمين الأخيرين في
الدور الثاني من أدوار مدرسة المدينة.
7 ـ خَلَّفَت مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) في المدينة ميراثاً علمياً هاماً، تجسَّدَ في
مجموعة كُتُب توارثها أهل البيت (عليهم السلام)، هي: «صحيفة علي (عليه
السلام)»، و«كتاب علي(عليه السلام)» أو «الجامعة»، و«مصحف فاطمة (عليها
السلام)»، و«الصحيفة السجادية»، و«رسالة الحقوق». هذا غير الكُتب والمصنفات
العديدة المنسوبة للأئمة (عليهم السلام)، التي رواها تلامذتهم عنهم>128.
8 ـ شهدت مدرسة
المدينة أول تجارب للبعثات التعليمية في تاريخ التعليم عند المسلمين، إذ
لاحظنا بعض تلامذة أهل البيت (عليهم السلام) يهاجر من موطنه في العراق، ويقيم
في المدينة أربع سنوات لغرض الدراسة، بينما كان آخرون يمكثون فترات أقل،
ويتكاثف وجود طلاب العلم في موسم الحج.
9 ـ عرفت مدرسة
المدينة بالمدرسة السيارة المتنقلة، كما لاحظنا ذلك في خروج عدد غفير من
القراء بمعية علي بن الحسين (عليه السلام) إلى مكة ورجوعهم معه بعد الفراغ من
الموسم، واهتمامهم بالتلقي منه طيلة الطريق، وهكذا فعل أهل العلم مع بقية أهل
البيت (عليهم السلام). حتى أضحت مدرسة المدينة تنتقل إلى مكة كل عام في موسم
الحج مع قدوم إمام ذلك العصر إلى الحج، فيزدحم حوله المحدثون والفقهاء
والمتكلمون للارتشاف من نمير علمه في حلقته بالمسجد الحرام طيلة مقامه
بمكة.
10 ـ ظهرت في مدرسة
المدينة التجارب الأولى لتمويل التعليم عند المسلمين، بإيواء التلميذ القادم
من خارج المدينة، واستضافته، والانفاق عليه.