روي ان رجلا تشرف بالحضور بيـن يدي رسول الله (صلى اللـه عليه وآله) وكان يدعى ( حارثة ابن مالك بن النعمان ) وكان من الانصار ، فلمح رسول الله (صلى الله عليه وآله) في محياه آثار الارهاق فقال له : كيف أنت يا حارثة ؟
فقال : يا رسول الله مؤمن حقا .
فقال له رسول الله : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك ؟
فقال : يا رسول الله اعزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، واظمأت هواجري وكأني انظر الى عرش ربي وقد وضع للحساب وكأني انظر الى اهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني اسمع عواء اهل النار في النار .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : عبد نور الله قلبه ، ابصرت فأثبت .
التوحيد هو العهد الاول :
وهكذا فان اول عهد أخذه الله - سبحانه - من البشر في عالم الذر هو الميثاق ان لا يعبدوا الا اياه ، وقد قال - تعالى - في هذا المجال :
« أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» (يس/60-62) . فعندمــا بعث الله مـن صلب بني آدم ذريتهم أشهدهم على انفسهم فقال : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » (الاعراف/172) فكان الجواب : « قَالُوا بَلى » (الاعراف/172) ، وهذه هي الرسالة الأولى والأخيرة لكل رسل الله ورسالاته ولكل الصالحين في الحياة ؛ فقد جاؤوا ليعيدوا الانسان الى الجادة المستقيمة والسبيل القويم من بعد ان ضل عن الطريق ، وليحرروه من عبادة الهوى والشهوات وعبادة الطغاة .
وكل ما في رسالات الله من وصايا وتعاليم وشعائر وطقوس وفرائض جاء ليخدم هذا الهدف العظيم ، وهذه ايضا هي الغاية السامية التي من أجلها جيء بالانسان الى هذه الدنيا ، فقد جاء الله - تعالى - به لكي يختبر ، ويمتحن مدى صلابة ايمانه وثباته في عبادة الله لكي يكون من أهل الجنة . فحرام على الانسان ان يعيش سبعين عاما ثم يموت وتنتهي فرصته الوحيدة ولا يكون عابدا لله ومؤمنا حقا .
فلنتساءل : كيف نصبح مؤمنين حقيقيين ؟ ان القرآن الكريم لم يدع زاوية مظلمة على صعيد الايمان ، فكل جوانب هذا الصعيد قد اضيئت بالبيان الحق ، فلقد ذكرنا القرآن لكي لا يقول احد انه كان غافلا ، وفي هذا المجال يقول - تعالى :
« سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ » (فُصِّلَت/53) .
فالله - عز وجل - يري كل انسان آياته ، ويتجلى له في كل لحظة من لحظات حياته ، وعند الشدائد والاخطار والخوف الشديد ونزول المصائب ولحظات المناجاة يتجلى الرب لعبده لكي لا ينكره ولكي تتم حجة الله عليه ، وحتى الانسان المنافق والكافر قد يتجلى الخالق - عز وجل - له في بعض الاحيان لكي يكمل الحجة عليه كما يقول - عز من قائل - : « وَاعْلَمُوا اَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ » (الانفال/24) ؛ اي لا يـدع قلب الانسان يظلم بالكفر ويزين الشيطان له ، بل يبقى فيه بصيص نور يهديه الى الحق ، وهذا البصيص هو الحجة عليه يوم القيامة .
والسؤال المهم هنا هو : هل نستغل ذلك النور أم نكون كالذين قال عنهم - تعالى - « كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا » (البقرة/20)
في الحقيقة ان هذه هي صفة المنافقين ، والله - جل وعلا - لم يدع جانبا خفيا في قضية الايمان ، ولكن القضية المهمة هي حجاب النفس ، فالانسان لا يحب ان يعرف الله وقلبه في هذه الدنيا محاط بوساوس الشيطان والاهواء والاغلال وبكل ما يمنع رؤيته للنور ، ولذلك فان الله - تعالى - شأنه يبين لنا اولا في قضية الايمان ان الهدف الاساس والعهد الاول بين الله وبين عبده هو عهد العبادة الخالصة .
شروط العبادة الحقيقية :
ترى بم تكتمل العبادة ؟
انها تكتمل بشروط ، والشرط المهم هو رفض الشركاء من دون الله ؛ أي ان العبادة لا يمكن ان تكتمل الا بأن يطهر الانسان قلبه من دنس الشرك ويتحداه ، وعلى سبيل المثال فعندما تحدى ابراهيم الخليل (عليه السلام) أباه قال :
« يَآ أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً » (مَريم/44) وفـي موضع آخر قال :
« إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » (الانعام/74) رغم ان ( آزر ) كان صاحب فضل ونعمة على ابراهيم ، وكان ذا سلطة ونفوذ في حكومة نمرود وحينئذ قال - تعالى - : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » (الانعام/75) .
وعلى هذا فلكي تصبح مؤمنـا لابد ان تكفر بالجبت والطاغوت ، وبكل علاقة مادية لا تمت للايمان بصلة ، فقد قال ربنا - عز وجل - :
« فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى » (البقرة/256) .
بلى .. ان كثير من الناس تجدهم يتمنون لو انهم صلحوا في هذه الدنيا ، فالصلاح تدعو اليه فطرة الانسان ، فمن منا لا يريد ان يكون صادقا وفيا يعمل الخير ؟ حتى الاشرار يتمنون ذلك ، وهذه حالة متأصلة في نفس الانسان ، ولكن القليل من الناس ينجح في ذلك ، والقليل منهم يتوفاه الموت وهو يعبد الله وحده ، ويسلم أمره له .
الايمان الخالص :
والسؤال الذي يتبادر الى الأذهان في هذا المجال هو : ترى لماذا يصل القليل من الناس الى هذه الدرجة الرفيعة ، ولماذا لا يؤمن اكثرهم الا وهم مشركون ؟
الجواب بصراحة هو انهم قد ضيعوا الطريق لانهم لم يريدوا التخلص من الاغلال ، فالانسان الذي يريد الوصول الى الذروة العليا عليه ان يتحرر من الاغلال والعلاقات المادية ..
والتطلع الى بلوغ القمة الايمانية موجود لدى كل انسان ولكن الذي يمنعه علائقه المادية ، فهو يريد ان يصل الى القمة ولكنه في نفس الوقت يريد ان يحافظ على هذه الاغلال .
وبالطبع فاننا لا نستطيع ان نصل الى شيء الا من خلال التخلص من شيء آخر ، والانسان الذي احاطت بقلبه الطفيليات والجراثيم المعنوية وجثمت على نفسه الذنوب لا يمكنه ان ينطلق .
لذا يعتبر الورع عن محارم الله - تعالى - أفضل الاعمال ، والذي يدّعي انه مبرأ من الذنوب سيكتشف كم ارتكب من المحارم والذنوب كالحقد والحسد والبغضاء وأكل المال الحـرام وعشـرات الذنــوب الاخرى التي لم يستطع التخلص منها فكيف
يدّعي انه لا ذنب له ؟!
وعلى هذا فان الخطوة الاولى في طريق العروج الى الله هي رفض الشرك ، وفي هذا المجال يقول - عز وجل - :
« وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً » (النساء/36) . فاذا أنت لم تتخلص من العلائق المادية ، ولم تحرر العبادة من الشرك فانها ليست عبادة .
معنى الشرك في القرآن :
ان في القرآن اجمالا وتفصيلا ، والكلمة الثانية هي تفصيل للاجمال ، وتبيين للحقيقة الاولى ، ومن أجل ايضاح معنى الشرك يقول - تعالى - :
« قُلْ إِنَّمَآ اُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلآ اُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وإِلَيْهِ مأَبِ » (الرعد/36) فمعنى الشرك هو ان تدعو غير الله ، ومعنى اجتنابه ان لا تدعو غير الله ولا تعتقد ان مصيـرك بيد غيره بل بيد الله واليه المصير .
والقرآن الكريم يوضح ويبين معنى الشـرك ويقول ان الشرك بمعناه الحقيقي هو ما قاله البعـض مـن ان الله - تعالـى - ثالـث ثلاثة وهذا معنى من معاني الشرك ، ولذلك يقول - عز وجل - : « فَاَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ » (النساء/171) لان الله واحد ، وهنـاك بعض الناس كانوا يقولون ان الملائكة انصاف الهـة ، ولذلك فان الفلسفة اليـونانيـة كانت تقـول ان اللـه - سبحانه - نـور - مثلا - او أي شيء من الاشياء تحرك او ولدت منه الاشيـاء كالنبع الذي يفيض منه المياه ، والشمس التي تنطلق منها الأشعــة ..
ولمناقشة هذه النظرية نقول ان هذا الذي خرج من الله يحمل في طياته بعض الصفات الالوهية ، ولذلك قالوا ان الصادر الاول أقرب الى الله ، والصادر الثاني أقرب الى الصادر الاول وهكذا ... فاعتقدوا بعشرة عقول ، وضمن هذه الفلسفة اعتقدوا بان الملائكة صدروا قبل غيرهم من الله ، فهم - اذن - انصاف آلهة ، وهكذا فان معنى الالهة عندهم هو الملائكة لا ذو العرش ، لان ذا العرش فوق كل شيء ، ولكن هذه الملائكة هي ايضا الهة من مثل اله القمر والشمس والارض ... ، كما ان القيم المعنوية لها ايضا الهة في فلسفتهم .
ان القـرآن الكريم ينفي هذا النوع من الشرك لكي ينفي اولا ضلالة انتشرت بين البشر ، وثانيا : فهو عندما ينهى عن الشرك فانه ينهى عن حقيقة صادرة عن ضلالة وانحراف قائم .
ثم يفصل - تعالى - بعد ذلك قائـلا : « ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤُلآءِ اِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم» (سبَأ/40-41) ، ذلك لان الانسان الذي يرضى بعـبادة شخص له فان مصيره سيكون مصير الذي يعبده ، كما يؤكد ذلك - تعالى - قائلا :
« إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دوُنِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » (الانبياءِ/98) .
ولتوضيح فكرة العبادة علينا ان نعرف الشرك ، ونحن لا نستطيع ان نعرف الشرك الا بعد ان نعرف حقائقه على الارض ، كما قالوا ان الله ثالث ثلاثة وهذا نوع من الشـرك ، ومرة عبدوا الملائكة وهذا ايضا نوع من الشرك وهكذا ..
ومن هنا لابد ان نتخذ طريقا الى كمال الدين في انفسنا ، ومعرفة حقيقة الايمان . ومن ثم الوصول الى هذه الحقيقة ، ولا ندع حياتنا تنتهي الا بعد ان نخلص عبادتنا لله - سبحانه وتعالى - .
أثر الشرك في الواقع الاجتماعي
وراء كل آية في القرآن بصيرة نيرة حول التوحيد ورفض الشرك ، والذي يطّلع على الحقائق في القرآن الكريم يجدها تتمثل في شجرتين تقفان على طرفي نقيض ؛ هما شجرة التوحيد ذات الأصل الثابت في عمق الاعتقاد باللـه - سبحانه - ووحدانيته ، وشجرة الشرك الخبيثة المجتثة من فوق الارض والتي تتفرع منها كل الرذائل فكل فضيلة وكل بصيرة حق تتفرع وتنمو من شجرة التوحيد الطيبة ، بينما يتفرع من شجرة الشرك كل ضلال وفساد وانحراف ورذيلة ، وهذا هو الشرك الذي يعبر عنه القرآن الكريم بانه ظلم عظيم ، وهو الذنب الذي لايغفره الله - تعالى - دون بقية الذنوب .
ولو تبصر المتبصر ، وتدبر المتدبر في القرآن من فاتحته الى خاتمته لايجد فيه آية الا وفيها بصيرة التوحيد ، وفي المقابل نبذ الشرك . فياترى ما هو هذا الشرك ، وهل هو وقف على اولئك الذين صنعوا اصناما من الحجارة والخشب ثم عبدوها بالسجود والركوع والخضوع والنذر لها ؟
اذا كان الأمر كذلك فان عبادة الاوثان تكاد تكون اليوم منقرضة ، فكل من نصادفه اليوم يدعي انه موحد ومؤمن بالله ، وطبقا لهذه الادعاءات فان الآيات الداعية الى نبذ الشرك والعمل بالتوحيد تنتفي ضرورتها ، بل وربما لايبقى للقرآن من معنى ، وهذا ما يصطدم مع منطق الايمان والضرورة الدينية القاضية بالعمل بالقرآن أبدا .
ومن ذلك نستنتج انه من غير المنطقي الغاء دور القرآن في الحياة ، بل ولايمكن الغاء آية واحدة منه ، والاستغناء عن حرف صغير من حروفه ، وبناء على ذلك فما هو الشرك الذي يقصده القرآن في آياته ، وهل يشمل معناه الحقيقي بعض الذي يدعون التوحيد ام لا ؟
معنى الشرك :
من أجل اكتشاف هذا المعنى ومدى ارتباطه بنا ، نتناول بالبحث جانبا من معرفتنا لبعض المفاهيم والقيم التي يعتبرها القرآن من ضرورات الايمان ، ومن ذلك الايمان بكون الموت حقا فالغالبية العظمى منا تؤمن بواقعية الموت ، ولكننا لانعيش حقيقة هذا الايمان ، بل نتصرف في الحياة وكـأن الموت قد كتب على غيرنا ، وبعبارة اخرى فاننا نعتقد بحقيقة الموت ولكننا لانعتبر انفسنا من مصاديقه ، فنحن لانعيش الوعي الدائم لحقيقة الموت بل نتصور ان هذه الحقيقة من نصيب غيرنا فحسب .
وكذلك الحال بالنسبة الى التعامل الاخلاقي ؛ فحين تتناهى الى اسماعنا المواعظ والوصايا الاخلاقية نكاد نقتنع اننا بعيدون عن الجوانب السلبية فكل ما فينا ايجابي ؛ فنحن صادقون لا نكذب وأمناء لا نخون واوفياء لانخلف .. وهكذا ! فكل واحد منا يحاول تزكية نفسه ما أمكنه ، فيتصور انه ليس بحاجة الى توجيه وارشاد وتعليم بل ان الآخرون هم الذين يحتاجون الى ذلك ، ومثل هذه التصورات الخاطئة هي التي تصرفنا عن التوجه الاخلاقي والتربوي والسلوكي ، وعدم الاهتمام بتربية انفسنا على التقوى وترسيخ الايمان ؛ في حين ان فهمنا لانفسنا يجب ان يكون على عكس ما نتصور ، وهو ان ننظر الى الآخرين على انهم أناس طيبون ، واذا كان هناك نقص او عيب ففينا ، فنحن الذين نحتاج الى ان نصبح أناسا طيبين صالحين .
وعلى هذا فلنستوعب الحقائق ونتفاعل معها من أجل تربية انفسنا ، ولتكن نصيحة الناصح وارشاد المرشد موجهين لي قبل ان يوجها غيير ، وفي هذا المجال يروى الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) انه قال : " احمل نفسك لنفسك فان لم تفعل لم يحملك غيرك " (1) ، فلابد - اذن - ان نتوجه الى انفسنا اولا ، ونفكر في مصيرنا .
والقرآن عنـدما يحدثنا عن الشرك في التأريخ ، وما تبعه من ويلات على البشرية ، فيجب ان لايتبادر الى اذهاننا ان هذا الكلام موجه خصيصا الى اولئك الذين سبقونا ، وان ليس لكلامه هذا علاقة بنا ، بل ان القرآن موجه لنا بالدرجة الاولى ، لاصلاح انفسنا ، وعلى هذا فلابد ان يكون للشرك الذي يحذّر منه القرآن أشد التحذير علاقة باوضاعنا الثقافية والاجتماعية والاخلاقية ، فما معنى هذا الشرك وماهي أبعاده ؟
اذا استوحينا المعاني الدقيقة لمفهوم الشرك من نفس الآيات القرآنية ، ومن المأثور عن اهل البيت (عليه السلام) اكتشفنا ان معناه الحقيقي يتمثل في تقديس غير الله بغير الله - تعالى - فحين يقدس الانسان شيئا او شخصية غير الله ، فان كان هذا التقديس والاكرام والتعظيم لأجل ما لهذا الشيء او الشخص من علاقة وثيقة ، او كرامة عند الله فلا بأس بهذا التقديس والأكرام ، فنحن المسلمين عندما نقدس ونكرم نبينا الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) فلكونه عبد اللـه ورسوله ، فهو - اذن - ينتمي الى الله ، اما اذا كان هذا التكريم والتقديس نابعين من الاعتقاد بانه يمتلك قداسة ذاتية في نفسه ، فهذا هو الشرك الذي نعنيه .
ولعل مشكلة أهل الكتاب من النصارى انهم عظموا نبيهم عيسى بن مريم (عليه السلام) وقدسوه تقديسا ذاتيا ؛ اي لذاته لا لذات الله - سبحانه - فوقعوا في حبائل الشرك عندما اعتقدوا بـ (التثليث) ، اذ انهم يعتبرون المسيح (عليه السلام) إلها بذاته يمتلك القوة والقدرة ، في حين ان اول كلمة نطق بها هذا النبي الكريم وهو في المهد قوله : « إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً » (مَريم/30) ، فلم يقل (عليه السلام) : اني جزء من الله او أبن الله ، كما تدعي المسيحية المنحرفة .
حقيقة الشرك :
ونحن حينما نحمد الله ونشكره مطمئنين انفسنا اننا لسنا من المشركين ، هل وعينا حقيقة عدم الاشراك بالله فلم ندع الشرك ينفذ الى اعمالنا وسلوكنا واخلاقنا وعلاقاتنا الاجتماعية ، فعندما اقدّس قومي او حزبي او طائفتي فهل نحرص على ان لايتجاوز التقديس هذا تعاليم الاسلام فيدخل في نطاق الشرك ؟
فأنت كأنسان تنتمي الى بلد معين لاينبغي لك ان تجد في نفسك الافضلية على الغير فتتحدث بطريقة تنفي بها دور الآخرين او تقدم نفسك عليهم وكأن الله - عز وجل - قد أكرمك لوحدك ولم يكرم الآخرين ، فمثل هذا النمط من التفكير نمط اسرائيلي ؛ فالاسرائيليون يحسبون أنفسهم شعب الله المختار واما باقي الأمم فهم دونهم ، وقد شجب القرآن هذا النمط الضال من التفكير ، وكذلك السنة المطهرة في احاديث كثيرة معروفة كقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " من تعصب او تعصب له فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه (1) " ، فينبغي على العاملين الرساليين ان يحذروا العصبية من ناحيتين :
1- ان لايتعصبوا لانفسهم لكونهم من البلد الفلاني او القومية الفلانية ...
2 - ان لايفسحوا المجال لمن يزيـن لهم الروح العصبية كأن يلتف حولهم لكونهم
من البلد الفلاني او القوم الفلانيين ، فهذا مدعاة للخطر والانحراف .
ان البعض من الناس - وللأسف - يعيش حالة تقديس الأسماء والشعارات والاحزاب ، فيعتبر - على سبيل المثال - حزبه حزبا مقدسا ، فهو ليس مستعدا لأن يناقشك حول مبادئ حزبه ومنهجيته ، ولايريد ان يفتح لك قلبا او عقلا ، بل ولايصغي لك عندما تناقشه فـي حزبـه ، وهـذا هـو التعصـب الذي هو ضرب من ضروب الشرك بالله - سبحانه - ، ذلك لان القيمة والمقياس الاساسيين يتمثلان في الله - عز وجل - ، فهو الخالق وهو الملك المقتدر الرزاق والمدبر ، اما ان نتخذ شيئا ما ونجعله مقياسا فهذا مالايجوز .
ومن هنا يتبين ان الشرك لايعني السجود والركوع لغير الله فحسب بل يشمل ايضا الاقتداء والاتباع ، ولذلك جاء في تفسير قوله - تعالى - :
« اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ » (التوبة/31) انهم لم يكونوا قد سجدوا وركعوا لهم بل اتبعوهم فيما حللوا وحرموا وأمروا ونهوا ، فكان عملهم هذا بمثابة التعبد للأحبار والرهبان .
اتباع القول الأحسن :
وعلى هذا ينبغي التقصي في كلام المتحدث ، والتحقق من كون مصدر حديثه مصدرا الهيا كما يقول - تعالى - :
« فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ » (الزُّمر/17-18) ، فالانسان المؤمن يصغي لما يتبادر الى سمعه من كلام ، ولكنه يجعل ما سمعه واصغى اليه امام عقله وفكره ؛ اي انه يسمع في طاعة الله ثم يختار وينتخب بالكيفية السليمة التي فيها رضا الله ورسوله ؛ اي وفق ميزان التقوى ، وهذا هو إتباع أحسن القول فالمؤمن لايتعصب لزعامته وقيادته الحزبية بأن يسد أذنيه عندما تنتقد قيادته او تناقشه فيها .
وهكذا فان التقديس لغير الله هو الشرك بعينه ، وهو لايقتصر على الاشخاص او الجماعات او الشعارات الرنانة والاهداف الضالة بل قد يتعدى الى تقديس الارض او اللغة او العنصر ... ؛ فالبعض قد يــرى ان لتربـة وطنه قدسية خاصة في حين ان ليس هناك أرض مقدسة لذاتها ، فالارض واحدة وكلها لله ، وفي ذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : .. " جعلت لي الارض مسجدا طهورا .. (1) " ، وان المتتبع لتأريخ الصراعات والحروب في العالم يجد ان أغلبها وقع بسبب تقديس الارض لذاتها ، وتقديس الاعلام والرايات التي يرفعونها عليها ، في حين ان تقديس العلم واعتباره شرفا انما هو بدعة من بدع الاستعمار التي جاء بها لغرض تمزيق وحدة الشعوب والأمم على الارض ، فالشرف والقدسية لله - تعالى - ولمن كان من أهله .
عظمتهم .
ولعل الثمرة الاولى لنبذ الشرك والعمل بالتوحيد تحقيق وحدة الانسان ؛ اي توحيد صفوف الناس شعوبا وقبائل ، وهدم تلك الجدران والحواجز التي أقامها اتباع الشيطان بين الناس من أجل تحقيق اطماحهم ومصالحهم ، والوحدة هذه لاتتكون ولاتنمو الا بالحب والوئام والتعاون والتضحية والايثار ، وبذلك تغدو الحياة روضة من رياض الجنة ترفل بالسعادة والمحبة والطمأنينة والخير .
وعلى هذا فان احترام الارض وتكريم الاشخاص وتعظيم الحزب والانتماء كل ذلك ينبغي ان لايكون على حساب القيم الالهية ، وعلى حساب الاضرار بالاخرين ، وعندما اهتم ببلادي فلا يكن هذا الاهتمام على حساب البلدان والاوطان الاخرى .
هدف الاسلام انقاذ البشرية :
ان هدف الاسلام هو ان يجعل هذا العالم الذي يعاني الويلات والآلام والجراح ينعم بالهدوء والاستقرار والعيش الهنيء ، فسفينة الاسلام والقرآن تريد انقاذ الشعوب والأمم من لجة هذا البحر الهائج المتلاطم بالمعاناة والآلام والحروب الطاحنة ، والرسو بها على بر الأمان والطمأنينة في ظل حياة حرة كريمة كما تشير الى ذلك الآيات القرآنية التالية من سورة الشورى :
« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ اُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » (الشّورى/6-7)
وقال - تعالى - في نفس السورة ايضا :
« شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ » (الشّورى/13) .
ويظهر ان الهدف من نزول هذه السورة المباركة تنظيم العلاقة بين الناس ، وتحديد أطر هذه العلاقة حسب النظرة التوحيدية حيث يقول - تعالى - :
« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ » ، وهم الذين يظهرون الولاء والتأييد لاشخاصهم وذواتهم ، فهؤلاء مردود عليهم ولاؤهم ، ولايقبل الله منهم شيئا .
وفي سياق آخر من سورة الشورى يقول - تعالى - :
« شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» ، فنفس المفاهيم والقيم التي أوصى الله - سبحانه - بها نوحا (عليه السلام) أوصى بها ايضا محمد (صلى الله عليه وآله) ، فدين الله واحد لايتأثر بالمتغيرات الزمانية والمكانية ، ولا علاقة له بالعنصر والدم واللون واللغة ، فالصلاة واحدة والكعبة واحدة ، وكذلك الاحكام والتشريعات ، فالوصاياوالتشريعات
التي نزلت على نوح والأنبياء الاخرين (عليه السلام) من اولي العزم هي ذاتها التي نزلت على نبينا خاتم الانبياء والرسل (صلى الله عليه وآله) ، وامتدت عبره الى الائمة (عليه السلام) ثم بلغت فقهاءنا ومراجعــنا اليوم ، فالدين واحد لا اختلاف ولا تفريق فيه .
ثم يأتي السياق ليعكس موقف المشركين من الدعوة الى الله فيقول - تعالى - : « كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ » ، وهذا القول المبارك يعزز حقيقة ان التفرق هو ضرب من ضروب الشرك ، فينبغي الحذر منه ، والتمسك بالله وحده .
ان مشكلتنـا الرئيسيـة اليوم هي تفرقنا وتمزق صفوفنا ، ومن هذه التفرقة تتفرع سائر مشاكلنا وويلاتنـا ، وعدم علاج هذه المشكلة يعني بقاء واستفحال المعضلات الاخرى التي نعيشها ، ونحن ندعو في هذه المرحلة التي نمر بها الى تكاتف كل الايدي ، وبذل كل الطاقات والتوجهات في مسيرة واحدة ، وليعمل كل منا ضمن استراتيجية عامة موحدة تشمل الجميع ، وتنتهي الى تحرير بلادنا الاسلامية وتكريس كلمة الحق والعدل والحرية باذن الله - تعالى - .
الاستكبار افراز الشرك بالله
ان القرآن الكريم هو جملة من المواعظ تتلخص في كلمة واحدة هي (لا اله الا الله) ، وهذه الكلمة تتسع لتدخل في كل جزء من اجزاء هذا العالم ، وفي كل حقل من حقول الحياة ، ولتخلق في كل مجال من مجالاتها حكمة وتشريعا .
والآيات التالية هي الآيات الاخيرة مـن سورة القصص ، وهي تحدثنا عن حقل من حقول تطبيق تلك الكلمة الالهية ؛ اي كلمة التوحيد ، فلنقرء هذه الآيات معا :
« إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ اُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تُكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً ءَاخَرَ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » (القَصَص/85-88)
الصراع بين المستضعفين والمستكبرين :
القرآن الحكيم هنا يحدثنا عن الصراع الذي ينشب عادة بين المستضعفين والمستكبرين ، وهذا الصراع لايتم بشكل واحد بل يتجسد في كل فترة من فترات التأريخ بصورة تختلف في ظاهرها عن الصور الاخرى ، ولكنها تعود بالتالي الى ذلك الصراع الابدي بين الخير والشر ، وبين كلمة التوحيد والخضوع لضغـط الشـرك .
ان الصراع قد يكون بين مجموعة عرقية مستكبرة وبين اكثرية عرقية مستضعفة او بين مجموعة عرقية اخرى مستضعفة ، وقد يكون بين مجموعة تشكلت في صورة تكتل اقتصادي يستضعف الاكثرية المسحوقة ، وقد يكون بصورة قوم يستضعفون قوما آخرين ، او بلد يستضعف بلدا آخر ، وقد يتجسد في عشيرة تستضعف أمة ، اوشخص واحد يستضعف مجتمعه .
الغفلة جوهر الصراع :
وهكذا فان الصور مختلفة ولكن الجوهر واحد وهو غفلة المستكبر عن ان القدرة النهائية المطلقة ، والقضاء الحاسم في هذا الكون انما هما للـه رب العالمين ، وان ليس لأي من الطغاة من قدرة خارج إطار القدرة الالهية ، والهيمنة الربانية على هذا الكون .
ان الغفلة من جهة المستكبر ، والغفلة من جهة المستضعف هما اللذان يساهمان في خلق حالة الاستضعاف والاستكبار ، فأولئك الذين نسوا اللـه - عز وجل - فأنساهم انفسهم ، واولئك المستضعفون الذين لم يعرفوا ان في الحياة مراغم كثيرة واسعة باستطاعتهم ان يهاجروا اليها ، ويجسدوا مجتمع الحرية في أي ارض تحملهم وفي أي بلد يسكنونه ، هؤلاء هم الذين يستضعفون من قبل المستكبرين .
ومثل هؤلاء يخاطبهم رب العزة قائلا : « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا » ( النساء/97) ، فلماذا استضعفتم ، ولماذا لم تهاجروا في حين ان أبسط وسائل الدفــاع عن النفس هي الهجرة ، وافضل البلاد ما حملتك ، وخير الناس من استضافوك ، فتسمّرك في ارضك ، وعبادتك لها هما اللذان يجعلانك مستغلا ومستضعفا وغافلا عن قدرة هائلة تمتلكها الا وهي قدرة التوكل على الله - سبحانه وتعالى - .
التوكل امضى سلاح :
ان الانسان اذا امتلك سلاح التوكل على اللـه فانه سيمتلك كل شيء ، لان الخالق قد اودع في ذاته آفاقا رحيبة واسعة يستطيع ان يتـوغل فيها ، ويفجر طاقاته الهائلة من خلالها ، اما اذا غفل عن هذا السلاح فانه سوف يكون عرضة للاستضعاف والظلـم ، ولذلك نجـد القـرآن الكريم يـركـز على هذه الغفلة وتلك ، فمرة يخاطب - تعالى - موسى وأخاه قائلا لهما :
« اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى » (طه/43-44) ، فما كان منهما (عليه السلام) الا ان أتيا الى قصر فرعون معلنين له انه ليس بإله ، محاولين من خلال ذلك ان يغيرا مسار الحياة من خلال تغيير هذا الانسان الفاسد المفسد المستكبر فهو - مهما يكن من شيء - بشر يحب الله - تعالى - بحكم لطفه ورحمته ان يكون من اهل الجنة .
الاستضعاف نوع من الشرك :
ومع ذلك فان خطاب الله موجه بالدرجة الاولى الى المستضعفين ، والملاحظ ان القرآن الكريم يخاطب الذين يستضعفون ويخضعون للآخرين من دون تفكير يخاطبهم بانهم مشركون الى درجة اننا اذا قرأنا في القرآن حديثا عن الشرك فعلينا ان نطبقه على واقعنا ، وعلى واقع المجتمع الانساني الذي نعيش فيه ، فهناك آلاف الملايين من البشر فوق هذا الكوكب يدّعون انهم يعبدون الله في حين ان الانظمة والشبكات الاستكبارية والفسق والظلم المتزايد كل ذلك هو المسيطر عليهم ، والا فلماذا هذا الرعب والخوف من الاسلحة ، ولماذا هذه الترسانات المليئة بالاسلحة المدمرة ؟
ان هناك الملايين من البشر لايعبدون الله الا وهم مشركون به ، وخاضعون لسلطان المادة ولاستكبار الاقتصاد ، فالنظام الحاكم لهذا العالم هو نظام رأسمالي يستخدم خيرة العقول التي تعمل على تحطيم البشرية .
ان هذا النظام انما هو قائم بسبب الشرك ، واول عمل لابد ان يقوم به المسلمون اينما كانوا ان يخرجوا من إطار هيمنة الاستكبار من خلال اطروحة جديدة يحاولون عبرها تحطيم هذه الهيمنة .
لابد للشعوب من تحطيم الاصنام :
ان الشعوب المسلمة في الارض لابد ان تقول كلمتها ، وان تعلن بصراحة وجرأة انها لاتعبد هذه الاصنام ، فالاصنام مرفوضة في الاسلام جملة وتفصيلا ، وهذا لايعني محاربة النظام من داخله بل محاربته من خارجه ، او بتعبير آخر ؛ محاربة النظام ككل ، ومحاولة تطهير الارض من رجس الكفر والشرك ، وعدم التعاون معهما بأي حال من الاحوال كما يشير الى ذلك قوله - تعالى - في نهاية سورة القصص :
« وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ » (القَصَص/86 )
وقوله : « وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ اُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تُكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ » (القَصَص/87)
فلابد من ان نقاوم الشرك كله .
وبكلمة ؛ ان القضية الاساسية هي قضية الشرك والايمان ، ونحن اذا خضعنا لمعادلة الشرك فان الاقليات سواء كانت عرقية أم اقتصادية وما الى ذلك سوف تأتي لتسيطر على العالم - كما هو الحال الآن - ، وتكون هناك مشاكل الشمال والجنوب ، ومشاكل التكنلوجيا والهـوة الشاسعة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة ، ومشاكل الازمات والانهيارات الاقتصادية في العالم .
من هنا لابد ان يتّحد المسلمون ، وان يبذلوا قصارا جهودهم ، وان يعملوا معا من أجل محاربة الشبكة الاستكبارية المهيمنة على العالم ، شبكة الشيطان ، والفسق ، والفجور ، والرذيلة ، والتكبر على الخالق - عز وجل - ، والشرك به .
ومثل هذا الاتحاد لايمكن الا بالاعتماد على الله - سبحانه وتعالى - ، والتوكل عليه ، والثقة بنصره ، واخلاص العبادة له ، وتوحيد المساعي والجهود تحت رايته ، والاعتصام بحبله المتين .
الشرك مصدر التبرير
الانسان مسؤول ، وهذه هي ابرز سماته سواء شاءت الفلسفات المادية أم ابت ، ولكن الصفة السلبية التي تحول بين الانسان وبين ادائه لمسؤولياته هي صفة (التبرير) او تسويلات النفس الامارة بالسوء .
ولو استطاع الانسان ان يقضي على حجاب التبرير وان يتحمل مسؤولياته ، لتمكن من ان يؤدي الامانة التي حُمّل اياها ، هذه الامانة التي اشفقت السماوات والارض والجبال من حملها .
وهنالك البعض ممن يبرر عدم تحمله لمسؤولياته بانه عاجز عن تحملها ، والبعض الآخر يبرر ذلك بصغر المسؤولية والاستهانة بها ، وفي هذا المجال تروى قصة طريفة تقول ان رجلا قيل له ان الفساد قد انتشر في البلد فقال : سحابة صيف سوف تنقشع عما قريب ، فلما قيل له ان الفساد قد انتشر فعلا ، وانه قد استحكم في البلد قال مبررا عدم قدرته على ازالة هذا الفساد : اتسع الخرق على الراقع .
ان الحقيقة واحدة سواء كان الأمر سحابة صيف تنقشع عن قريب ، او كان خرقا اتسع على الراقع ، وهذه الحقيقة هي التبرير ؛ فأنت كثيرا ماتدعو انسانا آخر الى عمل ما فيقول لك انه عاجز عن القيام به ، وبمجرد ان يثبت له انه قادر عليه يقول لك : انا فوق مستوى هذا العمل ، فاذا به يستكبر على العمل الصالح ويستصغره .
ونحن معّرضون الى هذا النوع من التبرير ، بل اننا متوغلون فيه وهو محيط بنا ، وعلينا ان نخرق هذا الحصار ، ونقاوم هذه الحلقة التي تلتف على انفسنا ولاتدعنا ندرك الاشياء على حقيقتها ، وننطلق في مجالات العمل الرحبة ، ولكن للأسف فان الكثير منا منهمك في هذه التبريرات دون ان يشعر .
مسؤولية الانبياء الكبرى :
ترى كيف نستطيع اسقاط قناع التبرير المزيف ، وكيف نتخلص من هذه الحالة المرضية ؟
قبل ان أجيب على هذا التساؤل ، أمهد له بمقدمة ضرورية وهي ان من مسؤوليات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عبر التأريخ ، ومن أعظم ألوان جهادهم هو الجهاد ضد الاصنام ، فالأنبياء جميعا - حسب ما اكتشفت من تفسير الآيات القرآنية - قد عارضوا وقاوموا مشكلة وآفة (الصنمية) لدى الانسان ، حتى الأنبياء الذين بعثوا الى المؤمنين بالديانات السابقة ، وعلى سبيل المثال فان النبي موسى (عليه السلام) بعد ان انقـذ قومه من ظلم فرعون ، وبعد ان عبر بهم البحر ، طلبـوا منه ان يجعل لهم آلهة كما للمصريين آلهة ، وبالفعل فقد اختاروا لانفسهم صنما صنعه لهم السامري وعبدوه من دون الله - تعالى - ، فما كان من موسى (عليه السلام) الا ان أنهال عليهم باللوم والتقريع وأمرهم بوحي من الله ان يقتل بعضهم بعضا تكفيرا عن هذه الخطيئـة الكبيرة
والرجس العظيم .
والنبي (صلى الله عليه وآله) كانت مسؤوليته الاولى محاربة الاصنام وتحطيمها ، وتطهير مكة المكرمة من رجسها .
ترى لماذا كان اول واجبات الأنبياء ومسؤولياتهم وأهــم لـون من ألوان جهادهم هو الجهاد ضد الاصنام ، وماذا كانت تعني هذه الاصنام ؟
ان كل صنم كان يعبد من دون الله كان هنالك صنم آخر يوازيه في نفوس البشر ، ومن خلال اسقاط كل صنم خارجي كانت تسقط في الداخل اصنام نفسية ، وبعبارة اخرى ؛ فان القلوب التي أشربت حب الاصنام لم يكن بمستطاعها ان تعبد الله عبادة خالصة وهي مدنسة برجس عبادة الاصنام .
التبرير نتاج الصنمية :
ان عبادة الاصنام تعني بالنسبة الى المشركين المزيد من التبرير ، لانهم كانوا
يقدّمون الذبائح والقرابين الى هذه الآلهة المزيفة ، ويمارسون كل انواع الفساد معتقدين ان هذه الاصنام سوف تنجيهم من نار جهنم ، فكان الواحد منهم يقوم بظلم الآخرين ، وارتكاب الجرائم ضدهم ثم يأتي ويخضع لقطعة من الحجر معتقدا ان عمله هذا سوف يؤدي الى غفران ذنوبه تلك .
ترى كيف يمكن إشاعة العدالة في المجتمع في حين ان الاصنام منتشرة فيه وفي نفوس افراده ؟
ان تلك التبريرات التي اختلقت على اساس الصنمية كانت تسقط بازائها مجموعة مـن القيـم لتحل محلها مجموعة تبريرات نفسية ، والمشكلة ان هذه التبريرات كانت - حسب الظاهر - تمتلك الشرعية الاجتماعية والثقافية .
ان مقاومة الصنم هي مقاومة التبرير ، والثقافة المنحرفة ، والضلالة المشروعة اجتماعيا ، وفي هذا المجال يروى ان قوما من المشركين جاؤوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبدوا له استعدادهم للدخول في الاسلام شريطة ان يدعهم يعبدون صنما من الاصنام ، فما كان منه ( صلى الله عليه وآله ) الا ان رفض هذا العرض بشكل قاطع ، وكلفه هذا حربا طويلة ، وحصارا للمدينة من قبل أهل الطائف حتى استطاع أخيرا ان يخضعهم للاسلام ، فلم يكن من الممكن ان يعبد هؤلاء الاصنام ثم يجاهدوا في سبيل الله - سبحانه وتعالى - لان الجهاد يعني الشهادة والتضحية .
سر حضارة الاسلام :
ان اسقاط الاصنام في الجزيرة العربية هو الذي مكن اهلها من التحول من أمة خاملة مشتتة متناحرة الى مجتمع متحضر قادر على حمل الرسالة الى الآفاق ، لان الاصنام سقطت لتسقط معها اساطيرها وخرافاتها وتبريراتها .
وهكذا فاذا كانت الاصنام موجودة في مجتمع من المجتمعات فاننا لانستطيع ان نحارب التبريرات فيه ، لان هذه الاصنام تعطي لهذه التبريرات شرعية ، وقيمة اجتماعية وثقافية .
وبناء على ذلك فان أعظم إنجاز قام به الأنبياء ( عليه السلام ) هو مبادرتهم الى انقاذ البشرية من الاصنام ، وتخليصها من سلسلة متكاملة ومتداخلة من الخرافات والاساطير والافكار المتخلفة المضادة للحضارة والتقدم والعطاء .
رواسب الصنمية مازالت قائمة :
وللأسف الشديد فان رواسب الاصنام ماتزال موجودة في النفوس ، وعلى سبيل المثال فان بني اسرائيل بعد ان كفوا عن عبادة العجل بدؤوا باختلاق الاعذار والتبريرات عندما أمرهم موسى (عليه السلام) بأن يذبحوا بقرة ، فأخذوا يطرحون الاستفسارات التي لامبرر لها من مثل سؤالهم عن لون البقرة ونوعها وما الى ذلك من تــبريرات تافهـة لا اساس لها ، وكادوا ان لاينفـذوا الأمر الالهي بذبح البقرة لولا ان
موسى (عليه السلام) أصر عليهم في ان يذبحوها .
ومن خلال تساؤلاتهم تلك كانوا يكشفون عن حالة نفسية هي حالة الالتفاف على القرار ، ومحاولة التملص من تنفيذ الأوامر من خلال مناقشتها ، فهناك الكثير من الناس عندما تأمرهم بشيء تبدأ عندهم المناقشات التي لاتنتهي ، ذلك لان الانسان يمتلك القدرة على الكذب والتهرب من المسؤولية .
ولقد كان اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يمثلون القدوات العليا في الامتثال للأوامر والمبادرة الى تنفيذها دون مناقشة ودون اختلاق للاعذار والتبريرات ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلو عليهم نصف الآية التي تنزل عليه ، وما ان يتناهى الى اسماعهم الأمر الذي تتضمنه هذه الآية حتى يقوموا لينطلقوا الى العمل والجهاد ، ثم يعودون ليستمعوا الى النصف الثاني من الآية ، وهكذا فقد كانوا لاينتظرون نهاية الآية لان اصنام التبرير في انفسهم قد تساقطت الواحد تلو الآخر ، ولانهم آمنوا بكلمة ( لا اله الا الله ) فلا تبرير ولا خضوع ولا تسليم الا لله - سبحانه وتعالى - .
واذا ما وجدنا انفسنا ماتزال في حالة اختلاق التبريرات فلابد ان نعلم ان رواسب الصنمية ماتزال موجودة في اعماق انفسنا .
القرآن يعالج ظاهرة التبرير :
والآيات التالية من سورة الاعراف تتحدث عن الانسان وما يعتريه من حالات مختلفة من التبريرات والتسويلات والوساوس الشيطانية ، حيث يقول ربنا - عز وجل - :
« وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاَرْضِ اُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيـِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مـِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثـُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الاَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ
مِثْلـُهُ يَأْخـُذُوهُ اَلَمْ يُؤْخـَذْ عَلَيْهِمْ مِيثـَاقُ الْكِتَابِ اَن لاَيَقُـولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ
وَدَرَسُوا مَا فِيـهِ وَالدَّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لانُضِيعُ اَجْرَ الْمُصْلِحِينَ *َوإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَاَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الاعراف/168-174)
ان هذه الآيات المباركات تحدثنا عن عالم الذر الذي أسقط فيه الله - تعالى - عن الانسان حججه التبريرية ، وأثبت له حاكميته وقدرته وإلوهيته لكي يسلب منه التبريرات عندما يدخل عالم الدنيا .
ان القرآن الكريم يقول - والحديث يدور حول بني اسرائيل - ان جيلا قد ظهر بعد الجيل الاول من بني اسرائيل وهو جيل التبرير والتسويلات : « فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ» فلقد ورث هذا الجيل الكتاب بما يحمل من نور وبصائر وشعلة تحرق التبريرات ، ولكن هذا الجيل لم ينتفع بنور هذا الكتاب ، فاذا بهم « يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الاَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا » وهذا هو اول تبرير اختلقوه .ـ
ذنب لاغفران له :
ان الله - جل وعلا - يغفر بعض الذنوب ولكن هناك ذنوبا لايغفرها ، فماهي تلك
الذنوب التي لايغفرها ؟
من ضمن تلك الذنوب الذنب الذي يستصغره ويستهين به صاحبه ، ويسوف التوبة منه كأن يغتاب أخاه المؤمن ثم يقول بعد ذلك " لاجعلها الله غيبة عليه !! وكأن هذه العبارة ستطهره من هذا الذنب ، او أن يكذب كذبة ثم يصفها بعد ذلك قائلا انها كذبة بيضاء في حين ان الكذب كلمه أسود او ان يحتقر الانسان الأخرين وهو لايعلم انه في الحقيقة يحتقر نفسه كما قال - تعالى - :
« لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ» (الحُجُرات/11)
فلماذا احتقار الآخرين ؟ ان الذي يحتقر انسانا مؤمنا فانما يحتقر نفسه ، ومن يستهزئ به فانما يستهزئ بقيمه ، فالمؤمن هو مؤمن سواء كان من لونك أم من لون آخر ، وسواء كان من وطنك أم من وطن آخر ، وسواء كان غنيا او فقيرا .
وهكذا تنشأ الخطايا الكبيرة من الذنوب الصغيرة التي نستهين بها ، واذا ما اردت ان تكون مثالا للعبد الصالح المطيع لربه فعليك ان لاتتحدى سلطان ربـك ، ولاتغـتر بنفسك فتذنب وتقول سيغفر لي ربي ، فمن يقول انه سيغفر لك ؟
وقد اشــار - تعالى - الى هذا التبرير في قوله على لسان الاشخاص الذين يحملون الثقافة التبريرية : « وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا » ، وهذا هو التبرير الاول الذي تصدر منه سائر التبريرات .
ومثل هؤلاء يدورون مع الدنيا حيثما دارت ، ويبررون ممارساتهم المغلوطة ببعض التبريرات الواهية ، والقرآن الكريم يخاطبهم قائلا : « اَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ اَن لاَيَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ » ، فلماذا يجعلون افكارهم الباطلة هي المقياس ، ولايتخذون من القرآن ميزانا بينهم وبين اعمالهم ؟
ان المشكلة الرئيسية التي يعاني منها الانسان هي حب الدنيا ، واذا ما اراد ان يتخلص من مرض التبرير فما عليه الا ان يقتلع هذا الحب من نفسه ، وسيرى كيف ان التبريرات ستتساقط الواحدة تلو الاخرى ، لان حب الدنيا رأس كل خطيئة كما جاء في الحديث الشريف .
ان الاناس التبريريين يتصورون ان الله - تبارك وتعالى - سيغفر لهم لأنهم يريدون عرض الادنى ، اما اذا ارادوا الدار الآخرة فانهم سوف يكفون عن هذه التبريرات ، والله - سبحانه وتعالى - يخاطبهم قائلا : « أَفَلا تَعْقِلُون » ، لماذا لا تنتفعون من عقولكم هذه الموهبة التي منحها الله - تعالى - للانسان ؟
ثم يستأنف السياق الكريم قائلا: « وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لانُضِيعُ اَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» وهذا يعني ان على الانسان المسلم ان يتمسك بالكتاب بقوة كما قال - تعالى - مخاطبا نبيه الكريم يحيى : « يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةِ» (مَريم/12) ، وكلمة المصلحين هنا تأتي في مقابل المفسدين . فالتبرير هو الذي يفسد الانسان وعندما يفسد الانسان فانه يعمـد الى إفساد الآخريـن .
ويستمر السياق القرآني ليستعرض لنا تبريرات اخرى من تلك التبريرات التي كان بنو اسرائيل لايكفون لحظة واحدة عن اختلاقها : « وإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَاَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنــُّوا أَنــَّهُ وَاقــِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ، وهذه هي معجزة اخرى انزلها الله - تعالى - على بني اسرئيل بسبب كثرة تبريراتهم ، وكثرة التفافهم حول القرارات الرسالية ، فقد نتق الله - سبحانه وتعالى - قطعة من الجبل ، وجعلها فوق رؤوسهم وكأنها سحابة سوداء ، ثم طلب منهم ان يأخذوا ما آتاهم بقوة ، وان لايكونوا ضعفاء الايمان ، ولايختلقوا التبريرات ، ولايناقشوا القرارات الالهية .
ثم يعود القـرآن الكريم ليبيـن تـبرير الانسان على طـول الخط فيقـول - عـز من
قائل - : «وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ » ، فمن الممكن ان يأتي يوم يبرر فيه الانسان اعماله ، ولذلك فقد القى الله - عز وجل - الحجة عليه .
وهكـذا فان التبريـر الاول الذي تعرضه علينا الآيات الكريمة السابقة هو الاعتقاد
الباطل للانسان المشرك بأن الله - سبحانه وتعالى - سيغفر له رغم الذنوب التي يرتكبها ، والخطايا التي تصدر منه والتي يقف الشرك في مقدمتها ، اما التبرير الثاني فيتمثل في الغفلة ، هذه الغفلة التي لايستطيع الانسان بأي حال من الاحوال ان يبررها عندما يمثل للحساب امام رب العالمين .
وللأسف فان الانسان لايغفل عن الامور الدنيوية . الى درجة انك تراه حريصا على انجازها في اوقاتها ومهتما في التمهيد لها ، ولكنه في المقابل يغفل عادة عن اداء الواجبات التي فرضها الله - تعالى - عليه من مثل اداء الصلوات في اوقاتها وانجاز ما عليه من حقوق تجاه الآخرين والقيام بالاعمال الصالحة ، وهذه الحالة السلبيلة ناجمة بالدرجة الأولى من صفة التبرير السلبية المزروعة في نفس الانسان البعيد عن ذكر الله - سبحانه وتعالى - .
فلنحاول ان ننقذ انفسنا من هذه الحالة المرضيّة التي من الممكن ان تؤدي الى سوء العاقبة - والعياذ بالله - ، ولنسع من أجل ان نفك انفسنا من قيود واغلال التبرير لكي نستطيع ان نضمن سعادتنا في الدنيا والآخرة .
الشرك هروب من المسؤولية
كثيرة هي الصفات التي أمرنا بالتحلي بها ، وكثـيرة هي المسؤليات التي القيت على كواهلنا ، وكثيرة هي الصفات الرذيلة التي نهينا عنها وأمرنا ان نتجنبها ، ولكن الحسنات تجمعـها كلمة واحدة ، والسيئات - هي الاخـرى - تجتمع في كلمة واحدة .
ولو ان الانسان عرف هاتين الكلمتين اللتين تجمع واحدة منهما الحسنات والاخرى السيئات ، ولو عرف كيف يتعامل مع محتواهما لاستطاع ان يشق الطريق نحو الرقي والسعادة والفلاح في الدنيا والاخرة .
ان اولئك الذين تجدهم لايستطيعون ان يكتملوا ويعرجوا بانفسهم في مدارج الكمال ، فان السبب في ذلك يعود الى انهم لايعرفون اين مفتاح السعادة ، ويجهلـون
كلمة السر للدخول في رحاب الفلاح .
ان كلمة الحسـنات تتلخص في التوحيد ، وكلمة السيئات تختزل في الشرك باللـه - سبحانه وتعالى - ، ونحن عندما نتدبر في آيات الذكر الحكيم نجد ان الله يأمرنا بالتوحيد كلما أمرنا بحسنة ، وينهانا عن الشرك كلما نهانا عن رذيلة ، وحديث القرآن لايخرج عن هذا الاطار ؛ اطار التوحيد وعبادة الله .
وفي مجموعة من الآيات في سورة الاسراء التي تحدثنا بدورها عن مسؤولية الانسان امام نفسه وامام الله - عز وجل - وامام التأريخ ، يأمرنا الخالق ان تكون عيـوننا واسماعنا وافئدتنا تحت الرقابة المستمرة ، لانها مسؤولة امام اللـه - جل وعلا - ؛ فالعين مسؤولة ، والسمع مسؤول ، وكذلك الفؤاد ، ومن الافضل ان ننقل هذه الآيات الكريمة لكي يطلع القارئ عن كثب على هذه الوصايا الالهية :
« وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً * أَفَاَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقوُلُونَ قَوْلاً عَظِيماً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لَيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالاَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً » (الاسراء/36-44) .
سنة حياتية :
واللـه - عز وجل - يأمرنا بالاضافة الى ذلك ان تكون مشيتنا فـي الحيـاة مشية
معتدلة بأن لانمشي في الارض مرحا ، ونؤمن ان هناك سننا في هذه الحياة تسيّرنا وان علينا ان ننتبه اليها ، فالانسان في هذه الدنيا امامه شبكة معقدة من الطرق ، وعليه ان يختار الطريق المناسب ليسير فيه ، ورغم ان هذه الطرق معبدة الا ان هوامشها وحواشيها محفوفة بالوديان .
وتعبير (المرح) في قوله - تعالى - : « وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحاً » يمكن ان يكون دالا على حالة اللاأبالية والاستهزاء والاستهانة والاستخفاف بالناس ، صحيح ان الانسان حر ولكنه اذا اختار بحريته الانتحار فانه سينتهي ، واذا اختار بحريته هذه الوقوع في المهالك والشقاء فانه سينتهي ايضا .
ان المرِّح هو ذلك الانسان الذي لايبحث عـن مسؤولية ولايبحث عن الطريق القويم ، وهذا الانسان بعيد عن رحمة الله - عز وجل - .
« وَلاَ تَمــْشِ فـِي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً » ؛ فهل رأيت الجبال الشاهقة ، وهل تستطيع ان تصل الى طولها ؟ فاذا كنت قصير القامة واردت في اليوم التالي ان يكون ارتفاعك كارتفـاع قمة الهمـلايا مثـلا ، فانك تطلب بذلك المستحيل فلقد جعل اللـه - تعالى - طول قامتك (75/1) سم - مثلا - وانت لاتستطيع ان تتجاوز هذا الطول مطلقا .
وهكذا فان هناك سننا ، فكما انك لاتستطيع ان تتحكم في قامتك ، ولا قوتك ، وعمرك ، وكثير من انحاء حياتك بسبب وجود سنن عامة تتحكم فيك ، فانك لاتستطيع كذلك ان تمشي في الارض مرحا فتقول - مثلا - : مالي ولهذا القانون ، ومالي ولهذه الحكمة ... كلا انك لابد ان تنضبط وتخضع لسنن الله - عز وجل - اذا اردت السعادة .
وبعد ذلك يقول - تعالى - : «ذَلِكَ مِمـَّا أَوْحَـى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعـَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً» ، وهذه هـي الحكمة ،