وعلينا ان ننتبــه ان المقصود هنا هــو ( الحوادث الواقعة ) لا المسائل الثابتة ، فلننظر - مثلا - الى هذه الحضارة الحديثة ، ولنر كم فيها من تغيرات وافكار وقضايا ، من خلال التعرف على اخبارها وحوادثها اولا بأول ، فنحن في هذا العصر لانستطيع الاعتماد على الافكار والاحاديث الثابتـــة ، فلابد من ان يكون هناك من يغير ، وهذا الذي يغير هــو الفقيه ، لانه يعرف ماالذي يجب ان يتغير ، وما الذي لا يحتاج الى التغيـير . ثقافة اللب لا القشور : وللأسف فان البعض يعتقد ان الغربيين قد غيروا بلداننا نحو الافضل ، في حين انهم لم يكونوا يهتمون الا بمصالحهم ، وبعلمهم المادي ، ولقد اخذنا منهم مجموعة قشور ، ذهبنا الى اوربا فرأينا الاوروبيين يلبسون القبعة بدلا مـن ( القلنسوة ) و ( العمامة ) اللتين نرتديهما ، فغيّرنا اغطية رؤوسنا الى قبعات ، وهكذا لم نغيّر اللب وانما غيّرنا القشور فحسب . من كل ذلك نستنتج ان الفقيه هو الذي يجب ان يتولى مهمة التغيير والتطوير ، واذا ما لم يقم فقهاؤنا بهذه المسؤولية فسيعيش الناس ازمة حقيقية تتمثل في انهم سيبقون في حيرة من أمرهم ، فالفقيه يجب ان يطلع الناس على الرأي والموقف الصائبين في مختلف المسائل الحيوية التي تعيشها الامة . ندعـو اللـه - تعالى - ان يوفقنا لان نستوحي من الذكر الحكيم ثقافتنا ، ونلــوّن ببصائر القرآن حياتنا ، ونجعله طريقنا ومنهجنا والضـوء الذي ينير دربنا ، انه ولي التوفيق .
ثقافة القوة والاقتدار
ترى كيف نجعل من الارهاب الذي يسيطر اليوم على البلدان الاسلامية مدرسة لتخريج جيل من الابطال الذين يتحدون العقبات الكأداء ؟ ، وكيف نجعل منه مصنعا لرجال التأريخ الذين يبنون الحضارة ويثرونها في اقطار الارض ؟ فمن المفروض ان الارهاب الجاهلي كلما ازداد بطشا وعنفا يجب علينا بدورنا ان نزداد ايمانا وقدرة على ان نتحداه ونكون اقوى منه . فالمطلوب - اذن - ان يتحول الارهاب الجاثم على صدر شعوبنا الاسلامية الى مدرسة و معراج لتزكية نفوسهــا ، وبلورة مفاهيمها ، وشحذ عزائمها ، لكي لا تبتلى بمثل هذا الارهاب مرة اخرى . الثقافة مصنع شخصية الانسان : ان الانسان انمـا ينطلق في حياته من قاعدة الثقافة التي صنعت شخصيته ، لان الثقافة تمثل القوالب التي تتشكل فيها شخصية الانسان ، وتحول الحوادث والمتغيرات التي يمر بها الى مكونات تتفاعل تلك الشخصية معها ، والثقافة ان كانت حيّة ونابضة بالحيوية والنشاط . بامكانها ان تحول كل منعطف تأريخي خطير بل كل محنة وشدة الى معراج وسلم لكمال الانسان . اما اذا كانت الثقافة ميتة وجامدة فانها سوف لا تجدينا نفعا في المحن والشدائد ، ولكي يكون موقف الانسان تجاه الحوادث الصعبة التي يمر بها موقفاً ايجابياً ، فيصنع من الخسارة مكسباً ، ومن الهزيمة انتصاراً ، فلابد له اولا من ان يغير رؤيته للحياة ، وبالتالي يغير ذلك المصنع الخفي الكامن في نفسه الذي يستلم مواد الافكار والثقافة ليحولها الى جسم حي نابض بالحركة والنشاط . الانسان المؤمن لا تزعزعه صعوبات الحياة : ان المؤمن المزود برؤية سماوية ، وبصيرة الهية ، وايمان بقدرة اللـه ، وبرحمته الواسعة لا يتزعزع ولا يزداد وهو يواجه صعوبات الحياة الا صلابة وايمانا وثقة باقتراب رحمة اللـه ، كما أشار الى ذلك النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) في قوله : " عند اشتداد الكرب تعرضــوا لرحمـة اللـه " ، وكما صرح بذلك الخالق - تعالــى - في محكم قولـــه : « حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُــوا جَآءَهُــمْ نَصْرُنَـا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَــوْمِ الْمُـجْرِمِيــنَ » ( يوسف / 110 ) . فالمؤمن ينتظر رحمة اللـه ورَوحه ، ويكون ذلك بأجلى صورة عند ما تشتد الازمة ، وعندما تزداد الكربة ظلاما ، حينها لا يمكن ان يقهر هذا المؤمن ، لان المؤمن اقوى من الحديد واكثر بأسا من الجبل ؛ فالحديد يذوب بالنار ، والجبل ينال منه بالمعول ، ولكن قلب المؤمن لا ينال منه شيء ، ذلك لان هذا الانسان المؤمن يوقن ان المهيمن على هذا الكون هو ربه ، فبالرغم من عربدة الطغاة ، وصيحات الجاهليين ، وارهاب المفسدين والمستكبرين فان القدرة تبقى بيد اللـه ، فليس من المعقول ان يتــرك - تعالى - عباده عبثا ، فيمارس الطغاة الظلم والقهر ؛ وان يفعلوا ما يشاؤون ، ثم لا ينصر المؤمنين ، ويجعل الدولة لهم . ثقافة المؤمن ثقافة الأمل : فشخصية الانسان المؤمن الثقافيـة قد مزجت مزجاً بالأمل باللـه - تعالى - وبالتوكـل المطلق عليه ، فكيـف يمكن ان تنهار هذه الشخصية ؟ ، ولان المؤمن يعيش الأمل ، فانه يفتش دائما لكي يجد الطرق الكفيلة بالخروج من الازمات الصعبة بالرغم من اشتدادها ، فليس من الصحيح ان نقول ان اللـه - تعالى - ينصر المؤمنين عبثا عند اشتداد الكرب ، وتفاقم الازمات ، ومن دون سعي من قبلهم ، والصحيح ان نقول ان على المؤمنين ان يكتشفوا وسائل جديدة ليتغلبوا بذلك على المشاكل عند اشتدادها ، وعندما تخيم على العالم الاسلامي موجة من الارهاب الجاهلي . ان جميع المعادلات الكومبيوترية التي يعبدها الغرب تقرر ان الاسلاميين قد انتهوا ، اوهم في طريقهم الى النهاية ، ولكن جيلاً من ابطال الثورة الناشئين قد ترعرع الان في جميع انحاء العالم الاسلامي وخصوصاً في العراق حيث انبعث هذا الجيل من تحت ركام الاجساد المبعثرة على تربته التي دنسها البعثيون المجرمون ، فانفلق بذلك من تربة خضبتها دماء الشهداء ، وهذا الجيل هو جيل الثورة الذي سيكتسح النظام البعثي ، ويكتسح معه كل الاقدام الاستعمارية في العراق ، وسوف يقر هذا الجيل اعيننا جميعا ان شاء اللـه . فبالرغم من كل ما فعلوا ، وبالرغم من انهم أباحوا كل المقدسات في العراق ، وعبئوا اقتصاده وموارده وجيشه وزجوا به في معارك خاسرة ، وبالرغم من ان صداما فتح ابواب العراق على مصراعيها للعمالة الاجنبية ليبقى عمالنا في العراق بلا عمل لفترة طويلة ، وبالرغم من انه قد اباد قرى كاملة في شمال العراق ، وحاول ان يمد بين الشمال والجنوب حدودا من الدم والارهاب ، بالرغم من كل ذلك فان هذا الجيل الجديد قد ظهر وقد استوعب ما حدث ، بل انه ولد من صلب هذه المأساة لكي يكون علاجا لها ، وهذا الجيل هو الذي يمثل الانتصار الحقيقي لا في العراق فحسب وانما في العالم الاسلامي كله . ان على الجاهليين في العالم ان يرحلوا لان ساعة الترحيل ستكون اصعب واشد وطأة وألما وخيبة لهم . والسؤال المطروح هنا هو : كيف تخرج جيل الثورة من واقع المأساة في العراق بل وفي الوطن الاسلامي كله ، وكيف تخرج من مدرسة الارهاب الدموي رواد الثورة ومعلموها ، ولماذا ؟ ، لا شك لان الارضية كانت طيبة استوحت من القرآن آمالها ومن السنة اهدافها ورؤاها . يقولون ان النظام الاسلامي في ايران يتعامل مع اسرائيل ، نعم نحن نتعامل مع اسرائيل ولكن بمنطق رفض مبادراتكم الاستسلامية ، وبمنطـق القوة والاسلام ، فالحدود الشمالية لاسرائيل المتاخمة لجنـوب لبنان تنبت الان بالمقاتلين الابطال الذين لا يعرفون المهادنـة والمساومة ، ولا يؤمنون بالسياسات المتخاذلة والعمالات والركوع على ابواب الرجعيين ، ان تعاملنا مع اسرائيل يتمثل في اننا نسعى بكل امكانياتنا لاسقاط حكم صدام العميل ، واقامة حكم اسلامي في العراق يتعاون مع نظيره في ايران لمواجهة اسرائيل ودحرهـا . منطق الاقتدار والقوة : هذا هو تعاملنا ، وهو تعامل الأبطال ، وان ضمير شعبنا لحيّ ، لان هذا الضمير يستمد حياته من القرآن ، فهذا الاعلام المضلل ، وتلك الاخبار الكاذبة انما تحمل بطلانها في نفسها ، فحينما يكتب خبر - وان كان صادقا - في مجلة من مجلات انظمة الفساد ، وبريشة غمست في دماء المستضعفين ، وبأموال اقتطعت من لحوم المستضعفين فان المسلمين سيكذبونه جميعا . فلقد ظل المسلمون طوال اربعة عشر قرنا يتزودون من القرآن القوة امام كل الغزوات ، حتى انهم استطاعوا الصمود في وجه الطوفان التتري المظلم ونشروا رسالتهم من جديد ، لانهم احياء بالقرآن ، ومن يمتلك القرآن لا تضلله دعايات السوء . ان ضمير الامة ممزوج بروح القرآن ، ولا يمكن ان يسمح للاعلام المضلل ان يغير الواقع ، ولو كان بمستطاع المال والقوة ان يسلبا من المؤمن عقله وفكره لبقي نمرود وفرعون ، ولبقي امثالهم من الطغاة عبر التأريخ ، ولكنهم سقطوا لان وعي الانسان اقوى من تضليل المضللين .
المسلمون وثقافة الحياة
من المعلوم ان القرآن الكريم يزود الانسان بنور يستطيع ان يمشي به في ظلمات الارض ، وان فضله على كلام البشر كفضل اللـه - جل وعلا - على خلقه ، فهو قادر على ان يمنح الانسان اكثر من حضارة ومدنية . ومع ذلك فاننا ما نزال نعيش الجاهلية المغلفة بظاهر من الدين ، ونحاول ان نحيط التخلف بظاهر من التقدم متصورين ان الهزيمة التي منينا بها هي فتح مبين ! ان من العجيب ان تعيش أمة بنيت على اساس القرآن ، واستلهمت قيمها من الوحي في ظل التخلف والتبعية ، والذل والصغار ، وفي هذا المجال علينا ان نبحث باصرار عن حل لهذا التناقض ، واجابة لهذا السؤال المهم الخطير وهو : لماذا مايزال المسلمون متخلفين وبين ايديهم كتاب اللـه - عز وجل - الذي يضمن لنا الحضارة السامية التي تنطلق من الارض وتمتد الى الجنة ؟ في الآيات القرآنية نفسها اجابة صريحة على هذا التساؤل ، ذلك لان القـرآن الكريم هو كتاب عظيم ولكن لمن يعرف قدره ، وذكر لمــن يتذكر ، وعلم لمن يعقل ، وهدى لمن يتقي ، ونور لمن يوقـن .. فلا يكفي ان يكون بيننا هذا الكتاب دون ان نكون في مستوى تقبل آياته . فنحن نعلم ان الانسان عندما يريد الانتفاع من شيء ما فان هناك شرطين لهذا الانتفاع هما : ان يكون هذا الشيء نافعا ، وان يكون الانسان نفسه قادرا على الانتفاع منه . ان الشمس منيرة ولكن لمن يمتلك عينين بصيرتين ، اما الانسان الاعمى فان النور الساطع وظلام الليل سواء بالنسبة اليه والانسان الاصم لا يستطيع ان يفرق بين عواء الكلب ، وزغردة البلابل .. ومشكلتنا نحن مع القرآن الكريم هي اننا لسنا في مستوى الاستفادة منه ، فنحن عندما نتلو هذا الكتاب العظيم فاننا لانستطيع ان نستلهم منه ذلك الوعي ، وتلك البصيرة والرؤية التي كان اصحاب نبينا الاعظـم (صلى اللـه عليه وآله ) يستوحونها منه ، ذلك لان هناك قوالب فكرية ضيقة ماتزال تعشش في اذهاننا ، وعندما نقرأ القرآن الكريم فاننا نبادر مباشرة الى صب آياته في تلك القوالب . فكر وتدبر : ولـذلك فـان القرآن يطلب منا دوماً ان نتفكر ، ونتدبـر ، وننظر ، ونمشي في آفاق الارض ، وبالتالي فانه يريد منا ان نوسع من قدرتنا على الاستيعاب من خلال التدبر والتفكر . ولذلك فان التفكر يعد من أصعب الأمور على الانسان ، فهو مستعد لان يشغل نفسه باعمال عبثية كثيرة يقضي خلالها الساعات الطوال دون ان يكلف نفسه عناء التفكر ولو لساعة واحدة . ان التفكر السليم هو ان يمتلك الانسان القدرة على ان يميز الافكار الحقة والباطلة ، وان يطبق النوع الاول من الافكار على واقعه ، ويصوغ لنفسه منها برنامجـا للعمل ، ولذلك يقول الحديث الشريف : " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنــة " (1) ؛ اي ان عمر الانسان كله يقع في كفة ، وتفكره لساعة واحدة يقع في كفة اخرى . سلم الاولويات في الحياة : ان المشكلة الرئيسية التي نعاني منها هي اننا كثيرا ما نضيع اوقاتنا فـي المسائـل الثانوية ، في حين ان سلم الاولويات يعد قضية اساسية فـي الحياة . فأي انسان عاقل يدرك فطريا ان هناك اولويات في حياته ، فهو يدرك - مثلا - انه يحب ان يكون موجوداً في البدء ، ثم ان يكون سليم الجسم ، وقادراً للحصول على الطعام والشراب والملابـس والمكان .... ولكن هناك قسماً من الناس يضيعون - للأسف الشديد - هذا التسلسل في حياتهم . ونحن المسلمون قد ضيعنا سلم الاولويات هذا ، فلم نعد نمتلك ثقافة الحياة ، في حين ان بعض الخبراء في هذا المجال يقررون ان هذه الثقافة تمثل علم العلوم ؛ اي العلم الذي ترتبط به سائر العلوم ، لانه هو الذي يبين لنا منهج حياتنا ، ومسيرتنا في هذه الدنيا ، ومن اين جئنا والى اين نسير ، وما الذي ينتظرنا من الحوادث ، وما ينبغي ان نتزود به في هذه الدنيا .. حاجتنا الى ثقافة الحياة : اننــا - للأسف - نقرأ القرآن دون ان نعرف كيف نتفكر فيه ، وكيـف نطبــق تعاليمـه على انفسنا ، وكيف نعي آيـاته ، وهــذه هــي مشكلـة رئيسية من المشاكل التـي نعانـي منها ، في حين اننا - كمسلمين - بحاجة الى ثقافة الحياة ، والى ان نفهم الحقائق الكبرى ، وطريقة التعامل مع ظواهر الحياة ، ومع انفسنا ، وطاقاتنا وطاقات الآخرين . ان علينا ان نسأل انفسنا في هذا المجال : هل استطعنا ان نستوعب ثقافــة الحيـاة ؟ اننا عندما نراجع حياتنا ، ونتأمل في التربية التي تلقيناها ، والظروف المختلفة التي احاطت بنا نكتشف ان حياتنا كانت في القسم الاغلب منها سلسلة متصلة من الاحباطات سواء في وسط الاسرة ، ام المدرسة ، ام المجتمع بصورة عامة . فالآخرون كثيراً ما كانوا يتعاملون معنا باسلوب عنيف قاس ، وهكذا الحال بالنسبة الى الحكومات فانها تتعامل مع شعوبها بالارهاب والتهديد ، الى درجة ان الواحد منا من النادر ان يسمع من الآخرين كلمة تشجيع وحث على الأمل والتفاؤل كأن يقال له : انك خلقت لتكون خليفة اللـه - تعالى - في ارضه ، ولتكون من اهل الجنة ، وانك كريم عند الخالق .. فحاول ان تستغل عمرك ، وان لا تضيع اوقاتك .. بل ان الأمر على العكس من ذلك فبدلا من ان يتفوه المحيطون بنا كلمات التشجيع والتحريض والتكريم والاشارة ، اذا بهم يحشرون في آذاننا كلمات وعبارات كلها احباطات ، وافكار سلبية وتوجيهات متناقضـة . ان من الطبيعي ان لا يستطيع الواحد منا ان ينمو ، وان تتفتح مواهبه وابداعاته ، وتتفجر قدراته وطاقاته عندمــا لا يجد من يعلمه ثقافة التوكل على اللـه - تبارك وتعالى - ، وثقافة الثقة بالنفس ، والتطلع ، والطموح . ان هذه الثقافة هي التي تنقصنا، وانعدام هذه الثقافة هو الذي يجعل الانسان المسلم متراجعاً ، ومنهزماً من الناحية النفسية ، ومتردداً ، ومعانياً في شخصيته من ألف عقدة وعقدة كعقدة الشعور بالضعة ، والتشاؤم ، والجبن ، والانهزامية ، وسوء الظن بالآخرين .. ومن المؤكد ان هذه العقد ظهرت بسبب سوء التربية ، وعدم امتلاك ثقافة الحياة ، فكل واحد منا ما يزال يشعـر بمرارة الاهانات التي وجهت الى شخصيته منذ صغره . في حين ان الاسلام يأمر بتكريم شخصية الانسان ، وعدم توجيه الاهانة اليها حتى وان كان طفلاً صغيراً . من هنا ينبغي ان نقوم بوضع برنامج لاصلاح انفسنا ، لان الانسان على نفسه بصيرة ، واللـه - سبحانه وتعالى - قد منحه القدرة على ان يميز بين الخطأ والصواب ، ويكتشف الطريق الصحيح . وبالطبـع فاني لا اطلب من الانسان ان يصلح نفسه خلال فترة قصيرة ، ذلك لان كل صفة سلبية تكمن وراءها مجموعة من العوامل التاريخية المتجذرة في نفس الانسان ، ولكني اقصد ان يعمد الى تحديد عيوبه ، وصفاته السلبية لكي يستطيع على ضوء ذلك ان يضع برنامجاً لاصلاح نفسه . فمن المفروض به ان يجاهد ويكافح من أجل اقتلاع الصفات السلبية من نفسه ، لان هذه الصفات سوف تنتهي به الى عذاب أليم في الدنيا والآخرة . ومن ضمن الاساليب التي يستطيع الانسان من خلالها ان يبادر الى اصلاح نفسه تذكر يوم القيامة واهواله ، والاستعاذة باللـه - تبارك وتعالى - من نار جهنم ، وتذكر الموت .. وان الانسان لا يعلم متى يحل اجله فيصبح رهين الجنادل والتراب ، ويتعرض في القبر للعذاب الاليم بسبب سوء اعماله ، ولنفترض في هذا المجال - وهو افتراض صحيح - ان الانسان قد اصيب بما يشبه ألم الضرس في قبره فماذا عساه ان يفعل في هذه الحالة ؟ ان كان يعيش في الدنيا فان بامكانه ان يقضي على هذا الألم من خلال مراجعة الطبيب ، او الذهاب الى الصيدلية ليتناول دواء مسكنا ، ولكن ماذا سيفعل في القبر ؟ ان هذا الألم سيظل يعاني منه بالتأكيد الى يوم القيامة الذي لا يدري كم من السنوات سيستغرق ، فان كان الانسان لا يستطيع ان يتحمل هذا الألم البسيط فكيف يستطيع ان يتحمل عذاب نار جهنم ؟! فلنستجر باللـه - تقدست اسماؤه - من عذاب النار ، ولنحاول ان نبرمج اوقاتنا من اجل القضاء على الصفات السلبية آخذين بنظر الاعتبار ان من الواجب علينا اولا ان نحدد ونكتشف تلك الصفات مثل الحسد ، و الحقد ، و سوء الظن ، و الروح السلبية المتشائمة ، و الكفران بالنعم ، وعدم الرضا بما يقسمه الخالق - سبحانه - ، في حين ان على الانسان ان يقنع ويرضى بما يقدره اللـه له . ففي الحديث عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقــول : " من رضي مـن اللـه باليسير من الرزق رضي اللـه عنه بالقليل من العمل " (1) . فاذا أردت ان ييسر اللـه - جلّ جلاله - لك أمورك ، فعليك أنت بدورك ان ترضى باليسير منه بأن تكون عبداً شكوراً دائماً ، وترضى بما يعطيك ربك لكي يرضى هو ايضًا عنك دائماً . النظرة الايجابية : وفي هذا المجال علينا ان ننظر الى الامور نظرة ايجابية ، فمثلما نرى السلبيات فان علينا ايضا ان نرى الايجابيات ، ونرى نعم اللـه - تبارك وتعالى - . فمادمنا نعيش في هذه الدنيا فمن الواجب علينا ان نشكر اللـه في اية حال حتى في حالة نزول المصائب والمحن والابتلاءات علينا، لان الدنيا عبارة عن سلسلة متصلة من الاختبارات والامتحانـات . وبناء على ذلك فان من المتعين علينا في البدء وقبل ان نبدأ بصياغة برامجنا الاصلاحية لانفسنا ان نحدد الصفات السلبية ثم نصوغ بعد ذلك وبالاستناد الى هذا التحديد برنامجنا الاصلاحي لكي نستطيع بذلك ان نقضي على جميع الصفات السلبية المذمومة التي تعاني منها انفسنا ، لان الانسان هو المسؤول الأول والأخير عن تزكية نفسه ، وتطهيرها من شوائب الدنيا ، وادرانها ، وهو وحده الذي يستطيع ان يفعل ذلك ؛ فاما أن ينجح في تزكية نفسه فيفوز ، واما ان يخفق في ذلك فيكون مصيره الخسران والخيبة كما يقول - عز من قائل - : «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا » ( الشمس / 9 - 10)
منهجية التفكير السليم
التفكير المتعمق الواعي يفتح الابواب الجديدة على مصراعيها امام الانســان ، ليكتشف في حياته آفاقا واسعة لم يكن يحلم بها ابداً ، وليتمتع بمتع لا تنتهي في حياته الدنيا ، واخرى سينعم بها في حياته الاخـرى . و الناس في هذا المجال على نمطين ؛ نمط يفكر ، ونمط يقلد . و هناك نمط آخر يمزج بين هذين النمطين من التفكيـر ، فهــو يفكر في جوانب ، و يقلـد فــي جوانب أخرى ، ومع ذلك فاننا نلحق هذا النوع من الناس بالمقلديـن ، ونعتبرهم كالذيـن لا يكلفون انفسهم عنـاء التفكيـر والابـداع . ومن المعلوم ان الفرق كبير بين هذين النوعين من البشر ؛ فالنوع الأول يفكر ويبدع ويخترع ويرى الاشياء والحقائق بعينه ، والنوع الثاني يقلد ويتبع وينتظر الاخرين لكي يوجهوه ويقودوه وكأنه اعمى لا يهتدي الى سبيل من تلقاء نفسه . وهكذا فاننا نرى ان الفرق كبير الى درجة اننا لانستطيع ان نقول ان النوع الاول عالم و النوع الثاني جاهل ، وانما لأجل ان نصور الفرق الشاســع بينهما علينا ان نقول ان الفرق بينهما كالفرق بين الحياة و الموت . فالنوع الاول حي و الثاني ميت ، وقيمة الحياة هي قيمة الاكتشاف و العلم والابداع والتفكير . فالذي لايفكر لايمكـن ان يكتشف ويبدع ، و بالتالـي فانه سوف لايترك أي تأثيـر على الحياة . والان علينا ان نطرح على انفسنا الاسئلة المهمة التالية : كيف نفكر ، وماهي العقبات التي تعترض طريق التفكير ، وماهي الوسائـل والاساليب التي تساعد الانسان على تكامل التفكيــر ؟ وفيما يلي سنحاول الاجابة على هـذه الاسئلة الواحد بعد الآخـر : السبيل الى التفكير الصحيح : قبل كل شيء لابد ان نثق بأفكارنا ، وعلى سبيل المثال فان الطفل لايمكنه ان يفكر بشكل مستقل لانه ضعيف ومقهور ، وتابع لاسرته . وحتى لو استطاع التفكير ، وتوصل فكره الى نتيجة معينة فانه لايستطيع ان يفرض هذه النتيجة على مجتمعه الخاص في البيت، وفي الوسط الذي يعيش فيه ، لانه مغلوب على أمره . وكذلك الحال بالنسبة الى المجتمع المستعمر المحروم من وسائل الحرية والكرامة ، فانه لا يستطيع التفكير . فنحن لا نجد في التاريخ ان مجتمعاً مضطهداً مستعبداً استطاع ان يصل بفكره الى نتيجة ، وحتى لو افترضنا ان هذا المجتمع قد فكر وخطط وابدع ووضع البرامج وكانت برامجه هذه من افضل البرامج ، ولكن هل يستطيع ان يطبق هذه البرامج ؟ ان الانسـان لايفكـر إلاّ إذا عرف ان وراء تفكيره نتيجـة ، ومن هنا فان الثقة بالنفس وبالمستقبل ، والايمان بالحرية والكرامة ، والاستعداد للتضحية من اجلهما ، انما هي شروط مسبقة للتفكير . وفي اليوم الذي نكتشف فيه اننا واثقون من انفسنا ، ومن القدرات الهائلة التي وهبها اللـه - تعالى - لنا ، ومن اننا مستعدون للتضحية من اجل الفكرة التي نؤمن انها فكرة حقة ، فحينئذ سوف يكون بإمكاننا التفكير ، والوصول الى شواطئ الابداع والاكتشاف ، والفهم الصحيح للحياة، والتمتع الصحيح بها . ترى كيف نستطيع ان نخلق هذه الثقة ؟ فمن يقول اننا عقلاء ومفكرون وقادرون على الابداع ونحن الى الان عاجزون حتى عن صنع المصباح اليدوي ، والمسجل وغيرهما من الآلات البسيطة التي نستوردها من الخارج ، والسبب في ذلك هو - بالتأكيد - عدم قدرتنا على ممارسة التفكير . ان اوضاعنــا في هذا المجال مزرية ومتردية الى درجة اننا عندمــا نحصل على رخصة قيادة السيارة فكأنما حصلنا على شهادة الدكتوراه في علم الذرة ، في حين انها ليست إلا القدرة على استخدام الآلة التي اخترعها الآخرون ، والذين يحاولون جهد امكانهم تكريس حالة الجهل والتخلف والاتكالية فينا من خلال الاعلان عن صنع سيارات او آلات اخرى سهلة الاستعمال ؛ اي انها مصنوعة خصيصا للمجتمعات المتخلفة التي لا تعرف التفكير ! قدرتنا على التقدم : ومع ذلك فاننا بشر لانختلف مطلقاً عن اولئك البشر الذين استطاعوا ان يخترعوا ويبتكروا تلك الآلات الحديثة . فنحن نملك مـن المواهب والاستعدادات ما يمكننا من الوصول الى هذا المستوى ، ونحن لم نسقط في مستنقع الجهل والتخلف إلا عندما تركنا التفكير ، ووضعنا ادمغتنا في خانة الاهمال . وإذا ما حاولنا استغلال هذه القدرات والمواهب فاننا سنستطيع من الآن فصاعداً ان نغيّر المعادلة لصالحنا . ان علينا ان ندرك في هذا المجال ان اللـه - سبحانه وتعالـى - لم يخلق الناس طبقات ؛ طبقة الاوروبيين البيض التي تفكر وتخطط وتصنع وتقود ، وطبقة الملونين الذين عليهم ان يطبقوا ويتبعوا ويقلدوا ، وبالتالي ان يكونوا مستعبدين . فهو - عز وجل - خلق النــاس سواسية كاسنان المشــط كما يصرح بذلك الحديث الشريف ، وكما يقول - عز من قائـل - : «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللـه أَتْقَاكُمْ » ( الحجرات / 13 ) وكما يقول ايضاً الحديث الشريف : " كلكم من آدم وآدم من تراب " (1) . وعلى هذا فان الثقة بالنفس وبالعقل هي بداية مرحلة التفكير ، فعلى كل واحد منا ان يثق بنفسه وعقله ، ولنحاول ان نجرب هذه الثقة . وعندما يصل تفكيرنـا الى نتيجــة فعلينا ان نعرف ان تفكيرنا كان سليمـاً ، وحينئذ من الواجب علينا ان نكثف ونزيد من تفكيرنا لكي ندخل المراحل الجديدة الاخرى ، وتتفتح أمامنا الآفاق الابداعية الواسعـة . عقبات التفكير : ان العقبات التي تعترض طريق التفكير كثيرة ، ومن ابرزها ظاهرة قلة المطالعة ، والاطلاع على المعلومات والاخبار الجديدة والمطالعة قد بلغت في العصر الحديث درجة من الاهمية والضرورة بحيث اننا نستطيع ان نقول ان الذين لا يمارسونها في عصرنا الراهن عليهم ان لايعيشوا ، وان يحسبوا انفسهم في عداد الاموات . فعصرنا هذا هو عصر العلم والمعلومات ، والعلم لا يمكن ان يعرف إلا من خلال القراءة والمطالعة ، ومن الافضل للانسان الذي لا يطالع ان يموت ، او ان يبتعد عن المجتمع ليعيش لوحده في صحراء من الصحاري ، او غابة من الغابات . وعندما لا يقرأ الانسان فانه سيجهل كل شيء ، وللاسف فاننا نشتري الكتب بالاثمان المرتفعة ، ولكننا لانعمد الى مطالعتها ، بل نجعلها زينة وديكوراً لبيوتنا ومجالسنا ! وبناء على ذلك فان من المتعين علينا ان نقرأ ، وان تكون قراءتنا من النوع المكثف ، وقد يعترض البعض مدعيا انه يمارس القراءة ، ولكنه في الحقيقة لايقرأ ، أي انه لا يعطي القراءة حقها ، والدليل على ذلك قلـة ما قرأناه في حياتنا لحد الآن ، وحتى لو قرأنا العشرات من الكتب فان هذا العدد يعتبر ضئيلا بالقياس الى اهمية المطالعة ، وكثرة وغزارة ما يصدر من الكتب في عصرنا الراهن . فنحن علينا ان نقرأ المئات بل الآلاف من الكتب ، وهذه هي المطالعة الحقيقية . ان مجرد مطالعة بعض الصفحات في اليوم الواحد لا يكفي ، بل علينا ان نكثف من مطالعاتنا ، وفي نفس الوقت ينبغي علينا ان نقضي على آفة سرعة المطالعة بحيث لا ننتفع من الكتاب الذي نطالعه ، ونمر عليه مرور الكرام . الحوار سبيل تكامل التفكير : ان الحـوار هو السبيل الوحيد الى تكامل التفكير ، والحوار يمثل مفردة اساسية في حياتنا يجب ان نضحي بالكثير من المفردات الأخرى في سبيل تحقيقها ،والحوار يعني القدرة على ان نكتسب علوم الآخرين ومعلوماتهم وما توصلوا اليه لنضيفها الى علومنا ، ونصنع من خلال ذلك تركيبة علمية متكاملة ، وهذه القدرة هي من الامور الرئيسية التي يجب ان نكتسبها في حياتنا . ان البعض من الناس لهم آرائهم الخاصة ، وهم يتصلبون على هذه الآراء ، و يتشبثـون بها وكأنها منزلة من السماء ، وقد روي عن الشيخ ( عبد الكريم الحائري ) مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة انه كان يقول : ان الرجل كل الرجل هو الذي يتنازل عن رأيه عندما يراه مغلوطاً . وفي مقابل هؤلاء هناك اناس متميعون في مواقفهم وآرائهم الى درجة انهم يتنازلون عن مواقفهم وآرائهـم بمجرد ان يروا الآخرين يتنازلون عنها ، وفي هذا المجال يروي لنا التاريخ قصصاً طريفة من ضمنها ان حاكم نيسابور كان رجلاً ظالماً مستبداً ومتصلباً فــي آرائه ، وفي يوم من الايام قال لخادمه : ما رأيك لو نأكل اليوم باذنجاناً ؟ فقال له الخادم : انها أحسن اكلة في هذه الايام ، فالجو بارد ، كما ان هذه الايام هي موسم الباذنجان ... وهكذا استمر الخادم في تعداد مزايا الباذنجان . بعد ذلك غير الحاكم رأيه وقال : ما رأيك لو نأكل القرع ؟ فما كان من الخادم إلا ان قال : نعم الافضل ان نأكل القرع ، لان سعر الباذنجان مرتفع ، وموسمه ليس في هذه الايام ، كما ان طبخه يكلف كثيراً ... فتعجب الحاكم وقـال : عجيب أمـرك ، قبل قليل كنت تمدح الباذنجان ، والآن تذمه ؟ فأجاب الخادم : سيدي ، أنا خادم حاكم نيسابور ولست خادم الباذنجان ! ان البعض من الناس مثلهم كمثل هذا الرجل ، فهم يبادرون الى التنازل عن آرائهم بمجرد ان يصادفوا شخصا يقاوم هذه الآراء . استماع القول واتباع الاحسن : وبالطبع فاننا نرفض النوع الذي يتميع في آرائه ، كما لا نؤيد في نفس الوقت ذلك الذي يتعنت ويتصلب فيها . فهما ليسا انسانين مستقيمين ، بل ان الاستقامة تكمن في الطريق المعتدل ، والذي يتمثل في ان تستمع الى آراء الآخرين استماعا واعيا ؛ اي ان تنتبه الى آرائهم والى جميع العناصر المكونة لها ، ثم تمعن النظر كثيراً في آرائك لكي يتسنى لك فرز العناصر الخبيثة من العناصر الطيبة في رأيك وفي آراء الآخرين ، ثم تقوم بعد ذلك بعملية المزاوجة بين العناصر الطيبة البناءة من خلال تبسيط وتجزئة الافكار ، ونبذ الباطلة جانبا ، والأخذ بالصحيحة . والى هذا المعنى يشير قوله - عز وجل - : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ » ( الزمر / 18 ) فهو - تعالى - لا يوصـي بالاتباع مباشرة ، فهذا النوع من المواقف مرفــوض يدل على ان صاحبه لايملك الاستقلاليـة في الرأي ، ولا يتمتــع بالابداع فــي التفكـير ، كما انه - سبحانـه - لايأمر بالرفـض مباشــرة لانه نوع من التصلب والتحجر ، بل يقول : « فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ » ويعتبر الفيلسوف والعالم الغربي " ديكارت " مفجر الحضارة الحديثة ، وقد كان أهم ما جاء به متمثلا في منطقه الذي مايزال يدرّس الى الآن في جامعات اوروبا ، ومن خلال التفكير العميق في بنود منهجه المنطقي لا نلبث ان نكتشف ان اللـه - تعالى - قد ضمنها في الآية السابقة التي تؤكد على ان العلم الحقيقي المفيد انما يكتسب من خلال الانفتاح على افكـار وآراء الآخريــن ، و الأخذ بهــا ان كانت ايجابية وبنــاءة ؛ اي من خـلال فتـح الحوار البنّاء مع الآخرين ، وتبـادل وجهات النظر معهم . وبناء على ذلك فان المنفعة الأولى التي يكتسبها الانسان من الآخرين هي عقد الحوار معهم ، ومعرفة طريقة هذا الحوار ، ونحن سواء كنا طلاب علم أم منتميـن الى اية شريحة اجتماعية اخرى علينا ان نهتم بتنمية قدرة الحوار في انفسنا ، وان نطبق برنامج الحوار المتكامل بأن يطرح كل واحد منا فكرة معينة لنقوم بصقلها ومناقشتها لكي تتحول الى بند من بنود العمل الرسالي . وعلينــا في هذا المجال ان نحرص على ان تسـود حوارنا الايجابية ، والهدوء ، والتفاهم المتبادل ، لا ان نحوله الى جدل ، وتعنت في الآراء وتشبث بها ، فمثل هذا النوع من الحوار لايمكن ان يتمخض عن النتائج المرجوة منـه . وخلاصة القول فان التفكير من شأنه ان يفتح امامنا ابواباً وآفاقاً جديدة ، وان علينا ان نكتسب صفة التفكير من خلال : 1- الثقة بالتفكير . 2- المطالعة المستمرة والمتواصلة . 3- التكامل الفكري من خلال تنمية القدرة على الحوار .
الثقافة بين الأصالة والتطوير
العقل هو الميزة التي يتمتع بها الانسان ، فاذا احتجب العقل وانحرف عن مساره الصحيح فان الانسان سوف لايفقد ميزته هذه فحسب ، وانما سيهوي ايضا الى الدرك الاسفل ؛ والسر في ذلك يكمن في ان هذه الميزة التي وهبها اللـه - تعالى - للانسان جعلت في مقابل ميزات اخرى سلبت منه ، فالانسان لايستطيع الطيران كالعقاب ، وليس بامكانه الجري بسرعة كالغزال ، وهو لايمتلك جسداً كجسد الفيلة والحيتان .. ولكنه بدلا من كل ذلك يمتلك العقل ، وبهذا العقل يمكنه التغلب على جميع تلــك الأحياء ، بل وعلى ما هو اضخم واقـوى منها كالجبال الشامخة ، وأعماق المحيطات ، وأغوار الفضاء المترامية ... فالعقل - إذن - هو الذي يميز الانسان عن سائر الأحياء ، فاذا فقد هذا العقل فقد امتيازه عن الحيوانات ، وفقد إلى جانب ذلك خصائص وميزات أخرى ليصبح اضعف حتى من سائر الحيوانات ، ولذلك فان اللـه - تعالى - حينما يحدثنا عن أولئك الذين فقدوا العقل فانه لايكتفي بوصفهم انهم كالانعام ، وإنما يضيف الى ذلك بل أضل سبيلا . الثقافة أهم نتاجات العقل : وهنــا لابد ان نتوقف قليلا لنتحدث عن أهم إفراز ونتاج للعقل ألا وهو (الثقافة ) . فالثقافة تمثل الخطوط العريضة لعقل الانسان ، فهي الاستراتيجية الفكرية الواضحة لهذا العقل ، وعلى هذا الاساس فان الثقافة هي أهم وأبرز مفردات ومفاهيم العقل . ونحن كثيراً ما نتحدث عن العقل وكثيراً ما نبحث في مفردات جزئية مما يفرزه العقـل ، فنتحـدث عن سلوكنا ، وعن أخلاقنا ، وعن أحكام وقوانين نطبقها ، ومع ذلك فان الحديث عن الثقافة هو حديث ساذج وبسيط عادة في أجوائنا ، في حين ان الثقافة تمثل أرضية السياسة ، وهي قاعدة الأخلاق ، ومنطلق المنهج الفكري ، وهي بالتالي الأساس الذي تبنى عليه سلوكيات الانسان وقوانين الحياة . وقد اشـار القرآن الكريم الى ( الثقافة ) في سياق آياته معبراً عنها بـ " البصائر " ؛ اي الرؤى ، او مجموعة الافكار والتصورات والمفاهيم التي تمثل الارضية لنمو سائر الافكار ، والسلوكيات ، والقيم . نحن والثقافة : ومع ذلك فان الحديث عن الثقافة في اوساطنا لم يحظ بالاهمية التي يستحقها ، والسبب في ذلك انه حديـث صعـب متشعب نخشى اقتحامه ، لانه ذو مزالق كثيرة ، فنحن عادة لا نهتم بالمفردات الفكرية الصعبة لاننا نتحاشى الخوض فيها والتحـدث عنها ، ولعل اهم اسباب تخلف الامة الاسلامية هو انها لا تتحدث عن الثقافة ، ولا تطرحها في اجوائها طرحا موضوعيا ، ولذلك نجد امتنا الاسلامية متورطة في مجموعة ثقافات غير اصيلة ، او مجموعة افكار تقتبسها من الغرب او الشرق دون ان تعرف ماذا تعني هذه الافكار ، وما هي التأثيرات التي تتركها في حياتها . فنحن عندما نقرأ صحيفة اجنبية او كتابا او نستمع الى الاذاعات وعندما نجلس امام شاشة التلفزيون لنشاهد فلما ما ، لايخطر على بالنا ان منتج هذا الفلم ينطلق في صياغة فلمه من ثقافة معينة ، ولنأخذ - على سبيل المثال - افلام الكارتون التي يستغلها منتجوها لبث ثقافة ورؤى معينة ، فعندما يجلس ابنك امام شاشة التلفزيون ليشاهد هذه الافلام فانه سينجذب اليها ، وينشد نحوها من حيث لا يشعر ، وبذلك يتأثر برؤاها وثقافتها بشكل لا شعوري ، فمن خصائص الفنان او المخرج او كاتب السيناريو ان لا يدعك تفهم ما يريد ان يقولـه ، فهو يوحي اليك بأفكار معينة ، ويجعلك تؤمن بهذه الافكار دون ان تشعر . فلنسأل انفسنا ؛ ترى من اين جاءت الثقافة الغربية التي تأثر بها شبابنا الى حد اننا نرى ان الاوضاع قد انقلبت رأساً على عقب في بلادنا ، في حين اننا مشغولون بأفكار بعيدة عن واقعنا ؟_ ولايضاح ذلك لنضرب مثالا من واقع حي نعيشه ؛ نحن - مثلا - بصفتنا مسلمين ، ونمتلك تقاليد نحترم الكبير ، فعندما يأتي الكبير فان الباقين يفسحون له المجال ، ويحترمونه ، ويجلسونه في امكنتهم ، وحينما تريد مجموعة دخول باب ترى الصغير يقدم الكبير ، والجاهل يقدم العالم، واذا كانت هناك امرأة ضعيفة نرى المجتمع يسارع الى مساعدتها ، هذه هي ثقافتنا في جانب من جوانبها ، وقد استوحينا هذه الثقافة من تقاليدنا وتأريخنا وتراثنا . وإزاء ذلك نرى هناك ( ثقافات ) غير اصيلة اقتبسناها من الافلام والاعلام الغربي من مثل التسابق في الشوارع ، والسياقة بسرعة جنونيــة ، وكأن شوارعنا حلبة للسباق ونفس الكلام يمكــن ان يقـال حول ظاهــرة الاهتمام بتوافه الامور من مثل ذلك الرجــل الذي جاء الى الامام الصادق ( عليه السلام ) ليسأله عن طول الحور العين وعرضهن _فنـهاه الامـام عن الخـوض في مثل هذه الامور ، وأمــره بان يكتفي بالالتــزام بالصـلاة لكي يحصل على الحور العيــن . نتيجة الثقافة هي المهمة : فلنبحث عن النتيجة ، ولندع مثل هذه النقاشات ، التي هي مجموعة قضايا شغلنا انفسنا بها دون جدوى ، في حين اننا لم نهتم بالقضايا الاساسية ، ولم نعر اهمية الى الثقافة الحقيقية التي يشتمل عليها القرآن الكريم الذي لا يمكننا الاستغناء عنه في اي مرحلة من مراحل حياتنــا ، فهو يحتوي على الافكار الاصيلة والضرورية لحياتنا ، والروايات تولت مهمة تفسيــر القـرآن ، وايضاحـه ، وبيان تفاصيل الحياة من خلاله ، وهذا - اي الروايات - هو الجزء الثاني من الثقافة الاسلامية ، كما ان التاريخ الاسلامي الاول ، وسيرة المعصومـين ( عليهم السلام ) و الصالحين يوضحان هما الاخران القرآن الكريم ، فمن الاولى بنا ان نستهدي بها . وهذا هو الجزء الثالث من ثقافتنا الاسلامية ، واما الجزء الرابع فيتمثل في ضرورات العصر ، فهناك ثقافة غير مرتبطة بالوحي بل بالعقل ، لانه الحجة الالهية على الناس كما اشار الى ذلك الائمة ( عليهم السلام ) في احاديثهم من مثل قولهم : " ان لله على الناس حجتين : حجــة ظاهــرة وحجــة باطنــة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام ) وأما الباطنة فالعقول " (1) و " العقـل نور يقذفه اللـه في قلب من يشاء ". اذن فهناك ثقافة مستوحاة مــن العقل تؤكد مصلحة الانسان . فاللـه - تعالى - يطلب منك ان لا تقوم بالعمل الذي يسبب لك ضررا ، وعلى سبيل المثال هل يجوز للمصاب بالكوليرا ان يخالط النــاس ؟ ، العقل يجيبنا بالنفي ، وهل يجوز لنا مخالفة قوانين المرور ؟ طبعاً لا ، لان عقولنا تحكم بان النظام ضروري للحياة . لابد من ان نطوّر ثقافتنا : وعلى هذا الاساس فان الحياة تتطور ، ولذلك لابد ان نطور ثقافتنا ايضا حسب تطور هذه الحياة ، اما بالنسبة الى الثقافة المرتبطة بالقران فانها ثابتة من مثل العـدالة الاجتماعية ، والحرية ، والملكية وما الى ذلك كما يشير الى ذلك الامام الباقر ( عليه السلام ) قال : قال جدي رسول اللـه ( صلى اللـه عليه واله ) : " حلالي حلال الى يوم القيامة ، وحرامي حرام الى يوم القيامة " (1) . وإزاء ذلك هناك امور تتطور مع الظروف ، وهي بحاجة الى من يستنبطها ويحددها ، وانا - كمسلم - يجب ان ابحث عنها لاعرف كيف يجب ان اعيش في هذا العصر ، وللاسف فان من الامور التي لا نهتم بها عادة عدم معرفتنا لواجبنا في هذا العصر ، فلا نعرف الى اين وصلت الدنيــا ، الكبار يجتمعــون ، الرئيس الاميريكي يجتمع - مثلاً - مع رؤساء البلدان الغربية في واشنطن ولكننا لا نهتم بمعرفة ماذا يخططون ، في حين انهم يحسبون حساب بلداننا الاسلامية ويخططون لها حسب مصالحهم ، اما نحن فلا نهتم بالسياسة ، ولا نعير اهمية للعالم . ان الثقافة العصرية ، الثقافة التي ترسم لنا حياتنا وما ينبغي ان نفعل هي قضية اساسيـة ، اما بقية القضايا فهي ثانوية لا تستحق ان نعيرها اهمية كبيرة ، فعلينا - اذن - ان نترك الخوض في الامور الثانوية ، ولنواجه الزحف القادم الينا من الشرق والغرب ؛ فبلادنا محطمة ، واوضاعنا متخلفة ، وان مثل الانسان الذي يشغل نفسه في توافه الامور وينشغل عن قضاياه الاساسية كمثل الشخص الذي تلتهم النيران بيته ثم يأتيه شخص آخر ليحدثه عن قصة مجنون ليلى ، بدلا من ان يبادر الى اطفاء النار . مثل هذا الشخص يشارك - في الحقيقة - في حرق البيت لانه سيلهيك عن مشكلتك الحقيقية ، وهناك اناس في المجتمع يلهوننا ، ويجعلوننا نعيش بعيدين عن اوضاعنا ، وعن قضايانا الرئيسية ، ومشاكلنا اليومية ، عن اقتصادنا وسياستنا واخلاقنا وثقافتنا وثقافة ابنائنا ، ليجعلونا نصُب اهتمامنا فـي قضية من القضايا الثانويـة ، وفي موضوعات بعيدة عن وقائع الحياة اليومية وعن حاجاتها . وكما حدثت هذه الحالة في بلادنا فان هناك بلدانا اخرى عاشت مثل هذه الظروف ولكنها خرجت منها ، واستطاعت ان تكتشف اخطاءها ، لتبرمج لحياتها من جديد ، اما نحن فبقينا على تخلفنا . ويبقى القرآن الكريم المصدر الرئيسي لتشريعنا ، وافكارنا ، وثقافتنا ، واخلاقنا ، وقيمنا ، وعلينا ان نستمد جميع مفردات ثقافتنا من القرآن ، فالمشاكل التي نعانــي منهـا منشأها ابتعادنا عن القرآن الذي يقــول عنه الخالق - تعالى - : « قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ » (الانعام / 104 ) ، فهذه الثقافة مستمدة من اللـه ، فلنتشبع بها ، ولنتمثلها في حياتنا ، ولنستهديها في مسيرتنا الحياتية .
الثقافة بين الثوابت والمتغيرات
من خلال نظرة بسيطة وخاطفة نجد ان أية حركة لابد ان تدور حول محور ثابت ، كما ان العلاقة بين الحركة والثبات والمتحرك والثابت علاقة اصيلــة ، وهذه العلاقة قائمة فيما يتصل بالثقافة والفكر ، والقيم والاخلاق ، والنظرية والتطبيق . فكل حركة ثقافية لها جانبان ؛ الجانب الثابت الذي هو بمثابة المحور ، والجانب المتحرك الذي يشبه الى حد بعيد الاطار الذي يدور حول هذا المحور . وعندما ننظر الى تاريخ الثقافات نجد ان الثوابت فيها تتواصل بين جيل وآخر ؛ وبين أمــة واخرى ، في حين ان المتغيرات هي التي تتطور وتتغيــر من جيل لآخر ، ومن منطقة لاخرى ، وبالتالي من عصر الى عصر آخر . والمشكلة الرئيسية التي تعاني منها بعض الامم عدم وجود حالة التوازن والتعادل بين الثوابت والمتغيرات ، وعلى سبيل المثال فان الأمم التي عارضت وناهضت الرسالات السماوية كانت كل مظاهر حياتهم تعتبر من الثوابت ، فلم يكونوا يؤمنون بالمتغيرات حتى في ملابسهم ، و طريقة كلامهم ، وعاداتهم في الحرب والسلم ، وعباداتهم ، وطقوسهم ... فكانت جميع هذه المظاهر تعد عندهم من المقدسات والثوابت التي لا تقبل التغيير ، ومثل هذه المجتمعات كانت مجتمعات متحجرة ، ولذلك فانها عندما واجهت التغيير والتطوير فانها انهارت ، لانها لم تكن قادرة على امتصاص الصدمة . وهكذا الحال بالنسبة الى أي مجتمع جاهلي آخر فان ثوابته اكثر من متغيراته ، ولذلك نجد ان مثل هذا المجتمع سرعان ما ينهار ويتحطم مع اول مواجهة مع الصعوبات . ان نفـس هذه الظاهــرة مــازالت سائدة في مجتمعاتنا ، ولتوضيح ذلك نضرب مثلاً من واقع التعليم الديني في مجتمعاتنا ؛ فالتعليم الديني لدينا كان هو السائد ، فقديما كان المسلمون يتعلمون القرآن ثم الفقه والتفسير والحديث ... وقد كان هذا هو مجمـل التعليم السائد في مجتمعاتنا ، في حين ان العالم قد تطور ، ودخلت التعليم حقول جديدة مثل حقل التربية والاجتماع وعلم النفس والطب والاقتصاد والسياسة ... ولكن الاجهزة التعليمية في بلداننا الاسلامية بقيت متحجرة . وعندمــا دخلت الثقافة الغربيــة بلادنا بكل معطياتهــا وتطوراتهــا شعرت اجهزتنا التعليمية انها لا تستطيع ان تواجه النظم المعقدة والواسعة ، ولذلك فانها انهارت لانها كانت متحجرة لاتمتلك من المرونة والقدرة على استيعاب التطور ما يمكنها من التكيف مع ذلك التطور الهائل الذي حــدث في العملية التعليمية ، بل والتفوق عليه من خلال منافسته وتحديه . وفي المقابل فاننا نجد مجتمعات اخرى نستطيع ان نصفها بانها مجتمعات ( متميعة ) ؛ اي ان متغيراتها اكثر من ثوابتها ، مثل بعض المجتمعات الاوروبية ، وبالتحديد المجتمع الاميريكي الذي يفتقر الى الثوابت الضرورية لان يكون المجتمع رصينا ومتينا على ضوئها . فهناك مجموعة متكاملة من القيم الثابتة لابد ان يقوم المجتمع على اساسها ، واذا ما تعرضت هذه القيم للتغير . والتطوير فلابد من ان يواجه المجتمع صدمة تنعكس في افرازات سلبية مثل الاباحية ، وتفكك العلاقات الاسرية . ان من الخطير جداً ان لا تكون للانسان مقاييس لمعرفة الثوابت وتمييزها عن المتغيرات ، وفي الحقيقة فان هذه الظاهرة هي أخطر حالة من الممكن ان يعيشها المسلمون ، ومن أهم وظائف المشروع الحضاري الديني لمجتمعاتنا في العصر الراهن فرز هذين النوعين من القيم ؛ اي القيم التي ينبغي ان تكون ثابتة ، والقيم التي ينبغي ان تكون متغيرة . النظرية الاسلامية : ان القيم الاسلامية تعتمد بدورهـا على هذه النظرية ؛ فالاسلام يقرر ان هناك قيمة ثابتة لا يمكن ان تتغيــر تتمثل في وجود الخالق - سبحانـه - الذي هو باق أبدي سرمــدي ، وان كل ما يتصل به - تعالى - هو ايضا ثابت ، وكل ما اتصل بالخلق فهو متغير . فكل شيء هالك إلا وجهه ، وكل شيء فان والذي يبقى ويخلد هو وجه ربنا ذو الجلال والاكرام . ان الطبيعة في حالة تغير مستمر ، ونظرية التغير والصيرورة في العالـم هي نظرية اسلامية اصيلة ؛ وعلى سبيل المثال فان القرآن الكريم يقرر ان كل شيء متغير حتى الجمادات . فالانسان يعتقد ان الجبـال بضخامتها وصخورها الهائلة ثابتة ، في حيــن ان القرآن يقول : « وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ » ( النمل / 88 ) ، وكأنه يريد ان يفهمنا ان نظرتنا الى الحياة ، والطبيعة ، والمجتمع ، والى اي حقل من حقول الحياة يجب ان تنبع من مبدأ التغير في الطبيعة .
النظرة الثابتة هي المسؤولة عن السلبيات :
ولعل هناك من يتساءل قائـلاً : وما الضير في ان تكون نظراتنا ثابتــة ؟ هذا في حين اننا عندما نتدبر في حياة الانسان ، وبالذات في حالاته النفسية نجد ان النظرة الثابتة الى الحياة هي المسؤولة عن الكثير من الاخطاء الفكرية والنظرية لدى الانسان . ومن اجل ان نوضح هذه الفكرة لنضرب مثالا من عالم الاخلاق ، وآخر من عالم السياسة، لان حديثنا يتصل في الواقع بالقضايا الستراتيجية الهامة ، والخطوط العريضة . فمن واقع الاخلاق نجد ان الانسان الذي يزعم - مثلاً - ان صحتـه ثابتــة ستعتري حياته اشكاليتان همــا ؛ اولاً : انه سوف لا يشكر اللـه - تبارك وتعالى - على نعمة الصحة ، ثانياً : سوف لا يحافظ عليها استنادا الى اعتقاده انها ثابتة ، فتراه لا يبحث عن العوامل التي ادت الى صحته ، ولا عن العوامل التي تسبب مرضه . وبناء على ذلك عوامل الصحة والمرض متغيرة ، وايمان الانسان بهذه العوامل المتغيرة سيدفعه الى ان يحافظ على عوامل الصحة . اما المثال الذي اريد ان اضربه من عالم السياسة فيتمثل في تساؤلات من مثل : من هو المسؤول عن بقاء الانظمة الفاسدة ؟ للجواب عن هذا السؤال نقول ان السبب الرئيسي هو النظرة الجامدة تجــاه السلطة . فالانسان يعتقد بان السلطات باقية ، في حين ان الله - سبحانه وتعالى - يقول : « وَتِلْــكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَـــا بَيْنَ النَّاسِ » ( آل عمران / 140 ) ، والايــام هنا تعبير عــن السلطة ، واللـه - عز وجل - أبت سنته ان تبقى جماعة حاكمة الى الأبد ، وبناء على ذلك فان الانسان ليس هو السبب في اسقاطها ، بل ان لها اجلاً معيناً . وهكذا فان مسؤولية بقاء الانظمة الفاسدة قائمة على اساس النظرة الشيئية والجامدة الى هذه الانظمة . فالنظام مثله كمثل كرسي قائم على قواعد ، فمادامت القواعد موجودة فان النظام موجود ايضاً ، اما اذا انهدت هذه القواعد فان النظام سينهد ويسقط ايضاً . من هنا اذا أردنا ان نحظى بثقافة الحياة ، لا مناص لنا من ان نوازن بين الثوابت والمتغيرات في عناصر الثقافة .
الثقافة في خدمة النهضة
جدل قديم ، ومتجدد بين علماء الاجتماع والفلاسفة ، حول دور الثقافة في حياة الأمم أهو دور التابع أو المتبوع ؟ يقول علماء الاجتماع : أن تطورات الحياة خاضعة لسفن معينة ، هي التي تقودها بصفة حتمية من مرحلة إلى أخرى ، وفي كل مرحلة تخضع جميع مناحي الحياة ومنها الثقافة لمجموعة سفن خاضعة لاستراتيجية المرحلة بصورة حتمية . والثقافة عند الاجتماعيين ، بعض النجوم التي تدور فــي أفــق السفن الاجتماعية المحتومة . ويذهب الشاعر العربي الى هذه الفكرة حينما يقول : السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب فالسيف عند شاعرنا أبي تمام لا يعدو أن يكون علامة لظاهرة اجتماعية هي الحرب ، وهو الذي يحدد وجهة الثقافة التي تتمثل في الكتـاب . وحتى الفلسفة ، يعتقد علماء الاجتماع انها بعض الافرازات الاجتماعية ، التي تدل على مرحلة معينة .. ومن أدوار المجتمع . فمثلا : فلسفة الثورة في أوربا ، لم تكن سوى ظاهرة واحدة من ملامح القرن الثامن عشر لمجتمع الثورة .. الذي أفرز هذه الظاهرة . هكذا يعطي الاجتماعيون الاهمية للاجتماع بينما يجر الفلاسفة نار الاهمية الى قرصهم فيقولون ان العامل الحاسم في حياة الشعوب انما هي ثقافتهم ، فهي التي تحدد وجهة المجتمعات ، وتصبغها بلون الثورة أو الجمود ، العلم أم التقليد ، الحضارة أو التخلف . يقولون : ما هو المجتمع .. ليس سوى الافراد ، ثم كيف يدير الافراد شؤونهم بارادتهم ؟ ولكن كيف يختلفون في الارادة أليس لانهم يحملون ثقافات مختلفة ؟ إذا فالثقافة رائدة الحياة وهكذا يختلف الرأي في أن الثقافة ام سفن الاجتماع هي التي تقود حياة الأمم ؟ وقد تنامى الشعور بخطورة دور السفن الاجتماعية في قيادة الثقافة وتوجيهها في العصر الحديث ، حتى تسنم علم الاجتماع بفروعه العديدة قمة العلوم الحديثة . ولكن بالرغم من ذلك فان أنصار الثقافة لا يزالون يتمتعون بنفوذ واسع في الاوساط العلمية . وخطورة هذا الجدل يأتي من ارتباطه المباشر بقضايا الامم المصيرية ، سواء كانت متقدمة أو متخلفة . فالشعوب المتخلفة لا تفكر بالتقدم الا ويصدها هذا السؤال : ما هو العامل الحاسم في تقدم الامم ، الثقافة الحية أم السفن الاجتماعية القوية ، فإذا كانت الاولى بدأنا بها وإن كانت الاخرى فلابد من إنتظار أمرها ؟ بينما الشعوب المتقدمة تخشى التخلف وتفكر في تجنب الموجبات النهائية له . والواقع : أن الثقافة رائدة ووليدة فهناك ثقافة رائدة تفجر طاقات الإنسان ، وتبعثه مجتمعا حيا نشيطا ، وهناك ثقافة تولد مع هذا الانفجار كواحدة من افرازاتها العديدة وهذه ثقافة وليدة حياتها مرتبطة بحياة المجتمع وطاقاتها محدودة بقدرة الأمة . وتسود هذه الثقافة الوليدة ما تسود افرازات المجتمع من سنن مقضية أبرزها سنة التناقض الطبيعي ، الذي تتعرض له كل إفرازات المجتمع .. كلما بعدت عنها اشتد الانفجار الاول .