تمهيد
إنّ ممّا لا يختلف فيه
اثنان أنّ الحديث أو الكتابة أو البحث عن الحرمين المباركين ، الحرم
المكّي ، الحرم المدني ، له من جلال الشأن وعلوّ القدر ما لا يضاهيه شيء
أبداً ، خاصّة إذا كان الباحث ممّن يرجو الله واليوم الآخر ، فيدفعه هذا
الاهتمام الدقيق بهما ، وتقصّي كلّ شؤونهما ، وما يتضمّناه من تاريخ طويل
ضارب في عمق التاريخ ، وما يستوحيه الإنسان من خلال تواجده فيهما من مفاهيم
إيمانية وأخرى أخلاقية وسياسيّة واجتماعية . . . ويستحضر تلك
المواقف الجليلة لأولئك الأفذاذ ، الذين قدّموا كلّ غالٍ في سبيل المحافظة
عليهما ورعايتهما وإيصالهما للآتي من الأجيال . .
ولئن كان الحرم المكّي قد
تظافرت عليه جهود أنبياء ثلاثة (إبراهيم وإسماعيل ومن ثمّ رسول الله(صلى الله عليه
وآله)) حتّى صار بالصورة ، التي أرادتها السماء {مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} و
{قِيَاماً لِلنَّاسِ} و {حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} وليكون مكاناً لعبادة الله تعالى
{وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ . . .} {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَات . . .}
و . .
فإنّ الحرم المدني كان
مديناً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقط وفقط ، الذي ما إن وطأت قدماه
المباركتان تراب يثرب ، وما إن ضمّ ترابها جسده الشريف حتّى صارت المدينة
حرماً آمناً بعد مكّة في المنزلة ، تشتاق إليها ـ كمكّة ـ الأرواح وتهفو إليها
الأفئدة ، ويتسابق إلى زيارتها جيل بعد جيل منذ أكثر من ألف وأربعمائة
سنة ، فلا نرى حاجّاً لمكّة أو معتمراً إلاّ وقد أكمل حجّه أو عمرته بزيارة
المدينة المنوّرة حيث المرقد الطاهر المبارك لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ،
وحيث المراقد المباركة لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، وللشهداء والصحابة
رضوان الله عليهم ، وحيث المعالم المباركة وآثار الرسالة
الخالدة . . .
* *
*
والكتاب الذي بين
أيدينا واحد من تلك البحوث والمؤلّفات ، إنّه «الحرم المكّي الشريف والاعلام
المحيطة به» ، وهو دراسة ميدانية ، تاريخية ، فقهية ، كانت
أُطروحةً نال بها المؤلّف شهادة الدكتوراه ، كتاب قيّم جدّاً ،
ومهمّ ، لايستغني عنه أيّ باحث أو متتبّع للحرم المكّي تأريخيّاً
وفقهيّاً . . فأهمّيته الكبيرة وقيمته العلمية العالية يكتسبها هذا
الكتاب من كونه دراسة خارج المكاتب المتعارفة للكتابة والتأليف ، فهو أي
المؤلّف لا يكتفي بأن ينزوي هنا أو هناك في زاوية من زوايا مكتبته أو مكتبة أخرى
يراجع كتاباً أو يتصفّح مصدراً ، ليتّخذه مدركاً لرأي رآه ، أو قولٍ
ذكره ، أو شيء آخر لابدّ له من توثيقه ، وإلاّ كان كلاماً أو شيئاً لا
يتّصف بالعلمية والدقّة . . فهو إضافة إلى هذا الذي تعارف عليه الكتّاب
والمؤلّفون والمحقّقون . . . راح يتسلّق تلّةً أو جبلاً ويهبط
وادياً . . يستقبله قوم ، ويتركه آخرون ، يستضيفونه
تارةً ، وقد يبخلون عليه أخرى ، يأمنون به مرّةً ، ليحذروه
أخرى . .
أسئلته التي يحملها في ذهنه ، قد تتعبهم إجاباتها ، وقد لا يحيطون إلاّ
بشيء يسير لا يغني ولا يسمن ، إن لم يكن يجهلونها . . فصحيح هم من
أهل هذه المنطقة ، إلاّ أنّهم ليسوا بالضرورة يحيطون بعلمٍ عنها أو بإثارةٍ
منها . . فيقبض على ما ينفعه . .
إنّها دراسة
ميدانية ، مصادرها مواضع منبثّة هناك بعيداً لا تصلها إلاّ بشقّ الأنفس ،
وأخرى أبعد منها ، الوصول إليها أمر يحتاج إلى صبر ومصابرة ، بل ومرابطة
تكلّف الباحث جهوداً كبيرة وآلاماً كثيرة ، والعجيب في الأمر أنّ هذا الرجل
الصالح الصابر المثابر الدؤوب ، لم يتهيّب ذلك ، ولم ينكل عن مهمّته التي
عاشها حلماً سنين طويلة ، وهاهي الآن أمامه واقعاً وإن كان مرّاً ، إلاّ
أنّه سيترك له بضاعة كبيرة ، وثماراً يانعةً ، ونتائج جميلة ، يزول
بسببها كلّ ألم ومعاناة ، بل وينسى عثراتٍ وصعاباً وإن كانت عظاماً ،
مقابل ما جناه من ثمارٍ وما حصل عليه من منافع . .
* *
*