العقل دليل التوحيد - توحید یتجلی فی الحیاة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

توحید یتجلی فی الحیاة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فلسفة التوحيد تنفي الشريك :


وهكذا فان فلسفة التوحيد تعني بالدرجة الاولى ان ليس هناك آلهة وأرباب غيراللـه - سبحانه - « ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ » (يوسف/39)


فهو الواحد بلا شريك والملك بلا تمليك ، لايمكن لأحد ان يقهر سلطانه او ان يهرب من حكومته او ان يخالف أمره الا بمشيئته ، ولايعصى عن غلبة ولايطاع الا بقوته ولا حول ولا قوة الا به ...


ان هذه الفلسفة تشـير الى ان كل شيء لابد ان ينتهي الى ذلك الرب الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ، وحتى ابليس ذلك المتمرد اللعين الذي ينسب اليه كل شر والذي يغوي الانسان عن الصراط المستقيم والذي عصى ربه ودفع البشرية الى العصيان ، فانه خاضع - هو الآخر - لارادة اللـه ، ولولا ان اللـه - سبحانه - قد أمهله الى يوم يبعثون لما كان قادرا على ان يؤثر على الخليقة ؛ والانـسان اذا استعاذ باللـه من شـر الشيـطان اللعين الرجيم فانه سوف يدحره ويبعده عن نفسه ، لانه - اي الانسان - قد سمّى الله وهو عارف بمعنى التسمية .


[ض4]

انسجام الحياة في فلسفة التوحيد :


وبعد فهذه فلسفة التوحيد وتلك فلسفة الشرك ، وهاتان الفلسفتان تظهران في كافة أبعاد الحياة ؛ فالفلسفة الاسلامية المنبعثة من التوحيد ومن ان كل شيء لابد ان يرجع الى اللـه ترى وجود حالة التفاعل والتمازج والتكامل بين ارجاء الوجود وحقول الحياة . فالعلم مع العمل ، والتعليم مع التربية ، والارادة مع الفكر ، والحكمة مقترنة بالقـول الفصل ، والرسالة الالهيــة الهابطة من السماء منسجمة مـع ضرورات الحـياة


المنبعثة من الارض ، والروح مع الجسد ، والجسد مع الروح ، والعلوم الدينية مع العلوم المادية الطبيعية ...


وعلى هذا الاساس فان نظرة الاسلام هي نظرة التوحيد ، في حين ان نظرة الشرك هي نظرة التجزئة . فنحن نلاحظ فيما يسمى بـ ( الحضارة الحديثة ) ان العلم منفصل عن العمل ، والاخلاق معزولة عن السياسة ، والسياسة في واد والدين في واد آخر ، وان كل حقل من حقول الحياة منفصل عن سائر الحقول الاخرى ، في حين اننا لانجد في الفلسفة الاسلامية مثل هذه النظرة التجزيئية .

التمازج بين الدين والسياسة :


اننا نجـد فـي الاسـلام ان الرسـول الاعظـم ( صلى الله عليه وآله ) هـو الذي يقـود العساكـر والجحافـل الجهادية كما يشـير الـى ذلك - تعالـى - فـي قـوله : « وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنـِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (آل عمران/121) وهو نفسه الذي يقودهم في الصلاة ويحكم بينهم كما يقول - عز وجل - :
« فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » (النساء/65) ، وهو إمامهم في حياتهم السياسية وقدوتهم في ذلك ، وهكذا الحال بالنسبة الى خلفائه الاطهار (عليه السلام) ، فهم يمثلون فلسفة التوحيد التي لاتعرف التجزئة ولا التفرقة في جميع جوانبها ؛ فالذي لايهتم بنظافة جسده وبيته لايهتم ايضا بصلاته لان من شروط الصلاة ان يكون الانسان نظيفا ، كما ان الذي لايهتم بحقوق الآخرين لايمكنه ان يهتم بصلاته لان من شروط الصلاة ايضا ان يؤدي الانسان حقوق الناس .


العالِم في ظل فلسفة التوحيد :


ان الصـلاة هـي واحـدة مـن فرائـض الاسـلام ولكنها ترتبط ارتباطا مباشرا بسائر


حقول الحياة ، ولذلك نجـد ان الشخـص الـذي يطلب العلوم الدينية لابد وان يهتم بكافة أمور الحياة وحقولها ؛ فهو عالِم وهو رياضي وهو مؤرخ وهو مطلع على بعض المبادئ الاولية في الطب .. فالعالِم في الاسلام لايعد عالما الا اذا استوعب سائر العلوم استيعابا كافيا .


وبالاضافة الى ذلك فان العالم الاسلامي زاهد في الدنيا ، وعابد مخلص في عبادته ، كما انه مدير ومدبر في الحياة ، وعندما سئل العلامة الميرزا الشيرازي صاحب ثورة التنباك عن شروط المرجعية قال انها تبلغ مائة شرط ؛ الشرط الاول هو العلم ، والشرط الثاني التقوى ، اما الشروط الثمانية والتسعون المتبقية فتتمثل كلها في (الادارة) ، لان عدم تمتع الفقيه بالقدرة على الادارة والتدبير لايمكنه من قيادة الناس وادارة حياتهم .


ولو كان العلم في الاسلام منفصلا عن العمل ، والمعرفة منفصلة عن الادارة ، ولو كانت الثقافة منقطعة عن التوجه الى الحياة الاجتماعية لكان يكفي ان يكون المرجع الاعلى في البلاد الاسلامية اعلم العلماء ، ولكن هل يمكنه في هذه الحالة ان يجند ويعبئ الطاقات الجماهيرية لمقاومة الاستكبار العالمي ؟

ملكة الادارة :


والسؤال المهم في هذا المجال هو : ماهي الادارة ، وكيف يستطيع الانسان اكتسابها ؟


هناك البعض من الناس يعملون لمدة طويلة في الصفوف الاجتماعية ولكنهم لايصبحون مدراء جيدين ، ذلك لان الادارة ليست صفة من السهل اكتسابها ، وحتى لو أراد الانسان ان يكون مديرا جيدا فانه لايمكنه خلال فترة قصيرة اكتساب هذه الملكة من خلال قراءة ودراسة الكتب والاكتفاء بالجانب النظري .


ان الادارة تعني معرفة المجتمعات البشريـة والاطلاع على طبائعها وكيفية التعايش


معها ، والمدير المدبر للمجتمع الاسلامي لابد ان يتعرف بصورة مباشرة على نفسيات المئات من الاشخاص ، وان يعرفهم معرفة عميقة وشاملة تمكنه من ان يوظفهم لتحقيق الاهداف الاسلامية ، وان يلقي على عواتقهم مسؤوليات الامة .


ونحن بامكاننا تعلم الادارة من النصوص الشرعية ؛ فالادارة هي الصبر والحكمة والاستقامة وخدمة عباد اللـه والاحسان اليهم والتضحية من اجلهم ، وجميع هذه المعاني وغيرها نجدها في النصوص الشرعية .


الانسان كون مصغر :


وعلى هذا فان التوحيد تنظمه فلسفة تتمثل في النظرة التوحيدية الى الكون ، وتستند الى ان الانسان جرم صغير يجد كل آفاق الكون في ذاته ، كما تشير الى ذلك الحكمة المعروفة :


اتزعـم انك جـرم صغـير وفيك انطوى العالم الاكبر ؟


وهذا يعني ان كل شيء في هذا العالم يمثل جزء في ذات الانسان ، فهو - اي الانسان - بمثابة دولة صغيرة تمتلك جميع الدول الاخرى ممثليات فيه .


وبناء على ذلك فاذا اصبح الانسان ذا بعد واحد في حياته فان بالامكان الاستغناء عنه بانسان آلي يحل محله ويقوم بدوره ، ولكن الانسان الحقيقي لايمكن ان يعوض بآلة صماء .


فالمطلوب - اذن - تربية الانسان الذي يعرف الفقه والادارة والتحقيق .. وان يقوم - في نفس الوقت - بكافة الخدمات التي يحتاجها ويحتاج اليها المجتمع في المستقبل عندما يتخرج هذا الشخص من المعهد العلمي الذي يدرس فيه سواء كان هذا المعهد متمثلا في الحوزة الدينية او المدرسة المهنية . فنحن بحاجة ايضا الى مثقفين اكفاء قادرين على التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة ، وفي نفس الوقت نحـن بأمس الحاجـة الى علماء ديـن لاينشغلون فـي الدراسـات والبحـوث العلميـة


فحسب ، وانما تكون لهم القدرة الكافية على التعامل مع الجماهير بمختلف طبقاتها وميولها .


واذا ما توفرت هذه القدرات والمواصفات والشرط في عالم الدين والمثقف الاسلامي ، فان المجتمع سيكون بمسيس الحاجة اليهما ، وفي هذه الحالة فقط سيكون بامكان الواحد منهما ان يكون إماما وقائدا للجماهير .


وكل ذلك يعود الفضل فيه الى النظرة التوحيدية التي يتميز بها الاسلام دون سائر المذاهب والمعتقدات والاديان .

العقل دليل التوحيد


لايختلف اثنان في ان العقل هو من ابرز خصائص الانسان ، ومن اعظم ميزات العقل القدرة على الانتقال من الحقائق المشهودة الى المغيبة ، ومن المسائل الجزئية الى الحقائق العامة ، ومن الامثلة الواقعية الى السنن الالهية ، ومن الظواهر المعروفة الى القوانين العامة المجهولة .


و عندما يفقد الانسان امتياز الانتقال مما يراه الى ما يفعله ، ومما يبصره الى ما يستبصره فانه والحيوان سواء في القدرة العقلية .


ومن اعظم مظاهر هذه الحقيقة الكبرى ان الانسان عندما يتأمل الكون بما فيه من آثار رحمة الله وقدرته وعظمته وينتقل الى معرفة ربه ، فانه سيكون ممن يعقل المعلومات ويستثمر البصائر ويستفيد من الحقائق التي يراها ، اما اذا لم يتأمل الكون ولم يصل الى حقيقة معرفة ربه فانه سيكون ممن لايعقل بسبب جموده عند الظاهـر ؛ فهو يرى جريان الشمس لمستقرها ولايعـرف ان ذلك من تقدير العزيز العليم ، ويشاهد الودق يخرج من كتل السحاب ويتدفق غيثا على الارض الجرداء ليحولها الى جنة خضراء ولكنه لايبصر ان هذا من رحمة الله ، ويرى ان الانسان ينام في الليل ويصبح كالميت - اذ النوم اخ للموت - واليقظة من النـوم كالانبعاث من بعد الممات ، ولكنه لايستشعر من خلال هذه الظاهرة قدرة الله - جل شأنه - ولا يبصر اصابع الغيب في ذلك .


والله - سبحانه - بعد ان يستعرض في سورة الروم طائفة من آياته التي جعلها دليلا اليه ، وسببا لمعرفته ، ووسيلة للتقرب اليه يقول :
« كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » (الرُّوم/28) ؛ اي نبينها بوضوح وتفصيل للذين يعقلون ، اما الانسان غير (العاقل) فانه لايبصر ولو ضرب القرآن ابرز امثلة الكون واروعها .

معنى العقل :


لو فتشنا عن المعنى الاصلي لـ (العقل) لعرفنا انه المحافظة على شيء ينطلق باندفاع ، ولهذا يقال لمن يمنع تدفق الماء من علو انه قد (عقله) ، ولمن يمسك البعير المنطلق في الصحراء انه قد (عقله) ، وهكذا الحال بالنسبة الى العلم الذي لايستقر في دماغ الانسان لكونه يأتي بخطفة سريعة كالوميض ، ولذلك يحتاج الانسان الى مزيد من النشاط والحركة وقوة الارادة والحزم لكي يعقل العلم ، ويحفظه في قلبه من التبدد والتلاشي .


هل العقل في اجازة :


ان هناك حقائق كثيرة يغفل عنها الانسان ، واكثر هذه الحقائق يرتبط ارتباطا وثيقا


بدور العقل في الحياة ومن ضمنها : -


1- ربط الحوادث ببعضها :


ان يرى ضوء منبعثا من مصابيح الاضاءة دون ان يعرف ماوراء هذا الضوء المنبعث من نظام يولد الكهرباء فان في عقله خللا ، اذ لابد من ربط الظاهر الحاضر بالخفي الباطن ، وهكذا الحال بالنسبة الى جزئيات الشريعة وكلياتها ، اذ ان الغالبية العظمى من الآيات القرآنية تحدثنا عن الخطوط العريضة للشريعة او ( الاصول العامة ) حسب التعبير الفقهي ، و (الهدى) طبقا للتعبير القرآني ، ذلك لان المهم ان يعي الانسان الهدف العام اولا ، وبعد ذلك تتكفل السنة الشريفة والاحاديث المروية عن الائمة المعصومين (عليه السلام) بشرح الجزئيات وايضاحها .


ومع ذلك فقد اشار الائمة ( عليه السلام ) الى مجموعة من الاصول العامة وتركوا أمر تفريعها وتطبيقها على الحياة الى الفقهاء والمراجع من بعدهم ، وهذا هو سر مرونة الاسلام ، وقدرة احكامه الشريفة على ان تطبق في كل عصر ومصر وفـي كل الظروف ، لانها تحدّث العقل الذي يكيّف بدوره القوانين العامة حسب الشروط الموضوعبه والجزئية .


وعلى هذا فان استيعاب الكليات ، ومعرفة الاصول هما الأهم لكي يعرف الانسان حدود الشرك ، وطرق الابتعاد عنه ، اما التفاصيل فانها موجودة في السنة الشريفة او في عقل الانسان المهتدي بالسنة وهو الفقيه العادل .


2- تكاملية الاحكام :


أ - ان الايات القرآنية تأمرنا باقامة الصلاة كقوله - تعالى - : « أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلـُـوكِ الشَّمــْسِ إِلـى غَســَقِ اللَّيـْـلِ وَقُــرْءَانَ الْفَجْــرِ إِنَّ قُـرْءَانَ الْفَجْـرِ كَانَ


مَشْهُوداً » (الاسراء/78)


فهذه الآية تأمر باقامة الصلاة إنابة الى الله ، واقامة الصلاة لم تأت منفصلة عن سائر الآيات القرآنية بل جاءت في اطار الآيات الاخرى ، اذ ان كثيرا من الآيات أمرت بالتوبة الى الله والتقرب اليه ، والصلاة هي الطريقة والوسيلة الى هذا التقرب ؛ فهناك آيات تأمر بالتقرب الى الله - تعالى- وآيات تأمر بالتوبة وأخرى بالصلاة لان الصلاة هي " خير موضوع فمن شاء اقل ومن شاء اكثر " و " الصلاة قربان كل تقي " كما جاء في الحديث الشريف عن الامام علي - (عليه السلام) (1) .


وعلى هذا فان علاقة الصلاة بالانابة هي علاقة السبب بالمسبب والوسيلة بالهدف والطريق بالغاية ، ولذلك تقول الآية القرآنية :
« مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقـُوهُ وَأَقِيمُـوا الصَّلاَةَ » (الرُّوم/31) ، فالانابة الى الله تكون عبر التقوى ، والتقوى تتحصل من خلال الصلاة .


ب - ان الحج فريضة على كل مسلم ومسلمة ، والسبب في ذلك ان هناك اهدافا رسالية تحققها فريضة الحج منها وحدة الامة وصحة الانسان وسلامة الاقتصاد ..


ج - ان آيات القرآن تهدف الى تنمية الثروة ، والعيش المبارك الكريم في الدنيا ، وفريضة الزكاة هي وسيلة تحقيق هذا الهدف .


ان من أخطر ما أبتليت به أمتنا الاسلامية تجزئة الاحكام عن بعضها ، وعدم فهمها بصورة متكاملة ، وعلى سبيل المثال فان المسلمين يصلّون ولكنهم لايدركون العلاقة الوثيقة للصلاة بالنهي عن الفحشاء والمنكر ، ويحجّون دون ان يعرفوا علاقة الحج بالوحدة ، ويزكّون دون ان يربطوا بين الزكاة وبين تنمية الثروة وتوزيعها العادل .


والادهى مـن ذلك كله ان آيات القـرآن الكريـم التي تتحدث عـن التوحيد والشرك


فصلت تماما عن الحياة السياسية في الامة على الرغم من ان هذه الآيات تمثل الاطار العام لحياة الانسان في الدنيا بل في كل جوانب حياته .


وعندما يأمرنا الخالق - عز وجل - بتحقيق هدف ستراتيجي او قيمة الهية وغاية مقدسة فان هذا يعني ان نبحث عن الوسائـل التي أمرنا بها الله - تعالى - لتحقيق هذا الهدف .


3- التوحيد أساس الانطلاق :
ولقد أمرنا الله بالاستقامة على التوحيد فكيف نستطيع ذلك ؟


فالمحافظة على التوحيد تقتضي من الانسان ان لايتطرف يمينا او شمالا ، وهذه مهمة صعبة . فتوحيد الله - عز وجـل - يمثل اعظم زاد يحمله الانسان الى الآخرة ، اما لو ذهب مشركا فلا شك انه سيدخل الجحيم كما يشعر بذلك قوله - عز مـن قائل - :
« إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ » (النساء/48)


اي ان الله - عز وجل - لايغفر ذنب الشرك ، وعلى هذا فان التوحيد هو المنقذ وهذا ما يثبته الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى : " كلمة لا اله الا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي " .


وللأسف فان الكثير من الناس يقولون ( لا اله الا اللــه ) في الوقت الذي يخضعون فيه عمليا للطاغوت ، فان هذه الكلمة سوف تكون حجة بالغة عليهم لكونها تتنافى مع عبادة الطاغوت والاصنام البشرية . اذ كيف يجوز ترديد هذه الكلمة باللسان وثقافة القلب وطعام الروح مستقيان من الآخرين ، فالتوحيد لايمكن ان يجتمع مع هوى النفس . يقول - تعالى - :
« بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ


عِلْـمٍ فَمـَن يَهـْدِي مـَنْ أَضَـلَّ اللّـَهُ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ » (الرُّوم/29) ثـم يقـول


- عز وجل - : « أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً » (الرُّوم/30) ، وقد قال بعض المفسرين ان ( الحنيف ) هو المنحرف عن الباطل ، الا اني ارى ان هذه الكلمة تعـني


الطهارة والنظافة ، لان الشرك هو بحد ذاته نجاسة وقذارة ورجس من الاوثان بدليل


قوله - تعالى - : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » (التوبة/28) .


كيف نحقق الاستقامة :


ثم يحذرنا الخالق - سبحانه - قائلا :
« مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (الرُّوم/31) ، فان لم نكن حنفاء مستقيمين طاهرين فاننا سوف نكون من المشركين ، والاستقامة تتحصل من خلال تكييف الحياة مع هذا الهدف ، اما الذي يعيش على موائد السلطان ، وامواله فانه لايمكن ان يحافظ على توحيده لله ، لان الطاغوت سوف يستعبده . وهذا هو عين الشرك ، لانه اتبع السلطان منذ البدء أملا في المال ، ففقد استقلاله ، واعتمد في رزقه على سلطته بشكل كامل حتى وصل الى هذه الحالة ، ولذلك يؤكد الحديث الشريف على اهمية الاستقلال الاقتصادي فيقول : " من لا معاش له لا معاد له " ، ولذلك ترى الانسان المؤمن يسعى من أجل الكد على عياله معتبرا عمله هذا كعمل المجاهد في سبيل الله .


وهكذا فقد بين القرآن في البدء آيات الله فـي الكـون ، ثم اشار الى سبب الانحراف ، وأمرنا بالاستقامة ، وحذرنا من ان نكون من المشركين ، واذا لم تتحرك الحمية في ذات الانسان ويتكل على الله وحده ويسقط التبريرات ويتحول الى كتلة من النشاط والحيوية ، فانه سينساق وراء الطواغيت ، وعلى العكس من ذلك فانه ان حافظ على التوحيد وترك التكاسل والاتكال والافكار السلبية التي تخلفت الامة بسببها ، ووطد ثقته بالله وبالطاقات الكامنة في نفسه ، فانه سوف يتحول الى فريق عمل ثم الى امة تحافظ على توحيدها واستقلالها وحريتها نتيجة لأعتماد على قواها


العقلية في اثبات وجود الخالق ، والوصول - بالتالي - الى حقيقة توحيده .


السبيل الى اليقين


من خصائص المؤمنين انهم لايبصرون شيئا الا ويتذكرون من خلاله الله - سبحانه وتعالى - واسماءه الحسنى لان الحجب النفسية تساقطت عن بصائرهم ، فالحياة كلها تتحول بالنسبة اليهم الى مدرسة نور وبصيرة وهدى ، فاذا اسدل الليل ستاره نظروا الى النجوم البازغة ، والى خريطة الوجود الجميلة التي ترصع الفضاء ، وتفكروا في خلق الله - سبحانه وتعالى - من خلال هذه النظرة ، فتنفذ بصائرهم الى أعمق أعماق الحقائق ؛ كيف خلق الله هذه الاجرام العملاقة ، وكيف نضدها في هذا الفضاء الرحيب ، وكيف أتقن صنعها وأضفى عليها الجمال والروعة ؟ فالنجوم التي تبعد عنا ملايين السنين الضوئية ماهي علاقتها بنجمتنا هذه المسماة بـ ( الشمس ) وما حولها من الكواكب ، وكيف نظمت علاقة الشمس بهذه الكواكب وخصوصا بأرضنا التي لو ابتعـدت قليلا او اقتربت انملة او تغير مسارها بعض الشيء لانعدمت الحياة على ارضنا ؟


المؤمن انسان متفكر :


ولذلك تجد ان هؤلاء وعنـدما يجن عليهم الليل يفتحون على الفضاء الرحيب ليس ابصارهم واعينهم فحسب ، وانما بصائرهم وقلوبهم ايضا كما يروي عنهم ذلك - تعالى - في قوله :
« وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِـلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » (آل عمران/191) .


فمن خلال النظر الى النجوم يكتشف الانسان المؤمن ماوراءها من حكمة عميقة ؛ فخالق هذا الكون تعالى وتسامى عن العبث ، ولذلك فان المؤمن يطبق تلك الحكمة على نفسه ، فيستنتج انه هو ايضا لم يخلق عبثا ، ولايمكن ان يترك سدى ، وانه لابد ان يكون هناك امتحان وابتلاء وجزاء ، وهناك ينتبه ويعود الى رشده قائلا : « رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » .


كيف نكون بصيرين :


ترى كيف يمكن للانسان ان يحصل على هذه البصيرة ، ولماذا حجبت بصائر البعض من الناس ، ولماذا لاينفذون الى اسماء الله وصفاته ولايزدادون معرفة من خلال النظر الى آياته فتكثر امامهم العبر ولكنهم لايعتبرون بواحدة منها حتى تعمى بصائرهم « وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً » (الاسراء / 72) ، وكيـف يتميـز المؤمنون بالبصيرة النافـذة كما يقـول - تعـالى - :
« وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِاَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّـاً وَعُمْيَاناً » (الفُرْقان/73) وكيف يتميزون بأنهم :
« إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » (الانفال/2) ، وهناك ايضا سؤال آخر واخير وهو : كيف يكون بمقدورنا بلوغ ذلك المستوى الذي يقول عنه الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : " ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله ومعه وبعده " ؟؟


اننا عندما نرى آثار رحمة الله - عز وجل - في الكون ننظر الى الارض حين تخضر ، والنباتات عندما تنمو وتربو وتحصد ، والانسان حينما يترعرع ويشيب ثم ينكسه الله الى ارذل العمر ليموت ويدفن ... فان كل ما في الحياة يتحول بالنسبة الينا الى مدرسة ومنهل للمعرفة والحكمة ، وبالتالي الى معراج روحي ووسيلة للتكامل والتسامي في حياتنا ، اما كيف يمكننا ان نصل الى هذه الدرجة الرفيعة فان القرآن الكريم يجيبنا على ذلك المرة بعد الاخرى في آيات عديدة منها قوله - تعالى - :
« تَبْصِرَةً وَذِكْـرَى لِكُـلِّ عَبْـدٍ مُنِيبٍ » (ق/8).


البصيرة تبدأ من الذات :


وهكذا لابد ان نوجه شرط التحول في داخلنا ، فالبعض من الناس يتصورون انه بمزيد من التعمق والتفكر وربط المعلومات ببعضها يمكنهم ان يحصلوا على البصيرة ، في حين ان البصيرة لاتحصل للانسان بهذا الاسلوب بل على العكس من ذلك فان الناس الذين يتعمقون ويجادلون في الحقائق تراهم أبعد البشر عن معرفتها ، فهي لاتتأتى للانسان بهذا النوع من التعمق والجدال والمراء في الدين ، بل لابد اولا ان نوجد شرط البصيرة في انفسنا ؛ الا وهو تمزيق حجاب الكفر ودفع ثمن الايمان ، ولذلك يقول - تعالى - :
«تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ » ، فاذا حصلت الانابة تهيأت لدى الانسان الحالة النفسية التي تجعله يستقبل الحقائق ، وحينئذ ترى الانسان يكتشف ويرى من خلال حركة الافلاك والفصول المتعاقبة التي تطرأ على الارض ... المعاد والبعث والنشور .


انه يرى - على سبيل المثال - ان الارض هامدة ، فينزل الله عليها من السماء ماء فاذا بها تهتز وتربو ، ثم يمرر عليها الرياح الهوجاء فاذا بها تذوي وتتحول الى ارض جرداء قاحلة ، وهذه هي دورة الحياة ، وسنة الله - تعالى - فيها ، وهكذا الحال بالنسبة الينا ، فنحن نولد ثم ننمو ثم نموت ثم نولد من جديد .. ان الانسان المؤمن يبصر هذه الحقيقة من خلال هذه الدورة السائدة في الكون والحياة ، اما الآخرون فانهم لايبصرون لانهم لم يوفروا في انفسهم شرط البصيرة المتمثل في الكفر بالطاغوت او أية قوة غير الهية مهيمنة على المجتمع ايا كانت ؛ فقد تكون قوة الأرهاب ، وقد تتمثل في قوة المال والثروة والترغيب ، وقد تتجسد في التضليل والثقافة الباطلة .


ان على الانسان المؤمن - اولا وقبل كل شيء - ان يتحرر من هذه القوة ؛ اي ان يتحرر من العبودية ويعود الى جوهر وحقيقة نفسه ، ولايكون تابعا فيكتشف عقله من داخل عقله لتبدأ عنده بعدئذ وبهدى من ربه المسيرة العلمية المتصاعدة ، وقد كانت اول كلمـة قالها ابراهيم الخليل ( عليه السلام ) وفتحت أمامه ابـواب المعرفة هي :
« وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً » (الانعام/74) ، لقد قال ابراهيم (عليه السلام) هذه الكلمة ليفتح ثغرة في جدار المسلمات والمواضعات الاجتماعية والثقافية آنذاك ، فاعلن عن انه لايعترف بالاصنام :
« أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » (الانعام/74) .


رحلة ابراهيم الى اليقين :


وعندما بدر من ابراهيم ذلك السلوك أراه اللـه - جل وعلا - حينئذ ملكوت السماوات والارض فقال :
« وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ » (الانعام/75) ، وهنا علينا ان ندقق في كلمة (كذلك) فهي تعني انه بهذه الصورة والكيفية والاسلوب اوصلنا ابراهيم الى الحقيقة ، وانت ايضا اذا اردت ان تصل الى ملكوت السماوات والارض فلابد ان تقتحم غمار الصراع مع الطاغوت فتنكره ، وتدين المسلمات الذهنية التي خلقها هذا الطاغوت في المجتمع ادانة شديدة لكي تتسنى لك رؤية ملكوت السماوات والارض ببصيرتك ، فوراء ملك السماوات قدرة وسنة وحكمة الهية ، وقد وصل ابراهيم من خلال رفضه الباطل الى قدرة الله - سبحانه - اي الى سنة الله والقواعد والقوانين التي يجريها في الكون ، والى حكمته ؛ اي الى اهداف هذه القوانين والسنن ونهاياتها وغاياتها ففي كل شيء قدرة وسنة وحكمة ، والقدرة هي تلك القوة التي تسيّر هذا الشيء وتحقق وجوده ، والسنة هي ذلك القانون المتحكم به ، والحكمة هي الهدف الذي يتحرك ذلك الشيء نحوه .

اليقين يبدأ من الرفض :


وهكذا فقد نفذ ابراهيم (عليه السلام) ببصيرته في اعماق الملكوت من خلال رفضه للطاغوت ، والمواضعات الاجتماعية والثقافية والسياسية المغلوطة التي خلقها الطاغوت في المجتمع ، ومن خلال رفضة هذا استطاع ان يغوص ببصيرته في الملكوت ؛ اي الى كل هذه المنظومة المتكاملة في الكون ، والى سنن الله وقدرته وحكمه في الاشياء ، وقد فعل ابراهيم (عليه السلام) كل ذلك ليكون من المؤمنين ، فارتقى بهذه البصيرة الدرجة تلو الدرجة حتى وصل الى الذروة المتمثلة في اليقين . فعندما يصل الانسان الى اليقين فان هذا يعني انه قد وصل الى الذروة ، فتنكشف أمامه كل الحقائق ، فاذا به يشهدها ويعايشها ويتفاعل معها .


وهكذا فان اليقين الذي يشير اليه - تعالى - في قوله :
« وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » (الحِجرِ/99) هو ذروة الذرى ، وقمة القمم ، وقد كان الامام زين العابـدين ( عليـه السلام ) يطيـل الجلـوس بعـد صـلاة العشاء سائلا اللـه - جل وعلا - اليقين ، فالانسان عندما يصبح من الموقنين فانه سيحقق آنئذ كل أمنيته المتمثلة في الهدى والفلاح .


وقـد فصّل القرآن الكريم القول في ذلك تفصيلا ، فبين كيف وصل ابراهيم (عليه السلام ) الـى ذروة اليقيـن ، فلننظـر - اذن - الى هـذا الطريـق الذي سلكه ابراهيـم


ببصيرته ؛ يقـول - تعالى - في هذا المجال :
« فَلَمَّا جَـنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً » (الانعام/76) ، فعندما خيم الليل نظر ابراهيم الى النجوم ، وهذه هي اول مرحلة على الانسان ان يجتازها وهي ان يكون مندفعا في ذاته الى الحقيقة ، فلا يدعي ان هذه الحقيقة في ذهنه ، بل عليه ان يبحث عنها ، ولذلك فان من المستحب شرعا ان يخرج الانسان في الليل تحت الفضاء الرحيب لينظر في النجوم تاليا الآيات الكريمة :
« الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّاَتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ » (آل عمران/191-193) .


نعم .. ان على الانسان المسلم ان يقرأ هذه الآيات ليزداد معرفة ويقينا وهو يدقق النظر في صفحة السماء ، وينظر في هذه الخريطة الكونية الجميلة الرائعة ، وبالتالي يستلهم منها نور اليقين ، فلا يغمض عينيه ويغرق في وساوسه وأوهامه وأفكاره ، بل يخرج من نطاق ذاته ، وقد يصبح هذا السلوك واجبا اذا توقفت معرفة الله - تعالى - عليه ، كما يشير الى ذلك - عز وجل - في قوله :
« قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ » (الرُّوم/42) ؛ اي فتشوا عن الحقائق الموجودة على الارض ، وعلى سبيل المثال فان هناك ديارا كانت عامرة في يوم من الايام ولكنها تحولت الى خرائب بسبب نزول العذاب الالهي عليها .


وفي هذا المجال يروى عن ابي ذر (رض) انه كان اكثر عبادته الوقوف على الديار المتهدمة سائلا عن ساكنيها وبانيها ، كما كان يتفكر في الطبيعة وما حولها ... ونحن ايضا يجب ان لاينصب اهتمامنا على الأكل والشرب والنوم ، بل علينا ان نفكر في انها لابد ان تنتهي الى عاقبة ونهاية .


ان من عادة الناس - للأسف - انهم يتحركون من أجل غيرهم لا من أجل انفسهم ، فلا ينمونها ولايعملـون على تزكيتها بل يدسونها في تراب الشهوات وركام الاوهام والخرافات ، ولذلك فقد نظر ابراهيم (عليه السلام) وتفكر كما يحدثنا بذلك القرآن الكريم قائلا :
« فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي » (الانعام/76) ، وبهــذه العبارة القصيـرة اختصر (عليه السلام) كل النواحي الجمالية والكمالية في الكوكب الذي رآه ؛ فقد فكر ان هذا الكوكب الذي رآه يتحـرك ويؤثر ويشع نورا لابد ان تكون له قدرة هائلة ، هتف قائلا : « هَذَا رَبِّي » ومن الملاحظ هنا انه لم يقل : (هذا الهي) بل قال : « هَذَا رَبِّي » ؛ اي ان هذا الكوكب يؤثر في تأثيرا مستقلا .


ولكنـه فـي نفس الوقت نظر الى ذلك الكوكب نظرة أخرى فوجد ان فيه جانبا آخر ، جانب الضعف والنقص :
« فَلَمَّآ أَفَلَ » ، فهذا الكوكب يأفل وينتهي ويتأثر ، فهو محكوم وليس حاكما ، فالأفول لايعني الغياب فقط بل يعني ايضا كونه محكوما ومدبرا ، وعلى سبيل المثال فان هذه االشمس العملاقة هي ايضا مسخرة ، ولذلك فانها لايمكن ان تكون الها ، فهي تتحرك وفق ما رسم لها من نظام وتدبير .


ثم يستأنف - تعالى - على لسان ابراهيم ( عليه السلام ) قائلا :
« فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا اُحِبُّ الاَفِلِينَ » (الانعام/76) ، والملاحظ هنا ان ابراهيم (عليه السلام) لم يقل ان الآفل ليس الها بل قال : « لا اُحِبُّ الاَفِلِينَ » ، فعلينا ان نتدبر في دقائق ولطائف الآيات القرانية وكأنه (عليه السلام) كان يريد ان يقول : ان فطرتي ووجداني يرفضان ان يكون هذا الآفل هو الحاكم في حين انه محكوم ، فالانسان الذي يعبد الطغاة الا يرى انهـم محكومـون ؛ فلقد كانوا هم الآخرون اطفالا ثم نموا وكبروا ومن ثم يكون


مصيرهم الموت ، فكيف يتخذهم آلهة من دون الله ؟


ان وجدان ابراهيم ، ووجدان كل انسان سوي يرفض ان يكون المحكوم حاكما ، ولذلك قال ابراهيم « لا اُحِبُّ الاَفِلِينَ » ، وهكذا الحال بالنسبة الى القمر الذي رآه ابراهيم :
« فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً » فبالرغم من ان القمر هو بدوره يمثل نوعا من الكواكب ، ولكنه أقرب الى الارض وأكثر تأثيرا فيها كما أثبت ذلك العلم الحديث .


ولذلك فقد قال ابراهيم (عليه السلام) عن القمر مقولته في الكواكب الاخرى التي رآهـا كما يحدثنـا بذلك القرآن الكريم قائلا :
« فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي » (الانعام/77) ، ولكنه سرعان ما اكتشف ان القمر لايختلف عن سائر الكواكب من ناحية النقص والضعف ؛ فهو يمتلك حركة معينة ، ويدور في مدار محدد من لحظة ان يولد هلالا الى ان يصبح بدرا وحتى يعود كالعرجون القديم .


الحقيقة الكبرى :


وهنا بالذات يكتشف ابراهيم بعد هذه الرحلة الملكوتية في اعماق الفضاء الحقيقة الكبرى كما يشير الى ذلك قوله - عز من قائل - :
« فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ » (الانعام/77) ، فقد اكتشف ابراهيم (عليه السلام) في نهاية رحلته الحقيقة الكبرى ؛ فالله رب السماوات والارض نوره أجلى من نور القمر ، وضوؤه ابهر من ضوء الشمس ، فهو - اذن - الذي يهديني ، والانسان لايمكنه ان يصل اليه بل هو الذي يصل الى الانسان كما يشير الى ذلك الدعاء الشريف : " دل على ذاته بذاته ، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته " .


و هنا اعترف ابراهيم (عليه السلام) بحقيقة اخرى هي حقيقة عجزه وضغفه ، وانه عبد محدود بحاجة الى هدى الله - جل وعلا - ، وهكذا استمر في مسيرته كما يروي لنا ذلك القرآن قائلا : « فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي » (الانعام/78) ، فهناك بشر مايزالون يعبدون الشمس ، وقد كان الطغاة آنذاك يعبدونها ، وكان ابراهيم معاصرا لتلك الفترة فأراد بهذا الاسلوب ان ينفي ويستنكر هذه الخرافات ، فاثبت ان الشمس هي بدورها محدودة ومحكومة وان هناك من يوجهها :
« فَلَمَّا رَأى الشَّمـْسَ بَازِغـَةً قَالَ هَــذَا رَبـِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ اِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » (الانعام/78) ، وهنا وصل ابراهيم الى قمة القمم ؛ الى التوحيد الخالص .


ولكي يصل ابراهيم الى الهدى لابد ان يعلن البـراءة من الضلالة فقال : « يَا قَوْمِ اِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ » ، وعندما أعلن البراءة من ضلالة قومه ، واعلن انه يتحداهم حينئذ هداه الله وقدف في قلبه نور التوحيد فقال ( عليه السلام ) :


« إِنِّي وَجَّهـْتُ وَجْهـِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمـاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (الانعام/79) ، فأعلن البراءة من شركهم وأصبح موحدا وحنيفا .


وفي الحقيقة فان التفسير الذي اراه قريبا من المعنى الحقيقي لكلمة (الحنيف) ومن مواضع اطلاق هذه الكلمة هـو انها تعني (الطاهر) ، ولذلك يكون تفسير الآية حسب هـذا المعنى هـو انه وجه وجهـه للذي فطر السماوات والارض طاهـرا من كل دنس وانحراف ، ولذلك فاننا اذا اردنا ان نصل الـى نـور المعرفـة فلابد ان نطهر انفسنا من الحجب والشوائب فنرفض الطاغوت ، ونرفض المسلمات الخاطئـة التي يخلقها هذا الطاغوت في المجتمع .

ذكر الله اساس الاستقلال


من اسوء الظواهر السلبية التي يعاني منها الانسان في حياته الدنيا نسيانه لربه وغفلته عنه ، ومن أثمن وأعز ما ينعم به مناجاته للخالق - تعالى - من خلال اللقاءات الروحية معه .


ان اولئك الذين وجدوا حلاوة مناجاة الله - سبحانه وتعالى - يعلمون ويدركون انها فوق كل لذة وكل هدف وغاية ، كما يشير الى ذلك رب العزة في قوله :
« وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى » (النجم/42)


والانسان يبحث عن الجمال ويجد فيه ما يعطيه الرواء والروعة ، ويشبع فراغات كثيرة في حياته ، وهو - ايضا - يبحث عن الكمال المادي وكلما بلغ درجة من هذا الكمال استطاع ان يشبع مستوى معينا من حاجاته النفسية .


فوق كل غاية غاية :


ومع ذلك فان فـوق كل جمال جمالا ، وفوق كل كمال كمالا ، وفوق كل غاية غاية ، ووراء كل هدف تطلعا جديدا أسمى من التطلع السابق ، ولذلك يستمر الانسان في البحث عن ما يشبع طموحه ويحقق تطلعه ، حتى يصل في نهاية المطاف الى الله - جل وعلا - ، وحينئذ يكتشف انه قد وصل الى غاية الجمال ، والى مرحلة لايستطيع بعدها استيعاب درجة ما فوق الجمال والكمال اللذين هما جمال وكمال الله - تبارك وتعالى - .


وهنا يجد الانسان الراحة والاطمئنان ، كما يقول - عز من قائل - : « أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (الرعد/28) ، وببلوغ درجة الاطمئنان يجد الانسان كل ما كان يبحث عنه ؛ الروعة والجمال والكمال المطلق ، فهو - بطبيعته - مجبول على التطلع نحو الأسمى ، إذ ان كل طموح وتطلع في الوجود دون الله - تعالى - هو أصغر ما يصبو اليه الانسان .


وفي هذا المجال يقول - سبحانه وتعالى - :
« يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِـي السَّمـَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهـُوَ الْعَزِيزُ


الْحَكِيمُ » (الحشر/18-24)


البقاء شرط لتحقيق التطلعات :


ومن خلال التأمل في الآيات الكريمة السابقة ندرك ان من الشروط الموضوعية للوصول الى ما يصبو الانسان لتحقيقه هو (البقاء) ؛ فاذا ما انهار الانسان وانتهى فأين المالك والواجد ؟


ولايضاح الفكرة السابقة نضرب المثل التالي :


ان النفس البشرية تشبه وعاء يستوعب كل ما في الحياة ويمسك ما في داخله ويحـيط به ، واذا ما انكسر هـذا الوعاء وتهشم فهل من الممكن ان يحافظ على ما فيه ؟


والله - عز وجل - يحذر النفس البشرية من نسيانه ، لان المصير الذي ينتظر النفس الناسية لربها هو العدم ، واذا انعدمت النفس فانها سوف لاتستطيع ان تمتلك شيئا ، وبناء على ذلك فان شخصية الانسان مرتبطة بذكر الله - عز وجل - فلولا هذا الذكر لانتهى الانسان .

ضرورة ذكر الله :


ويحذرنا الخالق - تعالى - مـن ان نكـون من جملة الذين نسوا الله فكانت النتيجة ان انساهم الله انفسهم فكانوا فاسقين :
« وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهـُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » (الحشر/19) ، فالانسان الذي لايذكر الله - تعالى - من خلال العمل الصالح فانه سينسى ربه ، ومن المستبعد ان يذكر الانسان ربه وهو لايعمل صالحا لان ذكر الله - عز وجل - لايبقى في قلب غير معمور بالعمل الصالــح .


ان الانسان الفاسق لايستطيع ان يذكر الله ، وهو ان ذكره بلسانه فانه لايذكره بقلبه


لان العمل السيئ يحجب الانسان عن ربه ، فمن يذكر الله لايفقد شيئا ، ومن يفقد الله بنسيانه لايجد شيئا ، ولذلك نقرأ في دعاء عرفة : " ماذا وجد من فقدك ، وماذا فقد من وجدك ؟ " .


فالذي يجد الله - سبحانه - يجد كل شيء ، لانه سيجد نفسه فيثبت شخصيته ويكرس ذاته واستقلاله ، ومن يكرس ذاته واستقلاله فانه سيكون في غنى عن اي شيء آخر .


وفيما يلي سنضرب امثلة لتوضيح الفكرة السابقة لانها ليست فكرة فلسفية نسمعها او نقرؤها فنعقلها بل انها فكرة وجدانية بحاجة الى معاناة ، ولابد لنا من ممارسة واقعية لكي نفهمها ، وعلى سبيل المثال فان الذي يفقد حاسة الذوق لايستطيع التمييز بين طعم الحنظل والبرتقال ، ولا بين السم والشهد ، لانه فقد قدرته الذاتية ، فلو فقد الانسان حواه الخمس فقد كل شيء ، وسوف لايعود بمقدوره ان يستلذ بالحياة ونعمها وملاذها .


ولـو كان الانسان يملك الملايين بل البلايين وهو عبد مملوك للغير فهل يمكن ان يقال عنه انه يملك شيئا ؟


كلا بالطبع ، لان نفسه اصبحت ملكا لغيره ، فالعبد وما مُلكا يداه ملك لمولاه .


وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ ان (نابليون) قال ذات مرة لأبنه : أنت تملك العالم لانك تملك قلب أمك ، وأمك تملكني وانا أملك العالم ، فأنت - اذن - تملك العالم !


وهكذا فان الانسان لو نسي الله - تعالى - فانه سيتركه للاقدار ويكله الى نفسه ، فقد يملك الانسان الدرهم والدنانير ، وقد يملكه بيته او زوجته او إبنه او منصبه او علمه ....


ونحن اذا اردنا ان نحقق الاستقلال فعلينا ان نذكر ربنا ، وليكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال أسوة حسنة وقدوة لنا حيث كان يجد لذة المناجاة ويتمتع بحلاوة الابتهال الى الله - تعالى - ، فكان يدأب على العبادة والتبتل والاستغفار ليلا حتى ان احدى زوجاته قالت له : أو لم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟


فيجيبها (صلى الله عليه وآله) قائلا : " أفلا أكون عبدا شكورا ؟ "


فما الذ الشكر عندما تقف امام بارئك - جل وعلا - وتشكره على عينيك البصيرتين واذنك السميعـة ، وعلى نعمـة الهدى والعقل والعافية المعنوية قبل الجسدية ، فكم يبدو الانسان غبيا عندما ينغمس في الظواهر الدنيوية وينبذ جانبا الاتصال برب العالمين في حين ان كل شيء في هذا الكون يسعى من أجل الوصول الى خالق الكون ؟

اقرب من حبل الوريد :


وفي هذا المجال لابد لنا من اغتنام المناسبات الروحية ؛ فالله - تعالى - ليس ببعيد عنا ، فهو قريب والراحل اليه قريب المسافة ، وهو لايحتجب عن خلقه الا ان تحجبهم الاعمال دونه ، ونحن واجدوه كلما انكسرت قلوبنا وجرت دموعنا واحسسنا بالندامة على ما سلف من خطايانا .


ان الله - تبارك وتعالى - موجود كلما تطلعنا الى مستقبل مشرق ؛ فهو في كل مكان وزمان ، وعندما نهتف بإسمه المقدس فاننا سنخترق كل الحجب ، ونختصر المسافة بين الارض والسماء ، وقد سئل في هذا المجال الامام علي (عليه السلام) عن المسافة تلك كم هي ؟ فقال (عليه السلام) : " دعوة مستجابة " .(1)


ويسأل (عليه السلام) مرة اخرى فيجيب : " وبين السماء والارض مد البصر ودعوة المظلوم " . (2)


والمسافة هذه ماهي الا لحظة او اقل منها ، فالله - عز وجل - أقرب الى الانسان من


حبل الوريد ، ولو كان هناك شيء أقرب الى الانسان من حبل الوريد لجاء به القرآن اذ يقول - تعالى - :
« وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » (ق/16)


واذا ما وجد الانسان ربه فان هذا يعني انه قد وجد استقلاله ، والاستقلال هو ان لايكون الانسان عبدا لغيره وقد خلقه الله حرا .

العبودية الثقافية :


والعبودية لغير الله على اقسام ، اسوءها العبودية الثقافية ، وعلى سبيل المثال فان استماعك للاذاعات الاستكبارية يجعلك مستعبدا للرجل الفاسق الجالس وراء المايكروفون ، فهذه الاذاعة ستوجهك من خلال اثارة الاحاسيس فيك دون ان تشعر لانك لم تضع رقابة بينك وبينها ، فهذه السموم التي تفرزها اذاعات الاباطيل والاضاليل سوف تستقر في ذاتك وتوجهك حيثما تريد ان اصغيت اليها دون وعي .


وقد تجلس في مجلس شياطين الأنس فيوجهونك كما يريدون ، ويغتابون هذا ويتهمـون ذاك ويبهتـون آخريـن ، اما انت فتجلس بينهم كدمية يحركونها كيفما شاؤوا ، فتندفع بالاتجاه الذي يريده هؤلاء الشياطين ، وبذلك يستعبدونك .


من هنا قال الامام الصادق (عليه السلام) : " من اصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله ، وان كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس " .(1)


وهكذا فان الناطقين عن ابليس يدفعونك الى ان تتخذ موقفا سلبيا تجاه اصدقائك ومن هم في خطك ، وهذه هي العبودية الثقافية ؛ عبودية الانسان للشيطان .

الاستقلال الثقافي :


وربما يأتيك الشيطـان ليخدعـك فلا يستطيـع ذلك ، فيعمـد الى خـدع صاحبـك


ليخدعك عبره . فمن يأتيك من الباب قد يكون ملاكا وقد يكون شيطانا فعليك ان تميز بينهما ، فلا تجلس في كل مجلس لتفتح قلبك لكل انسان ، فاذا ما اردت ان تتخذ من شخص ما صديقا فان عليك ان تبحث في اعماله وماضيه ، وهذا هو معنى الاستقلال ، وهو ان تكون مستقلا في فهمك للأشياء . اذ لايصح ان تسلم نفسك لكل انسان .


فالاستقلال الثقافي يعني ان تكون لديك رقابة ، وان تكون ناقدا للكلام ، وان تحذر من ان تكون إمًعة اي انسانا عديم الارادة يميل مع كل ريح . وهذا يتطلب منا ذكر الله - تعالى - دائما وابدا ، وطرد الشياطين من حولنا .


التوحيد حصن المؤمن واستقلاله


لاشك ان البشرية فطرت على الاستقلال ، ورضعت حبه منذ ان خلقها الله - تعالى - ، واكاد اقول ان الانسان لايحس بثقل في تأريخه ودافع لحياته كثقل الاستقلال ، وما الصراع المرير بين ابناء البشر الا وجه من اوجه الدفاع عن الاستقلال من قبل طائفة والاعتداء عليه من قبل طائفة اخرى .


ولو انتزعت صفة الاستقلال من الانسان لكان افضل ما يقال فيه انه كالأنعام بل هو اضل سبيلا ، والرسالات الالهيـة جاءت لتؤكد هذه الفكرة المتأصلة في نفس الانسان وضرورة الدفاع عنها فكلمة التوحيد الاولى تبدأ بنفي الانداد والشركاء اعتبار من نفي كل من يريد ان يتسلط على الآخرين بشكل او بآخر ، وبالتالـي فان كلمة التوحيـد تبدأ برفض التبعية ، اما كلمتها الثانية فهـي تكريس


الاستقلال والعمل على تحقيقه .


كلمة التوحيد حصن اللـه :


ان كلمة التوحيد هي حصن الله الذي من دخله كان آمنا ، وهي الكلمة التي من ختم له بها دخل الجنة كما جاء في الحديث الشريف ، وكما جاء في حديث قدسي رواه الامام الرضا (عليه السلام) قائلا : " لا اله الا الله حصني فمن دخل حصني امن عذابي " ثم علق على ذلك (عليه السلام) بقوله : " بشروطها وانا من شروطها " (1) ؛ اي اننا لايمكن ان نحقق مقتضيات هذه الكلمة دون ان نعرف محتواها ، ومحتواها هو رفض التبعية والجبت والطاغوت ، والدفاع عن الاستقلال تحت قيادة الهية .


الاستقلال قيمة سامية :


ان كل ما يدفعه ويقدمه الانسان من أجل الدفاع عن استقلاله او تكريسه انما هو اقل بكثير من قيمة الاستقلال نفسه ، فاذا ما نظرنا الى التأريخ فاننا سنجد ان بني اسرائيل - مثلا - كانوا شعبا مستضعفا فقد استقلاله ، وقد قام فرعون بقمعهم حين ذبح ابناءهم واستحيا نساءهم وصب عليهم بلاءات عظيمة ، فلم تبق جريمة الا وارتكبها ضدهم .


وجاء موسى بن عمران (عليه السلام) من قبل الله - جل وعلا - ليعيد هذه الامة المستضعفة الى شاطئ الاستقلال ، ودفع بنو اسرائيل من أجل تحقيق الاستقلال هذا الكثير من الجهد والتعب .


ويعتبر الاستقلال الثقافي شرطا ضروريا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، فهو الطريق الى الاستقلال الكامل ، لان الانسان الذي زرعت في نفسه العبودية وألفت روحه الذل سيجلب التبعية لنفسه ، وعلى سبيل المثال فان الكثير من الشعوب الاسلامية استقلت ظاهريا ولكنها ما لبثت ان عادت الى اسيادها السابقين ليستعبدوها من جديد .


والقرآن الكريم يؤكد على الاستقلال الثقافي مرات عديدة في مجاليه العام والخاص كقوله - تعالى - : « مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ » (آل عمران/79) فالرسالات الالهية جاءت من أجل تحقيق الاستقلال للانسان لا من أجل استعباده ، والرسول لايدعو الناس الى عبادته بل يدعوهم الى عبادة الله :


« وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ » (آل عمران / 79) ؛ اي اعبدوا اللـه عبادة خالصة « بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلآئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابا » (آل عمران /79 -80) ؛ اي لايدعوكم لكي يستعبدكم لنفسه ، كما لايريد - في نفس الوقت - ان يستعبدكم الآخرون حتى وان كانوا ملائكة او نبيين .


وبعدها يشير - تعالى - الى الاستقلال الخاص في قوله :
« وإِذْ أَخَذَ اللّـهُ مِيثـَاقَ النَّبِيّينَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِـن كِتَـابٍ وَحِكْمَـةٍ ثُـمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُـمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ » (آل عمران / 81) .


وهذا هـو الاستقلال الخاص اي الاستقلال الثقافي ، وعندما يكون العالِم مستقلا ، غير خاضع للضغوط ، ومتحديا لشهواته الذاتية فانه سيصدّق بالحق حتى لو كان هذا الحق معارضا - في الظاهر - لنفسه ، وقد أخذ الله - تعالى - هذا الميثاق من بني آدم كما يرويه لنا في قوله : « قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُـمْ إِصْـرِي قَالُـوا أَقـْرَرْنَا » (آل عمران/81) ؛ اي ان هـذه المسـؤولية هـي


مسؤولية كبيرة ملقــاة على عاتقكــم .


ثم يقول - سبحانه - :
« قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَاْ مَعَكُم مـِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَـن تـَوَلّـَى بَعْـدَ ذَلِكَ فَاُوْلَئـِكَ هُــمُ الْفـَاسِقــُونَ » (آل عمران / 81 -82) .


من هنا يجب على العلماء والمثقفين الواعين والمخلصين ان لا ينسوا دورهم ، ولا ينسوا ان مسؤوليتهم هي ان يدافعوا عن استقلال أمة اصبحت مظلومة مستضعفة .

/ 9