التوحيد قمة الهرم القيمي - توحید یتجلی فی الحیاة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

توحید یتجلی فی الحیاة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


وان انشغـل اللسان فليبق القلـب ذاكرا متهجـدا فهو - سبحانه - قريب يسمع النجوى ، ويعلم ما في الصدور ، ويعرف كل هاجـس فيـنا ، وكل نية فـي قلوبنا ، فهو - سبحانه - يجيبنا ان دعوناه ، وناجيناه ولو بقلوبنا ، او دموع اعيننا .


الاسماء الحسنى تجليات للسنن :


وبناء على ذلك فلكي نبلغ القربة عند اللـه فلابد من ذكره ، ومعرفة اسمائه الحسنى . ثم يجب ان لا ننسى ان لهذه الاسماء الجليلة معاني اخرى ، وهي كونها تجليات لسننه - سبحانه - في الكون والوجود .


وعلـى سبيـل المثال فبخصوص الرحمة الالهية فان هناك سننا وقوانين وانظمة تعبر عن هذه الرحمة ، وهكذا الحال بالنسبة الى بقية صفات الله - جل وعلا - ، واسمائه الحسنى كالعظمة ، والكرم ، واللطف ، والحلم ، والعلم وغيرها . وعلى سبيل المثال فانك عندما تتأمل الظواهر الطبيعية والكونية المذهلة ، وتفكر في خلقها ، ووجودها ، واستمرارها ، وعظمة حجمها من شمس وقمر ونجوم ، ومن جبال وسهول ، وكائنات حية عجيبة ... فان عظمتها تدفعك بشكل لا ارادي الى ان تذكره - سبحانه - باسماء عظمته وكبريائه . وهذا هو تعبير عن النظرة السليمة التي لم تخالطها الشائبات المادية والالحادية ، فعظمة الشيء دليل على عظمة خالقه .


سنة تحمل المسؤولية :


وكذلك الحال عندما يتبادر الى اذهاننا قوله - تعالى - : « أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » (البقرة/196) ، فهذا تعبير عن سنة الهية هي سنة الجزاء والعقاب ؛ فلكل قول وفعل جزاؤه خيرا كان أم شرا ، ثوابا كان أم عقابا . وقد أكد - سبحانه - على هذه الحقيقة عندما قال :


« وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى » (النجم/ 39 -40) ،


وهذه هي سنة الجزاء التي جعلها الله لعباده في حياتهم الدنيا . فالانسان مسؤول ومكلف بذاته ، وهو في اطاره مملكة هو ربها وسيدها ، وكيان مملكته هذه هو جسده الذي لابد من ان يعتني به ، وإلا فانه - اي الانسان - مسؤول عن أي تقصير تجاهـه . ولسنة الجزاء اسماء الهية عديدة تتعلق بها ، واكثرها صلة بهذه السنة اسمه - تعالى - (السميع البصير) . فالانسان متمرد ومجادل بطبعه ، وهذا الطبع كان فيه منذ اليوم الاول الذي نفخت فيه الروح ، ولذلك كان لابد من رادع وكابح لجماح التمرد الكامن في ذات الانسان ، ولعل الوازع النفسي هو من أهم هذه الكوابح . فاذا ما فقد الانسان هذا الوازع الذي يحافظ على سلوكه ، ويكون له خير ناصح و واعظ فان نصائح وارشادات الآخرين لا تكفي لوحدها ولا تنفع معه .


وبالاضافة الى ذلك فان القوانين والنظم سوف لا تجدي معه نفعا هي الأخرى ، ذلك لان الذي يفقد الوازع النفسي يعرف كيف يتحايل على القانون ويتهرب ويتملص منه ، وشواهد التحايل والالتفاف والتهرب هذه كثيرة تعج بها مجتمعاتنا ، فما اكثر عمليات التزوير والتهريب والارتشاء والمحسوبية وما الى ذلك من انواع الخرق ، والاعتداء على القوانين والانظمة .


ترى ما الذي يضبط سلوك الانسان ومواقفه وحركاته ، وما الذي يجعل قلبه واعيا متبصرا بحيث يبادر الانسان عندما يلج في دهاليز المعصية الى الامساك بزمام نفسه بنفسه ، والوقوف امام تدنّيها ، وترديها في المعاصي والذنوب ، وبتعبير آخر : من اين يأتي هذا الوازع النفسي ، وكيف ينمو وينشط في الذات البشرية ؟


لاريب ان هذا الوازع النفسي يتمثل في معرفة الله - سبحانه وتعالى - ، والاحاطة بعظيم صفاته واسمائه ، ومنها انه - سبحانه - سميع عليم ، يسمع ويرى ؛ وحس المسؤولية انما يظهر ويترسخ فـي وجدان الانسان وضمـيره كلما ازداد معرفة باللـه - جل جلاله - بحيث يعيش الشعور برقابته سبحانه إياه في كل حركة وسكنة تصدر منه ، فهو معه في كل مكان ، و في كل لحظة وأوان .


والرقابة الالهية هي التي تجعل الانسان يتـزن ، ويستقيم في حياته ، فتخلق فيه روح التقوى ، وتقويها شيئا فشيئا ، وتنمو في ذاته روح الرقابة ، والمحاسبة ، والشعور بالذنب والندم حين التقصير او ارتكاب المعصية . وهذا هو ما نسميـه بـ (الوازع النفسـي ) الذي ينبت ويتجسد فـي الضمير الحـي ، والوجدان الطاهر . فالمهـم ان يكون قلب الانسان نقيا ، طاهرا لتنمو ، وتنشأ فيـه المعرفة الالهية ، ولذلك جاء التأكيد في الاحاديث الشريفة على ان نذكر الله - تبارك وتعالى - في الخلوات .


وحقيقة كون الله سميعا بصيرا يجب ان نعيشها لتختلط بدمائنا ، وارواحنا ، ولتتجلى في قلوبنا ، وحينئذ نزداد ايمانا ، وتقوى ، وهدى من الله - سبحانه - . واذا ما نفذت هذه المعاني والخصال النورانية في قلوبنا ، وانسجمت مع ارواحنا ، فعندئذ سنعيش حس المسؤولية ، والواجب ، ونسدد قلوبنا بالطاعة ، والاداء ، والالتزام ، والاستقامة ، فترضى ضمائرنا ، وتطيب ارواحنا ، وبالتالي يرضى الله - سبحانه - عنا وهو الرضا الذي ننشده .


بنو اسرائيل انموذج التملص من المسؤولية :


وكمثـال تاريخي على حالة عـدم الشعـور بالمسـؤولية وعواقبـها تذكر لنا سـورة ( الاسـراء ) قصـة بنـي اسرائيل ، وكيف انهـم كانـوا يرفلـون فـي النعـم ، وان اللـه - تقدست اسماؤه - فضلهم على العالمين عندما عاشوا روح المسؤولية ، واظهروا الولاء والطاعة لنبيهم موسى بن عمران ( عليه السلام ) ، وتحركوا وهاجروا وجاهدوا معه ، ولكنهم عنـدما بلغوا الشبع ، وبطرت معيشتهم ، شرعوا شيئا فشيئا بالطغيان ، والكفران بانعم الله ، وراح الكبر ، والشعور بالافضلية والتفوق على غيرهم يدخل الى نفوسهم ، ويدب في اذهانهم ، حتى تأصلت فيهم النزعة العنصرية .


وانا لا أدري بالضبـط لماذا يتكبر هـذا الانـسان ، ويشمخ بانفه بغير حق ، ويحيط


نفسه بهالات العظمة والكبرياء وهو الصغير الحقير الضئيل الذي يصفه أمـير المؤمنين


( عليه السلام ) خير وصف عندما يقول : " مسكيـن ابن آدم تقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة ، وتؤلمه البقة ، مكتوم الأجل ، مكنون العلل " . فهذا الانسان الذي لايدري متى يموت ، ومتى يمرض ، وفي اي وقت يكون فقيرا ، او يصبح غنيا ، وهل سيصبـح سيدا ، ام سيعيش عبدا يكاد يجهل كل شيء عن نفسه وحاله ومستقبله ، فلماذا التكبر ، ولماذا الغرور ، ولماذا كل هذا العجب بنفسه ؟!


وعلى سبيل المثال فان نمرود الطاغية الذي بلغ فيه الكبر ، والغرور ، والطيش درجة بحيث غدا يتصور نفسه الها ، فادعى هذه الالوهية ، وراح يضطهد الناس ، ويحرقهم ، ويسجنهم ، ويعذبهم كي يسجدوا له ، ويعبدونه من دون الله - تعالى - . هذا الطاغية شاء اللـه - تبارك اسمه - ان يذله اشد اذلال من خلال دويبة دخلت في اذنه ، واستقرت في مخه حتى اخذت تتغذى عليه ، فتهيج الآلام المبرحة في رأسه ، ويصرخ ، ويستغيث ، وكان لابد له من ان يضرب على رأسه لكي يسكن الآلام ، فكان يعطـي الاموال لعبيده كي يضربـوه على رأسه ، وظل على هذه الحال حتى هلك ، وانتقل الى سواء الجحيم .


وهكذا الحال بالنسبة الى بني اسرائيل ، فعندما بطرت معيشتهم ، واصابهم الغرور بانفسهم وقوتهم ، قالوا مقولتهم العنصرية وهي :


« نَحْنُ أَبْنَآءُ اللّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ » (المائدة / 18) . وهذا الاتجاه هو الذي حرفهم عن الطريق القويم ، وامات فيهم روح المسؤولية ، فتبخرت التقوى من قلوبهم ، وكتب الله - سبحانه - عليهم الذلة ، والمسكنة الى يوم القيامة بسبب ما ارتكبوه من جرائم ، وانتهاك للحرمات ، وانطلاقا من نزعتهم العنصرية ، وغرورهم ، وكبريائهم الذي ازلهم عن جادة الصواب ، فانزلقوا في متاهات الفساد ، والإفساد في الارض . فالشبكات الصهيونية العالمية التي تعاني امم الارض من ويلاتها ، ومؤامراتها ، وجرائمها ليست


بالظاهرة الجديدة بالنسبة الى الاتجاه اليهودي العنصري القديم .


النصر قرين الشعور بالمسؤولية :


ان علينا ان نأخذ بنظر الاعتبار ان النصر الالهي انما ينزل علينا في اليوم الذي يشعر فيه الجميع بمسؤوليتهم ، ويعرفونها ، ثم يعملون ويحرصون على ادائها على احسن ما يكون الاداء والاتقان . اما عندما نتهرب ونتملص ، ونلقي هذا الحمل الذي لابد من حمله وراء ظهـورنا ، ونـبرر تقاعسنا ، وهروبنا بآلاف التبريرات ، فلنغسل ايدينا - عندئذ - من نصر ننتظر من الله - سبحانه - ان ينزله علينا .


وبعد ان نحس بالمسؤولية ، ونعيشها في وجداننا ، ونعمل بها ، ونؤديها لابد من ان يكون هذا الاداء والعمل متسما بالاخلاص ، والحرص على اتقانه . وعلينا ان نبعد الانانية والمصلحية العمل بالمسؤولية الملقاة على عواتقنا ، ولنعلم ان ذلك الذي يحلم بمنصب او مقام يفوز به من وراء جهاده وسعيه لا يمكن ان يوفق وينجح ، ولا يصلح لان يكون مجاهدا .


فلابد - اذن - من ان تشيع روح الاخلاص ، وتدب في كل فرد منا لكي نصل الى اهدافنا المتمثلة في تحقيق النصر ، وبلوغ الحرية . فمادام الانسان يعيش داخل اطار ذاتـه فلـن يستطيـع فعـل شيء ، اـو انجاز عمل مثمر ، فالاولى بالجميع ان يذوبوا في بوتقة الامة الواحدة ، ويتحركوا ، وعندئذ بامكانهم ان ينتظروا النصر والتسديد الالهي .

الفاعلية تجسيد للمسؤولية :


ولابد لنا في هذا المجال من الفاعلية التي هي تجسيد لعمق الشعور بالمسؤولية ، وهذه الفاعلية تتأطر في أمور وسلوكيات عديدة منها ؛ اغتنام الفرصة ، واستغلال الزمن باقصى ما يمكن استغلاله للعمل والعطاء ، ومن ثم تكثيف الجهود ، والمثابرة ،


والهمة في العمل والتحرك .


فلابد - اذن - بعد كل ذلك ان نتبنى هـذه الحقيقة ، وننطلق منها ؛ وهي اننا عندما


نعمل بجد واخلاص ، وانطلاقا من المسؤولية التي تملأ وجودنا ، ووجداننا ، وضمائرنا ، وحينما نكثف ونوحد جهـودنا ، ونخلص في اعمالنا للـه - تبارك وتعالى - ، ونكون مجاهدين لله بمعنى الكلمة ؛ اي ان نكون مجاهدين حق الجهاد ، فحينئذ فان الله - جل وعلا - سيغدق ويفيض علينا بالامكانيات ، والقدرات .. من خلال فتح ابواب الرزق امامنا .


اما عندما ننسى - لا قدر الله - االمسؤولية ، ونتملص من ادائها ، واداء الواجبات الملقاة على عاقتنا ، ونتهرب منها فان الأمر سيكون معكوسا - والعياذ بالله - اي بمعنى ان النصر الالهي سوف يحبس عنا . فلا يستجيب - سبحانه - لدعائنا ، وسنظل في هذه الحالة نتردد في متاهات عدم الشعور بالمسؤولية ، وانعدام الاخـلاص في العمـل لان كل انـسان يجازى بمقدار عمله ، ويكون مصيره من جنس الاعمال التي يقوم بها ، كما يقرر - جل وعلا - هذه الحقيقة في قوله :
« إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا » (الاسراء/7) .


التوحيد قمة الهرم القيمي


لوجمعت الفضائل وجّدت وركّب منها شكل هرمي لكانت " مخافة اللـه " رأس هذا الهرم ، وفي الحديث الشريف " رأس الحكمة مخافة اللـه " ما يشهد علـى صحة قولنا ، ذلك لان مخافة اللـه - سبحانه - هي ميراث معرفته ، وليس بمستطاع القلب ان يستوعب معرفة اللـه الا اذا استشعر الوجل والخشية منه - تعالى - .


هذا ن ناحية ، اما من الناحية الاخرى وهي الناحية السلبية فان الخبائث والرذائل لوجمعت لوجدنا ان مصدرها هو حب الدنيا ، وقد صدق امام المتقين علي بن ابي طالب (عليه السلام) عندما قال : " حب الدنيا رأس كل خطيئـة " .


والقيم النبيلة الفاضلة التي تصب في نهرها روافد كل القيم ، والتي تنطلق منها حكم الشريعة الالهية ، هذه القيم ذات ارتباط وثيق بالتوحيد والمعرفة الالهية ومخافة


الله - جل وعلا - .


أعظم القيم :


وتفصيل سبب ذلك ان قيمة الاستقلال والحرية هي أعظم القيم الانسانية واسماها ، وهي مبعث كل خير في هذه الدنيا ؛ فالانسان الذي يتمتع بالاستقلالية ويستشعر العزة والكرامة ، فانه حر في كل كيانه ولايكون حاله كحال اولئك الهمج الرعاع الذي ينعقون مع كل ناعق ، ويميلون حيث مالت الريح ، فهم أسرى الأهواء والشهوات لا حرية لهم ولا كلمة مستقلة .


ولكي يكون الانسان حرا ولكي يعيش مستقلا لابد ان يتجنب ما يرسخ فيه تلك الخصائص السلبية المقيتة ، فهو ولكي يعيش في هذه الحياة انسانا بمعنى الكلمة عليه ان يجعل عزته وكرامته نصب عينيه حتى يشعر بحلاوة الحرية ولذة الاستقلال ، واذا ما فقد هاتين الميزتين فما الذي يبقى له من انسانيته ، وما قيمة تلك الحياة التي يلفها الذل والحرمان والاضطهاد وسحق الكرامة ، ويسير الانسان فيها كالآلة ذليلا مهانا ؟ وهكذا فان الحرية والاستقلال هما أعظم القيم ، وفيهما ينطوي معنى التوحيد الالهي ، فعنـدما نهتف في وجه الطغاة فان هذا الهتاف التوحيدي يعني رفض العبودية لغير اللـه ، والايمان بالله وحده حيث لاخشية الا منه - سبحانه - .


الفطرة دليل التوحيد :


ان البشرية تدرك بفطرتها ان الله هو ربها ، وهو الذي خلق كل شيء كما يشير الى ذلك - تبارك وتعالى - :


« وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ » (الزّخْرُف/9) ، فلم يشهد التأريخ دينا لايعترف بألوهية الله - تعالى - ، وحتى الماديون والماركسيون الذين كانوا الى الأمس القريب ينكرون وجود اللـه - سبحانه


وتعالى - نراهم اليـوم وقـد تنكـروا لمبادئهـم وتراجعوا عـن افكارهم ، فالبشرية قد خلقت على فطرة التوحيد والايمان والاعتراف بوجود الله وربوبيته ، رغم انها قد تختلف بالطريقة والاسلوب عن بعضها البعض .


وعلى هذا فان الموضوع الاساسي ليس هو الاعتراف بوجود الله او انكاره ، وانما التوجه اليه ، ورفض سائر الالوهيات الزائفة المتمثلة في الاصنام ، والاوثان الحجرية والبشرية الطاغوتية . فكلمة (لا اله الا الله ) تعني رفض الآلهة المزيفة ، والطواغيت ، وكل قوة سلطوية من خارج ذات الانسان كقوة السلاح او المال او الفكر الباطل ، او من داخله مثل الشهوات والاهواء التي هي اصنام النفس الداخلية ، وهذا هو التوحيد بمعناه الفلسفي .


ان الانسان الذي يعيش حياته خاضعا للطاغوت ، منفذا لإرادته ووسيلة بيده ، مثل هذا الانسان ليس مؤمنا بالمعنى الحقيقي للايمان ، وهـو غير حر ولا عزيز عند الله والمؤمنين ، ولايمكن ان يحبه اللـه - تعالى - ولو نطق بشهادة التوحيد آلاف المرات وتعبد اياما وليالي في المساجد ، لان هذه الشهادة ستكون منه مجرد لقلقة لسان لا اكثر ولا اقل . فصدق الايمان والعقيدة يجب ان ينعكس في السلوك والعمل على صعيد المجتمع والحياة .


فالتوحيد - اذن - هو القيمة الاولى ، ورأس الهرم في مجموع القيم والمفاهيم والعقائد الالهية النبيلة ، وهو مصدر الحرية والاستقلال ، ويتجسد في اولئك الذين يريدون الحرية والاستقلال اللذين يعتبران مصدر كل خير وبركة وسعادة في الحياة .


الاسلام يخاطب المظلوم أولا :


ونحن لو تفحصنا الثقافات البشرية السائدة لوجدنا انها ومن أجل ان تقضي على ظاهرة الظلم فانها تخاطب الظالم أولا ، وتطلب منه ان ينتهي عن ظلمه ، في حين اننا لو نظرنا الى ثقافتنا الاسلامية الرسالية فاننا سنجد انها لاتطلب من الانسان ان لايكون ظالما لكي ينعدم الظالمون في الارض ، بل تتبع اسلوبا ذكيا واقعيا فتلتفت الى الانسان وتأمره ان لايكون مظلوما ، وان لايرضى بالظلم ، فهي تثير فيه روح التحدي والتصدي للظلم .


وهكذا فان الثقافة الاسلامية لاتوجه اللوم الى الطغاة كما هو حال الثقافات الاخرى ، لان هؤلاء الطغاة قد اختاروا طريقهم ، فلا فائدة ترجى من لومهم ، بل هي تنهى الانسان عن اتباع الطاغوت والرضوخ اليه ، فهي لاتطلب من الحكام ان يهبوا الحرية لانها حق فطري للانسان ، بل تخاطب الانسان وتحثه على انتزاع حريته ان لم يستطـع نيلها بسهولة ، فالثقافة الاسلامية تهتف بالانسان ان : " لاتكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا " .


ضمان التقدم :


ومما لاشك فيه ان الحرية والاستقلال أمران أساسيان لتقدم المجتمعات واستقلالها وهذا ما نلحظه في البلدان التي يتمتع ابناؤها بهاتين الخصيصتين ، فاننا نجدها متطورة متقدمة على جميع الاصعدة ؛ السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية ، فالانسان فيها حـر كريم عزيـز ، يتحرك وينشط ويبني وينتج ، ويطور انتاجه ونشاطه .


ولايغيب عنا ان الاستقلال والحرية تمثلان قيمة انسانية منبعثة من صلب التوحيد ، ذلك لان الاسلام يريد من الانسان المؤمن ان يعيش حرا أبيا ، يشعر بالعزة . والكرامة لاتعطى ولاتمنح عادة بل تؤخذ وتنتزع بكل غال ونفيس ، فتحقيقها بحاجة الى بذل التضحيات والانفس والدماء .


اننا لو تساءلنا : كيف نصبح احرارا ، ودرسنا التأريخ لوجدناه انعكاسا وتجسيدا لمعاني قوله - تعالى - :


« لآ إِكْـرَاهَ فِـي الدِّينِ قَـد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِـنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن


بِاللّهِ فَقَد اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا » (البقرة/256)


لقد اضحينا في عداد المـوتى بسبب رضانا بالذل ، ورضوخنا وخصوعنا للظالمين ، في حين ان على الانسـان المؤمن ان يصون حريته وكرامته ، فلو كنا لانمتلك شيئا سوى الايمان والتوكل على اللـه - تعالى - فان هذا وحده يكفي للوقوف في وجه الطغاة :


« وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » (الطَّلاَقِ/3)


فما قيمة قوى الطاغوت أمام قوة الله وجبروته وعظمته ؟


النبي ابراهيم ( عليه السلام ) تحدى لوحده تجبر نمرود وسلطانه ، فحاجهم وحاجوه ، وتعجبوا من جرأته قائلين : اما تخاف ، اما تخشى الموت وانت ماتزال شابا يافعا ليس من ورائك عشيرة تدافع عنك ، ولاتملك سلاحا تحارب به ؟!


ولكن ابراهيم (عليه السلام) ابتسم مستهزئا بهم وقال لهم كما صرح بذلك القرآن الكريم :


« قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ » (الانعام/80)


فلقد أنعم اللـه على النبي ابراهيم بنعمة الهداية وهي أعظم نعمة يمنّ بها اللـه على عباده .


ويستمر النبي ابراهيم ( عليه السلام ) في محاججة قومه من اتباع نمرود قائلا :


« َوكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَاَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » (الانعام/81) ، ويأتي الجواب على هذا التساؤل في السياق نفسه متمثلا في قوله - جل وعلا - :


« الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ اُوْلئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ » (الانعام/82) ،


فالأمن الحقيقي هو لذلك الانسان المطمئن قلبه برحمة اللـه ونصره ، فالمؤمن يتجه بكل جوارحه ، وبحقيقة ايمانه ، وسلامة موقفه نحو اللـه - عز وجل - ويعتمد ويتوكل عليه .


الاعتماد على اللـه :


فالانسان مادام مؤمنا فانه يعتمد على اللـه - عز وجل - وحده ولا يمدنّ يد الحاجة الى هذا او ذاك وهو يعلم ان ثقته باللـه واعتماده واتكاله عليه سيضمن له رزقه وهـذا نابع من قيمة التوحيـد . لذلك تراه فـي حركة ونشـاط ومثابرة يضرب في الارض ويستثمر طاقاتها وكنوزها وينتج ليقدم النفع الى نفسه ومجتمعه فهو لايستيغ العيش كلاًّ على الاخرين وقـد وضع نصب عينيه الحديث الشريـف الذي يقول : " ملعون من القى كلّه على الناس " .


ولكننا وللأسف الشديد اذا احتجنا الى حاجة ولينا وجوهنا غربا او شرقا ، وان أردنا بضاعة او معونة اقتصادية تملقنا للغرب او الشرق ، وهذا هو حالنا في أغلب أمورنا وكأن الله - سبحانه وتعالى - لم ينعم علينا بهذه الخيرات والثروات والكنوز والرزق الوافر فلماذا لانعتمد على انفسنا ونستثمر هذه المعادن والطاقات ، أليس الاجدر بنا ان نفكر ونعمل بدلا من التسكع على ابواب الشرق والغرب ؟


ان علينا ان نعلم ان من يلقي كله على غيره ، ويهمل طاقاته الفكرية والجسدية فانه سيعيش حالة الفقر والتخلف طيلة حياته ، اما الانسان الذي يتكل على الله وحده ويستغل المواهب والطاقات الفكرية والبدنية التي منحه الله اياها فانه هو الذي يحيى الحياة الطيبة الحرة الكريمة ، والله - سبحانه وتعالى - يحث الانسان دوما على السعي والتحرك كما جاء في قوله : « فَامْشُوا فِي مَنَاكِبَها وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ » (المُلكِ/15)


وبناء على ذلك كله فـان التوحيــد هـو قمة الهرم القيمي ، والانسان الذي يعيش


في ظل الايمان الصادق بالله لابد وان يحيا حياة فاضلة يسودها الأمن في جميع اصعدتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كما يقول - عز وجل - :


« الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ اُوْلئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ » .


التسليم شرط التوحيد


ليس من العبد ولا لمصلحة يبتغيـها اللـه - سبحانه وتعالى - وحاشى له وهو الغني الحميد ، عندما أنـزل شرائعه لبني آدم وأوجب عليهم ما اوجب من الفرائض والسنن وحينما أمرهم ونهاهم ؛ فوراء كل ما نزل من التشريعات والأوامر والنواهي حكم ربانية تقوم عليها .

حكمة التشريعات والاحكام :


والقرآن الكريـم لم يـذكر حكما شرعيا ، او فريضة الهية الا وشفعهما ببيان الحكمة والقيمة اللتين ينطويان عليهما ، فعندما جاء الامر باقام الصلاة بين القرآن حكمة الصلاة فقال - تعالى - : « إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَـى عَـنِ الْفَحْشَـآءِ وَالْمُنكَـر »


(العَنْكبُوت/45) وفي آية اخرى : « وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » (طه / 14) .


وعندما أمر - عز وجل - بالطهارة والتطهر استعدادا للصلاة فانه قد اوضح الحكمة من ذلك قائلا :


« يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (المائدة/6) ، فالهدف الاسمى من عملية التطهر سواء كان وضوء او غسلا او تيمما هو ذات التطهر .


واذا تحدث القرآن عن الزكاة بيـن الحكمة من وراءها ذاكرا انها تطهيراً للذات وتزكية للنفس :
« خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُـمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا » (التوبة/103)


وهكذا الحال بالنسبة الى الحث القرآني على الجهاد بمختلف انواعه ، فربما تكون الحكمة منه التمحيص ورفع درجة الانسان المؤمن ، او بلوغ احدى الحسنيين ، او اقامة العدل وتحرير الشعـوب من سلطان الكفر والجور وما الى ذلك من الحكم والاهداف العديدة .


وفي بعض الاحـيان يصرح القرآن الكريم بمفهوم الحكمة ويشير اليه كما في قوله - سبحانه - :
« ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ » (الاسراء/39)


هرمية القيم الالهية :


وهـذه الحكم والعلل 0والاهـداف والغايات المثلى تتنظم ضمـن مجاميـع ، وتشكل


بالترابط بينها هيكلا هرميا ؛ أي انها تتصل ببعضها حتـى تنتهي الى قيمة واحدة تقع


في قمة هذا الهرم .


فالصلاة - على سبيل المثال - هي فريضـة واجبة ، وهي لم تصبح واجبة الا لانها تمثل ذكر الله ، والذكر هـذا لم يكن واجبا الا لان الله - عز وجل - قد خلقنا ، وتفضل علينا بنعمه التي لا تحصى ، ولانه كذلك فلابد ان نقف امامه خاشعـين نذكره من خلال الصلاة التي فرضها علينا فالصلاة هي قيمة تتسلسل وتنتظم حتى تصل الى القمة ، وكذلك الحال بالنسبة الى الزكاة فهي واجبة لانها طهارة للقلب وتزكية للنفس ، والطهارة والتـزكية هما مقـدمـة وتمهيد لذكر اللـه - تبـارك وتعالى - .


متى يتصل القلب بالنور الالهي :


ان القلب المشحون بحب الدنيا محجوب عن ذكر الله ، واذا ما فرغ هذا القلب من حب الدنيا فحينئذ سيكون بامكانه الاتصال بالنور الالهي ، ذلك لان حب الدنيا رأس كل خطيئة ، فالرغبات والحاجات الدنيوية المادية هي حائل دون الذكر الخالص .


والدليل على ذلك ان احدنا لو كان على عطش او جوع شديد فليس باستطاعته ان يفرغ قلبه ، ويتوجه بشكل كامل الى ربه ليذكره ويصلي له دون ان يبالي بالجوع او العطش الذي اصابه ، ونحن في احوالنا الطبيعية نجد انفسنا عندما نقف للصلاة تهجم حشود الشياطين على قلوبنا وافكارنا ، وما ان نفرغ من هذه الصلاة حتى نرى انفسنا في واد ، وما لقلقت به السنتنا من ذكر في واد آخر ، ذلك لان القلوب والنفوس لم تتطهر بعد لتكون اهلا للذكر الخالص الواعي .


اصلاح وتطهير القلوب :


ومثل هذه القلـوب من الممكن اصلاحها وتطهـيرها وتهيئتها للذكر الخالص من


خلال استثمار مواسم التطهير والتزكية من مثل شهر رجب و0شعبان وشهررمضان


المبارك . ففـي شـهر رمضان نقـرأ الادعية الني تسهم في تطهير القلوب ، وتزكية


الانفس مـن الماديات والرغبات الدنيوية مثل الدعاء الذي يقـول : " اللهم صل على


محمد وآل محمد واعمر قلبي بطاعتك ، ولاتخزني بمعصيتك ، وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك بما ورسعت علي من فضلك ، ونشرت علي من عدلك ، واحييتني تحت ظلك " .


ان القلب الذي يركض لاهثا وراء الدنانير والدراهم ، ويحلم بالذهب والفضة ، ويبحث عن الجاه والشهرة والمناصب ، وتجرفه تيارات الانانيات انما هو محجوب وان كان صاحبه عالما او فقيها فالعالم الذي لا يزيده علمه قربة الى الله وتواضعا للناس انما هو محجوب عن ذكر الله - تعالى - .


واذا وجدت فـي قلبك الرغبة فـي القرآن واداء العبادات فاعلم ان القلب منك نظيف ، وان فقدت تلك الرغبة ولم تستشعر حلاوة قراءة القرآن واداء الصلاة فاعلم ان غيوم الدنيا السوداء قد لبدت سماء قلبك فحجبته عن بارئه ، وعليك ان تعمل بما تخرق به هذا الحجاب ، وتقشع تلك الغيوم لكي تستشعر في نفسك التلهف الى النظر في كتاب الله وتلاوته ، وتؤدي صلاتك وعباداتك بكل شوق فليس صادقا ذلك الذي يدعي حب اللـه ثم لايستأنس بتلاوة كتابه الذي هـو حديث اللـه اليه كما يقول الحديث الشريف : " من قرأ القرآن تحدث الله معه ، ومن صلى تحدث مع اللـه " .


فليسع الانسان المؤمن كي يجعل قلبه يهفو الى الصلاة ويعشقها ، فالصلاة خير موضـوع وهي معراج المؤمن وقربان كل تقي ، فلنعظمها ونحببها الى قلوبنا ، ولنكثر


من مستحباتها بالاضافة الى الخلوص في ادائها .


وهكذا فان علل واهداف الشرائع وحكم الفرائض والقيم الناجمة من الطاعة الالهية لأوامره - تعالى - ونواهيه انما تجتمع في هيكل هرمي تقع القيمة الالهية العليا في قمته ، وتنحدر منها سائر القيم متسلسلة حتى تصل الى الاحكام الشرعية ،


والفرائض الدينية .


التسليم القيمة الالهية العليا :


ورب سائل يسأل : ماهي القيمة او الحكمة الاساسية التي تتفرع عنها سائر القيم والحكم ؟ وبتعبير آخر : ماهي القيمة الالهية العليا التي تقع في قمة هرم القيم ؟


ان هذه القيمة هي التسليم لله - سبحانه وتعالى - ، فكل الاحكام تنتهي عند هذه القيمة الاساسية ، والحقيقة الايمانية الكبرى ؛ فالاحكام والشرائع والفرائض الالهية وكل ما يتعلق بالطاعة تهدف كلها خلق روح التسليم لله عند الانسان المؤمن . فالتسليم هو روح العبادة ، والى ذلك يشير قوله - عز وجل - عن لسان ابراهيم (عليه السلام) :
« وَجَّهْتُ وَجْهِـيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (الانعام/79)


فالانسان الذي يجـد في نفسه روح المعارضة والرفـض امام اللـه - تبارك وتعالى - واحكامه واوليائه فهو ليس بمسلم .


والله - سبحانه وتعالى - لايحتاج الى القسم عندما يعكس ويطرح الحقائق في كتابه المجيد ، ولكننا نجده رغم ذلك ولعظم وخطر بعض المفاهيم والقيم يطرحها بعـد القسم بنفسه المقدسة كما هو الحال في حقيقـة التسليم التي نحن بصددها فهو - عز وجل - يقول :
« فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنـُونَ حَتـَّى يُحَكِّمُوكَ فِيـمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِـدُوا فِـي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » (النساء/65) ، وهذا هو التسليم المطلق .


عدم تسليم ابليس سبب لعنه :


وابليس - عليه اللعنـة الدائمـة - لم يكن قـد طرد من رحمة اللـه وأبعد من مقام


الملائكة السامي الا لانه لم يسلم لأمر اللـه - تعالى - عندما أمره بالسجود لآدم ،


وكان قد عرض على الله ان يسجد له سجدة تطول أربعة آلاف سنة على ان يعفيه من


السجود لآدم ، ولكن اللـه - جل وعلا - رفض عرضه هذا لانه كان في غنى عن


هذه السجدة الطويلة .


وسبب تمرد أبليس ، وعدم تسليمه لأمر الخالق استكباره ونزعته العنصرية وقد صرح بذلـك عندما سأله الخالق - سبحانه - عن سبب امتناعه عن السجود فقال : « خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ » (ص/76)


وربما يروادنا الاستغراب والتعجب من سجود الملائكة التي خلقت من نور لآدم المخلوق من طين اذا أخذنا بنظر الاعتبار مجرد السجود ، ولكن هذا الاستغراب والتعجب سرعان ما يزولان اذا ما راجعنا الحوار الذي يرويه القرآن بين الملائكة وربهم عندما خلق آدم ؛ تأملوا هذا الحوار :
« وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (البقرة/30)


فالاعتراض قد حصل من الملائكة على خلق آدم لعلم علموه بما ستجنيه ايدي ذرية هذا المخلوق ، ولكن ما في العلم المطلق للـه هو غير ما في علم الملائكة المحـدود ، وهذا ما اشار اليه - عز وجل - في قوله : « إِنّـِي أَعْلَـمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » وقد قيل في تفسيره ان الله - سبحانه وتعالى - يعلـم ان فـي آدم نـور النبـوة ، فمـن ذريتـه سينطلق الانبيـاء وعلى رأسهم الخاتم المصطفى محمد ( صلى اللـه عليه وآله ) ، ومن ذريته ايضا ستنبت شجرة الامامة ، فلأجلهم كان ذلك الأمر بالسجود ، وهذا ما يزيل الاستغراب من سجود النـور والنار للطــين ، اما رفـض ابليس فكان يعـود الـى الاستكبـار والاستعــلاء الشيطانيين .


الولاية مصداق السجود الملائكي في حياتنا :


ان مفهوم هذا السجود الملائكي ينعكس عندنا اليوم ويتجسد في قيمة الولاية ،


ولذلك فان (التولي) ليس بالامر الهيّن ، فالولاية هي أثقل ما في ميزان يوم القيامة ، فهي تبدأ من ولاية الله - عز وجل - ، ومنها تنحدر الى ولاية انبيائه ورسله ثم ولاية الائمة ، ثم ولاية من فرض الائمة طاعتهم واتباعهم والرجوع اليهم .


ومع ذلك فان الانسان يكابر ويصر على غيه ويمعن في مخالفة الحق عندما نجده يعكف على عبادة غير الله من الاصنام والاوثان بل وحتى الحيوانات والجمادات ! فتعشش روح ابليس بين احشائه لتحجب قلبه عن النور ، وتفسد ضميره ووجدانه بل وتميتها ، وانى لمثل هذا الانسان ان يشم رائحة الجنة فضلا عن دخولها مالم يخرج مافي قلبه من آثار الكبرياء والعناد .


وقد جاء في الحديـث الشريف : " كل انسان يضمر ما أظهره فرعون " وهذه هي صفة الكبرياء التي تحّكم بها فرعون على الناس ، ومن خلاا استذلهم واخضعهم لطغيانه فقال :
« أنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى» (النَّازعات/24)


الكبر كامن في نفوسنا :


وفي الحقيقـة فان هذه الصفة كامنة في نفوس الكثير منا ، وآثاره تظهر في سلوكنا


وتصرفاتنا واخلاقنا ، فهناك الكثير ممن كانوا يقرؤون القرآن وما ان سمع احدهم انه قد ارتقى الى سدة الحكم حتى اطبق القرآن ، ووضعه في الرف مخاطبا اياه : هذا فراق بيني وبينك .


وهناك حاكم آخر يضع القرآن الكريم امامه ليرميه بسهامه قائلا :


تهـددنـي بجـبـار عنيــــد فهـا انـا ذا جبـار عنيـد


اذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد


فلنـدع اللـه - جلت قـدرته - ان يمنحنـا السلامة فـي ديننا ، وحسن العاقبـة والا فان الاستكبار قد يكون سببا في انحرافنا وفسادنا وخروجنا عن الصراط المستقيم .


ان الولاية الحقة التي يشهد لها القول والعمل هي التي تزيل الكبر من النفوس ، وتطرد الوساوس الشيطانية منها ، وتزكي القلب وتطهره وتفتحه لنور الايمان .


فلننبذ التوجهات الشيطانية من نفوسنا ، ولنتمسك بحبل الولاية الذي هو حبل الله فأهل البيت (عليه السلام) هم سفن النجاة ، وتجسيد موالاتهم في اخلاقنا وسلوكنا واعمالنـا نجـاة لنا مـن النار والعـذاب ، ففـي يوم القيامة لابد ان يسألنا الله - جلت قدرته - عن هذه الولاية ، والنعمة الكبرى التي ما بعدها من نعمة ، كما يشير الى ذلك - تعالى - في قوله :
« ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ » (التَّكَاثُرِ/8)


التسليم المطلق للولاية :


وفي هذا المجال تروى قصة طريفة عن علي بن الامام جعفر الصادق ( عليه السلام) والذي كان من كبار فقهـاء الشيعة ، وكان اخ الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، وعم الامام الرضا ( عليه السلام ) ، وبمنزلة الجد للامام الجواد ( عليه السلام ) ، وقد كان هذا الرجل قد عمر حتى ادرك إمامة الجواد ( عليه السلام ) للامة ، وكان الامام يأتي وهو طفل صغـير الى مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) فينهض هذا السيد الفقيه رغم كبر سنه وشيخوخته ويأتي بالنعل ويضعه امام قدمي الامام الجواد ( عليه السلام ) ، فتنبري جماعة لتعيب علي بن جعفر على سلوكه هذا تجاه الامام فيرد عليهم غير آبه بهم : وما تروني افعل والله - سبحانه - لم يجد أهلية الامامة في هذه الشيبة ، والله اعلم حيث يجعل رسالته .


حاجتنا الى هذه الولاية :


واننا بحاجة الى مثل هذا التولي ، فالولاية ليست بالمفهوم الجديد ، بل جاء التأكيد عليها بعد ظهور الاسـلام ، بل هي عهد قطع منذ خلق الله - تبارك وتعالى - آدم حيث قال - عز وجل - : « وَعَلّـَمَ ءادَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهـَا » (البقرة/31) ، كما


جاء في الحديث الشريف : " ما من نبي ولا وصي الا أخذ عليه الميثاق بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وولاية علي (عليه السلام) " .


ولذلك فان الولاية هي جوهر التسليم لله - سبحانه وتعالى - والرضا بقضائه وقدره ، وطاعته في أوامره ونواهيه ، ولذلك فانها ليست بالأمر الهين السهل فمن طبع الانسان الرفض والمعارضة بسبب ما ينزغ الشيطان ويوسوس في صدره .


ولقد دأبت الامم على مقاومة انبيائها من حيث نقطة الولاء والتسليم هذه ، فلابد من تدريب النفس وترويضها على التسليم للخالق ، وهذا التسليم لايكون الا بالولاء لأهل بيت العصمة والطهارة الذين هم سفينة النجاة يأمن من ركبها ، ويغــرق من تركها ، والمتقدم لهم مارق ، والمتأخر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق .

التسليم سر قبول العبادات :


فلننزع ما في انفسنا من علو وكبرياء فهما لايكونان الا لله - تعالى - ، والا فلا أمل لنا بأن نشم ريح الجنة فضلا عن دخولها ، والتنعم في ظلالها ونعيمها الوارف . فلابد من ازالة الكبر والعجب من نفوسنا ولو كانا بمقدار ذرة ، والا فان عباداتنا من صوم وصلاة وحج وزكاة .... سوف لاتنفعنا فالكبر هو سبب هلاك ابليس ، فالصلاة والسجود لاينفعان وان طالا آلاف السنين ، بل ان عبادات الانسـان انما يعودان بالفائدة على الانسان اذا قرنا بالخضوع والتسليم لله - سبحانه وتعالى - .


وهكذا تبقى الولاية هي صاحبة العقبى الطيبة بعد فناء الباطل والكفر والضلال وأهله مهما علوا في الارض ، وأفسدوا فيها وظلموا وتجبروا وسفكوا الدماء وذلك بشهادة قوله - تعالى - :
« تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » (القَصَص/83)


فلسفة التوحيد


من المعطيات المهمة لفلسفة التوحيد النظرة الوحدوية الى العالم ، فبينما نجد الشرك يقسم الحياة تقسيمات حادة دون ان نرى فيه ذلك التفاعل والتمازج بين اركانها ، بل نرى ان كل نوع من انواع الموجودات في الحياة ينتهي الى إله يخصه ، وان هناك صراعا مريرا بين أرباب هذه الانواع في حين نجد في المقابل ان الفلسفة التوحيديه تربط كل شيء باللـه - سبحانه وتعالى - ؛ فاليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعـه ، واليه تصعد الملائكة وتعرج ، والسماوات مطويات بيمينـه ، والارض في قبضته ، وحياة الانسان تبتـدئ من ارادته وتنتهي اليه ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، وله الخلق والأمر ، فتبارك الله أحسن الخالقين ...


/ 9