ابن دهيش يخطو الخطوة الأولى
ثمّ راح يواصل
حديثه ، الذي يبيّن فيه بداية مشروعه هذا حيث يقول :
«وبعد أن ابتعدت عن
المشاغل الرئيسيّة ، ومنها سلك القضاء ، تاقت نفسي للاطّلاع على ما كتب
عن تاريخ البلد الحرام ، في القديم وفي الحديث ، ويسَّر الله لي الوقوف
على صورة من مخطوطة كتاب : «أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه» للإمام محمّد بن
إسحاق الفاكهي المكّي ، المتوفّى في النصف الثاني من القرن الثالث
الهجري» .
وبعد أن تمّ له تحقيق
كتاب الفاكهي هذا ، يقول : «عاد الشوق يحدوني من جديد لمعرفة مواضع حدود
الحرم المكّي الشريف ، والوقوف عليها ، واشتدّت رغبتي في ذلك ، وأخذ
الحماس لهذا الأمر يزداد يوماً بعد يومٍ ، كلّما تعمّقت في دراسة المباحث
الجغرافية ، التي ذكرها الفاكهي في كتابه» .
لقد كان الدكتور بن
دهيش منهجيّاً في تحقيقه لكتاب الفاكهي حيث لم يدع موضعاً ذكره الفاكهي
وعرّفه ، إلاّ وقف عليه ووصفه وصوّره وحتّى لا يدع شيئاً إلاّ وذكره
عنه ، وإن كان اسماً جديداً له .
ولم يتوقّف في عمله
هذا عن سؤال أهل الخبرة فهم مصدر من مصادره ، التي اعتنى بها في تحقيقه لكتاب
الفاكهي ، وفي كتابه الذي بين أيدينا ، فيقول : «فلقد اتّصلت بأكثر
من رجل ممن لهم خبرة في مواضع مكّة وجبالها ووهادها وأعلامها وشعابها ، ومنهم
خبراء عملوا في هيئة النظر في محكمة مكّة ، تنتدبهم محاكم مكّة لفضّ
المنازعات ، وتثبيت الحدود والحقوق والممتلكات في المواضع المحيطة بمكّة
المكرّمة . . . وخلاصة القول : إنّ هؤلاء أعلم بالمواضع
التأريخية والأثرية في مكّة ، لا بل أعلم أهلها بأسماء جبالها ، وريعانها
وأوديتها وشعابها وآبارها وغير ذلك ، وأعلم من عرفت بمواضع حدود الحرم المكّي
الشريف . . . واختبرت أحدهم في أكثر من أمر ، فوجدته من الصدق
والورع والتحرّي .
وكنت أديم النظر في
كتاب : «أخبار مكّة» للأزرقي ، وفي كتاب الفاسي : «شفاء الغرام»
و«العقد الثمين» ومصادر أخرى . وقلّما سمعت بكتاب يتحدّث عن البلد الحرام إلاّ
اقتنيته وقرأته . . .» .
ويواصل حديثه
قائلاً : «وكنت أتلهّف لمعرفة ما يتعلّق بالتاريخ المكّي في الكتب المخطوطة
بخاصّة ، فاجتمع لديّ في هذا الحقل الشيء الكثير ; نظراً لاهتمامي الشديد
في هذا الجانب من المعرفة .
ثمّ شرعت في تحقيق ما
في بطون الكتب المخطوطة أو المطبوعة ، وسألت واستفسرت من العلماء
والخبراء ، ودرست الخرائط الجغرافية والتأريخية ، ثمّ قمت بمسح عملي لتلك
المواضع وغيرها» .
* *
*
وقبل الخوض في الكتاب
المذكور ، أوجعني ما عثرت عليه من أخطاء نحوية وإملائية . . ما كان
ينبغي أن تقع خاصّة وهو يصدر تأليفاً وطباعةً من بلد هو موطن القرآن واللغة
وآدابها ، آمل أن يُراجع الكتاب جيّداً قبل طبعته
الاُخرى .
وهذه الملاحظة تجري
أيضاً على الكتيب ، الذي اعتمدتُه في ترجمة حياة المؤلّف، وقدفات المؤلّف
أن يذكر فيه تاريخ ولادة الدكتور عبدالملك .
وأرجو ألاّ أكون في
هذا ممّن قيل فيهم :
فإن رأوا هفوةً طاروا بـها فرحاً | منّي وما علموا من صالح دفنوا |
إنّ أوّل ما يراه
القارئ لهذا الكتاب مقدّمةً راح قلمه الجميل ، يصوّر همّاً عاشه عقدين أو
أكثر ، تتوق خلاله نفسه ، لا لدنيا فارهة ، بل لمعرفة أمر
آخر ، يترك له ذكراً طيّباً في الدُّنيا ، وأجراً كبيراً في
الآخرة ، إنّه توقٌ جميل وأمل كبير ، وعمل مشروع تباركه السماء ،
إنّه بحث في أقدس مكانٍ عرفته الدُّنيا ، وفي أعظم بقعة باركتها السماء ،
وفي موضع أراد الله أن يعبد فيه ، وفي وادٍ وصفته السماء بأقصر عبارة و أوضح
بيان و أدقّ تعبير ، إلاّ أنّه يحمل معاني عظيمة إنّه {وَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} . راح إبراهيم(عليه
السلام) ، عبر جهادٍ مرير ، ومعاناة شاقّة يؤسس لمشروعٍ سماويّ
كريم .
وتذكّرني معاناة
الدكتور دهيش ، وما قاساه في مهمّته هذه من آلام وعقبات ، على
قلّتها ، بتلك التي عاناها ذلك الشيخ العظيم المبارك نبيّ الله إبراهيم ،
وقد اصطحب معه زوجته وابنه إسماعيل ومتاعه ، وظلّ يغذّ السير على هدًى من الله
تعالى ، ويقطع الجبال والوديان والصحاري والفلوات حتّى وصل إلى وادٍ مجدب مقفر
تحيطه الجبال وتحفّ به التلال .
وهو المكان الذي أمره
الله تعالى بأن يلقي به بذور رسالة السماء إلى أهل الأرض ، ويودع في ذلك
الوادي فلذة كبده ، وأهله وأعزّ ما عنده في وقت ما أحوجه إليهم!
. . وكم هو عظيم و خطير أن يترك الزوج زوجته والأب ابنه في مثل ذلك
المكان المخيف ، وفي مثل تلك الظروف الصعبة والأحوال القاسية . .
لكنّها الطاعة المطلقة لله والانقياد التامّ له . . فكانت حقّاً بذوراً
مباركةً مورقة ذات بهجة ، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها ، في عصره وفيما
تلته من عصور ، فغدت كلّها عصوراً نابضةً بآيات الإيمان ، زاخرةً
بمعالمالخير والعطاء ، شاخصةً بالعزّ والشموخ ، فقد راح هذا الوادي ـ
الذي كان مقفراً في جوف تلك الصحراء النائية ـ راح يضجّ بحياة تدبّ في كلّ مظاهر
دنياه ، وتُضفى عليها السلامة والطمأنينة والأمان .
بين يدي كتاب
الحرم المكّي الشريف والأعلام المحيطة به
دراسة تاريخية وميدانية
بحث وإعداد : د . عبد الملك بن عبدالله بن
دهيش
مكّة المكرّمة 1418هـ ـ 1997م مكتبة ومطبعة النهضة
الحديثة