المقدمة
بسم اللـه الرحمن الرحيم
ماهي الثقافة ؟
منظومة من الرؤى والافكار المؤثرة في حياة الانسان والتي تحدد مسار سلوكه وطبيعة مواقفه هي ثقافته ..
اذا لا تعتبر العلوم الطبيعية من الثقافة بالرغم من تأثيرها غير المباشر على الفكر والسلوك .
كما ان الفكرة اليتيمة التي لا تنتظم الى غيرها ولا تشكل مجموعة مترابطة لا تسمى ثقافة ، اذ ان الثقافة كما تدل كلمتها هي الفكرة التي تقوّم الانسان . او ليست العرب تقول ثقف العود وتعني انه عدله .
وهذا سر الصعوبــة البالغــة في تحديد ثقافة الفرد او الأمة وفرزها عن الافكار الشاردة وعن القضايا العلمية المجردة .. وبالذات في هذا العصر حيث تضخ الوسائل التوجيهية المختلفة ( كتب ، مجلات ، جرائد ، نشرات ، اذاعات مسموعة ومرئية ، وافلام وصور و.و. ) تضخ في اجوائنا حشدا هائلا من الافكار .
وهكذا لم يعد الانسان العصري اليوم يعاني من قلة الافكار ( كماً ونوعاً ) ولكن من كثرتها المتزايدة حتى انه لا يقدر على تقييمها وانتخاب المفيد منها وهكذا يتخذ موقف اللامبالات وتنزاح المعلومات عن قلبه كما ينزاح الماء من اطراف بلورة انيقة ..
ان لكل انسان شخصيته الداخلية التي تمنحه التميز والاصالة كما ان له ظروفه ومصالحه واهدافه المحددة .
والثقافـة النافعة هي التي تنسجم بنسبة معقولة - مع هذه الشخصية ، وقد اوتي كل فرد قدرة التمييز ولكن حين يواجه حشدا هائلا من الافكار يكون حاله كمن يكلف بشراء سيارة تناسبه في جملة السيارات التي يراها في اتوستراد مزدحم انه تكليف لا يطيقه ، ومن هنا ترى الناس بين من لا يختار فكرة (ويصبح أميا من الناحية العملية) او يختار بلا هدى عن عقله وعن واقع شخصيته المتميزة (فيصبح ذا شخصية متناقضة داخليا) .
ونعاني - نحن المسلمين - اكثر من غيرنا من هذه الصدمة الثقافية لاننا ننتمي الى حضارة اصيلة ونتميز في قيمنا وتأريخنا واهدافنا ومصالحنا عمن يملك ناصية الثقافة العالمية وهم المسيطرون على التقنية ( امريكا واوروبا بالذات ) فلا نستطيع الانغلاق دونها ولا يصلح لنا الاسترسال معها والطريق السوي هو انتخاب النافع ولكن ضمن اي معيار وكيف ؟ وامواج الثقافة الغربية تغمرنا غمرة بعد غمرة .
الفرد لا يمكنه ان يختار لوحده كلما ينفعه ويطهر قلبه مما يضره من الافكار ، إذاً لابد من المؤسسات التي هي جهد عقلي مشترك من اجل البحث عن صيغة مثلى للثقافة النابضة بالحياة .
والمؤسسة الشرعية والمثلى عندنا - نحن المسلمين - وبالذات من اتباع اهل بيت الرسالة هي المؤسسة الدينية ( المرجعيات الاسلامية والحركات الاسلامية) وتقوم المؤسسة بالطرق التالية من اجل الوصول الى الثقافة الصافية التي هي الماء الفرات السائغ للشاربين ، وهي :
الف : تحديد الهدف
أي حاجـة لنــا في الثقافة ؟ هل نحن بحاجة الى تفجير الطاقات ، واقامة افضل العلاقات بين ابنائنا والى تطهير مجتمعنا من الاغتراب الروحي ومن الذوبان في بوتقة الاخرين ، وبالتالي الى المزيد من النقاء والاصالة ؟
انها حاجات خاصة علينا ان نسعى لاشباعها من خلال تغذية اجوائنــا بأفكار خاصة . اترى كل عقار ينفع كل مرض ؟ كلا ، ان على الطبيب قبـل ان يصف عقــاراً تحديـد المرض بدقــة ؛ كذلك الثقافـة .
ان اية مؤسسة ثقافية عليها دراسة أعمق لمسيرة الامة واهدافها الحضارية الكبرى ، ثم كشف العلاقة بينها وبين الثقافة ثم تحديد مسار الثقافة لها .
باء : ثقافة للامة حسب الطلب
الافكار المرتبطة بعامة الناس علينا ان نجعلها في مصاف اول الافكار التي نعرضها على المجتمع ، اما تلك الافكار المتعلقة بجانب خاص من حياة المجتمع فيجب علينا ان نقدمها فيما بعد ، وهكذا نبوب الافكار ونصنفها حسب حاجة المجتمع ، وهذه العملية هي عملية دراسة الثقافة دراسة معمقة واستخراج الافكار والاطروحات المفيدة منها .
وهذه المرحلة تتمثل في ان نقارن ثقافتنا بالثقافات الوافدة الينا ، ونبلور دراستنا في هذا المجال ، والذي يهون المشكلة في هذا الصدد ان الخط الفكري الذي نحن ملتزمون به يحتوي على تيار زاخر من الافكار الثقافية ، وعلينا ان نتعرف على هذه الافكار ، وندرسها بعمق من خلال التفرغ لهذه الدراسة بشكل جدي ، ومحاولــة معرفة ابعادهــا ، والغوص الى اعماقهــا خلال فترة معينــة
نخصصها لهذا العمل المهم .
جيم : معايير الانتقاء
وعلينا فـي هـذا المجال ان ننمي في الجماهير القدرة على انتزاع الافكـار الرئيسية ، والحصول على جوهر ولباب الموضوعات التي تقرء او تسمع ، لكي يقوموا باستخراج الفكرة الحقيقية لا ان يصب اهتمامهم على الظواهر ، ومثل هذا العمل يعد قدرة ومهارة كبيرتين في عالم الثقافة لا يتسنى لكل شخص الحصول عليهما ، اي ان هذه المرحلة تعتبر مرحلة متقدمة من القدرة على البحث ، فليس كل انسان قادرا على اكتشاف وتحديد ما يقصده الطرف الاخر ، فهناك بعض الكتّاب والمتكلمين يمتلكون قدرا من الذكاء يساعدهم على ان يخفوا افكارهم الحقيقية ، فلا يصرحوا بها بل يوحون بها ايحاء ليقتنع القارئ بأفكارهم من دون تمحيص ، فاذا ما استطعنا اكتشاف خلفيات احاديث الاخرين ، ومرتكزاتهم الفكرية ، فاننا سنكون قد وصلنا الى مرحلة متقدمة من القدرة على تقييم الثقافات المختلفة .
وهكذا يعتبر من اهم اهداف المؤسسة الثقافية نشر المعايير التي ترفع من قدرة التقييم عند اوسع الجماهير .
ومن هذا المنطلق بادر الاخوة في القسم الثقافي في مكتبنا باعداد هذا الكتاب الموسوم بـ ( الاسلام ثقافة الحياة ) وقد تم اختيار مقالاته من مجموعة احاديث القيت في مناسبات عديدة ، كما ضم الـى هذا الكتاب ايضــاً خمسة مقالات كانت قد نشرت في مجلة (صوت الخليج) الكويتية ، وقد ادرجناها في الفصل الرابع تحت عنوان ( النهج الثقافي ) .
نأمل ان يساهم هذا الجهد المتواضع في بلورة الرؤى الثقافية عند اوسع الجماهير وبالذات عند المؤمنين المتمسكين بهدى الشريعة الغراء واللـه ولي التوفيق .
محمد تقي المدرسي
9 / ربيع الاول / 1415هـ
دور الثقافة الرسالية في نهضة الأمة
عندما يفتش الانسان عن اساس المشاكل التي نعانيها وتعاني منها الامة الاسلامية اليوم ، لابد ان يقع على المشكلة الثقافية كواحدة من اخطر المشاكل التي تتفرع منها الازمات والعقد الحضارية الاخرى .
والقضية الثقافية انما تتبوؤ مكانتها الاساسية في هذا الصدد من بعدين رئيسيين :
البعد الاول : ان الأمة الاسلامية هي بالدرجة الاولى أمّة تقوم على اساس المبدأ ، وتتمحور حول الرسالة ، فالاعتقاد بالمبدأ ، وحمل الرسالة يعنيان كل شيء بالنسبة الى كيانها .
«إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » (الانبياء / 92)
فالأمة الواحدة هنا لا تقوم على اساس الارض ولا على اساس القوميـة واللغة والمصالح ، بل تقوم على اساس توحيد الله - تعالى- وهذا هو اساس الامة الاسلامية .
ومن المعروف ان الثقافـــة تشكل جزء اساسياً من العقيدة والايمان
والعبادة ، فمن دون العلم ، والوعي السليم ، والرؤية الصائبة لايمكن ان تكون لدى الانسان عقيدة او ايمان .
البعـد الثاني : هو بعد مشترك بين الامة الاسلاميـة وبين سائر الأمم رغم انه بعد يميز الانسان عن غيره ، افليس الانسان كائنا حضاريا ؟
فــلا ريب ان اللـه قد اكـرم الانسان ، وحمله في البر والبحر بمــا علمه : «وَعَلَّــمَ ءادَمَ الأَسْمــآءَ كُلَّهَـا » ( البقرة / 31 ) ، وعندما علم الله - تعالـى - آدم الاسماء اسجد له ملائكته ، فالانسان - اذن - هو كائن مثقف ، والثقافة تؤثر عليه .
و عندما انحرفت ثقافتنا عن مسـارها الصحيح انحرفنا عن صراط سعادتنا ، وطريق فلاحنا ، والعودة الى هذا الطريق وذلك الصراط لن يكون إلاّ بتصحيح الثقافة ، فمن يحدثك عن الاصلاح والتغيير ، وعن العمل السياسي والاقتصادي دون ان يقدم لك برنامجا سليما وواضحا في التثقيف والتوعية فان كلامه هذا لا يقوم على اساس ثابت ، بل الصحيح ان يزودك بالبرنامج الثقافي الذي يخلق الانسان الحضاري ، ومن ثم يأمرك بالتحرك ، ويعطيك البرنامج السياسي او الاقتصادي او الاجتماعـي وما الى ذلك .
جهلان في مسيرة الثقافة :
ونحن نعانــي في مجال الثقافة من مشكلتين ؛ الاولى هي الجهل ،
والثانية الجهالة ، وتلخص احدى الروايات الشريفة هاتين المشكلتين في قول الامام الحسن المجتبى - عليه السلام - : " كفى بك جهلا ان تقول ما لا تعلـم ، بل كفى بك جهلا ان تقول كل ما تعلم " . وفي قول للامام علي ( عليـه السلام ) عن ذلك : " لا تقل مالا تعلم بل لاتقل كل ما تعلم " .(1)
وعلى هـذا فهناك جهلان ؛ الجهل الاول ان تحدث بما لا تعلم ، والثاني ان تتحدث بكل ما تعلمه دون ان تميز الغث من السمين ، والمناسب من غير المناسب ، وهنا اود ان اتوقف عند هذين البعدين مبتدئاً بالبعـد الثانـي .
هناك الكثير من الناس يزعم ان عليه ان يحدث الناس بما يعلمه علما يقينا صادقا ، او لا ينبغي ان يشاركه الناس في علمه فيحدث الناس بكل ما يعلم ، مثل هذه النظرة تسبب الفساد بدلا من ان تقدم لنا العلاج ، ذلك لان الانسان الذي يريد ان يحدث الناس بكل ما يعلمه سيحدثهم بالتأكيد عن الاخطاء التي يرتكبها الاخرون ، فهل من الصحيح ان احدث الناس بمعلوماتي حول الشخص الفلاني الذي اخطأ ، واذنب ، وانحرف ؟ ، فان استشكل عليه الاخرون اجابهم ان عنده علما بذلك . نعم ، انت لديك علم، ولكن الافساد في الصدق ، فافساد ذات البين هو كذب عند اللـه - تعالى - ، في حين ان الكذب الذي يهدف الاصلاح هو صدق .
ان الاجواء التي نعيشها الان امتلأت بالسلبيات ، كل واحد منا يجلس ليحدث الناس عن سلبيات الاخرين ، وهذا سلوك محرم عند اللـه ، فقد حرم - تعالى - الغيبة ، وسوء الظن ، والتجسس على الناس ، والنميمة ، والسب ، كما وحرم العشرات من الذنوب التي يرتكبها لسان الانسان في حين ان اكثرها معلومات لامجهولات ، لان فيها اشاعة لجو السلبية ، واني استطيع ان اقول ان عشرين بالمائة من المحرمات الاخلاقية هي محرمات اللسان وخصوصا تلك التي تأخذ فيها الجوانب السلبية ، وتحدث الناس بها .
لا .. لثقافة اليأس :
وهناك مثل آخر استوحيه من حديث للامام أمير المؤمنين ( عليه السلام) يقول فيه : " ألا أخبركم بالفقيه حقا ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : من لم يقنّط الناس من رحمة اللـه ... " (1) ، فاذا صعدت المنبر واعلنت للناس ان الكاذب يذهب الى النار ، والمتهم يذهب الـى النار ... فان هـذا كلـه صحيح ، وليس كذبا ، ولكن الناس الجالسين سوف يفهمون من حديثي انهم كلهم من اصحاب النار ، فلماذا العمل والنشاط ولماذا التوبة اساسا ؟
ومن هذا الاقناط والتيئيس هو ما يقوله بعض الناس ، وبعض المتحدثين والمفكرين حينما يعتلي المنبر ، او يلقي خطابا تراه يكثر من ذكر سلبيات الامة الاسلامية ، ويشير الى نقاط ضعفها وتفرقها وانهيارها ، والجالس الذي يستمع الى هذا الكلام او يقرأه يتصور ان الدنيا قد انقلبت في حين ان القضية ليست بهذا المستوى ، فهناك نقاط ايجابية الى جانب النقاط السلبية ، فلماذا لانحدث الناس بالنقاط الايجابية ، ولماذا لانبعث روح الأمل والنشاط في نفوسهم .
ومـن النقاط التي كان يمتاز بها الامام الخميني - رضوان الله عليه - انه قليلا ما كان يتحدث عن السلبيات ، فقد كان عادة يحدث الناس عن الجوانب الايجابية ، فيعطيهم الامل ، وفي نفس الوقت يحثهم على العمل والنشاط ، لان الامل هو الذي يسوق الانسان نحو العمل .
ان الكلام يشبه الدواء ، فالطبيب لا يمكنه ان يعطي المريض كل ما يريد من الادوية وبكميات كبيرة ؛ صحيح ان الدواء نافع للانسان ولكن بالمقدار المحدد والا كان مضرا بالانسان .
وعلـى سبيل المثال اذا رأينا رجلا متوغلا في العبادة والتضرع الى اللـه - تعالى - تاركاً مسائله الخاصة وشؤون مجتمعه : فهل نشجعه على سلوكه هذا ؟ طبعاً لا ، بل نقول له ما قال الرسول (صلى اللـه عليه وآله) للامام علي ( عليه السلام ) : " يا علي ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ".(1)
وعلى متحدثينا ومفكرينا وكتابنا ان لا يتركوا اليراع يجري على الصفحات دون تفكير ، بل عليهم ان يفكروا فيما يكتبونه ، فان تحدثوا عن سلبيات الامة فليحدثوا الناس في نفس الوقت عن نقاط القوة فيها ، وعن الطموحات والاهداف العظيمــة ، وان حدثـوا الناس عـن نار جهنم فليحدثوهم ايضا عـن مغفـرة اللـه - تعالى - ، وان تكلموا عـن ضرورة الوحدة والتآلف ، واشاروا الى فرقة الامة فلا يكون الحديث متوغلاً في السلبية ، فسلاح اليـأس هو أهم اسلحة الشيطان ، وعلينا ان نقاوم هذا اليأس ، فقد جاء في الحديث: " اليأس من جنود الشيطان ".
اما الجهل الاخر فهو الحديث بلا علم ، او الحديث الكاذب ، وهو ما منيت به امتنا الاسلامية في عصرنا الحاضر للاسف ، فالكذب قد اصبح حقا اساس صحافات واذاعات ، ووكالات الانباء في البلدان الاسلامية ، ومن امثلة ذلك ان صدام حسين كان يريد ان يعيد علاقاته الدبلوماسية مع نظام مبارك ، وفي نفس الوقت كان يراوغ في موضوع طرد اسرائيل من الامم المتحدة ، وفي هذا الجو المشبع بالادانة لنظامه الخائن اذا بوزارة الخارجيـة العراقية تصدر بيانا عن سفينة بابل التي تعرضت لطلقة اسرائيلية ! واذا بالصحافة والاذاعة العراقية تقيم الدنيـا !
ترى من كـان في البحر حتى يرى سفينة اسرائيلية اطلقت طلقة على سفينــة عراقيـة ؟! من يستطيع ان يثبت ذلك او ينفيه ؟! ولكنه الكذب والدجل ومحاولة التغطية لكي لا يدان نظامه باعادة العلاقات مـع مصر .
وفي نفس الوقت الذي ترتكب فيه البلدان الغربية الجرائم بحق الشعوب ، نراهم يتحدثون عن ارهاب المسلمين ، وان القرآن كتاب ارهابي ، حتى انهم ادخلوا هذه القضية في كل بيت وفي كل عقل عبر صحافتهم واذاعاتهم وافلامهم وكتبهم وشبكاتهم التجسسية .. حتى اصبح بعض المسلمين يصدقونهم ويعتقدون فعلا ان هناك ارهاباً وتطرفـاً !
ان هذه الصحف ووسائل الاعلام التي تنقل هذه الاكاذيب هي التي تقف وراء المشاكل التي تعاني منها الامة ، وهذه المشاكل لا تتمثل في الاسلحة التدميرية ، ولا في القتل والتشريد والسجن ، بل في الخداع والتضليل الذين تقوم بهما الصحف والاذاعات التي تطالعنا كل يوم بالدجل والافكار الكاذبة .
لابد من توعية الناس :
هذه هي مشكلة الامة ، والقـرآن الكريــم من بدايته الى نهايته يتعرض لمعالجة هذه المشكلة في آيات عديدة ، ومن اجل معالجة المشكلة الثقافية التي نرى الامة مبتلاة بها لابد من حملة توعوية واسعة نقوم من خلالها بلفت اذهان الناس الى الاثار السلبية التي يتعرضون لها من قبل الصحافة والاذاعات ، فلابد لهم من ان يعرفوا ان هذه الصحف والكتّاب الذين يكتبون فيها ، والاذاعات انما هي تستهدف انتزاع استقلالنا وكرامتنا ، فلابد ان نعري هؤلاء الكتّاب الذين يكتبون في الصحف مقالات يمثل الدجـل والكذب والتضليل الجزء الاكبر منها ، لانها كتبت بأقلام مأجـورة .
وللاسف فلقد صفى الاستعمار الاقلام المخلصة في الامة ، ولم يبق منهم الا القليل . فكل من كانت لديه ذرة من الاستقلال والتحدي اصبح مصيره السجن او الاعدام او النفي ، والذي تبقى منهم عبارة عن مجموعة مأجورين او مستسلمين للاستعمار يقبضون مرتبات ضخمة مقابل بيعهم لذممهم وضمائرهم .
ان هؤلاء الصحفيين يساهمون في تخلف الامة وتمزقها ونشر الضلال بين صفوفها وهم في الحقيقة يساهمون في قتل الامة الاسلامية ، فهم الذين يسهمون في تكريس وجود حكام الظلم والجور .
وهذه الحقائق يجب ان ننشرها بين الجماهير ليكون ابناء الامة على وعي بما يجري ، ومن جهة اخرى يجب ان نهتم اهتماما شديدا بنشر الثقافة الصحيحة ، فهذا المقدار من الاهتمام ليس كافيا والدليل على ذلك ان الامة الاسلامية ما تزال متخلفة .
نشر الثقافة السليمة هو الحل :
كفانا تخلفاً وتمزقاً ، وكفانا سماعاً لاخبار الهزائم ، ولنبدء طريق العودة الى اخبار الانتصارات والفتوحات من خلال الاعداد لذلك بنشر الثقافة السليمة ، وان نكون في مستوى ثقافة القرآن الكريم ، وليكن رائدنا في ذلك المسلمين الاوائل الذين جعلوا القرآن يقرأ على كل قارعة طريق صباح مساء ، فنشروا هذه الثقافة ، واستطاعوا هزم الضلالات الجاهلية برسالة القرآن .
ونـحن اليـوم علينا ان نتحمل هذه المسؤوليــة ، فالاسلام يؤكد لنا ان " مداد العلماء خير من دماء الشهداء " ، فعلى كل واحد منا ان يتحول الى مؤسسة ثقافية بالاضافة الى مسؤولياته الاخرى .
الثقافة المسؤولة بداية الانطلاقة نحو التغيير
منهجية الانسان في التفكير تحدد عادة مستقبل حياته ، وهذه المنهجية هي اهم ما ينبغي ان يغيره الانسان في نفسه ، ومن الظواهر السلبية في منهجية التفكير الفكر اللامسؤول ، والثقافة اللامسؤولة .
بين فكر المسؤولية وفكر الخمول :
والفكر على نوعين ؛ فكر يدفعك نحو تحمل المسؤولية ، ويرفعك الى مستوى العطاء والتصدي ، وتحمل تلك الامانة التي ألقيت على عاتقك في عالم الذر ، والتي اشفقت السماوات والارض والجبال ان يحملنها وحملتها أنت .
النوع الاخر من الفكر هو الذي يكرس فيك حالة الخمول والتردد والتراجع ، ويضع على قلبك الاغلال والقيود .
في مجتمعنا اليوم افكار كثيرة متماوجـة تتسـرب الـى ادمغتـنا من حيث لاندري ، وتعشعش فــي اذهاننا من حيث لا نشعر ، وتحجبنا عن الحقائق ، وهذه الافكار اخطر علينا من الفيروسات الفتاكة ، ومن الاعداء الظاهريين .
وللأسف فاننا نلقي عادة مجموعة من مسؤولياتنا على عاتق غيرنا ، فنقف مكتوفي الايدي ازاء الاحــداث التي تجري في العالم الاسلامي ، ونوزع الاتهامات يمينا ويسارا ، في حين ان النبي (صلى اللـه عليه واله) يؤكد قائلا : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ".(1)
وهذه المنهجية المغلوطة هي منهجية التفكير الذي يبعث على الخمول ، واللامسؤولية ، وهذه المنهجية هي المسؤولة عن واقعنا المتردي ، واذا لم نبادر الى تغييرها فان واقعنا لا يمكن ان يتغير ، فالانسان يحمل في داخله نورا الهيا هو نور الارادة ، وبهذه الارادة يستطيع ان يتحدى كل ما من شأنه ان يقيّده ويحدّ من حركته ، وبهذه الارادة كان انسانا ، وبها حمل الامانة الكبرى ، وعلى ضوئها يسأله اللـه - تعالى - ، فيثيبه او يعاقبه .
فكر الارادة والشعور بالمسؤولية :
ولم يكن عبثا ان اللـه أمر الملائكة اجمعهم بالسجود لآدم ، فقــد
كان الانسان يحمل ذلك النور ؛ نور العقل والنبوة والرسالة والمسؤولية والتحدي ، والقرآن كله من بدايته الى نهايته يوجهنا الى هذه الحقيقة ؛ حقيقة الارادة والشعور بالمسؤولية ، فلكي نصبح بشرا بالمعنى الحقيقي للكلمة علينا ان نشعر بالمسؤولية ازاء غيرنا من الشعوب التي تربطنا بهم آصرة الاسلام والايمان ، فليس امامنا خيار غير التصدي والصمود ، وان نطرح جانبا ثقافة التبرير وإلقاء المسؤولية على الاخرين ، فهذا النوع من التفكير هو الذي يكمن وراء تخلفنا .
فلنبدأ بتغيير انفسنا كمقدمة لتغيير المجتمع نحو الصلاح والاستقامة ، ولنفكر بهذه المنهجية ، وليكن تفكيرنا موضوعياً مسؤولاً ، فنحن اليوم بأمس الحاجة الى رجال ذوي ارادة واصالة وواقعية ، ويحملون هموم قضيتهـم ، فقيمــة الانسان بمــا يحمله من قضايــا ، وبما يغير من واقعـه ، والانسان الذي لا يتحـرك ، ولا يعمل شيئاً ، انما هو انسان ميت .
كيف نجعل فكرنا مسؤولا ؟
ومن اجل ان يكون فكرنا مسؤولا ، علينا ان نحقق الوحدة التي هي مصدر العافية في جسم الامة ، وهناك العديد من الشروط والعوامل التي يجب ان تتوفر لكي تتحقق الوحدة بين صفوف الامة الاسلامية ذات الهدف الواحد ، والستراتيجية الواحدة ، التي يصفها أبو عبد اللـه ( عليه السلام ) بقوله : " مثل المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى ".(1)
ان جسمنا يتقطع ولكننا لا نحس بذلك بسبب تفرقنا ، وتصارعنا وافتقارنا الى الوحدة التي تمثل العامل الاساسي الذي يجعل الامة سليمة معافاة ، لا وجود فيها للاختلافات وسائر الامراض الاخلاقية كالغيبة والنميمة ، وهذه هي الامة الواحدة التي تدعو الى الخير وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر .
وهنـا توجد سلبية من سلبياتنـا اود ان اشير اليها ، تتمثل في اننا نعيــش حالــة الاحلام والتمنيات دون ان نضع نصب اعيننا اننا يجب ان نبدأ من حيث نحن ، فهذه الوحدة التي نحلم بها تبدأ مني ومنك ، فلنتوحد ولنوحد معنا الفئات الاخرى ، ونصبح بالتالي كتلة واحدة ، وشيئــا فشيئا ستنتشر هذه الوحدة كالنور ، فهي لا يمكن ان تأتينا من الخارج ، بل تبدأ منا ، والينا تنتهي وذلك من خلال ايجاد التكتلات الايمانية التي تعني ان الانسان المؤمن لا يمكن ان يعيش لوحـده ، وانما يعيش ضمن وحدة ، كما اشار الى ذلك الامام
علي ( عليه السلام ) بقوله :
" والزموا السواد الاعظم فان يد اللـه مع الجماعة واياكم والفرقة ! فان الشاذ من الناس للشيطان كما إن الشاذ من الغنم للذئب " . (1)
فعلينا - اذن - ان نجتمع ، والقرآن الكريم يؤكد دائما على هذا المعنى من خلال مخاطبتنا بصيغة الجمع في آيات من مثل :«الَّذِينَ ءَامَنُــوا وَعَمِلُــوا الصَّالِحَـــاتِ » ( الرعد / 29 ) ، « وَارْكَعُــوا مَعَ الْرَّاكِعِيــنَ » ( البقرة / 43 ) ، « اَلآ إِنَّ حِزْبَ اللـه هُـمُ الْمُفْلِحُونَ » ( المجادلة / 22 ) .
سيادة قانون التعاون والتضامن :
وعندما تتشكل التجمعات فلابد ان يحكمها قانون التعاون والتضامن ، وهذا القانون ينظم العلاقة بين اعضاء هذه التجمعات ، ومن خلال المزيد من هذا التعاون والتضامن سوف يكون بامكاننا تحقيق الوحدة ، وحينئذ ستتأثر هذه التجمعات بما يجري حولها من احداث في العالم الاسلامي ، وستتوفر فيها الحالة الثورية ، وتوحدها علاقة شديدة ومتينة ، وتسودها شبكــة من العلاقات الواسعة التي تكون بمثابة الاعصاب في جسد الانسان .
وسيادة مثل هذه الحالة بين أوساطنا ستؤدي بنا بالتأكيد الى تحقيق الانتصارات المتتالية في جميع الميادين شريطة ان لا تحدث في انفسنا هذه الانتصارات حالة الغرور والعجب ، كما وعلينا ان نتذكر ان الشروط الاساسية للانتصار تتمثل في الصبر والصمود والتحدي ، ومع توفر هذه الشروط سنكون - بإذن اللـه - منتصرين في كل المواضع ، وسوف تزول عنا حالة الغرور والانتشاء التي تحول النصر الى هزيمة ، لان الانسان المغرور لا يفكر الا في نفسه ، وحزبه ، وتجمعه .
السبيل الى التفكير المسؤول :
ولا شك ان الفكر المسؤول يفتح امام الانسان ابوابا جديدة ، وآفاقا واسعة لم يكن يعلم بها ابدا ، وقبل ان نفصل الحديث فـي هذا الاثر من آثار الفكر المسؤول ، نذكر بأن الناس على نوعين ؛ نوع يفكر ، ونوع يقلد ، والفرق كبير بين هذين النوعين ؛ فالاول يفكر ويبدع ويخترع ، والثاني ينتظر الاخرين ليقودوه وكأنه اعمى ! فقيمة الحياة تكمن في الاكتشـاف والابداع والتفكير ، والذي لا يفكر لا يمكنه ان يكتشف شيئا ، وبالتالــي فأنه سوف لا يؤثر في الحياة .
ترى كيف نفكر التفكير الصحيح ، وما هي العقبات التي تعتــرض
طريق التفكير ، وما هي الوسائل التي تساعد الانسان على انضاج تفكيـره ؟ سوف نجيب على هذه التساؤلات فيما يلي من سطور .
كيف نفكر ؟ قبل كل شيء لابد ان نثق بأفكارنا ، فالشعب المستعمر الذي سلبت منه حريته وكرامته لا يمكنه ان يفكر ، فالانسان لا يندفع الى التفكير الا اذا عرف ان تفكيره سيتمخض عن نتيجة ، ومن هنا فان الثقة بالنفـس والمستقبل ، والايمان بالحرية والكرامة ، والاستعداد للتضحية ، انما هي شروط مسبقة للتفكير المسؤول .
وعندما نصل الى المرحلة التي نثق فيها بأنفسنا ، وبقدراتنا الهائلة التي منحها اللـه - تعالى - لنا ، ونكون مستعدين للتضحية من اجل الفكر والعقيدة ، فحينئذ سيكون بامكاننا التفكير ، ليصل بنا تفكيرنا هذا الى شواطىء الابداع والاكتشاف ، والفهم الصحيح للحياة ، والشعور بالمسؤولية .
مما لاشك فيه اننا بشر ، وان بامكاننا ان نغير المعادلة من خلال التفكير المسؤول فاللـه - تعالى - لم يخلق الناس طبقات ، طبقة الاوروبيين البيض التي تفكر وتخطط وتصنع وتقود ، وطبقة الملونين التي يجب عليها ان تتبع وتقلد وتكون مستعبدة ، بل ان اللـه خلق الناس سواسية في قدراتهم العقلية ؛ وعلى هذا فان الثقة بالافكار هي بداية مرحلة التفكير المسؤول ، فلنثق بقدرة عقولنا ، ولنحاول ان نجرب هذه الثقة ، وعندما يصل تفكيرنا الى هذه النتيجة المطلوبة فلنعرف ان تفكيرنا قد اصبح مسؤولا .
عقبات في طريق التفكير :
والعقبات التي تعترض طريق التفكير كثيرة ، وابرز هذه العقبات قلة المطالعة رغم ان عصرنا هذا هو عصر العلم ، والعلم لا يمكن التعرف عليه إلاّ من خلال المطالعة ، فعلينا - اذن - ان نقرأ قراءة متواصلة ومكثفة ، ولا بأس بالاستفادة من تجربة الغربيين في هذا المجال ، فالشعوب الاوروبية منذ نهضتها كانت تلتهم الكتب التهاما حتى اصبحت المطالعة ملكة ثابتة في شخصياتهم ، وخصيصة جلية في سلوكهم اليومي .
وتتمثل العقبة الاخرى في شيوع مجالس البطالة ، والصداقات غير المنتجة بيننا ، في حين ان علينا ان نحذف هذه الظواهر من حياتنا ، وان نكون جديين وشاعرين بالمسؤولية في حياتنا من خلال استغلال اوقاتنا الاستغلال الصحيح والمثمر ، والكف عن اللـهو والعبث .
الحوار الطريق الى الفكر المسؤول :
يتكامل التفكير ويصبح مسؤولا من خلال الحوار الذي يمثل قضية اساسية في حياتنا ، علينا ان نضحي بالكثير من الامور في سبيل تحقيقها ، ونعني بالحوار هنا القدرة على ان نكتسب علوم الاخرين لنضيفها الى علومنا ، لنصنع من ذلك تركيبة علمية متكاملة .
ونحن نرى ان بعض الناس لهم آراؤهم الخاصة ، وللاسف فانهم يتشبثون بهذه الاراء وكأنها قرآن منزل من السماء ، وفي مقابل هؤلاء يوجد اناس اخرون يتمتعون برحابة الصدر وسعته ، فلا يتعنتون وانما يتنازلون عن آرائهم بمجرد ان يثبت لهم خطأها .
وبالاضافة الى هاتين الفئتين هناك فئة اخرى قلقة في آرائها ومواقفها ، متميعة في افكارها ، لا تكاد تثبت على رأي واحد ، فهي سرعان ما تعدل عن مواقفها السابقة بمجرد ان يذم الاخرون هذه المواقف .
ونحن نرفض طريقة تفكير الفئة الاولى والاخيرة ، ونرى ان الاستقامة تتمثل في الجادة الوسطى من خلال الاستماع الى آراء الاخرين استماعا دقيقا ، ثم عقد المقارنة بين آرائنا وآراء الاخرين ، فنفرز ونعزل العناصر الخبيثة من الطيبة ، ونقوم بعملية مزاوجة بين العناصر الطيبة ، لتخرج بمزيج فكري يمثل المزيج الافضل كما قال - تعالى - :
«الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ » ( الزمر / 18 )
وباختصار فان اهم فائدة يمكن ان نكتسبها من جلسائنا هي التحاور معهم بروح ايجابية بنّاءة ، فعلينا ان ننمي قدرة الحوار في انفسنا ، لان الحـوار المستلــزم للفكــر المسؤول يفتح امامنا - كما قلنا - ابوابا جديدة ، وآفاقا واسعة ، وهذا التفكير المسؤول يمكننا ان نكتسبه - كما اشرنا الى ذلك - عن طريق تنمية روح الثقة بأفكارنا ، والتكثيف من مطالعاتنا ، ومن خلال تنمية الفكر المسؤول في نفوسنا واذهاننا ، لان هذا الفكر يمثل بكل تأكيد بداية الانطلاقة نحو التكامل ، والتغيير ، والعمل الهادف البنّاء في سبيل تحقيق الاهداف الالهية ، واللـه الموفق .
الثقافة التبريرية ارضية الفساد السياسي
يعالج القرآن الكريم عبر آياته مشاكل الانسان النفسية والثقافية ، فيمهد بذلك الطريق لأن يعالج الانسان مشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها ، والذي يتدبر القرآن يستطيع ان يجعل منه شفاء لما في صدره ، ومعراجا يسلك به مدارج الكمال .
ضرورة العودة الى القرآن الكريم :
واول ما ينبغي على الامة الاسلامية العمل به هو العودة الى القرآن الكريم ، ورفع الحجب التي وضعها الاعداء بين ابناء الامة وبين آيات القرآن ، من خلال إبعاد القرآن عن الحياة العملية وتحويله الى كتاب يرتبط بجوانب معينة من حياة الانسان ، او عن طريق الايحاء الى المسلمين انهم ليسوا في مستوى التدبر في القرآن في حين ان الاسلام يعتبر قراءة القرآن والتدبر فيه واجبا حسب نـص الآية الكريمة : «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرءَانِ » ( المزمل / 20 ) . والآيــة : « أَفَـلاَ يَتَدَبَّــرُونَ الْقُـــرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَـــآ » ( محمد / 24 ) .
اضف الى ذلك ان الاستماع الى الآيات القرآنية حينما تتلى واجب هو الآخـر بنص الآية التي تقول : « وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا » ( الاعراف / 204 ) ، كل ذلك لكي يرفع الاسلام الحجب المختلفة التي تضعها القوى الشيطانية ، لكي يبادر الانسان المسلم الى الاستلهام من الآيات القرآنية لانه كفيل بحل مشاكلنا المستعصية .
مشاكل الانسان نابعة من تصرفاته :
وفي الحقيقة فان المشاكل هي نتاج افعال الانسان وتصرفاته المختلفة ، فلن يرى الانسان في الدنيا والآخرة الا ماكسبته يداه ، وما عمل بمحض ارادته ، فلا يجوز له ان ينتظر الاقدار او الاخرين ليحلّوا مشاكله لان منبع المشاكل كامن في ذات الانسان ، فلو كان مبتلى بجرثومة تتوالد بسرعة في جسمه ، وحاول رفع آثارها عن طريق المسكنات فهل سينجح في ذلك ؟
كلا بالطبع ، لان اصل المرض موجود في دمه وعروقه ، ومن دون القضاء على جذور المرض فان الجرثومة سوف تتكاثر .
وهكذا الحال بالنسبة الى مشاكل الانسان التي هي نابعة من ذاته ،
والتي يؤدي تفاعلها بصورة ظاهرة الى خلق السياسة الحاكمة عليه فتكون اما صالحة واما طاغوتية ، فالسياسة هي عنوان الانسان ورمز تصرفاته ، كما اشار الى ذلك النبي (صلى اللـه عليه وآله) في قوله : " كما تكونون يولى عليكم " فمجموع العوامل البشرية النفسية والعملية تتفاعل جميعا لتتحـول الـى السياسة والحكومة والسلطة ، والسلطة هي رمز مستوى الانسان .
السياسة مقياس حركة الانسان والمجتمع :
واذا كان الأمر هكذا فاننا نستطيع ان نقول ان السياسة هي معيار ومقياس حركة الانسان ، وتوجه المجتمع سلبيا او ايجابيا ، وان معالجة المشكلة السياسية في الامة لا يمكن من دون معالجة سائر المشاكل سواء بدأنا بطرح القضية سياسيا ثم توجهنا من خلالها الى سائر القضايا النفسية والاجتماعية والاقتصادية ام بدأنا بعلاج المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية اولا ثم توجهنا الى معالجة القضايا السياسية .
كيف عالج القرآن الكريم المشكلة السياسية ؟
وعندما يعالج القرآن الكريم المشكلة السياسية فانه يشمل بمعالجته هذه كافــة ابعادها ، ونحن نجد في سورة التوبة معالجة حقيقية للقضايا السياسية ، وللأسف فاننا ننتظر طويلا ان يحمل القدر لنا نصرا من السماء ونحن قاعدون دون حراك ، وهذه كلها احلام ، والقرآن يستنكر هذا الفهم الخاطىء قائلا : « أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى » ( النجم / 24 ) ، فلا يحق للانسان ان يجلس بانتظار تحقق احلامه ، فلابــد ان يسعى ، فالكون خلق على هذا الاساس « وَمَــا خَلَقْنَــا السَّمَــاوَاتِ وَالاَرْضَ وَمَـا بَيْنَهُمَــآ إِلاَّ بِالْحَــقِّ » ( الحجر / 85 ) فعلينا ان نفهم هذا المنطق القرآني والا اصطدمنا بصخور الواقع .
فلابــد من الخروج من هذه الافكار الطفوليــة المتخلفــة التي ابتليت بها الامة ، ولكـن الذيـن ينـامون على حرير الاحلام قد لاينفعهم وعظ الانبياء ( عليهم السلام ) والمصلحين رغم عظمتهم ، وسمو مقامهم ، وبلاغة السنتهم ، وارتباطهم بالوحي . انذروا قومهم كثيراً ، ولكن القليل منهم اصاخوا السمع ، واستجابوا للحق فحل بالمعرضين العذاب الاليم .
والقرآن في بعض آياته يعبر بتعبيرات عاطفية عن مختلف الاحاسيس في الانسان فيقول - مثلا - : «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ » ( يس / 30 ) ، فالتوجيه انما يكون اتماما للحجة ، ولكي ينتفع به من كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ، فكفانــا هذه التجارب المرة ، والآلام المستمرة ، فاللـه - جل شأنــه - لم يخلقنا لكي نتألم في هذه الدنيا بشهادة قوله - تعالــى - : « مَــا يَفْعَـــلُ اللـه بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللـه شَاكِراً عَلِيماً » ( النساء / 147 ) .
لقد خلق اللـه - سبحانه وتعالى - الانسان لكي يرحمه ، ولكي يدفعـه الى ان يعمّر الارض ، ويستغل طيباتها ، فقد سخر له كل شيء ، واسجد الملائكة اجمعين لآدم ( عليـه السلام ) ، ومـا يزال - تعالى - عند عهده هذا عندما قال : «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَآءً غَدَقاً » (الجن/16) ، « وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْــهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ »(الطلاق / 2-3 ) ، ولكن عدم الفهم العميق للحياة هو الذي يجر الانسان باتجاه تلك المشاكل .
النصر لا يأتي من خلال القوى الغيبية فحسب :
ومن ضمن الافكار التبريرية المتخلفة ، والتي من شأنها ان تخدر الانسان ، وتجعلـه يبتعــد عن الواقــع تلك الفكــرة التي يعالجها القرآن الكريم ، فينسف من الاساس مقولة ان اللـه انما ينصر الانسان بالقـوى الغيبية فقط ، فيقول - تعالى - : «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللـه بِاَيْدِيكُمْ » ( التوبة / 14 ) ، فوسيلة النصر هو الانسان نفسه ، فاذا تشبعت ارادته بالعزيمــة ، ونهـض لقتال عدوه بيديه ففي هذه الحالة
سوف ينزل اللـه - تعالـى - نصره عليه .
والطواغيت يحاولون قدر امكانهم ان تكون لهم السمعة الحسنة عند الاخرين ، ويبقوا محترمين في اعين الناس ، ومن اجل كشف حقيقة هؤلاء الطغاة يجب على كل فرد ان يعمل بكل جد واخلاص لكي يحقق النصر عليهم ، لان المعارضة السلبية لا تكفي لاسقاط نظام ، كما ان الرفض لا يكفي لوحده لتحقيق الهدف المنشود ، وهو بناء نظام جديد .
وهكذا يجب على الشعوب المستضعفة ان تكون يقظة وحذرة من الاعيب ومؤامرات التيارات الاستعمارية ، والقوى الاجنبية الطامعة في خيرات البلدان الاسلامية ، فالجميع يدّعي حقه في خيراتها ، ولكن الحق هو فقط لاولئك المحرومين والمستضعفين الذين يجب ان يجنّدوا انفسهم ، ويبعثوا فيها روح الجرأة والبطولة ، ويعرفوا كيف يقررون مصيرهم بأيديهم .
الكرامة لا تستعاد إلاّ عن طريق التضحيات :
اننا لا نستطيع ان ندخل الساحة من دون ان نخرج من اطار افكارنا التبريريـة ، وندخل في اطار افكار الرسالة ، ومن جملة هذه الافكار التي يعالجها القرآن الكريـم فكــرة ان قلوب المؤمنين الذين تعرضوا للاذى والبطش والاضطهاد ، وان كرامتهم لا يمكن ان تستعــاد إلاّ من خلال التضحيات واراقة الدماء كما أشار الـى ذلك - تعالى - بقوله : «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللـه بِاَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ » ( التوبة / 14 ) ، وفي هذا المجال يقول الشاعر العربي .
لايسلم الشرف الرفيع من الاذى حتـى يراق على جوانبـه الـدم
فاذا لم يهـرق الدم ، ويبذل التضحيات ، فان القلب الذي تراكمت عليه السلبيات ، وعشعشت فيه المشاكل واليأس لن يجد خلاصة بأية طريقة اخرى .
ضرورة احداث هزات عنيفة في ضمير المجتمع :
ومن آيات اخرى في القرآن الكريم نستوحي ان الافكار المتخلفة ، والمفاهيم المخملية الحريرية التي تنام عليها الشعوب المتخلفة لا يمكن ان تنتزع من قلب الانسان الا عبر هزات اجتماعية عنيفة من قبيل الحرب والقتال ، فالقتال يمثل عملية عنيفة في الحياة ونحن بحاجة الى مثل هذه العملية حتى نخرج من قوقعة تلك الافكار ، فالثورة لا تولد بسهولة ويسر بل هي بحاجة الى تضحيات وجهاد وتحديات ، فنظريات الحضارات في العالم تقرر ان اية امة لايمكن ان تبني حضارتها ، وتكسب استقلالها إلاّ من خلال التحديات العنيفــة .
ان السكوت عن الظلم جريمة ، وللاسف فان بعضنا قد ارتكب هذه الجريمة من خلال تعاونه مع الانظمة الفاسدة التي تكثف يوماً بعد يوم من ممارساتها القمعية ضد الجماهير .
واجب القادة والعاملين في سبيل اللـه :
وعلى قادة الجماهير ، والمنتمين الى الحركات الاسلامية ان يجدوا ويجتهدوا في سبيل بلورة افضل النظريات ، فالواحد منا يجب ان يصبح عملاقا في الفكر والارادة ، وانموذجا في العمل حتى يقود الجماهير في اوقات المحنة والعسرة ، ومع ذلك فاذا انتمى الفرد الى حركة فيجب ان لا يعتقد ان انتماءه هذا يعطيه قدرات هائلة ، بل يجب ان يكون همه ان يعطي ويبذل من نفسه ، وان يفجر طاقات فكرية وعملية جديدة .
ولذلك يقول - تعالى - : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللـه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللـه وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللـه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » ( التوبة / 16 ) .
وهذا هو الجهـاد الذي يعني في اللغة ( بذل الوسع ) فالجهاد يعني بـذل كـل جهد ، فلا يقل الواحد منا انه متعب ، وانه لايستطيع مواصلة العمل ، لاننا مسؤولون أمام اللـه - تعالى - .
والجهاد يجب ان يكون في طريق الحق ، والمنتمون الى الحركات
الرسالية يجب عليهم ان لا يتخذوا من دون اللـه ورسوله والمؤمنين ولياً ، كما وعليهم ان يتركوا حالة التحزب ليصهروا انفسهم في بوتقة الجماهير .
اما الموضوع الاخر الذي تعالجه الايات القرآنية يتمثل في ان الفكر الساذج يجب ان يكون بعيدا عن الجماهير ، فالجماهير التي تنخدع ببناء مسجد ، او بالاعلام المضلل لا يمكن ان نتوقع منها خيرا ، لانها تستمع الى اباطيل الشيطان وافتراءاته فعن رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) قال : " من اصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن اللـه عز وجل فقد عبد اللـه ، وان كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس " (1)، وقد أشار - تعالى - الى هذا الموضوع المهم في قوله : « مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللـه شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالْكُفْـرِ اُوْلَئِــــكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِـدَ اللـه مَــنْ ءَامَــنَ بِاللـه وَالْيَــوْمِ الاَخِـرِ وَأَقَـامَ الصَّلاَةَ وءَاتَــى الزَّكَاةَ وَلَــمْ يَخْــشَ إِلاَّ اللـه فَعَــسَى اُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِـنَ الْمُهْتَدِيــنَ » ( التوبة / 17 - 18) .
فلنجعل من البصائر القرآنية منهاجا لنا في حياتنا ، ومقياسا نميز بواسطته الخبيث من الطيب ، ولنتخل عن الثقافة التبريرية المقيتة التي تعد مصدر التخلف ، ومنشأ المشاكل والمآسي التي نعاني منها في جميع مجالات حياتنا وخصوصا المجال السياسي منها .
الزلزال الثقافي قبل الثورة الشاملة
يدور بين المفكرين جدل طويل حول تحديد نقطة البدء في حركة الانسان نحو الاصلاح والتكامل ، فمنهم من يؤكد على العامل السياسي او الاقتصادي او الجغرافي ، بينما يرى البعض الاخر ان التربية الثقافية هي المنطلق الاساس لبناء الحضارة البشرية .
ولاريب ان الثقافة - التي هي رؤية الانسان للحياة ، والقوالب الجاهزة التي يصب فيها معلوماته وتجاربه واحاسيسه - ذات اثر اكثر فاعلية وحسما من اي عامل اخر .
ان الاصلاح الثقافي يسبق الفاعلية الاصلاحية ، والثورة تسبق الفاعليات الثورية الاخرى ، كما ان نسف التبريرات التي تكرس الانحراف ، وهدم الافكار التي يعتمد عليها المنحرفون ، يسبقان نسف الانظمة القائمة على هذا الاساس .
تــرى من الذي ينبغي عليه ان ينقذ الانسان من الاخطار المحدقة به ؟ هل الطبيعة ام الانسان نفسه ؟
الانسان - بالطبع - هو الذي لابد ان يحرك دولاب الحياة ، وان ينقذ نفسه بارادته ، وبما حباه اللـه من قدرات ومواهب .
وهنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي : ما الذي يحرك الانسان في هذا الاتجاه او ذاك ؟
وللاجابة على هذا السؤال نقول : ان الانسان اما ان يكون محركا من قبل الاخرين ، او انه هو الذي يحرك نفسه بنفسه ، ونحن لسنا من انصار النظرية القائلة بان هناك انسانا واحدا يحرك الاخرين نحو الاصلاح ، لان مآل هذه النظرية الاعتقاد بوجوب ايجاد تسلط من نوع جديد على المجتمع البشري ، فالانسان الذي يحرك الجماهير نحو اسقاط نظام واقامة نظام اخر مكانه سيتحول مع مرور الزمان وبفعل عوامل مختلفة الى طاغوت اخر يشبه سلفه الذي سقط وتهاوى عرشه .
وازاء ذلك لا مناص لنا من تأييد تلك النظرية التي تنسجم تماما مع السنن والقوانين الطبيعية والتي تقول ان الانسان يجب ان يحرك نفسه بنفسه ، وان يصلح واقعه بعد ان يثور بنفسه على الاستعباد والانحراف من خلال تغيير فكره وثقافته ، ورؤيته الى الحياة .
فهناك ركام من الافكار الفاسدة التي يعتمد عليها كل طاغوت ، و تخضع لها كل امة رضيت بسلطة هذا الطاغوت ، والثورة الاصلاحية لايمكن ان تنتصر مع وجود الركام الذي يحجب بين الانسان وبيــن
رؤيــة واقعــه .
ثقافة فصل الدين عن السياسة :
وعلى سبيل المثال فان الثقافة التي ترى ان الدين يجب ان يبقى بعيداً عن السياسة كان لها تأثير سلبي كبير على الثورات التحررية في البلاد الاسلامية ، وهذه الثقافة تقوم على فكرتين شيطانيتين خبيثتين هما :
1 - ان السياسة وضعت لتكون دجلاً ونفاقاً وكذباً وارهاباً وطغياناً ، وان هذه الصفات هي من طبيعتها اللازمة لها ، فلا يمكن ان يتعامل السياسي الا بتلك الاساليب المقيتة .
2 - ان من المفروض بالمتدينين ان يقبعوا في مساجدهم او في بيوتهم وتكاياهم ، وان يدعوا الحكام يفعلون ما يشاؤون .
ترى هل يعقل ان ديناً سماوياً شرّعه اللـه - سبحانه وتعالى - يفرض على الناس ان يتركوا السياسة ويبتعدوا عن ميادينها العملية ، في حين ان كل بنود هـذا الديـن انما هـي في جوهرها سياسة ، فالصلاة ، والصيام ، والزكــاة ، والحج ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتولي والتبـري ، وعقود البيع والشراء ، والزواج والطلاق وما الى ذلك هي احكام وانظمة شرعية تدخل عالم السياسة من اوسع ابوابه .
الثقافة القدرية :
وهناك من يفكر ان توالي الحكومات المتعاقبة على البلاد قدر من الاقدار ، ومثل هذا التفكير يعتقد به - للاسف - اكثر الناس في بلادنا ، في حين ان هذا افتراء على اللـه - تعالى - ، ونسبة الظلم اليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ان هـذه الفكــرة القـدرية هي التي قال عنها رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) قبل اربعة عشر قرنا : " لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً قيل ومن القدرية يا رسول اللـه ؟ فقال قوم يزعمون ان اللـه سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها " . (1)
ومثل هذه الفكرة هي التي جعلت حكام بني امية وبني العباس يسيطرون على رقاب امتنا ، ومن ورائهم علماء السوء يدعمونهم .
ان الحكومات ليست بالضرورة من اللـه بل انها غالبا ما تقوم بفعل البشر ، والناس محاسبون علـى موقفهم منـها ان هم ايّدوها ورضـوا بها ، كما قال - تعالى - :
« إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَاُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً» (النساء/97 )
الثقافة التبريرية :
وهناك ايضاً اصحاب الفكر التبريري الذين يقولون : ليس في الامكان ابدع مما كان ، وهنا اوجه كلمة الى الحكام فأقول : ان الحاكم الذي لا يستطيع ان يحكم البلاد ، ولا يملك الكفاءة لكي يقود هذه السفينة في الامواج العاتية ، فلتكن لديه الشجاعة لينسحب سالماً الى قاعدته ؛ فليس من الصحيح ان يفرض شخص نفسه حاكما على الناس ثم يبرر سياساته الخاطئة مدّعيا ان ليس في امكانه افضل مما هو عليه ! _
هذا من جهة الحاكم اما من جهة المحكوم ، فعليه ان يكون مراقباً وناقداً للنظام الحاكم ؛ فلا يصغي الى التبريرات الباطلة التي تسعى لتكريس الواقع المنحرف ، وإلاّ أدى به الأمر الى ان يكون اداة بيد الظالمين .
مسؤولية الثقافة :
لابد - اذن - من ان ننسف هذه الاسس التي قامت عليها الانظمة الفاسدة والا فانها ستبقى ، ولابد ان نقوم بزلزال فكري في بلادنا نهدم به الكثير من القنـاعات المغلوطة ، والا بقينا وفكر التجزئة يفتت قلوبنا ويحطم نفسياتنا وآمالنا ، والتبرير ينخر في اعماقنا والافكار القدرية تحجبنا عن ادراك الحقيقة ، وفهم معادلات الحياة.
ومن ضمن هذه الافكار المزيفة التي اختلقها الاستعمار ، وتلقفتها القوى الجاهلية المنافقة في بلادنا ، هذه الافكار التي تكرس حالة التجزئة .
ان المفكــرين وبالذات الاسلاميين مدعوون اليوم بالحاح الى ان ينسفوا جذور الفساد المتمثل في الثقافة المنحرفة ، وهنا تكمن مسؤولية المفكرين وجهادهم لنشر الحقائق ، وهذا ما قال عنه النبي (صلى اللـه عليه واله) :
" اذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء " .(1)
ان صاحب القلم الحر يلاحـق شخصياً كما تلاحق افكاره ونتاجاته ، فقد اصبح أقتناء الكتب التي تعرض الحقيقة على الناس ، وتفضح سوءة الانظمة الجائرة المتسلطة اكبر جريمة من اقتناء الاسلحة .
وهنا يجب على المفكر الاسلامي ان يقف بكـل صلابة يناهض هذا التيار ؛ فلولا الاقلام الجريئة التي تزلزل كيان الثقافة الفاسد ، وتنسـف الاسس القدرية والتبريريـة .. فان هذه الابنية الجاهلية ستبقى ، ويبقى معها الظلم والاستضعاف .
ولذلك على الاقلام الحرة ، والنفوس الابية ، وعلى المجاهدين الحقيقيين ان يغمسوا ريشة اقلامهم بدماء شهدائهم ليرسموا خريطة المستقبل ، واللـه الموفق ونعم المستعان .
الجهاد الثقافي بعد الانتصار
الصراع الابدي الذي يلخص فلسفة الحياة ، وتتجلى فيه حكمة وجود الانسان في هذه الدنيا ، يعبّر عن نفسه بصور شتّى ؛ فمرة يكون صراعاً سياسياً ، واخرى اجتماعياً ، وثالثة عسكرياً ، ولكن ابرز صور هذا الصراع هو الصراع الثقافي ، ذلك لان الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع تحديد وجهة حياته المتمثلة في الثقافة ، فثقافته هي التي تحدد كل مفردات حياته ، ولا فرق في ذلك بين انسان واخر مهما كانت الفروق بينهما .
الصراع الثقافي هو الصراع الاول :
ولذلك فان الصراع الثقافي يبقى هو الصراع الاول ، ولأهمية الثقافة لابد ان يكون الرجال الذين يحملونها ويرفعون مشعلها ملتزمين بها ، صابرين على الاذى الذي قد يلحقهم بسببها . فاذا كان حامل هذه الثقافة رجلا جبانا ضعيف الارادة فمن الطبيعي ان يبيعها للاخرين بثمن بخس ، وفي هذه الحالة سوف تغرق الجماهير في بحر الظلام ، وهذا يعني ان الفسـاد سيغمرهم ، والانحراف يهيمن عليهم ، وتخيم عليهم الضلالات ، ويكون الكفر والنفاق ديدنهم .
قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " من خير خلق اللـه بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى قال العلماء اذا صلحوا قيل ومن شر خلق اللـه بعد ابليس وفرعون ونمرود وبعد .. - الى ان قال - العلماء اذا فسدوا المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقائق ... " (1) ، وفي الحقيقة فان الامام علي ( عليه السلام ) قد حدّد داء الامة ودواءها .
وفي حديث اخر يحدد ( صلى اللـه عليه واله ) سعادة الامة او شقاءها بصلاح او فساد طائفتين هما العلماء والامراء ، حيث قال (صلى اللـه عليه وآله ) صنفان من أمتي إذا صلحا اصلحت امتي ، واذا فسدا فسدت أمتي ، قيل : يا رسول اللـه ومن هما ؟ قال : الفقهاء والأمراء " (2) ، والملاحظ ان النبي ( صلى اللـه عليه واله ) قد بدأ بالعلماء ، لان الامير قد يكون قويا مقتدرا ولكنه لا يطالب بالوعي والعلم والثقافة ، والدعوة الى اللـه ، وحتى لو كان الامير عالما فانه لا يستطيع ان يطبق العدالة في مجتمع فاسد متخلف ؛ فالمجتمع يجب ان يكون صالحــاً او على الاقل يحمل بذور الصلاح ، والذي يصلح هذا المجتمع هو العالم ، فاذا اصبح العالم هو الداء فأين نجد الدواء اذن ؟
العالم هو حامل راية الثقافة :
فالعالم هو الذي يجهز الناس بسلاح الثقافة ، وهو الذي يمنحهم الثقة بانفسهم لكي ينهضوا للمطالبة بحقوقهم من خلال نشر الثقافة الرسالية بالطريقة التي يرتئيها ، والذي نحتاج اليه في عملنا الرسالي هذا هو الارادة والصبر والثبات .
والعلماء هم الذين يمثلون القيادات التي يجب ان نعمل ونتحرك تحت لوائها ، ومع هذه القيادات سوف نحشر يوم القيامة : «يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ اُنَاسٍ بإِمَامِهِمْ فَمَنْ اُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَاُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » ( الاسراء / 71 ) ، فالله - سبحانه - سوف يثيبنا على اعمـالنا الصالحة مهما صغرت وبدت تافهة كـ (الفتيل ) الذي هو الخيــط الدقيـق الموجود داخل نواة التمرة والذي يضرب به المثل في الصغر ، فاللـه - تعالى - يسجل اعمالنا في كتاب لا يضل ولاينسى ، وهو في نفس الوقت يعلم خائنة الاعين ، وما تخفي الصدور ..
وهكـــذا فان من يحمل ثقافة النور يجب ان يكون في مستواها ،
استقامة وصبراً وتحدياً .. حتى يحمل هذا النور الى من يحتاج اليه ، وإلاّ فانه سيتخبط في الظلام ، وسيدخل معه الناس في هذا الظلام .
من مظاهر الصراع الثقافي :