فلـو كان الانسـان المؤمـن علـى رأس جبـل وحـده لبعث اللـه - تعالى - له عدوا
يؤذيه ، لان الايمان لايكتمل الا بهذا البلاء ، ولان الله يكنّ له الحب ويريد ان يكمل ايمانـه ويزول الكبر والانانيات وسائر الادران الروحية من نفسه ، وتخلص نيتـه للـه - جل جلاله - .
الايمان النافع :
ان الايمان الذي لاينفع الانسان عند البلاء والشهوات والصعوبات ، ولايزوده بالمناعة ، ولايمنحه التصلب والصمود عند هجوم المشاكل عليه ، انما هو ايمان عديم الجدوى . فنحن نطلب الايمان لكي يعطينا الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخـاء ، والتربيـة المثلـى في تطورات الحياة ، ولذلك فقد أخذ اللـه - سبحانه وتعالى - الميثاق من النبيين فـي عالم الذر بان يحملوا الرسالة ، ويتحملوا مسؤوليتها :
« وَاِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَاِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيمَاً » (الاحزَاب/7-8)
اي ان الأنبياء عندما قبلوا ان يتحملوا مسؤولية تبليغ رسالات الله ، وأعطوا من أنفسهم الميثاق ، فقد طلب منهم الله - سبحانه - الاقرار ، واشهد عليهم ملائكته وهذا هو معنى الميثاق الغليظ الذي يستهدف معرفة الانسان الصادق في ايمانه ، الوفي بميثاقه في وقت الازمات والمصائب والمحن .
ثم يضرب الله - تعالى - لنا مثلا من واقعة بدر التأريخية فيقول :
« يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا » (الاحزاب / 9) ، وقد كان عدد المسلمين المقاتلين لايتجاوز ثلاثمائة وثلاث عشرة رجلا ، واذا بألف جندي مدجج بالسلاح يأتيهم وحينئذ أرسل الله اليهم جنوده ، وأمدهم بمدده الغيبي .
هذا بالنسبة الى معركة بـدر ، واما في معركة الخندق والاحزاب فقـد كانت الظـروف
اكث،ر صعـوبة وتأزما على المؤمنين ، وعن هذه الواقعة يقول - عز وجل - : « اِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ » (الاحزاب / 10) اي انهم احاطوا بالمدينة ذلك لان القوى الداخلية - وهم اليهود - تآمروا على المسلمين بالاضافة الى قريش والقبائل العربية الاخرى .
ثم يقول - تعالى - واصفا حالة الهلع الشديدة التي اعترت المسلمين : « وَاِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ » (الاحزاب / 10) ، فالانسان عندما تنهار اعصابه تزيغ عيناه ، وعندما يدهمه الاحساس بالخوف والخطر يصاب بحالة يشعر معها وكأن قلبه قد انخلع من مكانه وارتفع الى حنجرته ، وحينئذ تبدأ الشكوك تـساور النفـس الانسانية ، ويقع الانسان فريسة لسوء الظن : « وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ » (الاحزاب / 10) .
ثم يبين - عز وجل - الحكمة من وراء هذا الابتلاء الشديد ، والاختبار الصعب في قوله : « هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً » ( الاحزاب / 11) ، فالابتلاء يعني اظهار ما في القلب ، واختبار لمدى قدرة الانسان المؤمن على الوفاء بالتـزامات كلمة ( لا اله الا اللـه ) التي تعني تحطيم كل الاصنام الذهنية والنفسية ، ومحاربة هوى النفس والغرور والكبر والانانيات وما الى ذلك من اصنام داخلية ، فكل شيء غير اللـه يجب ان يسقط ويحل محله كل ما له علاقـة به - تبارك وتعالى - .
واذا ما استطاع الواحد منا ان يسقط ويحطم كل تلك الاصنام ، وتمكن من ان يعرج في سلم السمو والكمال فحينئذ سيكون العبد الصالح الذي تستقبله ملائكة الله على ابواب الجنة .
وقد جاء في الروايات ان هناك قسما من الناس بمجرد ان يخرجـوا من قبـورهم
تفرش لهم الملائكة اجنحتها ، ثم يركبون على هذه الأجنحة ليدخلوا الجنة من دون حساب ، وفي الطريق تشاهدهم ملائكة أخرى فيسلمون عليهم ويسألونهم : من أنتم حتى تدخلوا الجنة من اوسع ابوابها ومن غير حساب ؟ ، فيجيبون قائلين : لقد كنا نتمتع في الدنيا بصفتين ؛ الاحسان ، والتسليم .
والتسليم يعني تفويض الامر الى البارئ - عز وجل - في جميع الظروف والاحوال ، وحمده وشكره على كل ما يأتي ، والترجيع ؛ اي قول " انا للـه وانا اليه راجعون " عند نزول المصائب . فالانسان المؤمن صبور ، ممتلك لزمام نفسه ، شكور سواء كان ملك الملوك أم كان يعاني من الأمرين في السجون ، وهو في كل الاحوال في انتظار ما يقدر الله - عز وجل - ويخطط له تاركا التدبير له .
يوسف (عليه السلام) انموذج التسليم :
ولنا في هذا المجال قدوة حسنة بيوسف الصديق (عليه السلام) الذي مر في حياته بسلسلة متصلة من الاختبارات والابتلاءات الشديدة التي لايستطيع الانسان العادي الضعيف الايمان ان يتحملها ، فقد رمي (عليه السلام) في البئر واشتري وهو النبي العظيم بثمن بخس ، ثم تعرض للمؤامرات تلو المؤامرات في قصر العزيز ، واودع السجن نتيجة لاصراره وتمسكه بمبادئه وقد كان بأمكانه ان يحيا رافلا بالنعم الكثيرة لو انه تخلى ولو بمقدار ذرة واحدة عن رسالته ومبادئه ، ومع ذلك فقد أطلق هتافه التأريخي في وجه الاغراءات الدنيوية قائلا : « رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » (يوسف/33)
ولا شك ان التدبير الالهي هو الذي حمله على ان يمر بهذه المنعطفات حتى أوصله هذا التدبــير اخيرا الى ذلك المقام الالهي الشامخ في الآخر ، والمنصب الرفيع في الدنيا .
ولذلك فان من المستحب للانسان المؤمـن ان يقـول دائما : " اللهم اغنني بتدبيرك
عن تدبيري " ؛ اي ان يطلب هذا الانسان من الله - عز وجل - ان يقدر ويدبر له ، لان تقديره - تعالى - افضل بالطبع من تقدير الانسان ، ولان الانسان لايستطيع ان يعلم الغيب ، ولايعرف ما سيحدث في المستقبل .
اهمية كلمة التوحيد :
وكل هذا لايمكن ان يحدث الا من خلال ايمان الانسان العميق بكلمة التوحيد ؛ هذه الكلمة التي من شأنها ان تنمي صفة التوكل المطلق على الخالق - عز وجل - في النفس الانسانية ، فتجعل هذه النفس مطمئنة بقدر الله - تعالى - راضية به ، شاكرة له في كل ما يقدر لها سواء كان هذا التقدير مما تميل اليه هذه النفس ، او مما تنفر منه وتستثقله ، وحينئذ سيدخل الانسان في حصن الله - تبارك وتعالى - المنيع في الدنيا والآخرة ، وسيكون مصداقا للحديث القدسي الذي رواه لنا الامام الرضا (عليه السلام) عن آبائه واجداده (سلام الله وصلواته عليهم اجمعين) عن النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) عن جبرائيل (عليه السلام) :
" كلمة لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي " .
هل ندخل حصن اللـه ؟
قال - عز وجل - في الحديث القدسي الشريف المروي عن الامام الرضا ( عليه السلام ) : " كلمة لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي " ، والكلمة هذه تدل على ان أسمى وأهم وأعظم اهداف الانسان في الدنيا هو هدف الاستقلال ؛ الاستقلال عن جاذبية الارض المتجسدة في الثروة والشهوة ، والاستقلال عن جاذبية الاجتماع المتمثلة في القوة والسلطة ، وبالتالي الاستقلال عن كل قوة ضغط او جاذبية تريد ان تحول الانسان الى اداة ، والى تابع بسيط يدور في فلكها .
والانسان - بطبعه - مقهور للطبيعة من حوله ؛ فهو يحس بالجوع فيندفع نحو الطعام اندفاعا ، كما يضر به العطش فيبحث عن ماء يروي به عطشه هذا ، ويأخذ التعب منه كل مأخذ فيبحث عن مأوى يأوي اليه فيستريح ، ولو ان هذا الانسان ترك نفسه فانه يصبح بعد حين جزء من عملية تناول الطعام والشراب ، وبتعبير آخر ؛ قمرا
يدور في فلك الطبيعة حيث دارت .
بالإرادة نتحرر :
وهذا الانسان انما يستطيع ان يجعل نفسه بمنجى من هذا الفلك الذي يدور به اذا استخدم ارادته وقرر ان يعيش كما يريد لا كما تريد الطبيعة ، فالطبيعة تريد منى ان ابحث عـن الخبز ، والخبز هذا مضمون اذا كيفت نفسي مع المجتمع ، وعشت كما يريد ، والا فإنني سوف لن أحصل على طعامي وحينئذ لا أستطيع ان أحصل على شيء فيستعبدني المجتمع .
اننا نجد ان هناك عادة اناسا يستخدمهم الطاغوت والمجتمع الفاسد ، ويقومون بممارسات خاطئة في الحياة ، واذا ما سألتهم عن سبب استسلامهم هذا قالوا لك ان معيشتهم تفرض عليهم ان يقوموا بهذا العمل او ذاك .
وهناك اناس آخرون يخوضون حيث خاض الناس لانهم يخشون من سيطرة المجتمع مـن جهة ، ويريدون ان يكيفوا انفسهم مع طبيعة هذا المجتمع من جهة اخرى .
هذا في حين ان الانسان المؤمن يكون دائما في حالة تحد لضغط المجتمع ، والطبيعة لانه يؤمن بكلمة (لا اله الا الله) ؛ اي ان القوة التي يجب ان يتبعها ويستسلم لها من دون قيد او شرط هي القوة الوحيدة في الكون وبعبارة اخرى ، هي حاكميـة الله ، وولايته - سبحانه وتعالى - ، وولاية الله هي ولاية الحق ، وولاية الحق هي ما يوحي به العقل ، وما اوحى به الله - تبارك وتعالى - للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين - .
وهـذه هـي خطة الحيـاة المستقيمـة ، فاذا نبـذت جانبـا نفسـك ، وعقـلك وتركت - بالتالي- الحق ، وولاية الله - سبحانه وتعالى - ، فانك ستصبح ذليلا ، مستسلما بل اداة في جهاز كبير لاتحس فيه بذاتيتك وجوهرك .
واذا اردت عزا بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فما عليك الا ان تخرج من ذل معصية اللـه الى عز طاعته ، وطاعته - تعالى - هي الخضوع لولايته الاحدية ، وهي تعني بالطبع رفض جميع الآلهة والانداد والشركاء من دون الله - تبارك وتعالى - ، ورفض تلك القوى التي تستعبد الانسان ، والوقوف في وجه قوة الشهوة والثروة من جهة ، وقوة الارهاب والسلطة من جهة اخرى .
وكما قلنا فان قوة الثروة والشهوة تمثلا جاذبية الطبيعة في حين ان قوة السلطة والارهاب تجسد جاذبية المجتمع .
والسـؤال الذي يفرض نفسه هنـا : كيف وبأية وسيلة يستطيـع الانسان ان يضمن استقلاله ؟ ان طبيعة الحياة تستعبدك ، وكل فرد من ابناء المجتمع يفرز من حولك جاذبية تحاول ان تستقطبك وتستعبـدك بالتالـي ، فكيف تستطيع ان تنقذ نفسك من ضغـط الجاذبيات المختلفة الموجودة في الانسان نفسه او في الطبيعة ؟
للاجابة على هذا السؤال نستعير مثالا من عالم الطبيعة فنقول : كيف تستطيع قطعة من الحديد ان تنقذ نفسها من جاذبية الارض ؟ اننا نعلم ان في علم الفيزياء قانونا يقول ان أية كتلة في الطبيعة تمتلك جاذبية بقدر وزنها ، فكلما كانت الكتلة اكثر كثافة كلما كانت جاذبيتها أكثر وأعظم ؛ فالارض لها جاذبية ولكن جاذبيتها تعتبر تافهة بالنسبة الى جاذبية الشمس ، فالكتلة هي التي تقرر الجاذبية حسب كثافتها . ترى فكيف يكون بامكان قطعة الحديد ان تتخلص من جاذبية الارض ؟ هذا السؤال يجيب عليه علم الفيزياء فيقول : ان ذلك ممكن من خلال الحركة ؛ فكلما كانـت حركـة قطعـة الحديد أكثر وأسرع استطاعت ان تخفف من وطأة جاذبية الارض عليها .
الحركة والنشاط ضمانتا التحرر :
و هكذا الحال بالنسبة الى الانسان ؛ فكلما كان أكثر حركة ونشاطا كان أقدر على
دفع الجاذبيات والضغوط من حوله وخلق جاذبية جديدة ، فالانسان المؤمن لايتحرك ويستقل عما وعمن حوله فحسب بل انه يحمل معه موجة من الجاذبية تستقطب الآخرين وتنقذهم من عبودية الشهوة والثروة ، او الخضوع للقوة والسلطة وهذه هي سنة الله - تعالى - في الطبيعة ، وسنة الحياة في عالم الانسان .
انك - ايها الانسان - اذا اردت ان تجسد في ذاتك مفهوم ( لا اله الا الله ) وتخرج من ضغط الطبيعة ، وعبودية الانسان للانسان ، فعليك ان تخرج من اطار معصية الله - تعالى - الى رحاب طاعته ، ومعصية الله ان تترك نفسك وتهملها ، وطاعته ان تتعبها وتجهدها في سبيله ، فهذه الطاعة لايمكن ان تكون الا بالتحرك الأسرع فالأسرع ، فان لم تكن ساعيا بسرعة فان حقوقا كثيفة ومتراكمة سوف تحيط بك .
حقوق عملية :
اننا عندما نقرأ رسالة الامام زين العابدين ( عليه السلام ) في الحقوق نجد ان كل هذه الحقوق هي حقوق عملية تحتاج الى الإداء والعمل والنشاط ، اما الانسان الكسول فانه يضيع حق الله - عز وجل - والناس ، فعندما لاينهض مبكرا في الصباح ولايؤدي الصلاة فانه يضيع حق الله ، وعندما لايذهب الى العمل فانه يضيع حق عائلته ومجتمعه ، وقد جاء في الحديث الشريف : " ملعون ملعون من ضيع من يعول " (1) وفي حديث آخر له (صلى الله عليه وآله) : " ملعون من ألقى كله على غيره (2) .
ترى كيف يلقي الانسان كلّه على الآخرين ؟ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يضرب لنا مثلا في اولئك الذين كانوا معه والذين صام طائفة منهم بينما قام الآخرون بخدمتهـم عنـد الافطار ، فأكد ( صلى اللـه عليه وآله ) على ان الثواب قـد كان مـن
نصيب المفطرين لانهم تحركوا ، وخدموا الصائمين ، صحيح ان الصوم يعني ان يبذل
الانسان جهدا لمقاومة جاذبية الشهوة ولكنه قد يكون استسلاما للركود والسكون ، ولذلك فان الانسان الذي يتحرك هو الذي يحصل على الثواب الاكثر ، ويا حبذا لو كانت هذه الحركة مقرونة بالصوم .
وعلى هذا فان الحركة هي مقياس مدى خروج الانسان من عبودية ما حوله ، فالانسان الاكثر نشاطا وحركة هو الأقدر على تحقيق الاستقلال ونيله ، والانسان انما يحتاج الى الآخرين بسبب حرصه وطمعه ولذلك يقول الحديث الشريف : عن الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عندما سأله فأي ذل أذل قال الحرص على الدنيا ... (1) ، اما الانسان الذي يمتلك السعي والحركة فانه لايحتاج الى احد بل ان الناس هم الذين يحتاجون اليه .
الإحسان نوع من الحركة :
ترى لماذا اختار الله - سبحانه وتعالى - انبيائه ( عليهم السلام ) من بين المحسنـين ، ولماذا قال - تعالى - في أكثر من موضع بعد ان تحدث عن الانبياء : « وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُـحْسِنِينَ » (الانعام/84) ، الجواب نجده في جانب من قصة موسى ( عليه السلام ) وذلك عندما يذهب الى مدين ، وعندما يصل الى هذه المدينة وقد انهكه التعب والجوع ويرى تينك الفتاتين تذودان من أجل ان تسقيا اغنامهما ، ثم واذا به يأوي الى الظل ويرفع يديه الكريمتين الى السماء قائلا : « رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » (القَصَص/24) ، فلا يفكر في تلك اللحظات انه جائع وغريب ، ولايفكر انه طريد تلاحقه قوى الطاغوت بل يفكر كيف يقدم خدمة ، وكيف يتحرك ، فينبري الى مساعدة الفتاتين ، وهذا هو الاحسان الذي يمثل الحركة في الجانب الاكبر منه .
والانسان المحسن هـو الذي يهتـدي ويحصل على الرحمة والفـلاح والسعادة كما
يؤكد على ذلك - تعالى - في قوله : « الم * تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ » (لُقْمَانَ/1-3)
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : اننا كلنا نطمح في ان نكون متحركين ونشيطين ولكن الحاجات المادية ، وعقبات المجتمع تقف حائلة بيننا وبين التحرك الاكثر فاعلية ونشاطا ، فكيف ياترى يعمل الانسان ؟ ان جسمه بحاجة الى الراحة فهو يجوع ويمرض ويتعب ، ومن جهة أخرى فان الانسان عندما ينوي العمل فانه لايجد من رفاق عمله سوى التثبيط والدعوة الى التكاسل والتقاعس ، فهناك في المجتمع سواء في مجال التحرك الاسلامي أم المادي عناصر نشطة وأخرى كسولة تقف عقبـة امام الانسان ، فكيف يستطيع ان يتجاوزهم ، وهل يعمل معهم أم على انفراد ؟ فان اراد ان يعمل لوحده انطبق عليه الحديث الشريف : " الشاردة للذئب " واذا ما اراد ان يعمل مع الآخرين فانهم سوف يحددون حركته .
للاجابة على هذا التساؤل نطرح ما سبق ان اكدنا عليه وهو ان تجربة الانسان في الدنيا ليست تجربة عضلاته فقط وانما ايضا تجربة عقله وارادته ؛ فالارادة تتحدى ، والعقل يفتح الطريق ، فعندما يكون عقل الانسان كاملا ، وعندما لايدع الانسان شيئا دون ان يفكر فيه تفكيرا جديا كما يقول الامام علي ( عليه السلام ) في وصيته لكميل : " يا كميل إعلم أنه لابد لك في كل جولة من فكرة " ، وعندما يكون فكر الانسان هـو الذي يحـدد مسيرتـه ، فانـه سيكـون مديـرا جيدا ، فالانسان لايتحدى
ولايتجاوز العقبات بجسمه وعضلاته فقط ، فقد يكون الانسان ضعيف الجسم ولكنه يستطيع بعقله ان يتجاوز الكثير من الصعاب والعقبات .
عقبات ليست مستحيلة :
وهكذا فان العقبـات التـي تعترض طريقنا ليست مستحيلة التجاوز اذا استخدمنا
عقولنا ، ولذلك فعلى الانسان ان يكون مديرا ومدبرا اذا أراد ان يكون مستقلا ، وأراد ان يضمن استقلاله ، ويطبق على نفسه واقع كلمة التوحيد ، ويدخل في هذا الحصن المنيع .
صحيح ان الجسم بحاجة الى راحة ولكن على الانسان ان يدير هذا الجسم لا ان ينام الساعات الطويلة بحجة ان الجسم بحاجة الى راحة ، ولقد أثبت العلم الحديث ان تجزئة النوم تؤدي الى راحة الجسم ؛ اي اننا باستطاعتنا ان ننام بصورة متقطعة لا ان نستمر في النوم لفترة طويلة ، فالعلم والتجربة أثبتا ان الانسان باستطاعته ان يأخذ قسطا قليلا من الراحة ثم يتابع بعد ذلك عملا مجهدا .
وهكذا الحال بالنسبة الى الاكل فان الجسم بحاجة اليه ايضا ولكن ليس كل ما يستهويه مذاقك هو الافضل لجسمك بل حاول ان تبحث عن الطعام الخفيف الذي ينفع جسدك ، فما الفائدة من امتلاء البطن بالأكل اذا كان يسبب انواع الامراض ؟
وبناء على ذلك فاننا بحاجة الى ان نبحث عن الاسلوب المناسب لادارة اجسامنا ، فعندما تكون الادارة قوية في مملكة الجسد فان الانسان سيستطيع ان يلبي احتياجات جسمه بالشكل المطلوب .
ونفس الشيء يمكن ان يقـال عـن ادارة المجتمـع المـحيط بنا هذا المجتمع الذي يمثل هو الاخر عقبة لايستطيع الانسان اختراقها بسهولة ، وفي هذه الحالة عليه ان يتلطف في تجاوز وتذليل هذه العقبة ، وقد استخدمت هذه الكلمة (التلطف) في القرآن في قصة اصحـاب الكهف عندما أمروا بـأن يتلطفوا في تجاوز المشاكل الاجتماعية التي تصادفهم وذلك في قوله - تعالى - : « وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً » (الكهف/19)
و (التلطف) يعني ان هناك طرقا واساليب باستطاعة الانسان البحث عنها في سبيل مواجهة وحل المشاكل التي يواجهها في حياته ، ولذلك نقول ان الانسان باستطاعته ان يقفز فوق العقبات ويتجاوزها دون ان يثير غضب الآخرين بل وحتى دون ان يشعرهم بذلك ، فباستطاعة الانسان في كثير من الامور ان يتسلح بسلاح التلطف والكتمان وحينئذ سيكـون بمستطاعه ان يتجـاوز الكثير مـن العقبات الاجتماعية كما يقول - تعالى - على
لسان أحد اصحاب الكهف : « وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» .
ادارة النفس طريق الاستقلال :
فاذا اردت ان تحافظ على استقلالك فعليك ان تعرف كيف تدير نفسك ، فالانسان كان سابقا محكوما بالبرد والحر والجوع والعطش والألم ولكنه اليوم استطاع ان ينقذ نفسه من هذه الحتميات ويتحرر من ضغوطها عن طريق النشاط والعقل والادارة ، وعندما استطاع هذا الانسان ان يدير الحياة ، ويستخدم اجهزته ضدها فانه قد انقذ نفسه من جاذبيتها .
ومن هنا فاني ادعو الاخوة الرساليين الى البحث الجاد عن اساليب الادارة لانفسهم ولما حولهم ، وقد تكون هذه الادارة علما تقرأه في الكتب ، وقد تكون فنا تتعلمه في مدرسة الحياة ، فاذا توفرت الارادة والعقل والتفكير فانه ليس بإمكان شيء ان يعجزك ، فكل الحياة ستأتيك طائعة ، وحينئذ سوف تستطيع ان تصل الى قمة الاستقلال .
وهذه الدعوة ليست موجهة الى الافراد فحسب ، فالتجمعات التي تكون نشيطة ومديرة ومدبرة فانها تستطيع ان تحافظ على استقلالها ؛ فالتجمع الذي يرفض الشرق والغرب ، ويستجيب للاسلام بكل قوة واصرار ودون ان تكون استجابته هذه شعارا فارغا فهو انما يجسد هذا الشعار ضمن الافراد ايضا ، فالله - سبحانه وتعالى - يقـول : « فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ » (التوبة/12)
ومثل هذه الحركات هي حركات نادرة لانه ليس من السهل ان تقول ( لا اله إلا الله ) ، وان تخرج نفسك من جاذبية الطبيعة وجاذبية المجتمع البشري ، وليس من السهل ان تقف لوحدك امام العالم كله ، بل انت بحاجة الى من يعينك ، ويقف الى جانبك .
ان القرآن الكريم يقول : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الاَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ » (الانفال/73) ، فلماذا لانعلن رفضنا القاطع لكل القوى الاستكبارية ، ومم نخاف ، ولماذا نتصور اننا لانمتلك القوة ؟ الجواب : لاننا لم نتحرك ، ولم نعمل ، ولم نسع ، ولم نتجاوز العقبات ، في حين ان الحركة هي مفتاح الاستقلال ، والانسان الذي يمتلك العقل والارادة ، ويتمتع بالحركة والادارة فانه يكون قريبا من الاستقلال ، ومن تطبيقه كما يقرر ذلك الحديث القدسي :
" كلمة لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي " .
كيف نوطد العلاقة مع بارئنا ؟
لاريب في ان خلاصة اهداف الرسالات الالهية بناء العلاقى الوطيدة بين العبد وخالقه ؛ بين قلب هذا الانسان وروحه وبين بارئ هذا القلب ونافخ الروح - جل شأنه - . فالرسالات السماوية قاطبة تسعى سعيا حثيثا من أجل ان توجد الآصرة القوية المتينة بين حياتنا الدنيا المادية التي نخوض غمارها ، وبين الآخرة التي سنستقبلها عند انقضاء الآجال ، وحلول ساعة الـموت . وهذه هي زبدة الاهداف التي تبتغيها وتصبو الى تحقيقها في وجودنا رسالات الله - سبحانه - ورسله ، وانبياؤه (عليهم السلام) .
ومع ذلك فان الانسان عندما يبتعد ، وينأى عن عالم الروح التي تحن الى السمو والكمـال ، فانه سيبتعـد - بالطبع - عـن الرسالات الالهية واهدافها الخيرة ، فيتحول
الى كيان هزيل تذروه الرياح ، وتهوي به في وديان سحيقة مظلمة ، ويغدو ضحية اخطبوط الاهواء والشهوات الممتدة اذرعه الى كل زاوية من زوايا النفس الانسانية ، وحينئذ ينطبق قوله - تعالى - عليه : « فَكَاَنَّمـَا خَرَّ مِنَ السَّمآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ» (الحَج/31) .
زكريا انموذج الروح السامية :
والقرآن الكريم ، هذا الكتاب السماوي الخاتم الذي يحمل بين دفتيه مضامين الرسالات الالهية جميعا ، ترسخ آياته ، وتؤكد تلك الروح المعطاء ، والمعنويات الرفيعة السامية . وفي هذا الصدد يذكر لنا القرآن قصة زكريا (عليه السلام) ، ذلك العبد الصالح المطيع لله - تعالى - ، والذي اخلص له في العبودية والطاعة فعبده ، وسجد له حتى وهن العظم منه ، واشتعل رأسه بالشيب شاهدا على اخلاصه في العبادة التي وسمه الله - سبحانه - بها . فما اعظمها ، وأنبلها من سمة سمائية كريمة ان يتصف الانسان بصفة العبودية الخالصة والطاعة اللامحدودة لله ، لا للنفس الامارة بالسوء ، والشيطان ، وعالم الاهواء الرخيصة ، والشهوات المبتذلة ، ولا لشياطين الانـس من طغاة وفراعنة ونماردة متجبرين ، بل هي دائما وأبدا لله الواحد الأحد الفرد الصمد .
علاقة الرحمة :
وفي الحقيقـة فان هذه هي العلاقة الوثيقة الخالصة حيث يعبر عنها - تبارك وتعالى - بعد ان يذكر حروف النور :
«كهيعص * ذِكْـرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ » (مَريم/1-2) ، فالعلاقة التي يجب على الانسان ان يجهد نفسه ، ويبذل جل سعيه من اجل بلوغها هي علاقة الرحمة التي هي بمثابة الجسر الممتد بين العرش الالهي وعباد اللـه - جل جلاله - . والملاحظ في هذه الآية الكريمة انه - تعالى شأنه - استخدم لفظة (الرحمة) بين ذكره العلي ، وعبده الولي زكريا . فلم يقل ( ذكر ربك ) بل قال : «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ» ، ذلك لان الرحمة هي الرابط والآصرة بين العبد وربه . فهو - سبحانه - يريد تأكيد المعنى الواسع في ان الذكر هذا انما يتجلى في الرحمة المنفردة بخصوصيتها لكونها آتية من رحمان رحيم ، وفي بحبوحتها ، و رياضها الوارفة عاش العبد الصالح المؤمن زكريا عندما ناجى ربه بتلك المناجاة ، ودعاه بذلك الدعاء من القلب الى السماء حيث العلي الأعلى . فكان نداء ينطلق من اعماق الانسان ، وسر من اسراره لم يسمعه احد إلا السميع العليم ، وخفيا يتسرب من ذلك العمق في كيان النفس الانسانية ، حيث يقـول - تعالى - : « إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً » (مَريم/3) .
النداء الصادق :
اي نداء صادقا لا كذب ، ولا نفاق ، ولا خداع ، ولا رائحة للوساوس الشيطانية فيه . وهذه هي مواقف الضراعة والتبتل والخضوع والتقرب الى الله - تعالى - عند تأثر القلب ، وذوبانه بالخشوع ، والخوف ، والتقوى :
« رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً » (مَريم/4) ، ذلك الانسان قد يقسو قلبه ، وتكسوه غشاوة تحجب عنه النور الالهي ، وضياء البصائر بما يركن اليه من متاع الدنيا ، وبما يعشش في نفسه من ادواء الغرور والكبرياء ، في حين ان النور عندما يسطع على القلب الكسير ، والنفس المتضرعة وينعكس دموعا سيالة ، فان هذا النور ، وتلك البصائر سوف تخترق ذلك القلب ، وتزوده بنبض الحياة الحقيقية ؛ حياة النبل ، والكرامة ، والايمان .
انكسار القلب مقياس القرب :
ولذلك فان انكسار القلـب ، واستشعار الخشوع الذي يملأ جوانـب النفس يمثلان
العلاقة التي تدل على قرب الانسان ، ودنوه من بارئه الجليل ، وفيض رحماته التي لا تنقطع . فالله - تعالى - ليس ببعيد عن الانسان ، بل ان الانسان هو الذي يبتعد عن الرحمان الرحيم بغروره وكبره وركونه الى الشهوات والملذات ، ولذلك جاء في الدعاء والمناجاة الشريفة لاهل بيت العصمة (عليهم السلام) قولهم :
" وانك لا تحتجب عن خلقك الا ان تحجبهم الاعمال دونك وان الراحل اليك قريب المسافة " .
ويعزز قولنا هذا الحوار الذي دار بين الكليم موسى بن عمران ( عليه السلام ) ، والعليم الحليم رب السماوات والارضين ، فقد سأل موسى (عليه السلام) ربه قائلا : يا رب اين انت ؟ فأجابه - جل وعلا - : انا عند المنكسرة قلوبهم . وهناك شهادة اخرى تعكس هذه الحقيقة ، حقيقة دخول النور القلب عند انكساره حيث روي عن الامام الرضا (عليه السلام) انه قال : اقرب ما يكون العبد من الله عز وجل وهو ساجد وذلك قوله عز وجل : " واسجد واقترب " (1) فالعبد الساجد لله الممرغ جبهته بتراب هذه الارض التي منها خرج واليها يعود تارة اخرى ، يعيش حالة عظيمة من الذوبان في الله ، فتستشعر كل خلية من خلايا جسده ، وكل نبضة من نبضات قلبه الخشوع والضراعة . ولذلك قال زكريا ( عليه السلام ) :
« قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً » . فها أنت تعلم يا رب وترى كيف اني طلقت الحياة الدنيا ، وجعلتها وراء ظهري ، فهاهي الخطوات متسارعة للقاء وجهك الكريم ، وهاهو الاجل قد دنا مني ، وليس عندي من يخلفني في حمل عبئ الرسالة . وهذا هو مضمون ما دعا زكريا به ربه ، فطلب منه ان تستمر الرسـالة ، وان يكـون له من يحملها بعده خصوصا وانه لم يكن يمتلك جاها ولا مالا
ولا بنين ، بل هو وريث يحمل ويتحمل الرسالة الالهية ومهامها الشاقة التي من أجلها أفنى ربيع عمره .
ثم تستمر المناجاة مع الخالق وبيان علة الطلب : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِي » (مَريم/5) ؛ فلقد خشيت يا رب ان يحبط هؤلاء بي كما يحيط من هم امثالهم بكل الاولياء والصالحين محاولين الانتفاع وكسب ثقة الناس بهم من خلال استغلال مظلة اولئك الاولياء والصالحين منتظرين الفرص ، ومتربصين بهم الدوائر صفاتهم الحميدة لفرض وجودهم على الامة .
لماذا طلب زكريا الولد :
ثم يستأنف زكريا دعاءه قائلا : « وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً» (مَريم/5) ، وقد يكون امرا عاديا وشائعا بين الناس ان يطلبوا من الله - جل وعلا - ان يرزقهم من طيبات رزقه ، ورحماته ، ونعمه التي لا تحصى ، كأن نطلب ان يرزقنا شيئا من المال او الاولاد او الزوجة الصالحة او النصر والتقدم والازدهار وغير ذلك مما تقوم به حياة الانسان على الارض ، ولكن الغريب والعجيب ان يدعو زكريا ربه ليرزقه الولد وهو يعلم ان امرأته عاقر عقيم ، وربما هو نفسه اصبح عقيما بعد ان هرم ووهن العظم منه ، واشتعل رأسه بالشيب ، فلم يعد ممن يرجو ان يخرج منه خلف يرثه . وهذه هي النقطة المهمة الاولى من الدعاء ، اما النقطة الثانية فتتمثل في انه يريد ان يكون له من يرثه ، وهذه الوراثة ليست ككل وراثة متعارفة ، فالارث الذي قصده هذا النبي هو من نوع آخر ، فهو ارث ممتد غير مقتصر عليه ، حيث قرنه بارث السابقين الصالحين من آل يعقوب ولذلك قال ( عليه السلام ) :
« يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ» (مَريم/6) . فالارث المقصود هنا هو الارث المعنوي ؛ ارث المبـادئ والمثل والقيـم الخـيرة الصالحة ، وباختصار فانه ارث الرسالات السماوية ،
فزكريا (عليه السلام) انما اراد الامتداد والاستمرار للخط الرسالي الذي تبناه من قبل
آل يعقوب والذي يعتبر زكريا القائم به في عصره . فهو انما اراد وصيا يتكفل بمهام ومشاق الدعوة الرسالية ، ويتحمل هذه الامانة الالهية بصبر وعزم وثبات .
الوصي الرضي :
وبالاضافة الى ذلك فانه (عليه السلام) لم يقصر دعاءه على مجرد الوارث ، بل دعا له بالمنقبة ، والفضيلة الشاملة التي تكمن في طياتها جميع الخصال ، وتتفرع منها كل الصفات الحسنة ألا وهي ان يكون رضيا ، حيث يقول زكريا : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً » ( مَريم/6) . فهو ( عليه السلام ) عندما دعا ربه فانما دعاه لكي يكون وصيا له اولا ، ولكي يتصف هذا الوصي بالرضا ثانيا . فهو ( اي زكريا ) نبي يعلم ان اللـه - سبحانه وتعالى - لا يمكن ان يترك خلقه بدون تبليغ رسالي ، ويدعهم لحالهم من غير وصي يكون حجة بالغة عليهم يوم القيامة ، ولذلك فان دعاءه كان منطلقا من هذا العلم ، ثم انه عندما دعا الله - تعالى - ان يجعله مرضيا فانه يعلم حق العلم ان الامم وانطلاقا من آفة الجهل والاستعلاء سوف تخالف وتعارض ، بل وربما تقارع انبياءها ، ولا تتقبل دعواتهم . وهذا الامر لا يقتصر على الانبياء ، بل يمتد الى الاوصياء فهم ايضا يقفون داعين الى الله - تبارك وتعالى - بالموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، فان لم ينفع هذا الاسلوب فبالسيف والجهاد في مواجهة ردود الفعل السلبية للامم تجاه رسالات الله ، ولذلك كان الدعاء الثاني يدور حول ان يكون الوصي راضيا بقضاء الله وقدره ، صابرا على بلائه لكي يؤمن الناس برسالته ودعوته فيكون مرضيا عندهم .
الاستجابة الالهية :
وبناء علـى ذلك فان زكـريا (عليه السلام) دعا الله - جل وعلا - غير آيس ، ولا
قانط من رحمته رغم انه يعلم العجز في نفسه وزوجه . وانطلاقا ايضا من العلم بالسنة الالهية القاضية بحتمية الوصي والحجة على الخلق ، ولذلك جاءت الاستجابة التي لا تعجز الله ، فهو رب المعاجز ، وهو الذي اذا اراد شيئا فانما يقول له كن فيكون ، فجاءت الاستجابة تحمل على اكتافها البشرى :
« يَا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشّـِرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيـَى لَمْ نَجْعَل لّهَُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً » (مَريم/7)
فاسم يحيى (عليه السلام) مشتق من اسم الخالق ، فهو سميّ الجليل ، والحي الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء كل شيء ، الازلي الأبدي الذي لا يحده زمان ولا مكان . صحيح ان الله - تبارك وتعالى - يكره ان يسمى احد باسمائه المختصة بذاته ، ولكنه - كما يتضح لي - اراد من هذه التسمية الاشارة الى الحياة الأبدية الخالدة لهذا النبي ، لانه - سبحانه - يعلم في علمه الازلي ما الذي سيجري على هذا النبي الوصي ، وما سيلاقية من اذى الطواغيت ، وقد كان علمه حتما مقضيا حيث استشهد هـذا النبي بتلك الطريقة الدمـوية المفجعـة ، فجـاء اسم سميّة مشتقا مـن حيـاة الخلد ( يحيى ) رغـم ان الانسان لم يكتب له الخلـد ، فلابـد له من أجل كما يقول - تعالى - :
« وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ » (الانبياءِ/34)
فالخلود - اذن - مختص بالله - تعالى - ، والفناء بخلائقه ، ولكن هذا الخلود الالهي والحياة الربانية كتبتا ليحيى ( عليه السلام ) لانـه قد استشهد في مواجهة الشرك ، ومن اجل ان يعبد الله - تعالى - وحــده .
ثم يمضي السياق مستعرضا القدرة الالهية وذلك من خلال قول زكريا مخاطبا ربه :
« قـَالَ رَبِّ أَنّـى يَكُـونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُـوَ عَلَـيَّ هَيـِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» (مَريم/8-9) .
العبادات جسور الى الحضرة القدسية :
وهكذا فان الدعاء ، والمناجاة ، والصلاة ، والسجود للـه ، وسائر العبادات ، والطاعات ، والاخلاص للخالق - تعالى - هي الجسور التي توصلنا الى الحضرة القدسية ، والجلال العظيم عند ذي العرش ، ولذلك فمن بات عارفا ومدركا اهمية وقيمة تلك الكنوز ، وخاصة في مجال الدعاء والمناجاة فسوف يحيى مصونا لا تهزه الهزائز ، ولا تعصف به العواصف ثابتا كالجبل الاشم ، وذا مناعة من وساوس النفس والشيطان ، ومغريات الهوى والشهوات والكبر .
وفي الحقيقة فان هذا هو الهدف المتوخى من كل انواع الدعاء والمناجاة التي منها الاستعاذة والاستغفار والتوكل والتوسل الى الله - تعالى - بوسائل العصمة ، والتشفع بها . فالأئمة (عليهم السلام) هم الوسائل ، والسبل الواضحة ، والابواب المفتحة التي توصلنا الى عالم القدسية والرحمة والمغفرة الالهية . وفي هذه اللحظات عندما يجمع الشيطان جنوده الكامنين في معسكر النفس الامارة بالسوء للهجوم على الانسان المؤمن ، يتجلى حينئذ أثر التوكل والدعاء والاستعاذة والاستغفار وسائر انواع التوجه الى الله - سبحانه - في صد تلك الحملات .
منزلة الدعاء في العبادة :
والدعاء له كيانه الخاص في العبادة ، فلا يستهينن احد منا بالدعاء . كلا ، فالدعاء هو احب شيء الى الله ، فهو الذي يأمرنا به مباشرة في قوله : « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » (غافر / 60) ، فالدعاء هو مخ العبادة ، واولئك الذين يولون ظهورهم للدعاء يصفهم الله بانهم يستكبرون في قوله :
« وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ » (غافر/60) ، فمع وجود هذه النعمة الالهية ، نعمــة الدعاء ، نجد في احيـان كثـيرة ان هذا الانسان الجاهل لهذه النعمة ، وثمارها العظيمة ، هذا الانسان الغافل لا يلتفت الى هذه الجوهرة التي منحها الله - سبحانه - له فيغفل عنها ، او يتغافلها .
مقاييس استجابة الدعاء :
فلندع اللـه ، ولا نبخل بهذه النعمة العظيمة على انفسنا ، فهو - سبحانه - اعلم منا بما في نفوسنا ، فان لم يستجب الدعاء احيانا فانما لمصلحة لنا لا ندركها ، او ربما لان الدعاء لم يكن صادرا منا بصدق كأن لا ينسجم مع افعالنا ، وتصرفاتنا ، وسلوكنا في الحياة ، وهذا هو المراد من الصدق في الدعاء .
وفي احيان اخرى يستجيب الله - جل جلاله - لنا بالفعل ولكننا لا نلمس أثر ذلك في حياتنا الدنيا ، بل يدخر ذلك لنا يوم القيامة حيث جاء في الرواية عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : ان المؤمن ليدعو الله عز وجل في حاجته فيقول الله عز وجل اخــروا اجابته ، شوقا الى صوته ودعائه ، فاذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل : عبدي ! دعوتني فأخرت اجابتك وثوابك كذا وكذا ودعوتني في كذا وكذا فاخرت اجابتك وثوابك كذا وكذا ، قال : فيتمنى المؤمن انه لم يستجب له دعوته في الدنيا مما يرى من حسن الثواب . (1)
وبناء على ذلك فان علينا ان ندعو الله - تبارك اسمه - في كل الاحوال ، فان لم ننــل الاستجــابة فـي الدنــيا فانـه مذخــور لنا فـي الآخرة كما يقول - تعالى - : « ولَلأَخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِـنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَترْضَى» (الضُّحى/45) وكما يقول - تعالى - : « فَمَآ أُوتِيتُم مِن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى » (الشّورى/36) . وهذه شهادات الهية توحي بهذا المعنى ، فلندع الله ، ولنلح عليه بالدعاء فهو - سبحانه - يحب العبد الملحاح ، فهو رحيم رؤوف ودود يحب السؤال ، والالحاح فيه ، وعلينا ان لا نتصور ان الله قد اصم اذنه عنا ، فحاشى له ان لا يسمع عبده وهو السميع العليم بذات الصدور ومكنوناتها . فهو - تبارك وتعالى - يحب الدعاء منا ، والالحاح في الطلب ، ففي ذلك مزرعة للثواب الذي هو خير وابقى ، فالخالق قد يمنع الاجابة ، او يؤخرها ليزداد ثوابك ، وتنمو نفسك في جو الخضوع والخشوع لله الذي يربو فيه ثواب تضرعك وبكاؤك ودموعك من خشيته وهول عذابه وناره .
وفي الحقيقة فان هذا هو سلم من السلالم التي نبلغ بها الكمال ، فلندع جانبا هذا التولي والعناد والتبغض مقابل ذلك التجنب وتلك الدعوة كما يشير الى ذلك الدعاء الشريف : " انك تدعوني فاولي عنك ، وتتحبب الي فاتبغــض اليك ، وتتودد إلي فلا أقبل منك " فلنحذر من ان تنطبق علينا هذه الحالة ، ولنحاول ان نزكي انفسنا ، ونحدث التغيير فيها اولا لكي يكون بامكاننا حينئذ ايجاد التحوّل الايماني المطلوب في العالم .
الايمان بلقاء اللـه منبع الفضائل
لكي نعرف شيئا ما معرفة تامة لابد ان نعرف نهايته وعاقبته ، فاذا أردنا ان نختار نمطا في الحياة ونسلك مسلكا معينا فلا مناص لنا من ان نتساءل : الى أية عاقبة ينتهي هذا النمط او المسلك ؟
ان هذا التساؤل يمثل فطرة انسانية . وسنة عقلائية معروفة ، فاذا أردنا ان نختار منهجا في الحياة يتعين علينا قبل ذلك ان نتساءل عن نهاية هذه الحياة ، وهل هي خالدة أم محدودة ، وهذه هي المنهجية الصحيحة لمعرفة الدنيا والحياة المثلى فيها ، ولكن البعض من الناس يستحبون ويفضلون الدنيا على الاخرة وينكرون وجود الآخرة ، فالافضل اذن - حسب تصورهم - ان نتمتع بهذه الدنيا ما استطعنا الى ذلك سبيلا ، ولا شأن لنا بالآخرة !
نتائج استحباب الدنيا على الآخرة :
والقـرآن الكريم يعالج هـذه الحالة ويشـير الى هـذا النمـط مـن التفكير في قوله - تعالى - : « الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا » (اِبراهيم/3) ، فيفضلون الحياة الدنيا ولسان حالهم يقول : مادامت هذه الدنيا عاجلة وحاضرة فمن يبيع النقد بالديـن ، ومن ذا الذي يبيع بضاعة مقابل ثمن يدفع في المستقبل ، وهذه هي بداية ولعلها تكون بداية بسيطة ولكن نهاية هذا النمط من التفكير ستكون نهاية سيئة ، لان من يستحب الحياة الدنيا على الآخرة سيبتلي بعدة صفات سلبية منها :
1- انغلاق القلب : ان قلب هذا الانسان سيصبح قلبا منكرا ومغلقا لانه لايرى الا هذه الدنيا ، ولا يرى الآخرة وما وراءها . فاذا فقد عزيزا او صديقا فانه يبدأ يفلسف فقدانه لهذا الانسان بألف تفسير وبطريقة لاتمت اليه بصلة ؛ أي أنه يبعد الموت الذي جاء لهذا الانسان عن نفسه ، ويتصور أنه سوف لايشمله ، وعلى العكس فان الانسان الذي يدرك ان الدنيا محدودة ولايفضلها على الآخرة فان قلبه سيكون متفتحا يستوعب العبرة والنصيحة .
2- انكار الحقائق : ان الانسان الذي يفضل الدنيا على الآخرة لايلبث ان يبدأ بانكار الحقائق الآخرى ، فينكر رسالات الله - تعالى - ، لان هذه الرسالات لايؤمن بها الا من يخشى الله ويخشى العقاب ويرجو الثواب ، اما الانسان الذي يقول : ماهي الا حيانا الدنيا وما يهلكنا الا الدهر ، فانه لايمتلك دافعا يدعوه الى ان يؤمن برسالات الله ، ولذا نـرى هـذا الانسـان يتخذ من الكفر منهجية له في الحياة ، وعن مثل هؤلاء يقول - سبحانه - : « فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبُهُم مُنكِرَةٌ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ » (النّحل/22) ، وفي آية اخرى يربط القرآن الكريم بين الكفر بلقاء الله ، والكفر بسائر الحقائق في قوله - عز من قائل - : « وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَـرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقـَآءِ الاَخِرَةِ » ( المؤمِنون/33 ) ، وعلى هـذا فان الكفر هو احدى
النتائج القريبة من التكذيب بالآخرة .
3- تزين الاعمال : ان اعمال هؤلاء الكافرين بلقاء الله تتزين لهم ؛ فهم يعتبرون جميع اعمالهم السيئة حسنة وان سرقوا وخانوا الأمانة واعتدوا على الآخرين ... لانهم لايمتلكون معيارا ، ولايستطيعون ان يفرقوا بين الحق والباطل ، ولانهم لايعيشون الا لهذه الدنيا ، ولذلك يقول - عز وجل - : « إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ » (النَّـمْل/4) ، ولذلك فان من المستحيل لهذا الانسان ان يتوب ويقلع عن اعماله السيئة ، وفي آية اخرى يقول - جل وعلا - : « فَنَذَرُ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ » (يونس/11) ؛ فالذي لايرجو لقاء الآخرة يتركه الله لشأنه ، فلا يهديه ولايزوده بنور .
4- المبادرة الى التكذيب : ان هؤلاء سوف يبتعدون عن الصراط المستقيم بمسافات شاسعة كما يقول - جل وعلا - : « بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ » (سبَأ/8) ، فقد يسير الانسان في الطريق فينحرف عنه لمسافة قصيرة ، ولكن انحرافه هذا قد يكون لمسافات شاسعة ، وفي هذه الحالة لاترجى له العودة الى الطريق المستقيم .
5- المجادلة بالباطل : ان هؤلاء الكفار يبحثون دائما عن افكار باطلة يتشبثون بها ويقاومون من خلالها الحقائق ، والى هذا المعنى يشير قوله - تعالى - : « وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا في الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلـْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ » (السِّجدَةِ/10) ، فلأن هؤلاء كفروا بلقاء الله ، ولانهم لم يعتقدوا بوجود الآخرة والحساب والكتاب نراهم لايعترفون بامكانية العودة الى الحياة مرة أخرى ، ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ، فيقول امثال هؤلاء : من ذا الذي يستطيع ان يجمع ذرات الانسان بعد موته ليحولها الى الوجود الاول ؟
انك ايها الانسان المنكر ألم تكن فـي بدايـة خلقك سـوى نطفـة ، ثم خلـق اللـه - تعالى - من تلك النطفة وجودك المتكامل ، أفليس بقادر على ان يجمع هذه الذرات ليعيدها الى حالتها الاولى ؟
وهناك من يبرر عدم ايمانه باساليب اخرى ، فيقول - على سبيل المثال - اننا لانريد هذا القرآن بل نريد كتابا آخر ، غافلين عن ان الرسالات السماوية لايمكن ان تتبدل ، وقد اشار - عز وجل - الى مجادلة هؤلاء قائلا : « قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ اُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآئِ نَفْسِي » (يونس/15) ، فهم يتصورون ان الرسول (ص) هو الذي يأتي بالقرآن من عنده ، ولذلك فقد طلبوا منه ان يبدله في حين ان القرآن هو وحي منزل من السماء ، والرسـول لايستطيع ان يغير منه حرفا واحدا والقرآن يؤكد ذلك في قوله : « قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ » (الكهف/110 (.
الا ان قلوب هؤلاء أصبحت منكرة وعقولهم مضطربة لانهم لايؤمنون بالآخرة ، على ان الأمر لم ينته عند هذا الحد ؛ فقد طالبوا الرسول باكثر من ذلك ، وهذا ما يرويه لنا القرآن الكريم في قوله : « وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلآ اُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلآَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا » (الفُرْقان/21) ، متناسين ان ذرة واحدة من نور الله - جلت قدرته - لو نزلت على جبل لدكته وجعلته هشيما ، فنحن لانستطيع ان ننظر الى نور الشمس ولو لدقيقة واحدة فكيف يمكننا ان نرى نور الله ؟
ثم يستأنف العلي القدير قائلا :
« لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِـي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّا كَبِيراً » (الفُرْقان/21) ، وهذا نوع من الاستكبار يدفع الانسان الى ان يطالب بانزال الملائكة عليه في حين انها لاتنزل الا على قلب معمور بالايمان ، فكيف تنزل على هؤلاء الكفار والمشركين المليئة قلوبهم بالرذائل والاحقاد ؟!
الصبر دعامة الايمان :
وعلى هذا فان تلك الافكار الباطلة التي جادل بها اولئك الكافرون ناجمة كلها من عدم ايمانهم بالآخرة ، وعدم صبرهم على فهم الحقيقة ، ولذلك فان الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام) يعتبر (الصبر) اول دعائم الايمان ، والصبر بدوره يتشعب الى أربع شعب هي : " الشوق والشفق والترقب والزهد ، ثم يقول ( عليه السلام ) : " فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات " ، فالصبر هو اساس الايمان ، وهو بمثابة الغاء المسافة بيننا وبين الآخرة ، كما ان اساس الايمان الاعتبار بمن مات والاعتقاد بحتمية الموت كما قال - تعالى - : « كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ » (آل عمران/185)
ان هذه المسافة هي مسافة هذا النفس الذي يصعد فلا ينزل او ينزل فلا يصعد ، وهي مسافة لاتستغرق سوى لحظات ، والانسان الذي يلغي هذه المسافة بينه وبين الآخرة تراه يشتاق دوما الى الجنة ، ويشفق من النار ويترقب الموت ، وهذه هي المعاني التي اشار اليها أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله :
" فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن اشفق من النار اجتنب المحرمات ، ومن زهد في الدنيا رغب في الآخرة ، ومن ترقب الموت هانت عليه المصيبات " .
فاذا اراد الواحد منا ان يزداد ايمانا فعليه ان ينمي في داخله وعي الآخرة ، ويجعل حياته حياة من يترقب الموت ، وكفى بالموت واعظا ، فلنبن حياتنا على اساس الايمان بالموت لا ان نفعل العكس .
الآثار الايجابية للايمان بالموت :
والانسان الذي يوقن ان الموت نازل عليه تراه يكون انسانا شجاعا ، فمادام جسده سوف ينتهي فلماذا لايبيعه في سبيل الله - تعالى - ؟ وبالاضافة الى ذلك فان الانسان الذي يعتقد انه سيموت في أية لحظة يكون صادق الكلام ، ويكون تعامله مع الناس عادلا فلا يأكل اموالهم بالباطل ويسارع في الخيرات .. فكل عمل صالح يحتاج اليه الانسان ولذلك يجب ان لايستصغر اي عمل .
كما ان الانسان الذي يعتقد بالموت يكون قلبه متعاليا على هذه الدنيا ، فتراه يعيش دائما مطمئن القلب ، ولذلك فان المصائب تهون عليه لانه يضع الموت نصب عينيه دائما .
وبناء على ما اسلفناه فان مما يجعلنا نزداد ايمانا ان نؤمن بلقاء الله - تبارك وتعالى - ، وان لانغفل عن هذا اللقاء ، وبالاضافة الى ذلك فان الايمان بالآخرة يجعلنا نؤمن بكل الحقائق ايمانا راسخا وعميقا .
(1)الكافي ج2 ص 266 رواية 12
(1) بحار الانوار ج3 ص 148 رواية 4
(1) نهج البلاغة قصار الحكم 22
(1) بحار الانوار د 68 ص 173 رواية 5
(1) بحار الانوار ج 70 ص 312
(1) بحار الانوار ج 70 ص 291 رواية 16
(1) بحار الانوار ج 3 ص 99
(1) بحار الانوار ج 10 ص 84 رواية 5
(2) بحار الانوار ج 10 ص 88 رواية 8
(1) بحار الانوار ج 69 ص 264 رواية 1
(1) بحار الانوار ج 3 ص 7 رواية 16
(1)بحار الانوار ج 2 ص 41 رواية 2
(1) فروع الكافي ج2 ص 454
(1) بحار الانوار ج 70 ص 291 رواية 16
(1) بحار الانوار ج 8 ص 38 رواية 17
(1) بحار الانوار ج 8 ص 351 رواية 1
(1) بحار الانوار ج 100 ص 13 رواية 62
(2) بحار الانوار ج 74 ص 142 رواية 1
(1) بحار الانوار ج 70 ص 161 رواية 4
(1) الكافي ج 3 ص 265
(1) الكافي ج 2 ص 490 رواية 9