مدرسة المدينة بعد الامام الصادق (عليه السلام)
لم يدم عصر الازدهار
الذي عاشته مدرسة المدينة بعد وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) إثر ازدياد
الاضطهاد، الذي كان يتعرض له تلامذة الأئمة في العصر العباسي، وقسوة الأحوال
الأمنية التي عاشوها، وانتهت بإمامهم موسى الكاظم(عليه السلام) إلى السجن، ثم
القتل بالسم. وهيمنت حالة من الخوف والذعر على الشيعة بالمدينة، أدت إلى
حرصهم على التكتم، واحاطة نشاطهم بالسرية، يقول هشام بن سالم: (كنا بالمدينة
بعد وفاة أبي عبدالله (عليه السلام)، أنا، ومؤمن الطاق، وأبو جعفر، ...
فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخاً لا أعرفه يومي إليّ بيده، فخفت أن يكون من عيون
أبي جعفر، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على أن من اتفق من شيعة
جعفر فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم، فقلت لأبي جعفر: تنحَّ فإني خائف على
نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنحَّ عني لا تهلك وتعين على نفسك،
فتنحّى غير بعيد. وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلّص منه،
فمازلت أتبعه حتى وردني على باب أبي الحسن موسى (عليه السلام)، ثم خلاّني
ومضى، فإذا خادم بالباب، فقال لي: أدخل رحمك الله، قال: فدخلت فإذا أبو الحسن
(عليه السلام)،.. قلت: جُعلتُ فداك، أسألك عما كان يسأل أبوك؟ قال: سل تُخبَر
ولا تُذِع، فإن أذعت فهو الذبح، قال: فسألته فإذا هو بحر. قال: قلت: جُعلت
فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلاّل فألقي إليهم، وادعوهم إليك فقد أخذت عليّ
بالكتمان؟ قال: مَنْ آنست منهم رُشداً فألق إليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإن
أذاعوا فهو الذبح، وأشار بيده إلى حلقه...)>83.
إن هذه الظروف حالت
بين الإمام الكاظم (عليه السلام) واتصال أصحابه به بنحو طبيعي، ذلك أن غياب
الحرية ينتج ضمور الحركة العلمية وتراجعها، ومع ذلك فإن الإمام (عليه السلام)
لم يتخلَّ عن مهمة بثّ معارف الوحي ونشرها بين خاصة أصحابه، كما حرص تلامذته
على الإفادة من أية فرصة تتاح لهم بلقائه، وتسجيل كلّ شيء يتفوّه به، روى أبو
الوضاح أن أباه قال: (كان جماعة من خاصة أبي الحسن (عليه السلام) من أهل
البيت، والشيعة، يحضرون، ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف، وأميال، فإذا
نطق أبو الحسن بكلمة أوأفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك)>84.
وأصر الشيعة على
مواصلة الاتصال بأبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) وهو في سجنه ببغداد،
عبر مراسلات كانت تجري بطريقة سرية، ولم تمنعه الرقابة المشددة في السجن،
وقسوة الأحوال التي كان يعيشها فيه من بيان معارف الوحي على خاصته، يقول علي
بن سويد السائي: (كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) وهو في الحبس، أسأله عن
حاله، وعن جواب مسائل كتبت بها إليه، فكتب إلي: بسم الله الرحمن
الرحيم...)>85.
وربما بادر في بعض
المرات فبعث هو رسائل من سجنه إلى شيعته لتجلية وتوضيح أمور معينة; لئلا
يلتبس الموقف فيها عليهم، يقول الحسين بن المختار: (خرجت إلينا ألواح من أبي
إبراهيم موسى (عليه السلام)، وهو في الحبس، فإذا فيها مكتوب: عهدي إلـى أكبـر
ولـدي)>86. بيد أن ماتعرض له الإمام موسى بن
جعفر(عليه السلام) من رقابه مشددة، آلت في خاتمة المطاف إلى الحبس ثم
الشهادة، لم تحجبه عن طلاب العلم وتمنعهم من التلّمُذ على يديه، أحصى منهم
الشيخ الطوسي في رجاله ما يربو على مائتين وخمسين>87. ومع أن هذا العدد من التلاميذ يعدّ
قليلا بالمقارنة مع عدد تلامذة أبيه جعفر الصادق (عليه السلام)، الذي قُدِّر
بأربعة آلاف، لكن هذا العدد يعتبر كبيراً بالنسبة إلى طبيعة الظروف السياسية،
التي عاشها الإمام وأصحابه في ظل الحكم العباسي.
وبالرغم من أن هذه
الظروف أعاقت الإمام الكاظم (عليه السلام) عن التصدي للتدريس وادارة الحلقات
العلمية في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثلما كان يفعل سلفه،
إلاّ أنه عمد لتبني أساليب أخرى لاتثير حفيظة عيون السلطة، في تربية وتعليم
تلامذته، ويمكن التعرف على شيء من ذلك في العدد الوفير من الصحف والنسخ
الحديثية التي دونها هؤلاء التلاميذ عنه، فقد ذكر النجاشي طائفة من أسمائهم
مع بيان لأسماء كتبهم التي تلقوها من الإمام الكاظم (عليه السلام)، ومن
هؤلاء: محمد بن تميم النَهشلي التميمي البصري88،
ومحمد بن صدقة العنبري البصري89، وعلي بن
عبيد الله بن حسين90، والحسن ابن
علي بن يقطين91، وأخو
الإمام الكاظم علي بن جعفـر92، ومحمد بن
الفرج الرُخَّجِيّ93، وعبدالله
ابن محمد الأهوازي94، وعلي بن
يقطين>95، وموسى بن إبراهيم المروزي>96، وعلي بن حمزة بن الحسن>97، ومحمد بن زُرْقان>98، ومحمد بن ثابت>99، ومحمد بن فُضيل بن كثير الصيرفي
الأزدي>100. وذكر الشيخ الطوسي في الفهرست
«مسائل» ليونس بن عبد الرحمن101، ولصفوان
بن يحيى>102، روياها عن موسى بن جعفر (عليه
السلام).
ولم يقفل مسجد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الحقبة أبوابه تماماً عن حلقات
الدراسة، ومجالس العلم الشيعية، وإنما كان ينتخب موسى بن جعفر (عليه السلام)
بعض أصحابه، ممن يتوفر على مزايا علمية متميزة، فيوجهه لعقد مجلس علم في
المسجد; لئلا يغيب صوت الهدى عن هذا المكان الشريف، يقول حماد: (كان أبو
الحسن (عليه السلام)يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد
رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يكلّمهم ويخاصمهم، حتى كلمهم
في صاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه، قال له: ما قلتَ لهم؟ وما قالوا لكَ؟
ويرضى بذلك منه)103.
على أن قلة ظهور موسى
بن جعفر (عليه السلام) وتكتمه على بعض نشاطه العلمي، لم يخف حقيقته عن
المسلمين، فقد أستأثر بمقام المرجعية العلمية خلفاً لسلفه من آبائه الأئمة
(عليه السلام)، واعترف له بذلك قطّاع كبير ممن عاصره أوجاء بعده، فمثلا (كان
أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (عليهم السلام)، لما روي عنه، قال:
حدثني موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن
علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال:
حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ثم قال أحمد: وهذا إسناد لو قُري على مجنون لأفاق)>104. بل أن هارون الرشيد الذي حبس موسى بن
جعفر (عليه السلام)فيما بعد، يعترف بمقامه العلمي لما دخل عليه الإمام في
المدينة، فبالغ الرشيد في احترامه، سأله ولده المأمون عن دوافع هذا الاحترام
بدهشة! (لقد رأيتك عملتَ بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء
المهاجرين، والأنصار، ولا بني هاشم، فمَن هذا الرجل؟ فقال: يابني هذا وارث
علم النبيين، هذا موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، إن أردت العلم الصحيح
فعند هذا. قال المأمون: فحينئذ انغرس في قلبي محبتهم)>105.
وبعد وفاة الإمام موسى
بن جعفر (عليه السلام) تصدّى لرعاية مدرسة المدينة ولده الإمام علي بن موسى
الرضا (عليه السلام)، الذي نهج منهج سلفه في إشاعة معارف الوحي لتلامذته
الخاصين، حذراً من محاولات السلطة العباسية التي اغتالت والده، وكثّفت جهودها
لإجهاض مدرسته، ولذلك لم تعد حلقات مدرسة أهل البيت (عليهم
السلام)في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الحقبة إلى عصر
ازدهارها السابق في أيام جعفر الصادق (عليه السلام) وأبيه محمد الباقر (عليه
السلام) فقد صوّر أحد تلامذة الإمام الرضا (عليه السلام)حالة الخوف التي
كانوا يعيشونها عقيب وفاة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، بقوله: (لما مضى
أبو الحسن موسى (عليه السلام)، وتكلَّم الرضا خفنا عليه من ذلك، وقلنا له:
إنك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية، فقال: ليجهد جهده،
ولا سبيل له عليّ. قال صفوان: فأخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد، قال للطاغي:
هذا عليّ ابنه قد قعد وادّعى الأمر لنفسه، فقال: ما يكفينا ما صنعنا بأبيه،
تريد أن نقتلهم جميعاً)106 من هنا
اضطر علي بن موسى (عليه السلام) لاقتفاء أثر أبيه في التكتم على المهم من
حركته العلمية في زمن هارون الرشيد، لكن هلاك الرشيد وجلوس المأمون الذي أظهر
الولاء لأهل البيت على منصة الخلافة، أشاع مناخاً مناسباً من الحرية للإمام
الرضا (عليه السلام)وتلامذته، وأتاح لهم ممارسة حياتهم الفكرية من دون خشية
السلطان، وبرز الدور العلمي للإمام بالتدريج، بحيث أضحى مقامه العلمي في
المدينة، هو المرجع الذي يتلقى جميع أهل العلم منه، ويرجع إليه طلاب العلم
دون غيره من علماء التابعين، الذين كان عددهم وفيراً في المدينة أنذاك، كما
ينقل أبو الصلت الهروي: (ولقد سمعتُ عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)،
يقول: كنتُ أجلسُ في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيى الواحد
منهم عن مسألة، أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل، فأجبتُ
عنها)>107. وقد أذعن علماء الأديان له، واعترفوا
بتفوقه العلمي، بعد أن فنّدَ مقولاتهم، ونقض حججهم، وتغلب عليهم في مناظراته
معهم، فقد ذكر الهروي أنه لم يرَ (أعلم من علي بن موسى الرضا (عليهما
السلام)، ولارآه عالم إلاّ شهدَ له بمثل شهادته، ولقد جمع المأمون في مجالس
له ذوات عدد علماء الأديان، وفقهاء الشريعة، والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم،
حتى مابقي أحد منهم إلاّ أقرّ له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور...)>108.
وأكّدَ إبراهيم بن
العبّاس تفوق علي بن موسى الرضا (عليه السلام) العلمي على كافة علماء عصره،
بقوله: (... وما رأيته نقل إلاّ علمه، ولا رأيت أعلم منه، بما كان في الزمان
إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه، وكان
كلامه كلّه، وجوابه، وتمثّله، انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاث،
ويقول: لو أني أردت أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قط إلاّ
فكرتُ فيها، وفي أي شيء أُنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرتُ أختمه في كلّ
ثلاث)>109.
لقد ازدلف طلاب العلم
من شتى الأمصار ينهلون من معارف الوحي عند علي بن موسى الرضا (عليه السلام)،
وصار العلماء يقتفون أثره للتزود منه أينما حلَّ، كما (حدث أبو الصلت، قال:
كنت مع علي ابن موسى الرضا (عليه السلام)، وقد دخل نيسابور، وهو راكب بغلة
شهباء، فغدا في طلبه علماء البلد: أحمد بن حرب، وياسين بن النضر، ويحيى بن
يحيى، وعدة من أهل العلم، فتعلقوا بلجامه في المربعة، فقالوا: بحق آبائك
الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك، قال: حدثني أبي العدل الصالح موسى بن
جعفر، قال: حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي باقر علم الأنبياء
محمد بن علي، قال: حدثني أبي سيد العابدين علي بن الحسين، قال: حدثني أبي سيد
شباب أهل الجنة الحسين بن علي، قال: سمعت أبي سيد العرب علي بن أبي طالب،
قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الإيمان معرفة بالقلب،
وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. قال: وقال: أحمد بن جنبل: لو قرأت هذا
الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه)110. وروى أبو
الصلت هذا الحديث في مجلس طاهر بن عبدالله بن طاهر بخراسان، (وفي مجلسه يومئذ
إسحاق بن راهويه... وجماعة من الفقهاء وأصحاب الحديث... فخرس أهل المجلس
كلّهم، ونهض أبو الصلت، فنهض معه إسحاق بن راهويه والفقهاء، فأقبل إسحاق بن
راهويه على أبي الصلت، وقال له..: يا أبا الصلت، أي إسناد هذا؟ فقال: يا بن
راهويه، هذا سعوط المجانين، هذا عطر الرجال ذوي الألباب)>111.
لقد منحت الحرية
النسبية في عصر المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) فرصة ثمينة لنشر السُّنة
الشريفة بين رواة الحديث، ولذلك كان يحثّ أصحابه باستمرار على تعلم معارف أهل
البيت (عليهم السلام)، واذاعنها ونشرها بين الناس، كيما يتعرف الناس على
معالم مدرسة الوحي عبر قنواتها الأصيلة. يقول الهروي: (سمعتُ أبا الحسن علي
بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: وكيف
يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن
كلامنا لاتبعونا...)112 ووردت
اشارات يستفاد منها أن الإمام الرضا (عليه السلام) كان يطلب من بعض تلامذته
التصدي لمهمة التعليم في مواطنهم، وكان يحيل إليهم أصحابه من مواطنيهم، فقد
ذكر عبد العزيز بن المهتدي، الذي كان من خاصة أصحاب الإمام(عليه السلام) أنه
سأله قائلا: (إني لا ألقاك في كلّ وقت، فعمَّن آخذ معالم ديني؟ قال: خُذّ من
يونس بن عبدالرحمن)113. وقال ابن
المسيب الهمداني: (قلت للرضا(عليه السلام)شقتي بعيدة، ولستُ أصل اليك في كلّ
وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين
والدنيا)>114. إن توجيه الإمام الرضا (عليه السلام)
أصحابه لتعلم معالم دينهم من يونس بن عبد الرحمن، وزكريا بن آدم، يدلل على
اهتمام الإمام (عليه السلام) بتنمية النبتة الفتية للحركة العلمية في الأمصار
الشيعية، التي غُرست بذرتها من قبل آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وتلامذتهم
المخلصين. وتجدر الاشارة إلى أن العصر الذي عاش فيه الإمام الرضا (عليه
السلام)اتسم بازدهار الحياة العقلية وتأسيس مراكز علمية هامة لدى المسلمين،
التي كان من أبرزها بيت الحكمة في بغداد، الذي باشر فيه جملة من المترجمين
نقل العلوم اليونانية وغيرها من علوم الأوائل إلى العربية. وقد رافق هذه
الحركة ولادة وانبعاث مجموعة تيارات فكرية، كانت تموج بها الحياة العقلية
وقتئذ، وولدت في هذا الفضاء الثقافي أسئلة متنوعة، حار أهل العلم في تقديم
إجابات شافية عنها، فتكفل علي بن موسى الرضا (عليه السلام)بيان إجابات دقيقة
عن تلك الأسئلة الحائرة، فقد ذكر محمد بن عيسى اليقطيني في تقدير عدد
الأسئلة، أنه: (لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، جمعت
من مسائله، مما سُئل عنه وأجاب عنه، خمس عشرة ألف مسألة)>115. وهو عدد كبير، ولاسيما إذا لاحظنا
طبيعة العصر آنذاك وبدائية وسائل الاتصال فيه. بيد أن هذا العدد من المسائل
يكشف عن مدى نمو الحياة العقلية في ذلك العصر، والموقع الذي كان يحتله الإمام
في توجيهها.
وبعد وفاة علي بن موسى
الرضا (عليه السلام) ورثه في الإشراف على مدرسة المدينة ولده أبو جعفر محمد
الجواد (عليه السلام)، الذي نصّ عليه بقوله: (... هذا أبو جعفر، قد أجلسته
مجلسي، وصيّرته مكاني، وقال: إنّا أهل بيت يتوارث أصاغِرُنا عن أكابرنا
القُـذَّةُ بـالقُـذَّةِ)116. وقد تصدى أبو جعفر (عليه
السلام) للمهام، التي كان يضطلع بها أبوه من قبل في سن مبكرة، وبرهن للعامة
والخاصة تقدمه على سواه، وحمله لمواريث النبوة، فكان إذا دخل مسجد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) هرع اليه أهل العلم للإفادة منه، وتؤكد بعض
المواقف أنّ التبجيل والاحترام اللذين يعامله بهما هؤلاء يعبران عن اعترافهم
بفضله وتقدمه على غيره، ويتجلّى هذا بوضوح في الموقف الذي نقله (محمد بن
الحسن بن عمار، قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت
عنده سنين أكتب عنه مايسمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن (عليه السلام) ـ إذ دخل
عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد ـ مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) ـ فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولارداء، فقبّلَ يده وعظّمه، فقال له أبو
جعفر (عليه السلام): يا عم أجلس رحمك الله، فقال: ياسيدي كيف أجلس وأنت قائم،
فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه،
وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا، إذا كان الله عزّ وجل ـ وقبض على
لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة، وأهّلَ هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، أُنكر فضله؟!
نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد)117. مع
العلم أن علي بن جعفر كان من العلماء المعروفين في مدرسة أهل البيت (عليهم
السلام) في ذلك الوقت، حتى أن بعض التلامذة كان يبقى عدة سنوات متلمذاً عليه،
وهو في هذا المقام العلمي الشامخ نراه يبالغ في تعظيم الإمام الجواد (عليه
السلام)، وهذا يكشف عن الإذعان لمرجعيته العلمية لمدرسة المدينة، والاعتراف
بتفوقه على مَنْ عاصره من أهل العلم. وقد تجاوزت شهرة الإمام (عليه السلام)
حدود المدينة، فعرفه أهل العلم في بقية الأمصار، خاصة في عاصمة الخلافة يومئذ
بغداد، (وكان المأمون قد شُغِفَ بأبي جعفر (عليه السلام)، لمّا رأى من فضله
مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب، وكمال العقل، مالم يساوه فيه
أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوجه ابنته أم الفضل، وحملها معه إلى المدينة،
وكان متوفراً على إكرامه، وتعظيمه، وإجلال قدره)>118. وكان المأمون قد واجه معارضة شديدة
من البيت العباسي لما قرر تزويج ابنته لأبي جعفر الجواد(عليه السلام)، فاضطر
أن يُفصِح لهم عن الأسباب التي دعته للإقدام على ذلك، بقوله: (وأما أبو جعفر
محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر
سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ماقد عرفته منه فيعلموا
أن الرأي ما رأيتُ فيه)119. إلاّ أن
المعترضين لم يقبلوا ما قاله المأمون، (فقالوا: إن هذا الصبي وإن راقك منه
هدْيُه، فإنه صبيٌ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب، ويتفقه في الدين، ثم
اصنع ماتراه بعد ذلك.. فقال لهم: ... فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر، بما
يتبين لكم به ما وصفتُ من حاله). فاتفقوا مع المأمون على انتداب قاضي القضاة
يحيى بن أكثم لامتحانه، وكان أبو جعفر يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فعُقِدَ
مجلس بحضور المأمون، والمعترضين، وبدأت المناظرة بسؤال وجهه يحيى بن أكثم
لأبي جعفر(عليه السلام)، بالصيغة التالية: (ما تقول ـ جُعِلتُ فداك ـ في
مُحرِم قَتَلَ صيداً؟ فقال له أبو جعفر: قَتَلهُ في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً
كان الُمحرِم أم جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حُراً كان الُمحرِم أم عبداً؟
صغيراً كان أم كبيراً؟ مُبتدِئاً بالقتل أم مُعيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد
أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصرّاً على ما فعلَ أو
نادماً؟ في الليل كان قتلهُ للصيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعُمرة إذ قتله،
أو بالحجّ كان مُحرماً؟ فتحيَّرَ يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز
والانقطاعُ، ولَجلَجَ حتى عَرَفَ جماعةٌ أهل المجلس أمره، فقال المأمون:
الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال
لهم:
أعرفتم الآن ما كنتم
تُنكِرُونه؟...) ثم أجاب أبو جعفر (عليه السلام) على هذه الفروع بالتفصيل،
وعاد فسأل يحيى بن أكثم بمسألة أخرى، فلم يحر ابن أكثم جواباً، فأجاب عليها
الإمام (عليه السلام) مثلما فعل في سابقتها (فأقبلَ المأمون على مَنْ حضره من
أهل بيته، فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيبُ عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو
يعرف القول فيما تقدَّم من السؤال؟! قالوا: لا والله، إن أمير المؤمنين
أعلَمُ وما رأى.
فقال لهم: ويحكم، إن
أهلَ هذا البيت خُصُّوا من الخلق بماترون من الفضل، وإنَّ صِغَر السنِّ فيهم
لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو ابن عشر
سنين، وقبل منه الإسلام، وحَكَمَ له به، ولم يدعُ أحداً في سنِّه غيره.
وبايَعَ الحسن والحسين(عليهما السلام)، وهما ابنا دون الست سنين، ولم يبايع
صبياً غيرهما؟ أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم، وأنَّهم ذريّة
بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوَّلهم؟! قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين،
ثم نهض القوم)120.
ومكث أبو جعفر مضطلعاً
بالمرجعية العلمية في المدينة طيلة حياته، (فلم يزل بها حتى أشخصه المعتصم في
أول سنة عشرين ومائتين إلى بغداد، فأقام بها إلى أن توفي في آخر ذي القعدة من
هذه السنة)>121. وكان مقامه في المدينة محط أنظار
الفقهاء والمحدثين، فقد استقطب القادمين إلى الحج منهم، وكانوا بعد إنصرافهم
يردون المدينة للقاء أبي جعفر الجواد (عليه السلام) والتزود من علومه،
والوقوف على الإجابات الصحيحة للأسئلة والإشكالات المختلفة، التي كانت تتوالد
كلّ يوم، مع اتساع معرفة المسلمين بالثقافات المترجمة من اليونانية
والسريانية وغيرها. ففي أحد السنوات (وكان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد
والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة; ليشاهدوا
أبا جعفر (عليه السلام)، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه السلام)
لأنها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج اليهم عبدالله بن
موسى، فجلس في صدر المجلس، وقام مناد، وقال: هذا ابن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فمن أراد السؤال فليسأله، فسُئِل عن أشياء أجاب عنها بغير
الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمّوا
بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر (عليه السلام) يكمل لجواب
المسائل لما كان من عبدالله ما كان، ومن الجواب بغير الجواب. ففُتِحَ عليهم
باب من صدر المجلس، ودخل موفَّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم،
واستقبلوه، وسلموا عليه، فدخل صلوات الله عليه، وعليه قميصان، وعمامة
بذوابتين، وفي رجليه نعلان، وجلس، وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة فسأله
عن مسائله، فأجاب عنها بالحق، ففرحوا، ودعوا له، وأثنوا عليه، وقالوا له: إنّ
عمَّك عبدالله أفتى بكيت وكيت، فقال:لا إله إلاّ الله، ياعمّ إنّه عظيم عند
الله أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تُفتي عبادي بما لم تعلم، وفي
الأُمة مَنْ هو أعلم منك؟)122.
وخلَّفَ الإمام أبو
جعفر الجواد (عليه السلام) بعد وفاته ولَده الإمام أبا الحسن علي الهادي
(عليه السلام)، الذي شغل مقام أبيه في رعاية مدرسة المدينة، فقد مكث الإمام
الهادي (عليه السلام) في المدينة نحو ثلاث وعشرين سنة بعد وفاة أبيه، ثم
أشخصه المتوكل العباسي إلى العراق، (وكان مقامه بسُرّ مَنْ رأى إلى أن قُبِض
عشر سنين وأشهراً)123. وكان أبو
الحسن (عليه السلام) يتولى رعاية تلامذته، ويشرف على أنشطتهم، ويتابع
أعمالهم، ويراقب سلوكهم وهو في المدينة، عبر مكاتباته معهم، هذه المكاتبات
التي تضمنت حلولا لمشكلات عقائدية وفكرية كان يتعرض لها أتباع الإمام (عليه
السلام) المنتشرون في شتى الأصقاع، ولعلّ من أبرز هذه المكاتبات رسالته (عليه
السلام)في الرد على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل والمنزلة بين
المنزلتين، والتي جاء فيها: (من علي بن محمد، سلام عليكم، وعلى مَنْ اتبع
الهُدى، ورحمة الله وبركاته، فإنه ورد عليّ كتابكم، وفهمت ما ذكرتُم من
اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القَدَر، ومقالة مَنْ يقول منكم بالجبر، ومَنْ
يقول منكم بالتفويض، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثم
سألتموني عنه، وبيانه لكم، وفهمتُ ذلك كله. اعلموا رحمكم الله...)>124. وكان أصحابه يلجأون اليه في
مختلف أنواع التحديات التي تواجههم، ويأتي جوابه ليكون القول الفصل في ذلك،
فمثلا كتب اليه بعض أصحابه: (جُعِلتُ فداك ياسيّدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه
من أوليائك، وأنك أنت الأول القديم، وأنَّه بابك ونبيك أمرته أن يدعو إلى
ذلك، ويزعم... فكتب (عليه السلام): كَذَبَ ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك
أني لا أعرفه في موالي، مالَه لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمداً
والأنبياء قبله إلاّ بالحنيفية...)125.
وكانت الحركة العلمية
عند الشيعة تخطى برعاية الإمام بكافة مناشطها وفعالياتها، وحرص الشيعة في
عصره على الرجوع اليه فيما التبس من مواقف وأفكار في حياتهم، واطلاعه على
التراث الذي بأيديهم، لمعرفة مدى أصالته ومطابقته لهدي أهل البيت (عليهم
السلام)، فقد قال الجعفري: (أدخلتُ كتاب يوم وليلة الذي ألفه يونس بن عبد
الرحمن على أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، فنظر فيه، وتصفحه كلّه، ثم قال:
هذا ديني ودين آبائي، وهو الحقّ كلّه)126.
ومع أن المصادر
التاريخية تسكت عن الحديث حول النشاط التعليمي الخاص لأبي الحسن الهادي (عليه
السلام) في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة، إلاّ أن
المصادر الرجالية ترجمت لأكثر من مائة وستين تلميذاً من أصحاب الإمام الهادي
(عليـه السـلام)127، من سائر
بلدان التشيع وقتئذ. ويدل هذا العدد على كثافة الجهود التي كان يبذلها أبو
الحسن (عليه السلام) في تربية وتعليم تلامذته المقيمين في المدينة، والذين
يعيشون خارجها; في سائر البلدان.